فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا الْعُشْرُ فَالْعُشْرُ مَعَ الْخَرَاجِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْتَمِعَانِ فَيَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ حَتَّى قَالَ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَلَا يَتَدَافَعَانِ أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلَا شَكَّ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ.
وَأَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْخَارِجُ حَتَّى لَا يَجِبُ بِدُونِهِ وَالْخَرَاجُ يَجِبُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ»؛ وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَوُلَاةِ الْجَوْرِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَهِيَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا الْأَرْضُ النَّامِيَةُ أَنَّهُمَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ، يُقَالُ: خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِيهِمَا هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا وَعَطَّلَهَا يَجِبُ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ النَّمَاءِ كَانَ لِتَقْصِيرٍ مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَوَاتُ لَا بِتَقْصِيرِهِ بِأَنْ هَلَكَ لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْعُشْرُ بِدُونِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ، أَوْ الْخَرَاجَ وَلَا تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ، أَوْ الْخَرَاجُ وَالزَّكَاةُ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْحَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُضَافُ الْكُلُّ إلَيْهَا؟ يُقَالُ: عُشْرِ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَزَكَاةُ الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ لَا يَجِبُ فِيهَا حَقَّانِ مِنْهَا بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ مَعَ التِّجَارَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ فَإِيجَابُ الْعُشْرِ، أَوْ الْخَرَاجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَعَمُّ وُجُوبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِعُذْرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ، وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهِ فَكَانَ إيجَابُهُمَا أَوْلَى.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ عُشْرِيَّةً مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعُشْرِ لابد مِنْ بَيَانِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ نَوْعَانِ: عُشْرِيَّةٌ وَخَرَاجِيَّةٌ، أَمَّا الْعُشْرِيَّةُ فَمِنْهَا أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَرْضُ الْعَرَبِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَعَدَنَ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حِجْرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْبَرِّيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَرْضَ عُشْرٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ خَرَاجًا فَدَلَّ أَنَّهَا عُشْرِيَّةٌ إذْ الْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ إحْدَى الْمُؤْنَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يُشْبِهُ الْفَيْءَ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي رِقَابِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ لَا تَخْلُوَ عَنْ مُؤْنَةٍ إمَّا الْعُشْرُ وَإِمَّا الْخَرَاجُ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْعُشْرِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ وَمِنْهَا دَارُ الْمُسْلِمِ إذَا اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْعُشْرِ فَإِنْ كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهُوَ خَرَاجِيٌّ.
وَأَمَّا مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عَشْرِيَّة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ بِبِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا، أَوْ بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْأَعَاجِمِ مِثْلَ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخَرَاجَ لَا يُبْتَدَأُ بِأَرْضِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الصَّغَارِ كَالْفَيْءِ إلَّا إذَا الْتَزَمَهُ فَإِذَا اسْتَنْبَطَ عَيْنًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَلَمْ يَلْتَزِمْ الْخَرَاجَ فَلَا يُوضَعُ عَلَيْهِ وَإِذَا أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَيْءِ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ الْخَرَاجِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ كَحَرِيمِ الدَّارِ مِنْ تَوَابِعِ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا فِي حَيِّزِ الْقَرْيَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْقَرْيَةِ فَكَانَ حَقًّا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ.
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْبَصْرَةُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَيْثُ وَضَعُوا عَلَيْهِ الْعُشْرَ.
وَأَمَّا الْخَرَاجِيَّةُ فَمِنْهَا الْأَرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَمَنَّ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهَا فِي يَدِ أَرْبَابِهَا فَإِنَّهُ يَضَعُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ أَسْلَمُوا، أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَأَرْضُ السَّوَادِ كُلُّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ وَاحِدٍ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانِ وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا فَتَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَنْفَذَ عَلَيْهَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَمَسَحَاهَا وَوَضَعَا عَلَيْهِ الْخَرَاجَ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْخَرَاجِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنْ الْعُشْرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَتُرِكَتْ عَلَى أَهْلِهَا وَلَمْ تُقْسَمْ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ لَمْ يَضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَصَارَتْ مَكَّةُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ.
وَكَذَا إذَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ مِنْ جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ عَلَى وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّنَانِيرِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ نَصَارَى بَنِي نَجْرَانَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرَاضِيِهِمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ» وَفِي رِوَايَةِ «عَلَى أَلْفَيْ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ» تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي وَقْتَيْنِ لِكُلِّ سَنَةٍ نِصْفُهَا فِي رَجَبَ وَنِصْفُهَا فِي الْمُحَرَّمِ.
وَكَذَا إذَا أَجْلَاهُمْ وَنَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِينَ.
وَمِنْهَا أَرْضُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا وَذَلِكَ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغْيِيرِ حَالِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِيِّ وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الَّتِي أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُ وَهِيَ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَمَاءُ الْخَرَاجِ هُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ الَّتِي حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي، وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْقَنَوَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَاءُ الْعُشْرِ هُوَ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي كَسَيْحُونٍ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِيَاهَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ خَرَاجِيَّةٌ لَإِمْكَانِ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَدِّ السُّفُنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ شِبْهَ الْقَنْطَرَةِ.
وَمِنْهَا أَرْضُ الْمَوَاتِ الَّتِي أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ وَأَرْضُ الْغَنِيمَةِ الَّتِي رَضَخَهَا الْإِمَامُ لِذِمِّيٍّ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَارُ الذِّمِّيِّ الَّتِي اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا، أَوْ كَرْمًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ابْتِدَاءِ ضَرْبِ الْمُؤْنَةِ عَلَى أَرْضِ الْكَافِرِ الْخَرَاجُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا.
وَمِنْهَا أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْمَحَلِّيَّةِ وُجُودُ الْخَارِجِ حَتَّى أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَلَا خَارِجَ مُحَالٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ وَتُسْتَغَلُّ الْأَرْضُ بِهِ عَادَةً فَلَا عُشْرَ فِي الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسْتَنْمَى بِهَا الْأَرْضِ وَلَا تُسْتَغَلُّ بِهَا عَادَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْمُو بِهَا بَلْ تَفْسُدُ فَلَمْ تَكُنْ نَمَاءَ الْأَرْضِ حَتَّى قَالُوا فِي الْأَرْضِ: إذَا اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً وَفِي شَجَرِهِ الْخِلَافُ، الَّتِي تُقْطَعُ فِي كُلِّ ثَلَاثِ سِنِينَ، أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَّةٌ وَافِرَةٌ وَيَجِبُ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَقَصَبِ الذَّرِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بِهِمَا نَمَاءُ الْأَرْضِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ فَأَمَّا كَوْنُ الْخَارِجِ مِمَّا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْخَضْرَاوَاتُ كَالْبُقُولِ وَالرِّطَابِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَنَحْوِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْحُبُوبِ وَمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ».
وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} وَأَحَقُّ مَا تَتَنَاوَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْخَضْرَاوَاتِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْرَجَةُ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُخْرَجَةٍ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} أَيْ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي أَخْرَجْنَا لَكُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} أَيْ أَنْزَلْنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ وَهُوَ الْمَاءُ لَا عَيْنَ اللِّبَاسِ إذْ اللِّبَاسُ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أَيْ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا هَذَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ قَامَ دَلِيلُ الْعُدُولِ هُنَاكَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْأَرْضِ وَالْإِنْبَاتَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبَاتِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحُبُوبِ وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَالْحَصَادُ الْقَطْعُ وَأَحَقُّ مَا يُحْمَلُ الْحَقُّ عَلَيْهِ الْخَضْرَاوَاتُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَجِبُ إيتَاءُ الْحَقِّ مِنْهَا يَوْمَ الْقَطْعِ.
وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيَتَأَخَّرُ الْإِيتَاءُ فِيهَا إلَى وَقْتِ التَّنْقِيَةِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ وَالنَّمَاءُ بِالْخُضَرِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ رِيعَهَا، أَوْفَرُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَغَرِيبٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِمِثْلِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ بَلْ أَرْبَابُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَ هَذَا نَفْيَ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَا النِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كَثِيرِ الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ إذَا كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ جُمْلَتُهَا نِصْفُ مَنٍّ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْنَانٍ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ مَنٍّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَاحْتَجَّا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَإِنْ قِيلَ مَا تَلَوْتُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْتُمْ مِنْ السُّنَّةِ يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمِقْدَارِ الْمُوجَبِ مِنْهُ وَمَا رَوَيْنَا يَقْتَضِي الْمِقْدَارَ فَكَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، وَالْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَمَا لَا يَدْخُلُ وَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ خَبَرِ الْمِقْدَارِ خَاصٌّ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَلَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِلْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِي الْبَيَانُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْبَيَانِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الصَّدَقَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَنَّ مَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ تَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ يَحْتَمِلُ الزَّكَاةَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ نَذْكُرُ فُرُوعَ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي فَصْلَيْ الْخِلَافِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَالْوِفَاقِ فَنَقُولُ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعِنَبِ؛ لِأَنَّ الْمُجَفَّفَ مِنْهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ وَهُوَ الزَّبِيبُ فَيُخْرَصُ الْعِنَبُ جَافًّا، فَإِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ مَا يَجِيءُ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ، أَوْسُقٍ يَجِبُ فِي عِنَبِهِ الْعُشْرُ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِنَبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا يَصْلُحُ لِلْمَاءِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْجَفَافِ.
وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ إذَا كَانَ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بِالتَّجْفِيفِ أَنَّهُ يُخْرَصُ ذَلِكَ جَافًّا فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا كَالتِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُفِّفَتْ تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَكَانَتْ كَالزَّبِيبِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا عُشْرَ فِي التِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالْخَرُّوبِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْضُهَا بِالتَّجْفِيفِ وَبَعْضُهَا بِالتَّشْقِيقِ وَالتَّجْفِيفِ فَالِانْتِفَاعُ بِهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً وَيَجِبُ الْعُشْرَ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ وَيَغْلِبُ الِانْتِفَاعُ بِالْجَافِّ مِنْهَا فَأَشْبَهَتْ الزَّبِيبَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْبَصَلِ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى السَّنَةِ وَيَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ وَلَا عُشْرَ فِي الْآسِ وَالْوَرْدِ وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرَّيَاحِينِ وَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا.
وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ الْعُشْرُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا عُشْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ فَأَشْبَهَ الْآسَ وَالْوَرْدَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً بِخِلَافِ الْآسِ وَالْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ إذَا بَلَغَ الْقُرْطُمُ وَالْحَبُّ خَمْسَةَ، أَوْسُقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ زِرَاعَتِهَا الْحَبُّ، وَالْحَبُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ الْعُشْرُ، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَقَالَا فِي بِزْرِ الْقُنْبِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُقْصَدُ بِالزِّرَاعَةِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ عَامٌّ وَلَا شَيْءَ فِي الْقُنْبِ؛ لِأَنَّهُ لِحَاءُ الشَّجَرِ فَأَشْبَهَ لِحَاءَ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا عُشْرَ فِيهِ فَكَذَا فِيهِ.
وَقَالَا فِي حَبِّ الصَّنَوْبَرِ إذَا بَلَغَ الْأَوْسُقَ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الِادِّخَارَ وَلَا شَيْءَ فِي خَشَبِهِ كَمَا لَا شَيْءَ فِي خَشَبِ سَائِرِ الشَّجَرِ، وَيَجِبُ فِي الْكَرَوْيَا وَالْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْخَرْدَلِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجِبُ فِي السَّعْتَرِ وَالشُّونِيزِ وَالْحُلْبَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ فَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَقَصَبُ السُّكَّرِ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ فَإِذَا بَلَغَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا، وَلَا شَيْءَ فِي الْبَلُّوطِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ بِهِ، وَلَا عُشْرَ فِي بِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالرُّطَبَةِ وَكُلِّ بِزْرٍ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهَا نَفْسُهَا بَلْ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَذَا لَا عُشْرَ فِيهِ عِنْدَهُمَا.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِهِمَا مَا إذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، أَوْ يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ جِنْسٍ بِانْفِرَادِهِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مَا إذَا أَخْرَجَتْ نَوْعَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ نَوْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَالْحَمْرَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخِرِ سَوَاءٌ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَيُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ، وَإِنْ كَانَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ، وَإِنْ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَتَعَيَّنَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ الْغَلَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تُضَمُّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا لَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تُضَمُّ وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْإِدْرَاكِ أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي مَكَان وَاحِدٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُمَا وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْخَارِجِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ.
وَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُمَا فِي، أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَنْفَعَتُهُمَا فَكَانَا كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا كَالدَّرَاهِمِ السُّودِ وَالْبِيضِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ النَّوْعُ مُخْتَلِفًا.
فَأَمَّا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّفَاضُلُ فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الضَّمِّ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُوسُف إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ فِي رَسَاتِيقَ مُخْتَلِفَةٍ وَالْعَامِلُ وَاحِدٌ ضَمَّ الْخَارِجَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَكَمَّلَ الْأَوْسُقَ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْعَامِلِينَ مُطَالَبَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي فِي عَمَلِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا اتَّفَقَ الْمَالِكُ ضُمَّ الْخَارِجُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَرْضُونَ وَالْعُمَّالُ وَهَذَا لَا يُحَقِّقُ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَابَ فِي غَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْمَالِكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى الْمَالِكِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُخَاطَبٌ بِالْأَدَاءِ لِاجْتِمَاعِ النِّصَابِ فِي مِلْكِهِ وَإِنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُطَالَبَةِ الْعَامِلِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِهِمَا الْأَرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا أَخْرَجَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَأَرْضِ الْمَأْذُونِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَمَالُ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَقَدْ وُجِدَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْأَوْسُقِ عِنْدَهُمَا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةُ الْخَارِجِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَالْقُطْنُ يُعْتَبَرُ بِالْأَحْمَالِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَحْمَالٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَيُعْتَبَرُ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَثَمِائَةِ مَنٍّ فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ مَنٍّ، وَالزَّعْفَرَانُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْنَانِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَمْنَانٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ فِي السُّكَّرِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ فِي الْمَوْسُوقَاتِ لِكَوْنِ الْوَسْقِ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي بَابِهِ وَأَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْسُوقِ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اعْتِبَارُ الْوَسْقِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ صُورَةً وَمَعْنًى يُعْتَبَرُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَعْنًى وَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْسُوقِ.
وَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأَوْسُقِ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قَدْرَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ الْعَسَلَ لَا يُكَالُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِعَشْرَةِ أَرْطَالٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ خَمْسَ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسُونَ مَنًّا، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرْقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنًّا فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ تِسْعِينَ مَنًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ خَمْسَةِ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ فِي نِصَابِ الْعَسَلِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَ قِرَبٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَةَ أَمْنَانٍ فِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا عُشْرَ فِيهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ لَمْ يَثْبُتْ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ فَلَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ نَامِيَةً بِهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ: «أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ لِي نَحْلًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ عُشْرَهَا فَقَالَ أَبُو سَيَّارَةَ احْمِهَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَاهَا لَهُ؟» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ بَطْنًا مِنْ فِهْرٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَخْلٍ لَهُمْ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يُحْمَى لَهُمْ وَادِيَيْنِ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا: إنَّمَا كَانَ شَيْئًا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ ذَلِكَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا النَّخْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَأَدَّوْا إلَيْهِ»، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ»، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فَنَقُولُ هُوَ مُلْحَقٌ بِنَمَائِهَا لِاعْتِبَارِ النَّاسِ إعْدَادَ الْأَرْضِ لَهَا وَلِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ أَنْوَارِ الشَّجَرِ فَكَانَ كَالثَّمَرِ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ أَزْهَارِ الشَّجَرِ وَلَا شَيْءَ فِي ثِمَارِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَلِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ فَلَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ لَاجْتَمَعَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا، وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنَّمَاءِ وَيَجْرِي مَجْرَى الثِّمَارِ، وَالنِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ الْعُشْرَ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومَاتُ الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْخَارِجِ شَرْطٌ وَلَمَّا أَخَذَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَرْضِهِ.
وَالْحَوْلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ الْعُشْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ حَقِيقَةً فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ.
وَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَارِجِ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ بَلْ فِي الذِّمَّةِ عُرِفَ ذَلِكَ بِتَوْظِيفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَظَّفَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.