فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ:

وَأَمَّا مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا زَكَاةُ السَّوَائِمِ، وَالْعُشُورِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي خُمُسُ الْغَنَائِمِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالرِّكَازِ، وَالثَّالِثِ خَرَاجُ الْأَرَاضِي وَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ وَمَا صُولِحَ عَلَيْهِ بَنُو نَجْرَانَ مِنْ الْحُلَلِ وَبَنُو تَغْلِبَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالرَّابِعُ مَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلًا، أَوْ تَرَكَ زَوْجًا، أَوْ زَوْجَةً.
وَأَمَّا مَصَارِفُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ خُمُسُ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ فَنَذْكُرُ مَصْرِفَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْدُ الطُّرُقِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَيُصْرَفُ إلَى دَوَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَرْضَى وَعِلَاجِهِمْ، وَإِلَى أَكْفَانِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَإِلَى نَفَقَةِ اللَّقِيطِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ، وَإِلَى نَفَقَةِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الْإِمَامِ صَرْفُ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ:

وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَهِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي.
بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَنْهُ، وَفِي بَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَهِيَ شَرَائِطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا مَا رُوِيَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: فِي خُطْبَتِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» أَمَرَ بِالْأَدَاءِ وَمُطْلَقِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا سَمَّيْنَا هَذَا النَّوْعَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلُزُومُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا رُوِيَ فِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَرَضَ أَيْ قَدَّرَ أَدَاءَ الْفِطْرِ، وَالْفَرْضُ فِي اللُّغَة التَّقْدِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أَيْ قَدَّرْتُمْ، وَيُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِمَعْنَى قَدَّرَهَا فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِالْمَذْكُورِ لَا الْإِيجَابِ قَطْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجِبُ وُجُوبًا مُضَيَّقًا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي الْعُمُرِ كَالزَّكَاةِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَلَا يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَإِنَّهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَلَا تَجِبُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى أَدَائِهِ فِي الْحَالِ، وَفِي الثَّانِي تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ.
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهَا الْمُوَلَّى عَنْهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ»، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْأَدَاءِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُكَلَّفُ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا سَبِيلَ إلَى أَدَائِهِ رَأْسًا مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْغَنِيِّ إذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلِيُّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ؟ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ.
وَمِنْهَا الْغِنَى فَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا الْغِنَى وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ مَطْهَرَةً لِلصَّائِمِ وَمَعْنَى الْمَطْهَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى، وَالْفَقْرِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى».
وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْغِنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ، ثُمَّ الْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ بَقَاءِ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْمَالِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ بَقَاءُ الْمَالِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَجِبَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ إذَا كَانَ لَهُمَا مَالٌ وَيُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى لَوْ أَدَّى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِمَا لَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَضْمَنَانِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتْ الْعُشْرَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفِطْرَةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ يَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الصَّوْمُ وَهُوَ الصَّغِيرُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ أَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَأَمَّا السَّبَبُ فَرَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً تَكُونُ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فِي الذَّبِّ، وَالنُّصْرَةِ فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ هُمْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ لُزُومُ الْمُؤْنَةِ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَسَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ، أَوْ كُفَّارًا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُؤَدَّى إلَّا عَنْ مُسْلِمٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِالْأَدَاءِ عَنْ الْعَبْدِ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ فلابد مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى، وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ الْأَدَاءُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّحَمُّلُ، وَقَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْأَدَاءُ عَنْهُ بِالنَّصِّ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِالْأَدَاءِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ رَأْسُهُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَمَّنْ يُؤَدِّي عَنْهُ لَا الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ وُجِدَتْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَيُخْرِجُ عَنْ مُدَبَّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ، أَوْلَادِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَهَؤُلَاءِ عَبِيدٌ لِقِيَامِ الرِّقِّ، وَالْمِلْكِ فِيهِمْ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؟ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُكَاتَبِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَفِي وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ قُصُورٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَهُ فَكَانَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَتَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَلَنَا أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا ضَرُورَةً.
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَضْلًا عَنْ دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ وَإِلَّا فَلَا.
وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤَاجَرِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ، وَعَبْدِهِ الَّذِي فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ لِعُمُومِ النَّصِّ وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِ الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ وَفَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَوْلَى.
وَأَمَّا عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَلَا يُخْرِجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَخْرُجُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ عَبْدُ التِّجَارَةِ وَلَا فِطْرَةَ فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْآبِقِ وَلَا عَنْ الْمَغْصُوبِ الْمَجْحُودِ وَلَا عَنْ عَبْدِهِ الْمَأْسُورِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ فِي رَقِيقِ الْأَخْمَاسِ وَرَقِيقِ الْقُوَّامِ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى مَرَافِقِ الْعَوَامّ مِثْلِ زَمْزَمَ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَرَقِيقِ الْفَيْءِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ إذْ هُمْ لَيْسَ لَهُمْ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَكَذَلِكَ السَّبْيُ وَرَقِيقُ الْغَنِيمَةِ، وَالْأَسْرَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى أَصْلِهِ لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ»، وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَأَنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنَافِعِ فَكَانَ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبِيدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخْرِجُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ وَلَنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الرَّأْسِ يَكُونُ ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ»، وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَيْهِمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِالْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ؟ وَإِنْ كَانَ عَدَدٌ مِنْ الْعَبِيدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ قَسَمُوا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ كَامِلٌ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا كَامِلًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا تَامًّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا وَإِنْ كَانَ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ بَعْضُ أَوْصَافِ السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمَا فَلَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْجَارِيَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ تَامَّةً، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَجِبُ عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا تَجِبُ عَنْهُ إلَّا فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْأَشْخَاصِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنٌ تَامٌّ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَوْقُوفَةٌ إنْ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ بِالْإِجَازَةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الْبَائِعِ تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ انْفَسَخَ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ انْفَسَخَ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ ثَانٍ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَقِّدْ تَقَرَّرَ بِالْقَبْضِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا جَانِبُ الْبَائِعِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ.
وَوَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْفَسَخَ قَبْلَ تَمَامِهِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْلِ.
وَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ عَيْبٍ إنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ رَدَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ كَانَ مَرَّ وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَمَرَّ عَلَيْهِ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ صَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ مَوْقُوفَةٌ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ فَإِنْ رَدَّهُ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ.
وَيُخْرِجُ عَنْ، أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَإِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَبِ وَوِلَايَةُ الْأَبِ عَلَيْهِمْ تَامَّةٌ، وَهَلْ يُخْرِجُ الْجَدُّ عَنْ ابْنِ ابْنِهِ الْفَقِيرِ الصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُخْرِجُ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ لَيْسَتْ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ قَاصِرَةٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَبِ؟ فَأَشْبَهَتْ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ، وَالْوَصِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ فَكَذَا الْجَدُّ.
وَأَمَّا الْكِبَارُ الْعُقَلَاءُ فَلَا يُخْرَجُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ بِأَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ مِمَّنْ تُمَوِّنُونَ» فَإِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُمَوِّنُهُمْ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ.
وَلَنَا أَنَّ أَحَدَ شَطْرَيْ السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُنْعَدِمٌ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ الْأَدَاءِ عَنْهُمْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ.
وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ الْحَمْلِ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْوِلَايَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ صَدَقَةُ فِطْرِ زَوْجَتِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الزَّوْجِ وَوِلَايَتُهُ فَوُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ.
(وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ تَمَامِ السَّبَبِ كَمَالُ الْوِلَايَةِ وَوِلَايَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ سِوَى الرَّقِيقِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ إمَّا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عَنْ الرَّفَثِ وَمَعْنَى الطُّهْرَةِ لَا يَتَقَرَّرُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَا تَجِبُ عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ أَمَّا جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ الْحِنْطَةِ صَاعٌ.
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ بُرٍّ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ عَشْرَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَاحْتَجَّ بِرِوَايَتِهِمْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ بَلْ هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نِصْفَ صَاعٍ وَمَا زَادَ يَكُونُ تَطَوُّعًا عَلَى أَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ لَفْظِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت أُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبُرِّ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ»، وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقُهَا كَالْحِنْطَةِ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ كَالشَّعِيرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا نَذْكُرُ وَذِكْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِلتَّيْسِيرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا قَبْلَ الْخُرُوجِ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ، أَوْ دَقِيقٍ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّقِيقُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَالدَّرَاهِمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدَّقِيقِ، وَالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نِصْفُ صَاعٍ وَرَوَى الْحَسَنُ وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرُ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي التَّغَذِّي بَلْ يَكُونُ أَنْقَصَ مِنْهَا كَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالصَّاعِ كَمَا فِي الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ فِي الْعَادَةِ ثُمَّ اُكْتُفِيَ مِنْ الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فَمِنْ الزَّبِيبِ أَوْلَى.
وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ فِي عَصْرِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَفِي عَصْرِهِمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْأَقِطُ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ وَجَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُحِبُّ أَنْ يُخْرِجَ الْأَقِطَ فَإِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ صَاعَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ» وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ هَذَا صَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَنَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَالِكًا مِنْ فُقَهَائِهِمْ يَقُولُ: صَاعُ الْمَدِينَةِ ثَبَتَ بِتَحَرِّي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ صَاعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فَالْعَمَلُ بِصَاعِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِصَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَزْنًا وَكَيْلًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزْنًا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ كَيْلًا حَتَّى لَوْ وَزَنَ وَأَدَّى جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِيمَا يَسْتَوِي كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وَهُوَ الْعَدَسُ، وَالْمَاشُّ، وَالزَّبِيبُ، وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ الْعَدَسِ، وَالْمَاشُ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ كَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِّ وَمَا سِوَاهُمَا يَخْتَلِفُ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُهُ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِهِ كَالشَّعِيرِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كَيْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ كَالْمِلْحِ فَيَجِبُ تَقْدِيرُ الْمَكَايِيلِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ وَكَيْلُهُ كَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِّ فَإِذَا كَانَ الْمِكْيَالُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الصَّاعِ وَأَنَّهُ مِكْيَالٌ لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ خِفَّةً وَثِقَلًا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ النَّاسَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي صَاعٍ يُقَدِّرُونَهُ بِالْوَزْنِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَزْنُ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ فُلُوسًا، أَوْ عُرُوضًا، أَوْ مَا شَاءَ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، وَفِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ»، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ بَلْ أَتَمَّ وَأَوْفَرَ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْإِغْنَاءِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَدَّى عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَطٍ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ غَيْرِ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بَلْ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْبَاقِي وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِعَيْنِ النَّصِّ لَا بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ وَأَمَّا فِي الْجِنْسِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجِنْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَهِيَ الْجَوْدَةُ، وَالْجَوْدَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْجَوْدَةِ،، وَالسَّاقِطُ شَرْعًا مُلْحَقٌ بِالسَّاقِطِ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا فِي خِلَافِ الْجِنْسِ فَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِمَّا الْقِيمَةُ وَمَنْ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْعَيْنَ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَلِأَيِّهِمَا اخْتَارَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ وَاجِبًا مِنْ الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهُ وَهَذَا التَّخْرِيجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هاهنا فِي الذِّمَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ النِّصَابِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ.