فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ الْغَصْبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ الْغَصْبِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْغَصْبِ فَلَهُ فِي الْأَصْلِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْإِثْمُ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤَاخَذَةِ إذَا فَعَلَهُ عَنْ عِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِنْ فَعَلَهُ لَا عَنْ عِلْمٍ، بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ هَلَاكِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ نُقْصَانِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ زِيَادَتِهِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ فَهُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِع: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ»، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ، وَالرَّدْعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ بِرَدِّ الْمَأْخُوذِ، وَيَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَمَا يَجِبُ رَدُّ الْأَصْلِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ فِيهِ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ.
(وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِ الرَّدِّ فَقِيَامُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اُسْتُهْلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الرَّدِّ إلَى الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا الْغَاصِبُ أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا حَتَّى نَبَتَتْ، أَوْ بَاقِلَةً فَغَرَسَهَا حَتَّى صَارَتْ شَجَرَةً، أَوْ بَيْضَةً فَحَضَنَهَا حَتَّى صَارَتْ دَجَاجَةً، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ أَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ أَوْ طَبَخَهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ، أَوْ عِنَبًا فَعَصَرَهُ، أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا، أَوْ سِكِّينًا أَوْ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً، أَوْ تُرَابًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَبِنَهُ أَوْ اتَّخَذَهُ خَزَفًا، أَوْ لَبَنًا فَطَبَخَهُ آجِرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ ذَاتَ الْمَغْصُوبِ وَعَيْنَهُ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ الْغَاصِبِ، وَإِنَّمَا فَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهِ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، أَوْ صِبْغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَالِكِ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ فِعْلُ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، فَيَبْقَى الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ، فَتَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ.
(وَلَنَا) أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ، وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً، وَدَلَالَةُ تَحَقُّقِ الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ قَدْ تَبَدَّلَ وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا اسْمُهُ، وَقِيَامُ الْأَعْيَانِ بِقِيَامِ صُوَرِهَا وَمَعَانِيهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِهَا إنْ بَقِيَتْ الصُّورَةُ فَقَدْ فَاتَ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَادَةً، فَكَانَ فِعْلُهُ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَيَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، إذْ الْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ كَالْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِي الْهَالِكِ، كَمَا فِي الْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، فَتَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ لِوُقُوعِهِ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ أَوْ إضْرَارًا بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الْمَغْصُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالضَّمَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مُبَاحٌ لَا حَظَرَ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ لَبَنًا أَوْ آجِرًا أَوْ سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ عِنْدَنَا، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ الْمَعْهُودِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، لِكَوْنِ الْمِلْكِ نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَبَقِيَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، كَمَا كَانَ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمُرَكَّبِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمُفْرَدِ، فَصَارَ بِهَا تَبَعًا لَهُ، فَكَانَ الْإِدْخَالُ إهْلَاكًا مَعْنًى فَيُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ، وَالْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَيْضًا لَكِنْ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، فَكَانَ ضَرَرُ الْغَاصِبِ أَعْلَى، فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، كَذَا هَذَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ مَا إذَا بَنَى الْغَاصِبُ فِي حَوَالِي السَّاجَةِ لَا عَلَى السَّاجَةِ، فَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ، بَلْ يُنْقَضُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ، لَمْ يَكُنْ الْغَاصِبُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ لِيُنْقَضَ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي.
وَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا كَانَ مُتَعَدِّيًا عَلَى السَّاجَةِ، فَيُزَالُ تَعَدِّيهِ بِالنَّقْضِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ السَّاجَةِ، إلَّا بِنَقْضِ الْبِنَاءِ وَلُزُومِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ، هَذَا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ، وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ فِي حَيَاةِ الْغَاصِبِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي الثَّمَن، فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ، فَبَطَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ خُوصًا فَجَعَلَهُ زِنْبِيلًا لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاجَةِ إذَا جَعَلَهَا بِنَاءً، وَلَوْ غَصَبَ نَخْلَةً فَشَقَّهَا فَجَعَلَهَا جُذُوعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجُذُوعَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ قَائِمَةٌ.
وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ إذَا قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ غَرْسَ فِيهَا لَا يَنْقَطِعُ مِلْكُ الْمَالِكِ، وَيُقَالُ لِلْغَاصِبِ أَقْلِعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا فَارِغَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ بِحَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَصِرْ شَيْئًا آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَتَرَكَّبْ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا جَاوَرَهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِخِلَافِ السَّاجَةِ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي الْكُلَّ بِنَاءً وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا، وَيَكُونُ لَهُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ، وَالْمَالِكُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِنُقْصَانِ مِلْكِهِ، فَلَزِمَ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَصَبَ تِبْرَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَصَاغَهُ إنَاءً، أَوْ ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يُعْطِيَهُ شَيْئًا لِأَجْلِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ مَا غَصَبَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَبَكَهُ وَلَمْ يَصُغْهُ، أَوْ جَعَلَهُ مُرَبَّعًا أَوْ مُطَوَّلًا أَوْ مُدَوَّرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ صُنْعَ الْغَاصِبِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالصِّيَاغَةِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا غَصَبَ حَدِيدًا فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَوْضُوعَةً لَهُ مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَا اسْتَحْدَثَ الصَّنْعَةَ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِهْلَاكُ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ غَصَبَ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً يُنْظَرُ إنْ كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِالضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ.
وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ عَدَدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِمَا أَصْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ سُقُوطُهُ أَبَدًا، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، إذْ الذَّبْحُ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، بَلْ هُوَ تَنْقِيصٌ وَتَعْيِيبٌ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ، بَلْ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالِكَ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْصُوبًا بِتَفْوِيتِ يَدِهِ عَنْهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَعَادَهُ إلَى يَدِهِ فَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً، إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ ثَانِيًا.
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ، أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَالِكُ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِبُطْلَانِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ، وَكَذَا إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ أَطْعَمَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ أَكْلَ طَعَامَ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتَهْلَكَهُ، وَقَوْلُهُ غَرَّهُ الْغَاصِبُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مِلْكُ الْغَاصِبِ، وَالْمُغْتَرُّ بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَآجَرَهُ مِنْ الْغَاصِبِ لِلْخِدْمَةِ، أَوْ ثَوْبًا فَآجَرَهُ مِنْهُ لِلُبْسِ، أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَقَبِلَ الْغَاصِبُ الْإِجَارَةَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا صَحَّتْ صَارَتْ يَدُ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَحَلِّ يَدَ إجَارَةٍ، وَأَنَّهَا يَدٌ مُحِقَّةٌ فَتَبْطُل يَدُ الْغَصْبِ ضَرُورَةً، فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ بِالْإِجَارَةِ، وَقَالُوا فِي الْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا مَعْلُومًا أَنَّهُ يَسْقُطُ ضَمَانُ الْغَصْبِ حِينَ يَبْتَدِئُ بِالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ، وَالْأُجْرَةُ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ تَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ.
وَهَاهُنَا تَجِبُ بِالْعَمَلِ لَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَلَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْرَأُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ لِتَعْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ، لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْعَبْدِ وَلَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ، بَلْ هُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى ضَمَانِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجِرْهُ لِغَسْلِ الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ هَاهُنَا مَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَغْصُوبِ، فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ لِتَبْطُلَ عَنْهُ يَدُ الْغَاصِبِ، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْغَصْبِ كَمَا كَانَ، فَبَقِيَ مَضْمُونًا كَمَا كَانَ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَصِحُّ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالثَّانِي: مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُونَ.
(أَمَّا) وُجُوبُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَالْمِثْلُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْلِ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَيَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ، وَالْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يُعْتَقْ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا فِي إتْلَافِ كُلِّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ دَلَالَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَشَرْطُ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ: عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، فَمَا دَامَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ: هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ بِالرَّدِّ يَعُودُ عَيْنُ حَقِّهِ إلَيْهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالضَّمَانُ خَلَفٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ بِفِعْلِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَا بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ صُنْعَهُ، لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَقَرَّرُ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ بَيِّنَةً، فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا حَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَأَظْهَرَهُ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ ثَبَتَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيُحْبَسُ، كَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ، وَمِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاس، حَتَّى لَوْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَائِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، بَلْ يُخَاطَبُ بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ اخْتَصَمَا فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْكَمُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْغَصْبَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِلتَّعَذُّرِ، وَالتَّعَذُّرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالْقِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ هُوَ الْغَصْبُ، وَالْحُكْمُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ، وَبِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَمْ يَبْطُلْ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ، وَتَوَهُّمُ الْعَوْدِ هاهنا ثَابِتٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَخْتَارَ الِانْتِظَارَ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهِ فَيَأْخُذَ الْمِثْلَ، وَإِذَا بَقِيَ الْمِثْلُ وَاجِبًا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ مِنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، فَأَمَّا عِلْمُ الْغَاصِبِ بِكَوْنِ الْمَغْصُوبِ مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ مَالًا عَلَى وَجْهٍ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ ظَاهِرًا وَفِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ يَضْمَنُ لَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، وَهُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
(وَأَمَّا) وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَوَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْغَصْبِ، وَوَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ: وَقْتُ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ، حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَا تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ: فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَتِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَدَاءُ الضَّمَانِ إلَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي طَرِيقِ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهُ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي فَأَدَّى الْقِيمَةَ إلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الضَّمَانَ خَلَفٌ عَنْ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، ثُمَّ لَوْ رَدَّ الْعَيْنَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ، فَكَذَا إذَا رَدَّ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ الضَّمَانِ، أَوْ أَسْقَطْتُهُ عَنْكَ، أَوْ وَهَبْتُهُ مِنْكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ فَيَسْقُطُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ فَيَبْرَأُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا إبْرَاءٌ لِلْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَبْرَأُ إمَّا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ بِشَرِيطَةِ رِضَا مَنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ، أَوْ الْقَضَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كَمَا كَانَتْ، وَإِذَا هَلَكَتْ ضَمِنَ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْعَيْنَ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَجَّلَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَدَلِ الْغَصْبِ صَحَّ التَّأْجِيلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالًا بِالْقَرْضِ.
(وَلَنَا) أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِعَارَةِ لِمَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ، وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَوَارِيّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ لُزُومُ التَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الدَّيْنُ، إلَّا أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي بَابِ الْقَرْضِ لِضَرُورَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ هاهنا فَيَلْزَمُ عَلَى الْأَصْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُون فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ سَبَبٌ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلثُّبُوتِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَثْبُتُ أَصْلًا، حَتَّى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عَبْدًا وَاكْتَسَبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ مِلْكٌ لِلْمَالِكِ، وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إلَى الْمَالِكِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْتَظِرْ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ نَفْسِهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَرَضِيَ بِهَا، أَوْ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا يَعُودُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالِكَ لابد لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَالْغَصْبُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَالْمِلْكُ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِالْمَحْظُورِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْيَدَ الْفَائِتَةَ، فَلَا تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ، كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ.
(وَلَنَا) أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ يَزُولُ عَنْ الضَّمَانِ، فَلَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْمَضْمُونِ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِدَاءُ بِالْمِثْلِ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ وَأَنَّهُ بَدَلُ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ وَمَلَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ لَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ الْمَغْصُوبِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْ الْمَغْصُوبِ فَالْغَاصِبُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لَلْمِلْكِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ، فَيَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا حَظْرَ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ التَّمَلُّكَ ابْتِدَاءً، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ وَبِيَمِينِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْمَأْخُوذِ وَتَرَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَأْخُوذَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بَعْضُ بَدَلِ الْعَيْنِ لَا كُلُّهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ بِكَمَالِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَبْدِ، فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ، حَتَّى يَأْخُذَ الْقِيمَةَ.
وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَبْلَ رَدِّ الْقِيمَةِ لَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ فَضْلَ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى مَا أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى الْقِيمَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ مَا قَالَ الْغَاصِبُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا فَصَّلَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِهَذَا الْبَدَلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَثْبَتَ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ التَّضْمِينِ، وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَهُ، كَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَفْسَخُ الشَّكُّ.
(وَأَمَّا) وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ: فَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الضَّمَانِ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْغَصْبِ.
فَكَذَا فِي الْمَضْمُونِ، فَيَظْهَرُ فِي الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ وَالرِّبْحِ.
وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ فَمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الضَّمَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمَغْصُوبُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ لَا يَخْتَارَ الضَّمَانَ، حَتَّى يَهْلَكَ الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ هَلَاكِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَيُخَاصِمُ الْغَاصِبَ فِي الْقِيمَةِ لَهُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فِي الضَّمَانِ وَالْمَضْمُونِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الصُّلْحُ عَنْ الْمَغْصُوبِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ.
(وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الْهَلَاكِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ مَالٌ مُقَدَّرٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ رِبًا، وَلَمَّا تَوَقَّفَ الْوُجُوبُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، كَانَ الصُّلْحُ تَقْدِيرًا لِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ هَذَا الْقَدْر، وَتَمْلِيكًا لِلْمَغْصُوبِ بِهِ، كَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ الْغَاصِبِ بِهِ، فَجَازَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) صِفَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لَهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَنْفُذُ، كَمَا تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُطْعِمَهُ غَيْرَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ فَضْلٌ هَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانٌ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَاصِبِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَتَوْقِيفِ الْحِلِّ عَلَى رِضَا غَيْرِ الْمَالِكِ، كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا هُوَ مَضْمُونٌ وَمَمْلُوكٌ، وَرِبْحُ مَا هُوَ مَضْمُونٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَطِيبُ لَهُ عِنْدَهُ لِمَا نَذْكُرُ، فَرِبْحُ الْمَمْلُوكِ الْمَضْمُونِ أَوْلَى.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَضَافَهُ قَوْمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْضُغُهُ وَلَا يُسِيغُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَالُوا: هَذِهِ الشَّاةُ لِجَارٍ لَنَا ذَبَحْنَاهَا لِنُرْضِيَهُ بِثَمَنِهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى، أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يُطْعِمُوهَا الْأُسَارَى»، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا أَطْلَقَ لِأَصْحَابِهِ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَلَوْ كَانَ حَلَالًا طَيِّبًا لَأَطْلَقَ مَعَ خَصَاصَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَى الْأَكْلِ، وَلِأَنَّ الطَّيِّبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ.
وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ فِي وُجُودِهِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَالطَّيِّبُ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ حَصَلَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ، أَوْ وَقَعَ مَحْظُورًا بِابْتِدَائِهِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ خُبْثٍ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ يُؤَدِّي إلَى تَسْلِيطِ السُّفَهَاءِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَفَتْحِ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الظَّلَمَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالدَّقِيقِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَلَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرْعَهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَظَاهِرُ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالطَّحْنِ فَقَالَ فِي الطَّحْنِ مِثْلَ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَمْ تَهْلَكْ بِالطَّحْنِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا مِنْ التَّرْكِيبِ إلَى التَّفْرِيقِ، فَكَأَنَّ عَيْنَ الْحِنْطَةِ قَائِمَةٌ، فَكَانَ حَقُّ الْمَالِكِ فِيهَا قَائِمًا خِلَافَ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلَكُ بِالزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَغِيبُ فِي الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَالِكِ فِيهِ حَقٌّ، فَلَمْ يُكْرَهْ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ غَصَبَ نَوًى فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا زَرَعَهَا.
وَقَالَ فِي الْوَدِيِّ إذَا غَرَسَهُ فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّ النَّوَى يَعْفَنُ وَيَهْلَكُ، وَالْوَدِيُّ يَزِيدُ فِي نَفْسِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا فَشَوَاهَا أَنَّهُ لَا يَسَعُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَا يُطْعِمَ أَحَدًا، حَتَّى يَضْمَنَ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا غَائِبًا، أَوْ حَاضِرًا لَا يَرْضَى بِالضَّمَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهَا، وَإِذَا دَفَعَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ كَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْحَاكِمُ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ، بَلْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِحِلِّهِ يَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَيَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ.
فَالْمَذْكُورُ هاهنا مُفَسَّرٌ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: حَتَّى يُرْضِيَهُ عَلَى الْإِرْضَاءِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَرِضَاهُ لَا عَلَى الْإِرْضَاءِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَيَحِلُّ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ لَا، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَهُوَ.
قِيَاسُ.
قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الشَّاةِ الْمَشْوِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَيَأْكُلُهَا وَيُطْعِمُهَا مَنْ شَاءَ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَمْ لَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُضَمِّنُهُ، إلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ، فَكَانَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلضَّمَانِ وَرِضًا بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ أَنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَالْغَلَّةَ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ طَيِّبَةٌ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ وَقَعَ إتْلَافًا، فَيَضْمَنُ قَدْرَ مَا أَتْلَفَ وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ بِرِبْحٍ وَالنَّهْيُ وَقَعَ عَنْ الرِّبْحِ.
(وَأَمَّا) الْغَلَّةُ فَلِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمَالِكِ، وَهِيَ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْمَنَافِعِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا.
(وَأَمَّا) التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ الْأُجْرَةُ عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ لِحُصُولِهَا بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهَذَا رِبْحٌ مَضْمُونٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فَوْقَ الضَّمَانِ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا كُرًّا فَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، وَأَخْرَجَتْ ثَلَاثَةَ أَكْرَارٍ، يَغْرَمُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذُ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ نَقَصَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ، وَذَلِكَ إتْلَافٌ مِنْهُ، وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَهِيَ الزِّرَاعَةُ فِي أَرْضِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِلْكًا لَهُ، وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ النُّقْصَانِ وَقَدْرُ الْبَذْرِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الرِّبْحِ، وَذَا لَيْسَ بِرِبْحٍ فَلَمْ يَحْرُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مَضْمُونٌ مَمْلُوكٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَمْلِكُهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَمُجَرَّدُ الضَّمَانِ يَكْفِي لِلطَّيِّبِ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ الضَّمَانُ وَالْمِلْكُ وَهُمَا يَقُولَانِ الطَّيِّبَ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يُفِيدُ الطَّيِّبُ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا، أَوْ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الرِّبْحُ، وَلِأَنَّ الْخَبَثَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ، وَالشُّبْهَةُ تُوجِبُ التَّصَدُّقَ أَمَا لَا تُوجِبُ التَّضْمِينَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا خَلَطَ الْمُسْتَوْدِعُ إحْدَى الْوَدِيعَتَيْنِ بِالْأُخْرَى خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شَيْئًا هَلْ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ؟.
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الطَّيِّبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالنَّقْدِ مِنْهَا، وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَّارُ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي نَصْرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مُطَلَّقَةٌ، وَالْمَنْقُودَةُ بَدَلٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ، فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالْعَدَمِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً، وَالدَّرَاهِمُ الْمَنْقُودَةُ بَدَلًا عَنْهَا، فَلَا يَخْبُثُ الْمُشْتَرَى، وَالْكَرْخِيُّ كَذَلِكَ يَقُولُ: إذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ الْإِشَارَةُ بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ النَّقْدُ مِنْهَا فَإِذَا تَأَكَّدَتْ بِالنَّقْدِ مِنْهَا تَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى، فَكَانَ خَبِيثًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْحَرَامِ مِلْكًا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ الشُّبْهَةِ فَيَثْبُتُ الْخَبَثُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ بِمَعْرِفَةِ جِنْسِ النَّقْدِ وَقَدْرِهِ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى مِنْ وَجْهٍ نُقِدَ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا.
وَإِنْ لَمْ يُشِرْ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا، فَقَدْ اسْتَفَادَ بِذَلِكَ سَلَامَةَ الْمُشْتَرَى فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فَيَخْبُثُ الرِّبْحُ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اخْتَارَ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ لِازْدِحَامِ الْحَرَامِ، وَجَوَابُ الْكُتُبِ أَقْرَبُ إلَى التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلِأَنَّ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ مُسْتَحَقَّةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ، فَتُبَيِّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَى كَانَ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ يَحِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ امْرَأَةً وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الشِّرَاءُ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ نُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ مَضْمُونًا مِنْ النُّقْصَانِ، وَمَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا مِنْهُ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا عَرَضَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَا يُوجِبُ نُقْصَانَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَالْعَارِضُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ، أَوْ فَوَاتَ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ السِّعْرِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَيْسَ بِنُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ، بَلْ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا.
وَإِنْ كَانَ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ، أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا يَكُونُ مَضْمُونًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا اخْتِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ، فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ لَحِقَهُ زَمَانَةٌ، أَوْ عَرَجٌ، أَوْ شَلَلٌ، أَوْ عَمَى، أَوْ عَوَرٌ، أَوْ صَمَمٌ، أَوْ بَكَمٌ، أَوْ حُمَّى، أَوْ مَرَضٌ آخَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ لِوُجُودِ فَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ، أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، وَلَوْ زَالَ الْبَيَاضُ مِنْ عَيْنِهِ فِي يَدِ الْمُولَى، أَوْ أَقْلَعَ الْحُمَّى رَدَّ عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى طَرِيقِ الدَّوَامِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَقَ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ أَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ زَنَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ، أَوْ سَرَقَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ زَنَتْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ الصِّيَانَةُ عَنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُيُوبًا مُوجِبَةً لِلرَّدِّ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَجُعْلُ الْآبِقِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُرْجَعُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرْجَعُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجُعْلَ مِنْ ضَرُورَاتِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِعْطَاءِ الْجُعْلِ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَجِبُ بِحَقِّ الْمَالِكِ، وَالْمِلْكُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْجُعْلُ عَلَيْهِ كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحَةِ.
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ، أَوْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَتِيلًا، أَوْ جَنَى عَلَى حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ فِي نَفْسٍ، أَوْ مَا دُونَهَا جِنَايَةً رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ، وَيُقَالُ لَهُ ادْفَعْهُ بِجِنَايَتِهِ، أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَيَرْجِعُ الْمُولَى عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِمَّا أَدَّاهُ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ بِالْغَصْبِ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ هَدَرٌ فَصَارَ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ أَمَةً فَوَلَدَتْ، ثُمَّ قَتَلَتْ وَلَدَهَا، ثُمَّ مَاتَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَبِرَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ غَصَبَ عَبْدًا شَابًّا فَشَاخَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ جَارِيَةً شَابَّةً فَصَارَتْ عَجُوزًا فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْكِبَرَ يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ، أَوْ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ نُهُودَ الثَّدْيَيْنِ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ لِلْأَمْرَدِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُقْصَانٍ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الرِّجَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا قَارِئًا فَنَسَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، أَوْ مُحْتَرِفًا فَنَسَى الْحِرْفَةَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ وَالْحِرْفَةِ مَعْنًى مَرْغُوبٌ فِيهِ.
وَأَمَّا حَبَلُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبَلَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَوْلَى، فَلَا يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ، أَوْ حَدَثَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زِنًا أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْحَبَلِ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَّصَهَا الْحَبَلُ وَإِلَى أَرْشِ عَيْبِ الزِّنَا فَيَضْمَنُ الْأَكْثَرَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَبَلَ وَالزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ عَلَى حِدَةٍ، فَكَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُقْصَانًا عَلَى حِدَةٍ، فَيُفْرَدُ بِضَمَانٍ عَلَى حِدَةٍ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ إنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الزِّنَا، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى يُفْرَدَ بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ، فلابد مِنْ إيجَابِ أَحَدِهِمَا فَأَوْجَبْنَا الْأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَكْثَرِ فِي الْأَقَلِّ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغَاصِبُ حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى مِنْ الْوِلَادَةِ فَبَقِيَ وَلَدُهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ الْحَبَلِ خَاصَّةً.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّدَّ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ الْغَاصِبِ فِي الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْفَائِتِ بِالْحَبَلِ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ نِفَاسِهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ أَوْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَى إلَى الْوِلَادَةِ، وَالْوِلَادَةُ أَفْضَتْ إلَى الْمَوْتِ، فَكَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَإِذَا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِثْلَ الْأَخْذِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ هُوَ التَّسْلِيمُ ابْتِدَاءً لَا الرَّدُّ، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ.
وَبِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَا بِهَا مُكْرَهَةً فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْأَخْذِ لِيَلْزَمَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ زَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَحَدَثَ فِي يَدِهِ، وَنَقَّصَهَا الضَّرْبُ ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْأَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِمَّا نَقَّصَهَا الزِّنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نُقْصَانُ الزِّنَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيُضَافُ إلَى حِينِ وُجُودِ السَّبَبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الضَّرْبُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُمَا نَظَرَا إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ النُّقْصَانُ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُبَاحَ الدَّمِ فَقُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ وَيُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ سَارِقًا فَقُطِعَ فِي يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ السَّابِقِ، وَعِنْدَهُمَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُضَافُ النُّقْصَانُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فَكَيْفَ يُضَافُ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شُهُودِ الزِّنَا: إذَا رَجَعُوا بَعْدَ إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ بِنُقْصَانِ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا، فَلَمْ يُضَفْ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهَا كَذَا هَذَا، قِيلَ لَهُ: إنَّ النُّقْصَانَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ هَاهُنَا، كَمَا لَا يُضَافُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ هُنَاكَ، إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ عَلَى الْفِعْلِ فَيَسْتَنِدُ الضَّرْبُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَلَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ أَثَرُهُ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا ضُرِبَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَانْجَرَحَتْ عِنْدَ الضَّرْبِ لَا بِالضَّرْبِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَضَمِنَ الْغَاصِبُ، كَذَا هَذَا، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِنْ نُقْصَانِ الزِّنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَيْنِ جَمِيعًا حَصَلَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ، فَيَجِبُ الْأَكْثَرُ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ سَرَقَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَقُطِعَتْ عِنْدَهُ، يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نِصْفَ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ السَّرِقَةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ نُقْصَانَ الْقَطْعِ هَاهُنَا، وَلَمْ يَعْتَبِرْ نُقْصَانَ عَيْبِ السَّرِقَةِ، وَاعْتَبَرَ نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا هُنَاكَ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَطْعِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ السَّرِقَةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، فَدَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ نُقْصَانِ عَيْبِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ؛ لِذَلِكَ اخْتَلَفَ اعْتِبَارُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَوْلَى فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ الْحُمَّى الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ، إلَّا مَا نَقَّصَهَا الْحُمَّى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِالْآلَامِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَإِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ يَتَنَاهَى، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَلَا يَضْمَنُ إلَّا قَدْرَ نُقْصَانِ الْحُمَّى، وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً مَحْمُومَةً أَوْ حُبْلَى، أَوْ بِهَا جِرَاحَةٌ، أَوْ مَرَضٌ آخَرُ سِوَى الْحُمَّى فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا وَبِهَا ذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى بِحَبَلٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، حَيْثُ جُعِلَ هُنَالِكَ مَوْتُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ كَمَوْتِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَلَمْ يُجْعَلْ هاهنا مَوْتُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَمَوْتِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْهَلَاكَ هُنَاكَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ شَرْطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْهَلَاكُ هاهنا إنْ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
فَإِذَا غَصَبَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الْهَلَاكِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ لَكِنْ مَنْقُوصًا بِمَا بِهَا مِنْ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ إلَّا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَنَّ عَلَيْهِ نُقْصَانَ الْهُزَالِ، وَلَوْ عَادَتْ سَمِينَةً فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْهُزَالِ انْجَبَرَ بِالسِّمَنِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، وَكَذَا إذَا قُلِعَتْ سِنُّهَا فِي يَدِهِ فَنَبَتَتْ فَرَدَّهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا نَبَتَتْ ثَانِيًا جُعِلَ كَأَنَّهَا لَمْ تُقْلَعْ، وَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهَا فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا مَعَ الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ بِالْوِلَادَةِ، إلَّا إذَا كَانَ لَهُ جَابِرٌ فَيَنْعَدِمُ الْفَوَاتُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْأُمُّ أَوْ الْوَلَدُ جَمِيعًا قَائِمَيْنِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِهِ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَا قَائِمَيْنِ رَدَّهُمَا عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ لِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ انْجَبَرَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ انْجَبَرَ بِقَدْرِهِ وَضَمِنَ الْبَاقِيَ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ وَقْتَ الرَّدِّ، ثُمَّ حَصَلَ بِهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الرَّدِّ، لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَلَا تَصْلُحُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، وَقَالُوا: إنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً حَائِلًا فَحَمَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ.
وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ شَيْئًا، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بِيعَتْ بَيْعًا فَاسِدًا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءً فَرَدُّ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ مَعَ الْوَلَدِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَوَلَدَتْ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ أَنَّهُ يَبْقَى الْوَاجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ وَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْقَى فِيمَا وَرَاءَ النُّقْصَانِ وَيَسْقُطُ بِقَدْرِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ النُّقْصَانُ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ جَبْرًا لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَقَدْ حَصَلَ الْفَوَاتُ، فلابد لَهُ مِنْ جَابِرٍ وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْوَلَدُ مِلْكُهُ أَيْضًا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْإِنْسَانِ جَابِرًا لِمِلْكِهِ فَلَزِمَ جَبْرُهُ بِالضَّمَانِ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ صُورَةً لَا مَعْنًى، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَنُقْصَانِ السِّنِّ وَالسِّمَنِ وَالْقَطْعِ، وَقَدْ مَرَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ نُقْصَانًا مَعْنًى: أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَاتِّحَادُ سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِثْلُ الْفَائِتِ، فَالسَّبَبُ الَّذِي فَوَّتَ أَفَادَ لَهُ مِثْلَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحْصُلْ الْفَوَاتُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَالصُّورَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ.
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّ جَبْرَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفَوَاتِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَابِرِ، وَإِنْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَ؛ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهَا، وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْصُوبٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْغَصْبِ فِيهِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَتَلَ الْوَلَدَ، أَوْ بَاعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَعَ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا فَالْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْوَلَدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَضَمِنَ مِنْ الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، يَدْخُلُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِي قِيمَةِ الْأُمِّ، وَإِنْ شِئْت ضَمَّنْته قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ وَلَدَتْ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إذَا انْجَبَرَ بِالْوَلَدِ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْحَاصِلِ أَلْفًا وَمِائَةً، فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ تَامَّةً بَقِيَ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ تِسْعَمِائَةٍ بَقِيَ كُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ رَدَّ الْأُمَّ وَضَمِنَ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً فَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَ وَرَدَّ الْوَلَدَ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَلَمْ تُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَلَيْسَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا، فَلَمْ يَتَّحِدْ السَّبَبُ فَيَتَعَذَّرُ الْجَبْرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ غَيْرَ أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ يَسِيرًا لَا خِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ، إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَتَعْيِيبٌ فَيُوجِبُ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا بِأَنْ قَطَعَهُ قَبَاءً، أَوْ قَمِيصًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ مَقْطُوعًا وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ الْفَاحِشَ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الثَّوْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا، وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الذَّبْحِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ سَلَخَهَا الْغَاصِبُ وَأَرَّبَهَا أَوْ لَا، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَوَاهَا وَلَا طَبَخَهَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ إنْ كَانَ نُقْصَانًا صُورَةً فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّاةِ اللَّحْمُ، وَالذَّبْحُ وَسِيلَةٌ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا، بَلْ كَانَ زِيَادَةً حَيْثُ رَفَعَ عَنْهُ مُؤْنَةَ الْوَسِيلَةِ، فَكَانَ الْغَاصِبُ مُحْسِنًا فِي الذَّبْحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ اللَّحْمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ عَلَيْهِ، وَيُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ لِفَوَاتِ مَقْصُودِ مَا فِي الْجُمْلَةِ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الشَّاةَ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهَا اللَّحْمُ يُطْلَبُ مِنْهَا مَقَاصِدُ أُخَرُ مِنْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتِّجَارَةِ، فَكَانَ الذَّبْحُ تَفْوِيتًا لِبَعْضِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، فَكَانَ تَنْقِيصًا لَهَا وَاسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ، فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ وَخِيَارُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ عَيْنًا مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَنَقَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَالْتَقَيَا وَالْعَيْنُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَقِيمَتُهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقِيمَتِهَا الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا قِيَمُ أَعْيَانٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِذَا نَقَلَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقِيمَتُهَا فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ فَقَدْ نَقَصَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالنَّقْلِ، فَلَوْ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ لَتَضَرَّرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ الْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ.
وَقَدْ انْتَقَصَ السِّعْرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ مَا حَصَلَ بِصُنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ وَلَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْنِي مَصْنُوعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَيْنِ فِي الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، أَوْ أَكْثَرَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَاهُنَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَمْلِكُ الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السِّعْرُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جُعِلَتْ أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ، وَمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لِعِزَّتِهَا وَقِلَّتِهَا عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ النَّقْلُ نُقْصَانًا لَهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَدِّ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْغَصْبِ.
وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِعَارِضِ الْعَجْزِ أَوْ الضَّرَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَالْتَقَيَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَخَذَ قِيمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ وَقْتَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْغَصْبَ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ سِعْرُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي الْتَقَيَا فِيهِ أَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ الَّتِي لِلْعَيْنِ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْمِثْلِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَيْنَ بِالنَّقْلِ إلَى هَذَا الْمَكَانِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ قِيمَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لِمَكَانِ الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ، فَالْجَبْرُ عَلَى الْأَخْذِ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَكُونُ إضْرَارًا بِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً، وَقِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَقَلُّ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، فَالْغَاصِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْمِثْلَ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْقِيمَةَ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ ضَرَرًا بِالْغَاصِبِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ ضَرَرًا بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيُسَلِّمُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقِيمَةَ الَّتِي لَهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالتَّأْخِيرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، فَانْتَقَصَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِصُنْعِهِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ ابْتَلَّتْ، أَوْ صَبَّ الْغَاصِبُ فِيهَا مَاءً فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَنَّ صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ.
إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غُصِبَتْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَهَا قِيمَةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ، وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً تُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَوْ غَصَبَ دِرْهَمًا صَحِيحًا، أَوْ دِينَارًا صَحِيحًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ، أَوْ كَسَرَهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ الصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ فِي الْقِيمَةِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَفَاوَتُ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ إنَاءَ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ فَانْهَشَمَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ هَشَّمَهُ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا بِانْفِرَادِهَا، فَأَمَّا مَعَ الْأَصْلِ فَمُتَقَوِّمَةٌ، خُصُوصًا إذَا حَصَلَتْ بِصُنْعِ الْعِبَادِ، فلابد مِنْ التَّضْمِينِ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَوَجَبَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ بِجِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَلَزِمَ تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إيجَابُ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَكَذَلِكَ آنِيَةُ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالشَّبَّةِ وَالرَّصَاصِ إنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا فَهِيَ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَمْ تَخْرُجْ بِالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ، فَكَانَتْ مَوْزُونَةً، فَكَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَإِذَا انْهَشَمَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَحَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ فَاحِشٌ أَوْ يَسِيرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا يَكُونُ التَّقَابُضُ فِيهِ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إذَا نَقَصَ مِنْ وَصْفِهِ لَا مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَانْكَسَرَتْ أَوْ كُسِّرَتْ إنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يُورِثْ فِيهِ عَيْبًا فَاحِشًا، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ خِيَارُ التَّرْكِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَيُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَوْرَثَ عَيْبًا فَاحِشًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ.
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا صَحِيحًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَلًّا فِي يَدِهِ، أَوْ لَبَنًا حَلِيبًا فَصَارَ مَخِيضًا، أَوْ عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا، أَوْ رُطَبًا فَصَارَ تَمْرًا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ الشَّيْء بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْء لَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَلَمْ تَكُنْ الْجَوْدَةُ فِيهَا بِانْفِرَادِهَا مُتَقَوِّمَةً، فَلَا تَكُونُ مُتَقَوِّمَةً، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غَصَبَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ، فَيَجِبُ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ، إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ زِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ: فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ فِي الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَغْصُوبِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ أَصْلًا كَالْكَسْبِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَكَانَ مِلْكَهُ، وَمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ بَدَلُ جُزْءٍ مَمْلُوكٍ، أَوْ بَدَلُ مَا لَهُ حُكْمُ الْجُزْءِ، فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدِ كَسْبٌ مَلَكَهُ، فَكَانَ مِلْكَهُ.
وَأَمَّا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ بِأَنْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ عِنْدَنَا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا، حَتَّى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ، وَعِنْدَهُ هِيَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِهَا أَخَذَهَا الْمَالِكُ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ يُنْظَرُ، إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِي الْمَغْصُوبِ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَغْصُوبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِلْمَغْصُوبِ، بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، تَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ لِلضَّمَانِ، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ، فَإِنْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ أَصْفَرَ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْوَانِ سِوَى السَّوَادِ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ مِنْ الْغَاصِبِ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، أَمَّا وِلَايَةُ أَخْذِ الثَّوْبِ؛ فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُهُ لِبَقَاءِ اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَأَمَّا ضَمَانُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، فَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِضَمَانٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى أَخْذِ الثَّوْبِ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ إلَّا بِضَمَانٍ وَهُوَ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ.
وَلَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ وَقِيلَ لَهُ خِيَارٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ لَهُ تَرْكَ الثَّوْبِ عَلَى حَالِهِ، وَكَانَ الصِّبْغُ فِيهِ لِلْغَاصِبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، كَمَا إذَا انْصَبَغَ لَا بِفِعْلِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالصِّبْغُ مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذَّرٌ، فَصَارَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَا لِلْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ مِلْكٌ أَيْضًا وَهُوَ الصِّبْغُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغَ تَابِعٌ لَهُ، فَتَخْيِيرُ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُخَيَّرَ صَاحِبُ التَّبَعِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ بِالْعُصْفُرِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ تَبَعٍ، وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ، بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: السَّوَادُ وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ سَوَاءٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِقُ الثَّوْبَ فَيُنْقِصُهُ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَسَائِرِ الْأَلْوَانِ.
وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سَوَادٍ يَنْقُصُ وَجَوَابُهُمَا فِي سَوَادٍ يَزِيدُ، وَقِيلَ كَانَ السَّوَادُ يُعَدُّ نُقْصَانًا فِي زَمَنِهِ، وَزَمَنَهُمَا كَانَ يُعَدُّ زِيَادَةً، فَكَانَ اخْتِلَافُ زَمَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْعُصْفُرُ إذَا نَقَصَ الثَّوْبَ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ ثَلَاثِينَ فَعَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى قَدْرِ مَا يَزِيدُ هَذَا الصَّبْغُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبٍ يُزِيدُ هَذَا الصَّبْغُ قِيمَتَهُ وَلَا يُنْقِصُ، فَإِنْ كَانَ يُزِيدُهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَخَذَ مِنْ الْغَاصِبِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ نَقَّصَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ خَمْسَةً فِيهِ صِبْغٌ فَانْجَبَرَ نُقْصَانُ الْخَمْسَةِ بِهِ، أَوْ صَارَتْ الْخَمْسَتَانِ قِصَاصًا وَبَقِيَ نُقْصَانُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةٍ، وَكَذَلِكَ السَّوَادُ عَلَى هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ وَبَاعَهُ وَغَابَ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الثَّوْبِ يَقْضِي لَهُ بِالثَّوْبِ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ أَمَّا الْقَضَاءُ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغُ تَابِعٌ لَهُ، فَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبَ أَصْلٍ، فَكَانَ اعْتِبَارُ جَانِبِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الِاسْتِيثَاقُ بِكَفِيلٍ؛ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَلَوْ وَقَعَ الثَّوْبُ الْمَغْصُوبُ فِي صِبْغِ إنْسَانٍ فَصُبِغَ بِهِ، أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ شَاءَ امْتَنَعَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى الضَّمَانِ؛ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ، فَيُبَاعُ الثَّوْبُ، فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ.
وَصَاحِبُ الصِّبْغِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ قِيمَةُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الصِّبْغِ الْقَائِمِ فِي الثَّوْبِ لَا فِي الصِّبْغِ الْمُنْفَصِلِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لَا لِلْغَاصِبِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ سَوَادًا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الصَّبْغِ، بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ غَاصِبًا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَلْوَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يُخْلَطُ بِالسَّوِيقِ الْمَغْصُوبِ، أَوْ يُخْلَطُ بِهِ، فَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ أَصْلٌ وَالسَّمْنَ كَالتَّابِعِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ، وَلَا يُقَالُ: سَمْنٌ مَلْتُوتٌ.
وَأَمَّا الْعَسَلُ إذَا خُلِطَ بِالسَّمْنِ، أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ فَكُلَاهُمَا أَصْلٌ.
وَإِذَا خُلِطَ الْمِسْكُ بِالدُّهْنِ أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ يَزِيدُ الدُّهْنَ وَيُصْلِحُهُ كَانَ الْمِسْكُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ، وَإِنْ كَانَ دُهْنًا لَا يَصْلُحُ بِالْخَلْطِ وَلَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ كَالْأَدْهَانِ الْمُنْتِنَةِ فَهُوَ هَالِكٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ إنْسَانٍ صِبْغًا فَصَبَغَهُ بِهِ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ صِبْغًا مِثْلَ صِبْغِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ صِبْغَهُ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَبَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الصِّبْغَ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ آخَرَ صِبْغًا فَصَبَغَهُ فِيهِ، ثُمَّ غَابَ، وَلَمْ يُعْرَفْ فَهَذَا وَمَا إذَا انْصَبَغَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ سَبِيلٌ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ، فَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَزَالَ عَنْهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا غَابَ الْغَاصِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي إدَارَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَا بِصِبْغِ أَحَدٍ، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَعُصْفُرًا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَأْخُذُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا وَيُبْرِئُ الْغَاصِبَ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْعُصْفُرِ وَالثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ صَبَغَ ثَوْبَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، فَهَذَا رَجُلٌ صَبَغَ ثَوْبًا بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَالْغَاصِبُ خَلَطَ مَالَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمَالِهِ، وَخَلْطُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ لَا يُعَدُّ اسْتِهْلَاكًا لَهُ بَلْ يَكُونُ نُقْصَانًا، فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ النُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ الْعُصْفُرُ لِرَجُلٍ وَالثَّوْبُ لِآخَرَ فَرَضِيَا أَنْ يَأْخُذَاهُ، كَمَا يَأْخُذُ الْوَاحِدُ أَنْ لَوْ كَانَا لَهُ فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هاهنا اخْتَلَفَ، فَكَانَ الْخَلْطُ اسْتِهْلَاكًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ عُصْفُرًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَ نَفْسِهِ ضَمِنَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالْعُصْفُرَ تَبَعٌ لَهُ وَالسَّوَادُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا قِيلَ لِصَاحِبِهَا: أَعْطِهِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبُ جِصَّهُ؛ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهَا عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَهُوَ الْجِصُّ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَغَرِمَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ جِصَّهُ، وَلَوْ غَصَبَ مُصْحَفًا فَنَقَطَهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَخْذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مَا زَادَ النَّقْطُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوطٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْطَ زِيَادَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، فَأَشْبَهَ الصِّبْغَ فِي الثَّوْبِ.
(وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّقْطَ أَعْيَانٌ لَا قِيمَةَ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ بَقِيَ مُجَرَّدُ عَمَلِهِ وَهُوَ النَّقْطُ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّقْطَ فِي الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «جَرِّدُوا الْقُرْآنَ»، وَإِذَا كَانَ التَّجْرِيدُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَ النَّقْطُ مَكْرُوهًا، فَلَمْ يَكُنْ زِيَادَةً، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُصْحَفِ أَخْذُهُ، وَلَوْ غَصَبَ حَيَوَانًا فَكَبِرَ فِي يَدِهِ أَوْ سَمِنَ، أَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ نَمَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جَرِيحًا، أَوْ مَرِيضًا فَدَاوَاهُ حَتَّى بَرَأَ وَصَحَّ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فَسَقَاهُ الْغَاصِبُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَى بُلُوغُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَخْلًا أَطْلَعَ فَأَبَّرَهُ وَلَقَّحَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا أَنْفَقَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ حَصَدَ الزَّرْعَ فَاسْتَهْلَكَهُ، أَوْ جَذَّ مِنْ الثَّمَرِ شَيْئًا، أَوْ جَزَّ الصُّوفَ، أَوْ حَلَبَ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَن، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَفَتَلَهُ، أَوْ غَسَلَهُ، أَوْ قَصَّرَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ، أَمَّا الْفَتْلُ فَإِنَّهُ تَغْيِيرُ الثَّوْبِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ.
(وَأَمَّا) الْغَسْلُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ وَإِعَادَةٌ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَالصَّابُونُ أَوْ الْحُرُضُ فِيهِ يَتْلَفُ وَلَا يَبْقَى.
وَأَمَّا الْقُصَارَةُ فَإِنَّهَا تَسْوِيَةُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ، فَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْمَغْصُوبِ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِي الْخَمْرِ، وَإِذَا صَارَ خَلًّا حَدَثَ الْخَلُّ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ الْمُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتْلَفُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ كَذَا هَذَا وَقِيلَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ لَا بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ وَدَبَغَهُ أَنَّهُ إنْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ كَانَ مِلْكَهُ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ.
وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ إنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ فِعْلِ الدِّبَاغِ، وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ، إلَّا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَدَبَغَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ مُلْقَاةً عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَ جِلْدَهَا فَدَبَغَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْجِلْدِ؛ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي الطَّرِيقِ إبَاحَةٌ لِلْأَخْذِ كَإِلْقَاءِ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ، وَلَوْ هَلَكَ الْجِلْدُ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ مَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ مِنْ الْغَاصِبِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَلَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَغْرَمَ لَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مِلْكٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ لَضَمَّنَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا دَبَغَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، كَمَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَاسْتَهْلَكَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، أَمَّا الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فَلِأَنَّ الْجِلْدَ بِالدَّبَّاغِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا.
(وَأَمَّا) الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبَعْدَهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ حَدَثَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَادِثَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَالْتُحِقَ هَذَا الْوَصْفُ بِالْعَدَمِ، فَكَانَ هَذَا إتْلَافُ مَالٍ لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْجِلْدِ تَابِعٌ لِمَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالدِّبَاغِ وَمَا زَادَ الدِّبَاغُ مَضْمُونٌ فِيهِ فَكَذَا مَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ يَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ، وَالْمَضْمُونُ بِبَدَلٍ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ فَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ قَائِمٌ لَمْ يُنْتَقَصْ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ أَصْفَرَ، أَوْ أَحْمَرَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ جَعَلَ هَذَا الْجِلْدَ أَدِيمًا، أَوْ زِقًّا، أَوْ دَفْتَرًا، أَوْ جِرَابًا، أَوْ فَرْوًا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ حَيْثُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهُ مَعْنًى، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَلَهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً فَلَا شَيْءَ، وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرَ الْمُسْلِمِ فَصَارَ خَمْرًا فِي يَدِهِ، أَوْ خَلًّا ضَمِنَ عَصِيرًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا، أَوْ خَلًّا، وَالْعَصِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.