فصل: فَصْلٌ: سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الزَّكَاةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالزَّكَاةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ فَالْفَرْضُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ زَكَاةُ الرَّأْسِ، وَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرُ وَزَكَاةُ الْمَالِ نَوْعَانِ:
زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ، وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهِيَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ الْكِتَابُ فَقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ، وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ فَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَالٍ أُدِّيَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» فَقَدْ أُلْحِقَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَمْ يُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ فِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا».
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبْهَتُهُ، وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَاحِبُ الْخَيْلِ؟ قَالَ: الْخَيْلُ ثَلَاثٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا مَنْ رَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ طُوِّلَ لَهَا فِي مَرْجٍ خِصْبٍ أَوْ فِي رَوْضَةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ وَعَدَدَ أَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَإِنْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ عَجَّاجٍ لَا يُرِيدُ مِنْهُ السَّقْيَ فَشَرِبَتْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا عِزًّا وَفَخْرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ لَهُ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا كَانَتْ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهَا بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا».
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَانِعِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ: «لَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ»، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ مَفْرُوضٌ وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ نَفْسَ الْمُؤَدِّي عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ.
وَتُزَكِّي أَخْلَاقَهُ بِتَخَلُّقِ الْجُودُ وَالْكَرَمِ وَتَرْكِ الشُّحِّ وَالضَّنِّ إذْ الْأَنْفُسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الضَّنِّ بِالْمَالِ فَتَتَعَوَّدُ السَّمَاحَةَ، وَتَرْتَاضُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَفَضَّلَهُمْ بِصُنُوفِ النِّعْمَةِ وَالْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَخَصَّهُمْ بِهَا فَيَتَنَعَّمُونَ وَيَسْتَمْتِعُونَ بِلَذِيذِ الْعَيْشِ.
وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ فَرْضًا.

.فَصْلٌ: كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ حَتَّى مَضَى حَوْلَانِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا صَنَعَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ حَوْلٍ وَاحِدٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتَدَلَّ بِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْفَوْرِ لَضَمِنَ كَمَنْ أَخَّرَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَجِبُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ بِأَنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ يَمُوتُ فَيَفُوتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ حَتَّى مَاتَ يَأْثَمُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْوَقْتِ هَلْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْأَمْرِ بِقَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقَالَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ: إنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ الْفِعْلُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْمُبْهَمِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى مَسْأَلَةُ هَلَاكِ النِّصَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَنَا لَمْ يَكُنْ بِتَأْخِيرِهِ الْأَدَاءَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطًا فَلَا يَضْمَنُ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ صَارَ مُفَرِّطًا لِتَأْخِيرِهِ فَيُضْمَنُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا:

وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا فَالْمَالُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَلِذَا تُضَافُ إلَى الْمَالِ فَيُقَالُ: زَكَاةُ الْمَالِ وَالْإِضَافَةُ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهَا السَّبَبِيَّةُ كَمَا يُقَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ.

.أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ:

فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا إسْلَامُهُ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا حَتَّى إذَا مَضَى عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذَا أَسْلَمَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَدَاءُ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَتَخْفِيفًا لَهُ.
وَالْمُرْتَدُّ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ.
(وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَالْعِبَادَاتِ تَوَابِعُ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلُ عِبَادَةً بِدُونِهِ، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهِ.
وَهَذِهِ آيَةُ التَّبَعِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْإِيمَانُ عَنْ الْخَلَائِقِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَكَانَ هُوَ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ وَغَيْرُهُ عِبَادَةً بِهِ فَكَانَ تَبَعًا لَهُ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ جَعَلَ التَّبَعَ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَتَغْيِيرُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ وَالطَّهَارَةَ تَابِعَةٌ لَهَا فَكَانَ إيجَابُ الْأَصْلِ إيجَابًا لِلتَّبَعِ وَهُوَ الْفَرْقُ.
وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فَرِيضَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بَلْ السَّبَبَ الْمُوصِلَ إلَيْهِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَهُ سَوَائِمُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالشَّرَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِأَدَائِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا بَلَّغَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْعَدَدِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيَتِيمِ فَإِذَا بَلَغَ أَخْبَرَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَتَّى قَالَ: لَوْ أَدَّاهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ ضُمِنَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَقُّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ حَتَّى تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبُ الصَّبِيِّ فِيهَا فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي إقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا ابْتِدَاءً.
أَمَّا الْكَلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: النَّصُّ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَقِيقَةُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَالْإِضَافَةُ بِحَرْفِ اللَّامِ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَلِذَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ وَالِاسْتِحْلَافُ مِنْ السَّاعِي وَإِنَّمَا يَجْرِيَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهَا هُوَ الْفَقِيرُ فَكَانَتْ حَقَّ الْفَقِيرِ وَالصِّبَا لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ الْعِبَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ تُقَدَّرُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مَحِلُّ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ الْمَالُ لَا نَفْسُ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّ الْفَقِيرِ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَالُ، وَذَا لَيْسَ بِزَكَاةٍ بَلْ هُوَ مَحِلُّ الزَّكَاةِ وَسُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ دَلَالَةٌ وَالْجَبْرُ عَلَى الْأَدَاءِ لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ حَتَّى لَوْ مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَجَرَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلسَّاعِي لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الزَّكَاةِ حَقَّ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُوَكِّلُ، وَالْخَرَاجُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ مِنْ وَجْهٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» فَتَجِبُ بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ لَا بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعُشْرِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَأْكُلُهَا.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ».
وَرُوِيَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ»، وَلِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْبَالِغِينَ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْبَالِغِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الزَّكَاةِ إيجَابُ الْفِعْلِ وَإِيجَابُ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْوَلِيِّ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْهِيٌّ عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ قُرْبَانُ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ أَوْ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُعَارِضَانِ الْكِتَابَ مَعَ مَا أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يُطْلَقُ عَلَى النَّفَقَةِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْجَمِيعَ لَا الزَّكَاةُ أَوْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى زَكَاةً وَأَمَّا قَوْلُهُ «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ» أَيْ: لِيَتَصَرَّفْ فِي مَالِهِ كَيْ يَنْمُوَ مَالُهُ إذْ التَّزْكِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ أَوْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ فَتَخُصُّ الْمُتَنَازِعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْعَقْلُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ جُنُونًا أَصْلِيًّا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجُنُونَ نَوْعَانِ أَصْلِيٌّ وَطَارِئٌ.
أَمَّا الْأَصْلِيُّ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُمْنَعُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ صَارَ أَهْلًا لَأَنْ يَنْعَقِدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِ الصِّبَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ عَلَى مَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا كَذَا هَذَا وَلِهَذَا مُنِعَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ كَذَا الزَّكَاةَ.
وَأَمَّا الْجُنُونُ الطَّارِئُ فَإِنْ دَامَ سَنَةً كَامِلَةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ كَذَلِكَ كَذَا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ فِي الزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ، وَالْجُنُونُ الْمُسْتَوْعِبُ لِلشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَالْمُسْتَوْعِبُ لِلسَّنَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فَكَذَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ ثُمَّ أَفَاقَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً مِنْ الْحَوْلِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ تَجِبُ زَكَاةُ ذَلِكَ الْحَوْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَفَاقَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْثَرُ السَّنَةِ مُفِيقًا فَكَأَنَّهُ كَانَ مُفِيقًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ اعْتِبَارُ الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ وَهُوَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ يَكْفِي لِوُجُوبِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَذَا الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ.
وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالْمَمْلُوكُ لَا مِلْكَ لَهُ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكَهُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ.
وَأَمَّا الْمُسْتَسْعَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ فَضَلَ عَنْ سِعَايَتِهِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَيْفَمَا كَانَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِلْإِسَامَةِ وَقَدْ وُجِدَ.
أَمَّا الْمِلْكُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ.
وَأَمَّا الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْإِسَامَةِ؛ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ خَطَبَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ خَارِجٌ عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْمَالِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَالْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى «وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَشَرْطَهُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْغِنَى مَعَ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الدَّيْنِ مَعَ مَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي النِّصَابِ نَاقِصٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إرْضَاءٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ وَذَا آيَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فَيُمْنَعُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غِنَى الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَصْلُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لابد فِيهَا مِنْ غِنَى الْمَالِكِ، وَالْغِنَى لَا يُجَامِعُ الدَّيْنَ، وَعَلَى هَذَا يُخْرَجُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا مُعَجَّلًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً، فَأَمَّا الْمُعَجَّلُ فَيُطَالَبُ بِهِ عَادَةً فَيَمْنَعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى عَزْمٍ مِنْ قَضَائِهِ يَمْنَعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَزْمِ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمَرْءُ بِمَا عِنْدَهُ فِي الْأَحْكَامِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي تَعَارَفَهَا أَهْلُ بُخَارَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ تَجِبُ عَلَى الْآجِرِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْلِ بِالْفَسْخِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّ ذَلِكَ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْآجِرِ، وَقَالُوا فِي الْبَيْعِ الَّذِي اعْتَادَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ بَيْعُ الْوَفَاءِ: إنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ فِي ثَمَنِهِ إنْ بَقِيَ حَوْلًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُلْزَمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّهُ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ، وَقَالُوا فِيمَنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ: إنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْحَوْلِ يَمْنَعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَارَنَ الْمُوجِبَ فَيُمْنَعُ الْوُجُوبُ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُقْتَصِرٌ عَلَى حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ سَبَبًا حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا، وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نَحْوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فَتَصِيرُ دَيْنًا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَيْضًا، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا بِالتَّرَاضِي فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَقَالُوا: دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ.
وَالطَّعَامُ لَيْسَ مَالَ التِّجَارَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي النِّصَابِ أَوْ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ أُتْلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هُوَ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ، وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ.
وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ؟ فَقَالَ: مَا حُجَّتِي عَلَى مَنْ يُوجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِأَضْعَافِهِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أَوْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بِهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وَكَانَ يَأْخُذُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ فِي زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلْيَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ؟ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عَنْ الْأَخْذِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُمْ بِهَا، لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ مِنْ أَرْبَابِهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَا هَذَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَا فِي السَّوَائِمِ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى عَلَيْهَا سَنَتَانِ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ عَشْرًا وَحَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ.
وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ.
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ هَلْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى إذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ.
وَقَالَ زُفَرُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالدَّيْنِ يَنْعَدِمُ كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ فَكَانَ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَعِنْدَنَا نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْطَعُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لَا مَطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَاتِ كَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ، وَنَحْوِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ فَأَمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَا يُحْبَسُ؟ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إذَا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ مِنْ عَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَدُورِ السُّكْنَى فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ لَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ: يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ فَدَيْنُ الْمَهْرِ يُصْرَفُ إلَى الْمِائَتَيْنِ دُونَ الْخَادِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَادِمِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْجِنْس أَيْسَرُ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَوْلَى، وَلَنَا أَنَّ عَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ مُسْتَحَقٌّ كَسَائِرِ الْحَوَائِجِ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عَنْهَا فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَيْسَرُ وَأَنْظُرُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى ثِيَابِ بَدَنِهِ وَقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ؟ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ فَقِيرًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُؤَدِّيهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ، وَزَكَاةُ السَّوَائِمِ يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ.
وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ فِي الصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ ضَنًّا بِمَا لَهُمْ فَكَانَ صَرْفُ الدَّيْنِ إلَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ لِيَأْخُذَ السُّلْطَانُ زَكَاةَ السَّوَائِمِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ.
وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَنَا.
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَهُ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَإِبِلٌ سَائِمَةٌ فَإِنَّ عِنْدَهُ يُصْرَفُ الْمَهْرُ إلَى الْإِبِلِ وَعِنْدَنَا يُصْرَفُ إلَى مَالِ التِّجَارَةِ لِمَا مَرَّ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْمُصْدِقِ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ السَّائِمَةِ دُونَ الدَّرَاهِمِ؛ فَلِهَذَا إذَا حَضَرَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ الزَّكَاةِ سِوَى السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَمْوَالِ الْبِذْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ لَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى يَجِبَ الْأَكْثَرُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ حَتَّى يَجِبَ التَّبِيعُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، وَهَذَا إذَا صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَغْرَقَ أَحَدُهُمَا وَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ.
وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ وَامْتَنَعَ وُجُوبُ التَّبِيعِ تَجِبُ الشَّاتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الْغَنَمِ يَبْقَى نِصَابُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ كَامِلًا وَالتَّبِيعُ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ شَاتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ الدَّيْنَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الشَّاةُ.
وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْمُصْدِقِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْإِبِلِ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ فَلَا يَنْتَقِصُ النِّصَابُ بِأَخْذِهَا.
وَلَوْ صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ فَيَنْتَقِصُ النِّصَابُ فَكَانَ هَذَا أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ بَقَرًا وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ زَكَاةً، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَقَلَّ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، وَتَبِيعٌ وَسْطٌ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَالْمَدَارُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى عُرُوضِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ إلَى الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِمَّا يُسْتَحْدَثُ فِي الْعُرُوضِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَأَمَّا الْعَقَارُ فَمِمَّا لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ الْمِلْكُ غَالِبًا فَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ:

وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ فَمِنْهَا: الْمِلْكُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ.
وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهُ بِدَرَاهِمَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ عِنْدَنَا فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ قَائِمٌ وَإِنْ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهُ، وَالزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ.
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ رَقَبَةً وَيَدًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: الْيَدُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا.
وَتَفْسِيرُ مَالِ الضِّمَارِ هُوَ كُلُّ مَالٍ غَيْرُ مَقْدُورٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ، وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ، وَالْمَالِ السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ صَارَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْمَدْفُونِ فِي الْكَرْمِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ احْتِجَاجًا بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ بِدَلِيلِ ابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ فَائِتَةً لِقِيَامِ مِلْكِهِ.
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ مَعَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَتَجِبُ فِي الْمَدْفُونِ فِي الْبَيْتِ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عَنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ كَمَا فِي ابْنِ السَّبِيلِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ» وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَعِيرِ الضَّامِرِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشِدَّةِ هُزَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ؛ لِعَدَمِ وُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا فَكَانَتْ ضِمَارًا؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا وَلَا زَكَاةَ عَلَى غَيْرِ الْغِنَى بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَمَالُ ابْنُ السَّبِيلِ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّهِ بِيَدِ نَائِبِهِ وَكَذَا الْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّبْشِ بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ نَبْشَ كُلِّ الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَلِيًّا فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ فَلَمْ يُعْذَرْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَفْسُقُ إلَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى بِعِلْمِهِ فَكَانَ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ يُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِإِقْرَارِهِ فِي السِّرِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ مُفْلِسٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمُعْسِرِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ ضِمَارًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاسْتِقْرَاضِ مَعَ أَنَّ الْإِفْلَاسَ مُحْتَمَلُ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِيهِ فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّفْلِيسَ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَجْزٍ؛ لِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُعَامِلُونَهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ يَرَى التَّفْلِيسَ لَكِنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ فِي الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ الدَّيْنُ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ وَدِيعَةً ثُمَّ نَسِيَ الْمُودَعُ فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا تَذَكَّرَ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمَعْرُوفِ نَادِرٌ فَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ قَائِمًا؛ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ.
وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ إذَا هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَمْ يَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى مُطْلَقًا بَلْ كَانَ نَاقِصًا، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِيهَا مُتَزَلْزِلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ لِلْإِنْسَانِ لَا بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ رَأْسًا كَالْمِيرَاثِ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالدِّينِ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْمَهْرِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ: دَيْنٌ قَوِيٌّ، وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ، وَدَيْنٌ وَسَطٌ كَذَا قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَمَّا الْقَوِيُّ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَرَضِ التِّجَارَةِ مِنْ ثِيَابِ التِّجَارَةِ، وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ، أَوْ غَلَّةِ مَالِ التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ مَا مَضَى مَا لَمْ يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَكُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى دِرْهَمًا وَاحِدًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ.
وَأَمَّا الدَّيْنُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ سَوَاءٌ وَجَبَ لَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْمِيرَاثِ، أَوْ بِصُنْعِهِ كَمَا لِوَصِيَّةٍ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ مَا لَمْ يُقْبَضْ كُلُّهُ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْوَسَطُ فَمَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَبْدِ الْخِدْمَةِ، وَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكِنْ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا قَبَضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَّى لِمَا مَضَى، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمِائَتَيْنِ وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَالَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا أَصْلًا مَا لَمْ تُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَا سِوَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِلْكًا مُطْلَقًا رَقَبَةً وَيَدًا؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْعَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ مِلْكٌ نَاقِصٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ فِعْلٌ وَاجِبٌ وَهُوَ فِعْلُ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَدَلِيلُ كَوْنِ الدَّيْنِ فِعْلًا مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ فِي الْخِلَافِيَّاتِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي دَيْنٍ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَأَنَّهُ مَالُ التِّجَارَةِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ الدَّيْنُ مَالًا مَمْلُوكًا أَيْضًا لَكِنَّهُ مَالٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَالٌ حُكْمِيٌّ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مَمْلُوكًا رَقَبَةً، وَيَدًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَمَالِ الضِّمَارِ فَقِيَاسُ هَذَا أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ بِفَوَاتِ الْيَدِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ مَالِ التِّجَارَةِ الْتَحَقَ بِالْعَيْنِ فِي احْتِمَالِ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ مَالِ التِّجَارَةِ قَابِلٌ لِلْقَبْضِ، وَالْبَدَلُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَابِلَةٌ لِلْقَبْضِ فَكَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ رَأْسًا وَلَا فِيمَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا فِي بَدَلِ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يُقْبَضْ قَدْرُ النِّصَابِ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا فِي يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَذَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ مَالِ التِّجَارَةِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إخْرَاجِ زَكَاةٍ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ النِّصَابِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ هُنَاكَ مَا لَمْ يَكُنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهاَهُنَا أَيْضًا لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ زَكَاةِ الْمَقْبُوضِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْمَقْبُوضُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَقْبِضُهَا دِرْهَمًا وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ قَدْرَ مَا قَبَضَ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ كَمَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى النِّصَابِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفَادِ فَيُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) كَوْنُ الْمَالِ نَامِيًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ وَهُوَ النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَالِ النَّامِي وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِالْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسَامَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالسِّمَنِ، وَالتِّجَارَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرِّبْحِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحِ مَعَ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْغِنَى وَمَعْنَى النَّعْمَةِ وَهُوَ التَّنَعُّمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ إذْ الْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ غَنِيًّا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ نَعْمَةً إذْ التَّنَعُّمُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهُ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَن.
وَلَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَلَا يَقَعُ الْأَدَاءُ بِالْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ» فَلَا تَقَعُ زَكَاةٌ إذْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ عَنْ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلْإِسَامَةِ وَالتِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَالٍ سَوَاءٌ كَانَ نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ لَا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ، وَالْعَلُوفَةِ، وَالْحَمُولَةِ، وَالْعَمُولَةِ مِنْ الْمَوَاشِي، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَرَاكِبِ، وَكِسْوَةِ الْأَهْلِ وَطَعَامِهِمْ، وَمَا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ آنِيَةٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ أَوْ فُرُشٍ وَمَتَاعٍ لَمْ يُنْوَ بِهِ التِّجَارَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاحْتُجَّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَمَعْنَى النِّعْمَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَتَمُّ وَأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الْبَقَاءِ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الشُّكْرِ، وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لابد مِنْهُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ الْفَاضِلَةُ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّهَا نِعْمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ فِيهَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الضَّرُورِيَّةَ وَهِيَ حَاجَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْبَدَنِ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنْ الْمَالِ النَّامِي عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَذَلِكَ بِالْإِعْدَادِ لِلْإِسَامَةِ فِي الْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، إلَّا أَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فِي دَفْعِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْدَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ، إذْ النِّيَّةُ لِلتَّعْيِينِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا أَوْ نَوَى النَّفَقَةَ.
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الْأَثْمَانِ مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِعْدَادُ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا ذَلِكَ فلابد مِنْ التَّعْيِينِ لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ.
وَكَذَا فِي الْمَوَاشِي لابد فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَاللَّحْمِ، فلابد مِنْ النِّيَّةِ ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أَمَتَى مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَفْعَلُوا» ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ قَدْ تَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَةً أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَقْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ بِأَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ أَوْ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ بِعَرَضٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ صَرِيحِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارِنًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ أَمَّا الشِّرَاءُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تِجَارَةٌ.
وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ نَفْسُ التِّجَارَةِ؛ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ الْإِجَارَةَ.
وَالنِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ دُونَ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ التِّجَارَةِ إنْ كَانَ دَلَالَةَ التِّجَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ صَرِيحُ نِيَّةِ الِابْتِذَالِ وَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِهَا.
وَلَوْ مَلَكَ عُرُوضًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَصْلًا بِأَنْ وَرِثَهَا وَنَوَى التِّجَارَةَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ.
وَلَوْ مَلَكهَا بِعَقْدٍ لَيْسَ مُبَادَلَةً أَصْلًا كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ بِعَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَنَوَى التِّجَارَةَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ.
وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُقَارِنْ عَمَلًا هُوَ تِجَارَةٌ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ الْحَاصِلُ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ بِكَسْبِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ قِرَانُهَا بِالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَالِ بِبَدَلِ مَا هُوَ مَالٌ، وَالْقَبُولُ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلًا فَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً عَمَلَ التِّجَارَةِ.
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ عُرُوضًا وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَاسْتَقْرَضَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ مِنْ رَجُلٍ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ وَلَمْ تُسْتَهْلَكُ الْأَقْفِزَةُ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَيُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ الْجِنْسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ: اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَ لِلتِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا تِجَارَةٌ فَلَمْ تُوجَدْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُقَارِنَةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَلَوْ اشْتَرَى عُرُوضًا لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَة ثُمَّ نَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَبِعْهَا فَيَكُونُ بَدَلُهَا لِلتِّجَارَةِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهُ مَالُ التِّجَارَةِ فَنَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْبِذْلَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فَعَلَ التِّجَارَةَ فَقَدْ عَزَبَتْ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلِ التِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ لِلْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِابْتِذَالَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فِي الْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلٍ هُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ فَاعْتُبِرَتْ.
وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ السَّفَرُ مَعَ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا نَوَى السَّفَرَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ، وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ.
وَنَظِيرُهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ الْكَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَ شَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِلْحَالِ، وَالْمُسْلِمُ إذَا قَصَدَ أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سِنِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِلْحَالِ.
وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْعُرُوضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا لِلِابْتِذَالِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرُوضًا أُخَرَ تَصِيرُ بَدَلَهَا لِلتِّجَارَةِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَوَى لِلتِّجَارَةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ إذَا اشْتَرَى بِتِلْكَ الْعُرُوضِ عُرُوضًا أُخَرَ صَارَتْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَعْمَلُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ عَمَلَ التِّجَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ التِّجَارَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمِلَتْ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عَمَلهَا فَيَصِيرُ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ لِوُجُودِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مَعَ التِّجَارَةِ.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ، أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ فَيَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَالِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ.
وَأَمَّا الشِّرَاءُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يُشْكِلُ.
وَأَمَّا إجَارَةُ الدَّارِ فَلِأَنَّ بَدَلَ مَنَافِعَ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ كَبَدَلِ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَصْلِ.
وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ لِلتِّجَارَةِ فَأَجَّرَ الْمُؤَجِّرُ دَارِهِ بِهَا وَهُوَ يُرِيدُ التِّجَارَةَ شَرْطُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ لِتَصِيرَ الْجَارِيَةُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ الدَّارَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ بَدَلَ مَنَافِعِ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمَشَايِخُ بَلْخٍ كَانُوا يُصَحِّحُونَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ لَكِنْ قَدْ يُقْصَدُ بِبَدَلِ مَنَافِعِهَا الْمَنْفَعَةُ فَيُؤَاجِرُ الدَّابَّةَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَالدَّارَ لِلْعِمَارَةِ فَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَعَ التَّرَدُّدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانًا وَالْمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَثْمَانٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّهَا كَمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا لِمَالِ التِّجَارَةِ جُعِلَتْ ثَمَنًا لِشِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِابْتِذَالِ وَالْقُوتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الشِّرَاءُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبِيدًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ كِسْوَةً وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ كَانَ الْكُلُّ لِلتِّجَارَةِ.
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمُطْلَقُ تَصَرُّفِهِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُمْلَكُ دُونَ مَا لَا يُمْلَكُ حَتَّى لَا يَصِيرَ خَائِنًا وَعَاصِيًا عَمَلًا بِدِينِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى النَّفَقَةِ، وَبِمِثْلِهِ الْمَالِكُ إذَا اشْتَرَى عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ ثِيَابًا لِلْكِسْوَةِ وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ كَمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلتِّجَارَةِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلنَّفَقَةِ وَالْبِذْلَةِ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ.
وَأَمَّا الْأُجَرَاءُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلنَّاسِ نَحْوَ الصَّبَّاغِينَ وَالْقَصَّارِينَ وَالدَّبَّاغِينَ إذَا اشْتَرَوْا الصَّبْغَ وَالصَّابُونَ وَالدُّهْنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَمَلِهِمْ وَنَوَوْا عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي عَمَلِهِمْ هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ؟ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصَّبَّاغَ إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لِيَصْبُغَ ثِيَابَ النَّاسِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ كَالصَّبْغِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالشَّحْمِ الَّذِي يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَذَلِكَ الْأَثَرُ مَالٌ قَائِمٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّبْغِ وَالشَّحْمِ لَكِنَّهُ لَطِيفٌ فَيَكُونُ هَذَا تِجَارَةً، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ مِثْلُ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ وَالْقِلْيِ وَالْكِبْرِيتِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَة؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا تَتْلَفُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ أَثَرُهَا إلَى الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْعِوَضِ بَلْ الْبَيَاضُ أَصْلِيٌّ لِلثَّوْبِ يَظْهَرُ عِنْدَ زَوَالِ الدَّرَنِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ عَمَلِهِ لَا بَدَلَ هَذِهِ الْآلَاتِ فَلَمْ يَكُنْ مَالَ التِّجَارَةِ.
وَأَمَّا آلَاتُ الصُّنَّاعِ وَظُرُوفُ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ مَعَ الْأَمْتِعَةِ عَادَةً وَقَالُوا فِي نَخَّاسِ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْمَقَاوِدَ وَالْجِلَالَ وَالْبَرَاذِعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُبَاعُ مَعَ الدَّوَابِّ عَادَةً يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ مَعَهَا وَلَكِنْ تُمْسَكُ وَتُحْفَظُ بِهَا الدَّوَابُّ فَهِيَ مِنْ آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ، إذَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدُفِعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالِ التِّجَارَةِ.
وَكَذَا إذَا فَدَى بِالدِّيَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ.
وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ لَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الْقِصَاصِ لَا عِوَضُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الْحَوْلُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ وَهُوَ النِّصَابُ الْمَوْجُودُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ»؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ نَامِيًا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالنَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِنْمَاءِ ولابد لِذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يُسْتَنْمَى الْمَالُ فِيهَا بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً الْحَوْلُ فَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ؟ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُسْتَفَادِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا فِي الْحَوْلِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَالْمُسْتَفَادُ فِي الْحَوْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مَعَ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى نِصَابِ الْأَصْلِ بَلْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْوَلَدِ وَالرِّبْحِ، وَأَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْمُشْتَرَى وَالْمَوْرُوثِ وَالْمَوْهُوبِ وَالْمُوصَى بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ وَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُضَمُّ.
احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَفَادُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَكُونُ أَصْلًا فِي شَرْطِ الْحَوْلِ كَالْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالرِّبْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمِلْكِ؛ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَبَعًا فِي الْحَوْلِ.
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ تَبَعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، إذْ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالتَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالسَّبَبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِحَوْلِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَزْدَادُ بِهِ وَلَا يَتَكَثَّرُ؟ وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ كَوْنَهُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ تَبَعًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ، فَكَانَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَتَبَعًا مِنْ وَجْهٍ، فَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ احْتِيَاطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَامٌّ خُصَّ مِنْهُ بَعْضُهُ وَهُوَ الْوَلَدُ وَالرِّبْحُ فَيَخُصُّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادَ عِنْدَنَا إلَى أَصْلِ الْمَالِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَامَلُ بِهِ النِّصَابُ وَيَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا حَالَ وُجُودِ الْمُسْتَفَادِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ عَلَى الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الْمَاضِي بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُضَمُّ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الَّذِي اُسْتُفِيدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُتَجَدِّدًا حُكْمًا كَأَنَّهُ انْعَدَمَ الْأَوَّلُ وَحَدَثَ آخَرُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّمَاءُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَصِيرُ النِّصَابُ كَالْمُتَجَدِّدِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كَالْعَدَمِ، وَالْمُسْتَفَادُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفَادُ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَمَّ حَوْلُ السَّائِمَةِ فَزَكَّاهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَتِمَّ حَوْلُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لِلثَّمَنِ حَوْلًا عِنْدَهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ، وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَلَوْ زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ ثَمَنَهَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُزَكَّى الْكُلُّ بِحَوْلِ الدَّرَاهِمِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لِلْخِدْمَةِ فَأَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ فَأَدَّى عُشْرَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ فَأَدَّى خَرَاجَهَا ثُمَّ بَاعَهَا يُضَمُّ ثَمَنُهَا إلَى أَصْلِ النِّصَابِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ، وَعَبْدُ الْخِدْمَةِ، وَالطَّعَامُ الْمَعْشُورُ، وَالْأَرْضُ الَّتِي أَدَّى خَرَاجَهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ الَّذِي لَيْسَ بِثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِ وَصَارَ مَخْصُوصًا عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا ثِنَى فِي الصَّدَقَةِ» أَيْ: لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ حَالَ اخْتِلَافِ الْمَالِكِ، وَالْحَوْلُ وَالْمَالُ صُورَةٌ وَمَعْنًى صَارَ مَخْصُوصًا، وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْمَالِكِ وَالْحَوْلِ وَلَا شَكَّ فِيهِ.
وَكَذَا الْمَالُ لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانَتْ السَّائِمَةُ قَائِمَةً مَعْنًى وَمَا ذُكِرَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الضَّمَّ فَاعْتِبَارُ الْبِنَاءِ يُحَرِّمُ الضَّمَّ، وَالْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا.
وَأَمَّا إذَا زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضَمُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ وَصْفِ النَّمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ وَحَدَثَ عَيْنٌ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ بَدَلَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْبِنَاءِ.
وَكَذَا فِي الْمَسَائِلِ الْأُخَرِ الثَّمَنُ لَيْسَ بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يَكُون الضَّمُّ بِنَاءً وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابَانِ أَحَدَهُمَا ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ وَالْآخَرَ غَيْرُ ثَمَنِ الْإِبِلِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ حَوْلًا مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَفَادَ دَرَاهِمَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ يُضَمُّ إلَى أَقْرَبِهَا حَوْلًا أَيُّهُمَا كَانَ، وَلَوْ لَمْ يُوهَبْ لَهُ وَلَا وَرِثَ شَيْئًا وَلَا أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا أَدَّى زَكَاتَهُ وَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا وَلَمْ يَحُلْ حَوْلُ ثَمَنِ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يُضَمُّ إلَى النِّصَابِ الَّذِي رَبِحَ فِيهِ لَا إلَى ثَمَنِ الْإِبِلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَبْعَدَ حَوْلًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَقْرَبُ النِّصَابَيْنِ حَوْلًا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ.
وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ بَلْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي الِاسْتِتْبَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعٌ لِأَحَدِهِمَا حَقِيقَةً؛ لِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا مِنْهُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فَلَا يُقْطَعُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ الْأَصْلِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ فَهَلَاكُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ اسْتَفَادَ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ نِصَابًا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ»، وَالْهَالِكُ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
وَكَذَا الْمُسْتَفَادُ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكْمِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ النِّصَابِ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ.
وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ مَالُ التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الْمَالِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ فَكَانَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا عَلَى الْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَائِمٌ لَمْ يَفُتْ بِالِاسْتِبْدَالِ.
وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّيَارِفَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِبْدَالِ مِنْهُمْ سَاعَةً فَسَاعَةً.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَلَا تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى إحْدَاهُمَا كَمَا إذَا بَاعَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا.
وَلِّنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى أَيْضًا لَا بِالْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ فَبَطَلَ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى الْأَوَّلِ فَيُسْتَأْنَفُ لِلثَّانِي حَوْلًا.
وَلَوْ اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ فَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْبَقَرِ أَوْ الْبَقَرَ بِالْغَنَمِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِجِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمَ بِالْغَنَمِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْقَطِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ كَمَا إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَا بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ عِجَافٍ هُزَالٍ لَا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِيهَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قَدْ اخْتَلَفَتْ فَيَخْتَلِفُ لَهُ الْحَوْلُ.
وَكَذَا لَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعُرُوضٍ يَنْوِي بِهَا التِّجَارَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ فِي الْمَالَيْنِ قَدْ اخْتَلَفَ إذْ الْمُتَعَلِّقُ فِي أَحَدِهِمَا الْعَيْنُ، وَفِي الْآخَرِ الْمَعْنَى.
وَلَوْ احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ هَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ.
وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهَةٌ كَالْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا.
وَمِنْهَا النِّصَابُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي النِّصَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ النِّصَابِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْغِنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ غَنِيًّا بِهِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرَ النِّعْمَةِ الْمَالِ.
وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلشُّكْرِ لِلْمَالِ بَلْ يَكُونُ شُكْرُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَفِي آخِرِهِ لَا فِي خِلَالِهِ حَتَّى لَوْ انْتَقَصَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِر الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَوَسَطِهِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَالِ التِّجَارَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مِائَتَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَلَا نِصَابَ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ سَائِمَةً فَجَعَلَهَا عَلُوفَةً فِي وَسَطِ الْحَوْلِ بَطَلَ الْحَوْلُ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: تَرَكْتُ هَذَا الْقِيَاسَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ نِصَابَ التِّجَارَةِ يَكْمُلُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تَزْدَادُ وَتَنْتَقِصُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ لِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِكَثْرَةِ رَغْبَةِ النَّاسِ وَقِلَّتِهَا وَعِزَّةِ السِّلْعَةِ وَكَثْرَتِهَا، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَاعْتُبِرَ الْكَمَالُ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ آخِرُ الْحَوْلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ.
وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ فِي السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ نِصَابَهَا لَا يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ.
وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيُعْتَبَر وُجُودُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَوْلِ وَقْتُ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَآخِرَهُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا وَسَطُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ بِوَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لِيَضُمَّ الْمُسْتَفَادَ إلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ كُلُّهُ لَمْ يُتَصَوَّرُ الضَّمُّ فَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً فِي خِلَالِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ.
وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كَمَا، لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا مِقْدَارُ النِّصَابِ وَصِفَتُهُ، وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ وَصِفَتُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمْوَالُ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَالثَّانِي: أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ، وَالثَّالِثُ: السَّوَائِمُ فَنُبَيِّنُ مِقْدَارَ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ، وَمَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.