فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ الْخَيْلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ:

وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ مِقْدَارِ نِصَابِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهُوَ الْأَسْنَانُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ، وَالْحِقَّةُ وَالْجَذَعَةُ، وَالتَّبِيعُ، وَالْمُسِنَّةُ، وَالشَّاةُ ولابد مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَبِنْتُ الْمَخَاضِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَهَا، وَالْمَاخِضُ اسْمٌ لِلْحَامِلِ مِنْ النُّوقِ وَبِنْتُ اللَّبُونِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَهَا وَوَلَدَتْ فَصَارَتْ ذَاتِ لَبَنٍ وَاللَّبُونُ هِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ.
وَالْحِقَّةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إمَّا لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحَمْلَ وَالرُّكُوبَ أَوْ لِاسْتِحْقَاقِهَا الضِّرَابَ.
وَالْجَذَعَةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَلَا اشْتِقَاقَ لِاسْمِهَا، وَالذُّكُورُ مِنْهَا ابْنُ مَخَاضٍ وَابْنُ لَبُونٍ وَحِقٌّ وَجَذَعٌ وَوَرَاءَ هَذِهِ أَسْنَانٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ الثَّنِيِّ وَالسَّدِيسِ وَالْبَازِلِ لَكِنْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ مَعَانِيهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّبِيعُ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلٌ وَدَخَلَ فِي الثَّانِي وَالْأُنْثَى مِنْهُ التَّبِيعَةُ.
وَالْمُسِنَّةُ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَالذَّكَرُ مِنْهُ الْمُسِنُّ.
وَأَمَّا الشَّاةُ فَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الثَّنِيَّ فَصَاعِدًا وَالثَّنِيُّ مِنْ الشَّاةِ هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ.
وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْحَسَنِ، وَالْجَذَعُ مِنْ الْغَنَمِ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّنَةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ؛» وَلِأَنَّ الْجَذَعَ يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَكْثَرُ شُرُوطًا مِنْ الزَّكَاةِ فَالْجَوَازُ هُنَاكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ هاهنا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ هَذَا مَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا صِفَاتٌ لابد مِنْ مَعْرِفَتِهَا مِنْهَا الْأُنُوثَةُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْإِبِلِ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ مِنْهَا وَهُوَ ابْنُ الْمَخَاضِ وَابْنُ اللَّبُونِ وَالْحِقُّ وَالْجَذَعُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِيهَا بِالْإِنَاثِ فَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا.
وَأَمَّا فِي الْبَقَرِ فَيَجُوزُ فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ».
وَكَذَا فِي الْإِبِلِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ وَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَكَذَا فِي الْغَنَمِ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي زَكَاتِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِيهَا بِاسْمِ الشَّاةِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلسُّعَاةِ «إيَّاكُمْ وَحَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَخُذُوا مِنْ أَوْسَاطِهَا».
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّاعِي «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَخُذْ مِنْ حَوَاشِيهَا، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» وَفِي الْخَبَرِ الْمَعْرُوفِ «أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى السَّاعِي وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ؟ حَتَّى قَالَ السَّاعِي: أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ».
وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ لِمَا فِي أَخْذِ الْخِيَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي أَخْذِ الْأَرْذَالِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ نَظَرُ الْجَانِبَيْنِ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْ الْأَرْفَعِ، وَأَرْفَعَ مِنْ الْأَدْوَنِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى.
وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ الرُّبَّى بِضَمِّ الرَّاءِ، وَلَا الْمَاخِضُ، وَلَا الْأَكِيلَةُ، وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: الرُّبَّى الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا، وَالْأَكِيلَةُ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ، وَالْمَاخِضُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ الرُّبَّى وَالْأَكِيلَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الرُّبَّى الْمُرَبَّاةُ وَالْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ وَطَعْنُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ تَقْلِيدُ مُحَمَّدٍ إذْ هُوَ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ وَاجِبُ التَّقْلِيدِ فِيهَا كَتَقْلِيدِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَالْخَلِيلِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَلَّدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ، وَسَأَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ عَنْ الْغَزَالَةِ فَقَالَ: هِيَ عَيْنُ الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِغُلَامِهِ يَوْمًا: اُنْظُرْ هَلْ دَلَكَتْ الْغَزَالَةُ يَعْنِي الشَّمْسَ؟، وَكَانَ ثَعْلَبُ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عِنْدَنَا مِنْ أَقْرَانِ سِيبَوَيْهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ فَكَانَ عَلَى الطَّاعِنِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا، كَيْفَ؟ وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ وَمُجْمَلِ اللُّغَةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي الرُّبَّى قَالَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ: الرُّبَّى الَّتِي وَضَعَتْ حَدِيثًا أَيْ: هِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجْمَلِ: الرُّبَّى الشَّاةُ الَّتِي تُحْبَسُ فِي الْبَيْتِ لِلَّبَنِ فَهِيَ مُرَبِّيَةٌ لَا مُرَبَّاةٌ.
وَالْأَكِيلَةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ بِمَا قَالَهُ الطَّاعِنُ لَكِنَّ تَفْسِيرَ مُحَمَّدٍ أَوْلَى وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَفْعُولَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ فَعِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ مِنْ غَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ فَلَوْ كَانَتْ الْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ لَمَا أُدْخِلَ فِيهَا الْهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَمَّا أُدْخِلَ الْهَاءُ دَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ الْمَأْكُولَةِ بَلْ لَمَّا أُعِدَّ لِلْأَكْلِ كَالْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا أُعِدَّ لِلتَّضْحِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ وَالْبُخْتِ أَنَّ الْمُصْدِقَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَاحِدَةً وَسَطًا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَأْخُذُ مِنْ الْغَالِبِ وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ قِيمَةِ شَاةٍ مِنْ الضَّأْنِ وَشَاةٍ مِنْ الْمَعْزِ وَيُنْظَرُ فِي نِصْفِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ شَاةٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ كَانَتْ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَحَزَرَاتِهَا» وَأَمَرَ بِأَخْذِ أَوْسَاطِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ نَوْعَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ كُلُّهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ أَوْ كُلُّهَا بَنَاتُ لَبُونٍ أَوْ حِقَاقٌ أَوْ جِذَاعٌ فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَإِنْ كَانَتْ عِجَافًا فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَوْ أَعْلَى سِنًّا مِنْهَا فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ وَسَطٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَتُؤْخَذُ تِلْكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ» وَإِنْ كَانَتْ جَيِّدَةً لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْجَيِّدَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَيِّدَةَ يَرُدُّ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عِجَافًا لَيْسَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا مَا يُسَاوِي قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ بَلْ قِيمَتُهَا دُونَ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْسَاطٍ فَفِيهَا شَاةٌ بِقَدْرِهَا.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطًا حَكَمًا فِي الْبَابِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهَا مِنْ النِّصَابِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسِينَ تَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ أَوْ أَقَلَّ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى قَدْرِهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الزِّيَادَاتِ تُعْرَفُ هُنَاكَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْوَسَطُ فِي النِّصَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الْوَسَطُ وَوُجِدَ سِنٌّ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إنَّ الْمُصْدِقَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَدْوَنَ وَأَخَذَ تَمَامَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ السَّائِمَةِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَفْضَلَ وَاسْتَرَدَّ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَدْوَنَ وَدَفَعَ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْمَالِ دُونَ الْمُصْدِقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُصَّدِّقِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْوَاجِبِ فَالْمُصْدِقُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذْ وَبَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْحِقَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ، أَوْ كَانَ الْوَاجِبُ حِقَّةً فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْجَذَعَةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْقِيصِ الْعَيْنِ وَالشِّقْصُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ، فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ الْخَيْلِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْخَيْلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخَيْلَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلُوفَةً أَوْ سَائِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ عَلُوفَةً بِأَنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلرُّكُوبِ، أَوْ لِلْحَمْلِ، أَوْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ وَمَالُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مَالًا نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أَوْ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَدَّى مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
وَإِنْ كَانَتْ إنَاثًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ أَيْضًا ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ فِي الْآثَارِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِيهَا كَيْفَمَا كَانَتْ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ».
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»، وَكُلُّ ذَلِكَ نُصَّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ لابد لَهَا مِنْ نِصَابٍ مُقَدَّرٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِتَقْدِيرِ النِّصَابِ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا فَلَا يَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْحَمِيرِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ، وَلَيْسَ فِي الرَّابِطَةِ شَيْءٌ».
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ أَنْ خَيِّرْ أَرْبَابَهَا فَإِنْ شَاءُوا أَدَّوْا مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِلَّا قَوِّمْهَا وَخُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
وَرُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إلَى الْبَحْرَيْنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلرُّكُوبِ وَالْغَزْوِ لَا لِلْإِسَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا عَبِيدُ الْخِدْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ؟ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ فِي عَبِيدِ الْخِدْمَةِ أَوْ يُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكُلُّ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّهَا إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا كَذَا هاهنا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ فِيهَا بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَلَا لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا مَأْكُولٌ فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فِيهَا بِالسَّمْنِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ عَادَةً لَا الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لَكِنَّهَا قَدْ تُسَامُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ مُؤْنَةِ الْعَلَفِ.
وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا.

.(فَصْلٌ): بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْآخِذِ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ.

.بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ:

أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمَوَاشِي وَالْمَالُ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ فِي مَوَاضِعِهَا أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ وَهُمْ الْمُصْدِقُونَ مِنْ السُّعَاةِ وَالْعَشَّارِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَالسَّاعِي هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي الْقَبَائِلِ لِيَأْخُذَ صَدَقَةَ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا، وَالْعَاشِرُ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالْمُصْدِقُ اسْمُ جِنْسٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ فِي الْمَوَاشِي وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الزَّكَاةِ، عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ وَالْأَخْذَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا حَيْثُ جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَقًّا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ فِي أَمَاكِنِهَا وَكَانَ أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَكُنْ لِذَكَرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ إلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا» وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا امْتَنَعَتْ الْعَرَبُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَارَبْتُهُمْ عَلَيْهِ وَظَهَرَ الْعُمَّالُ بِذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَكَذَا الْمَالُ الْبَاطِنُ إذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ فِي الْبَرَارِي لَا تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إلَّا بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّبَ الْعَشَارَ وَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ وَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الْمَالُ الْبَاطِنُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالَبَ بِزَكَاتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ طَالَبَا، وَعُثْمَانُ طَالَبَ زَمَانًا وَلَمَّا كَثُرَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَرَأَى أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا حَرَجًا عَلَى الْأُمَّةِ وَفِي تَفْتِيشِهَا ضَرَرًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا.
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ فِي مُطَالَبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِزَكَاةِ الْوَرِقِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُعْطُونَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ إلَى الْأَئِمَّةِ فَيَقْبَلُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا عَنْ مَبْلَغِ مَالِهِ وَلَا يُطَالِبُونَهُ بِذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ تَوْجِيهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَشَارَ إلَى الْأَطْرَافِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَّنْ بَعُدَ دَارُهُ وَشُقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ صَدَقَتَهُ إلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنْ الْأَطْرَافِ عَاشِرَ التُّجَّارِ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالذِّمَةِ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ.
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مُطَالَبَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنَ وَأَمْوَالَ التِّجَارَةِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ سِوَى الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ وَأَنَّ مُطَالَبَةَ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الْإِمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَقْبَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالسُّنَّةُ إلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ إذَا أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنَّا بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ وَلَا أُسْقِطُ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ يُصْرَفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُعْطِي ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا.
وَلَوْ نَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ قِيلَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظَالِمِ صَارُوا فُقَرَاءَ؟.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ هَامَانَ وَكَانَ وَالِيَ خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَحُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ سَأَلَ وَاحِدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَزِمَتْهُ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ فَبَكَى الْأَمِيرُ وَعَرَفَ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظْلِمَةِ لَمْ يَبْقَ لَك شَيْءٌ، وَقِيلَ: إنَّ السُّلْطَانَ لَوْ أَخَذَ مَالًا مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُصَادَرَةً فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَعُشْرِ أَرْضِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.