فصل: فَصْلٌ: صِفَةُ هَذَا الْعَقْدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: صِفَةُ هَذَا الْعَقْدِ:

وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْعَقْدِ فَلَهُ صِفَتَانِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْوُجُودِ، وَالْأُخْرَى بَعْدَ الْوُجُودِ، أَمَّا الَّتِي هِيَ قَبْلَ الْوُجُودِ فَهِيَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ، وَبِمَا وَرَاءَهَا جَائِزَةٌ، وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا، وَمُسْتَحَبَّةٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَعِنْد بَعْضِ النَّاسِ: الْكُلُّ وَاجِبٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي صَدْر الْكِتَابِ.
وَأَمَّا الَّتِي هِيَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَهِيَ أَنَّ هَذَا عَقَدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمُوصَى حَتَّى يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عِنْدنَا مَا دَامَ حَيًّا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ قَبْلَ مَوْتِهِ مُجَرَّدُ إيجَابٍ، وَأَنَّهُ مُحْتَمَلُ الرُّجُوعِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ بِالتَّبَرُّعِ أَوْلَى كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ إلَّا التَّدْبِيرَ الْمُطْلَقَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ يُضَافُ إلَى الْمَوْتِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ لَازِمٌ.
وَكَذَا سَبَبُهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ حُكْمٍ لَازِمٍ.
وَكَذَا التَّدْبِيرُ الْمُقَيَّدُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ نَصًّا، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُهُ دَلَالَةً بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ تَعَلَّقَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ، وَقَدْ لَا تُوجَدُ تِلْكَ الصِّفَةُ فَلَمْ يَسْتَحْكِمْ السَّبَبُ، ثُمَّ الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَة، وَقَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً، أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَقُول الْمُوصِي: رَجَعْتُ، أَمَّا الدَّلَالَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِعْلًا، وَقَدْ تَكُونُ قَوْلًا، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا فَعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لَانْقَطَعَ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ- كَانَ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ، وَخَاطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً أَوْ بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ أَوْ لَمْ يَغْزِلْهُ ثُمَّ نَسَجَهُ أَوْ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ مِنْهَا إنَاءً أَوْ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا أَوْ بِفِضَّةٍ ثُمَّ صَاغَ مِنْهَا حُلِيًّا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمَّا أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ حُكْمٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ فَلَأَنْ تُوجِبَ بُطْلَانَ مُجَرَّدِ كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلًا أَوْلَى، ثُمَّ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَبْدِيلُ الْعَيْنِ، وَتَصْيِيرُهَا شَيْئًا آخَرَ مَعْنًى، وَاسْمًا، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ فِي الْمَبِيعِ فِعْلًا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ الْخِيَارِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ إشَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِلْمُخَيَّرَةِ «إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ».
وَلَوْ أَوْصَى بِقَمِيصٍ ثُمَّ نَقَضَهُ فَجَعَلَهُ قَبَاءً فَهُوَ رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَنْقُوضٍ دَلِيلُ الرُّجُوعِ فَمَعَ النَّقْضِ أَوْلَى، وَإِنْ نَقَضَهُ، وَلَمْ يَخُطَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَعْدَ النَّقْضِ قَائِمَةٌ تَصْلُحُ لِمَا كَانَتْ تَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ النَّقْضِ.
وَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ- كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِمُصَادَفَتِهَا مِلْكَ نَفْسِهِ فَأَوْجَبَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَوْ بَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مَعَ وُجُودِهَا لَتَعَيَّنَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ فِي الْهِبَةِ- لَا تَعُودُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالْعَائِدُ مِلْكٌ جَدِيدٌ غَيْرُ مُوصًى بِهِ فَلَا يَصِيرُ مُوصًى بِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ جَدِيدَةٍ.
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَغَصَبَهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ فِعْلَ الْمُوصِي، وَالْمُوصَى بِهِ عَلَى حَالِهِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ إلَّا إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ أَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ.
وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ ثَمَّ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ بَاعَ نَفْسَهُ مِنْهُ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مُبَاشَرَةُ سَبَبٍ لَازِمٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالنَّقْضَ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةٌ إلَّا أَنَّ الْعِوَضَ مُتَأَخِّرٌ إلَى وَقْتِ أَدَاءِ الْبَدَلِ، فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ كَالْبَيْعِ، وَبَيْعُ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ إعْتَاقٌ فَكَانَ رُجُوعًا.
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ- لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَالْأُخْرَى تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا: نِصْفُهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، وَنِصْفُهُ يُبَاعُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَبْدُهُ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَاعَ مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَوْصَى أَوَّلًا بِالْبَيْعِ ثُمَّ أَوْصَى بِالْإِعْتَاقِ- كَانَ رُجُوعًا لِمَا بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ مِنْ التَّنَافِي؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ، وَالْبَيْعِ، فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الثَّانِيَةِ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مُبْطِلَةً لِلْأُولَى، وَهُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مُتَنَافِيَتَيْنِ نَفَذَتَا جَمِيعًا.
وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ ثُمَّ ذَبَحَهَا كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ لَا تَبْقَى إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ عَادَةً بَلْ تَفْسُدُ، فَكَانَ الذَّبْحُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ غَسَلَهُ أَوْ بِدَارٍ ثُمَّ جَصَّصَهَا أَوْ هَدَمَهَا- لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ إزَالَةُ الدَّرَنِ، وَالْوَصِيَّةُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ فَلَمْ يَكُنِ الْغَسْلُ تَصَرُّفًا فِي الْمُوصَى بِهِ، وَتَجْصِيصُ الدَّارِ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الدَّارِ بَلْ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَالْبِنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَيَكُونَ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي التَّبَعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْأَصْلِ، وَنَقْضُ الْبِنَاءِ تَصَرُّفٌ فِي الْبِنَاءِ، وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ، وَأَنَّهَا تَابِعَةٌ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الْمُوصِي بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ مِيرَاثٍ- فَالْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ، وَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَا وَقَعَتْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ بَلْ بِعَيْنِ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْمُوصَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشِّرَاءَ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إلَى مِلْكِهِ، وَقَدْ مَلَكَهُ فَتُنَفَّذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَعَادَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى، وَالْمُوصَى لَهُ الثَّانِي مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلْوَصِيَّةِ- كَانَ رُجُوعًا.
وَكَانَ إشْرَاكًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ آخَرَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ- فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِهَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ- كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ أَوْ بِعَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ أَوْ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ- كَانَ رُجُوعًا عَنْ الْأُولَى، وَإِمْضَاءً لِلثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِآخَرَ هُوَ الْإِشْرَاكُ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالْوَصِيَّتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ،، وَالْأَصْلُ فِي تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الرُّجُوعِ إبْطَالُ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِشْرَاكِ عَمَلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَعِنْدَ الْإِعَادَةِ.
وَكَوْنُ الثَّانِي مَحَلًّا لِلْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الْإِشْرَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي، وَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِالرُّجُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ رُجُوعًا هَذَا إذَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ قَدْ أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ أَوْ فَقَدْ أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: وَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ، فَهَذَا يَكُونُ إشْرَاكًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلشَّرِكَةِ، وَلِلِاجْتِمَاعِ.
وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ فَهَذَا رُجُوعٌ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى إبْطَالِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبْطَالِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَلْبُطْلَانِ فَتَبْطُلُ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ.
وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ حَرَامٌ أَوْ هِيَ رِبًا لَا يَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُنَافِي الْوَصِيَّةَ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الرُّجُوعِ.
وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ وَارِثِي كَانَ هَذَا رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ لِفُلَانٍ، وَوَصِيَّتُهُ لِلْوَارِثِ فَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى بِعَيْنِهَا إلَى مَنْ يَصِحُّ النَّقْلُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ، وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ، وَهَذَا مَعْنَى الرُّجُوعِ ثُمَّ إنْ أَجَازَتْ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ لِهَذَا الْوَارِثِ نَفَذَتْ وَصَارَ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ رَدُّوا بَطَلَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلُ لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ لِانْتِقَالِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ، وَصَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى كَمَا لَوْ رَجَعَ صَرِيحًا.
وَلَوْ قَالَ: الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِعَمْرِو بْنِ فُلَانٍ، وَعَمْرٌو حَيٌّ يَوْمَ قَالَ الْمُوصِي هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَ رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِعَمْرٍو وَقَعَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ فَيَصِحُّ النَّقْلُ إلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو مَيِّتًا يَوْمَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ لَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ مَا فِي ضِمْنِهِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو حَيًّا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى صَحَّتْ، ثُمَّ مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ نَفَاذَهَا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِكَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مَيِّتًا، فَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَرَثَةِ.
وَلَوْ قَالَ: الثُّلُثُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِعَقِبِ عَمْرٍو، فَإِذَا عَمْرٌو حَيٌّ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي- فَالثُّلُثُ لِعَقِبِهِ.
وَكَانَ رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعَقِبِ عَمْرٍو وَقَعَ صَحِيحًا إذَا كَانَ لِعَمْرٍو عَقِبٌ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ عَقِبَ الرَّجُلِ مَنْ يَعْقُبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدُهُ فَلَمَّا مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي- فَقَدْ صَارَ وَلَدُهُ عَقِبًا لَهُ يَوْمَ نَفَاذِ الْإِيجَابِ، وَهُوَ يَوْمُ مَوْتِ الْمُوصِي فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَلَدِ فُلَانٍ، وَلَا وَلَدَ لَهُ يَوْمئِذٍ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي- إنَّ الثُّلُثَ يَكُونُ لَهُ كَذَا هاهنا ثُمَّ إذَا صَحَّ إيجَابُ الثُّلُثِ لَهُ بَطَلَ حَقُّ الْأَوَّلِ؛ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ مَاتَ عَقِبُ عَمْرٍو بَعْدَ مَوْتِ عَمْرٍو قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي- رَجَعَ الثُّلُثُ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَهُمْ قَدْ صَحَّ لِكَوْنِهِمْ عَقِبًا لِعَمْرٍو، فَثَبَتَ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُمْ بِمَوْتِهِمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَبْطُلُ الرُّجُوعُ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي فِي حَيَاةِ عَمْرٍو فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ مَاتَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لَهُمْ اسْمُ الْعَقِبِ بَعْدُ فَبَطَلَ الْإِيجَابُ لَهُمْ أَصْلًا، فَبَطَلَ مَا كَانَ ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى.
وَلَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا قَالَ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، قَالَ: هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَالَ: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ بِقَلِيلٍ، وَلَا كَثِيرٍ- لَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ وَصِيَّةِ فُلَانٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.
(وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ: أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُحُودُ إنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ رُجُوعًا، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ جُحُودُ النِّكَاحِ طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّ إنْكَارَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وُجُودِهَا يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا، فَكَانَ بَاطِلًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ كَالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِجَارِيَةٍ لِإِنْسَانٍ كَاذِبًا، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ- لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ حَتَّى لَا يَحِلَّ وَطْؤُهَا.
وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِيرِ الْكَاذِبَةِ إنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَا الْإِنْكَارُ الْكَاذِبُ وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: أَنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا، وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ، وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودِ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ فَحَصَلَ مَعْنَى الرُّجُوعِ.
وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِوَصَايَا إلَى رَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ سَتَبْرَأُ فَأَخِّرْ الْوَصِيَّةَ فَقَالَ: أَخَّرْتُهَا- فَهَذَا لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: اُتْرُكْهَا، فَقَالَ: قَدْ تَرَكْتُهَا- فَهَذَا رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّأْخِيرُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَالتَّرْكُ يُنْبِئُ عَنْهُ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَخَّرْتُ الدَّيْنَ كَانَ تَأْجِيلًا لَهُ لَا إبْطَالًا؟، وَلَوْ قَالَ: تَرَكْتُهُ كَانَ إبْرَاءً؟.
رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى، وَأَخْبَرَ الْمُوصِي أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ أَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا، فَإِذَا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: أَنَّ لَهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ- لَا يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ خَطَؤُهُ فِي مَالِهِ إنَّمَا غَلِطَ فِي الْحِسَابِ، وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ (وَهَذَا) قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَقِفُ عَلَى بَيَانِ مِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ، فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمِقْدَارَ، وَغَلِطَ فِيهِ، وَالْغَلَطُ فِي قَدْرِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْوَصِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِغَنَمِي كُلِّهَا وَهِيَ مِائَةُ شَاةٍ، فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ- فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ غَنَمِهِ ثُمَّ غَلِطَ فِي الْعَدَدِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِغَنَمِي، وَهِيَ هَذِهِ، وَلَهُ غَنَمٌ غَيْرُهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ هَذَا فِي الْقِيَاسِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ فِي هَذَا، وَأَجْعَلُ لَهُ الْغَنَمَ الَّتِي تُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا تَحْصُرُ الْعَيْنَ، وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَالِي، وَهُوَ هَذَا، وَلَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ إنَّهُ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَاكَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي، وَالثُّلُثُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ الشَّائِعِ فَلَغَتْ الْإِشَارَةُ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَهَاهُنَا صَحَّتْ، وَصِيَّةُ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ التَّسْمِيَةِ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِرَقِيقِي، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا هُمْ خَمْسَةٌ جَعَلْتُ الْخَمْسَةَ كُلَّهُمْ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِرَقِيقِهِ كُلِّهِمْ لَكِنَّهُ غَلِطَ فِي عَدَدِهِمْ، وَالْغَلَطُ فِي الْعَدَدِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْكُلِّ بِالْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ وَهُمْ سَبْعَةٌ فَإِذَا بَنُوهُ خَمْسَةٌ كَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ ثُمَّ وَصَفَ بَنِيهِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ بِأَنَّهُمْ سَبْعَةٌ غَلَطًا فَيَلْغُو الْغَلَطُ، وَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَهُمْ سَبْعَةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا إلَّا خَمْسَةً فَقَدْ أَوْصَى لِخَمْسَةٍ مَوْجُودِينَ، وَلِمَعْدُومِينَ، وَمَتَى جَمَعَ بَيْنَ مَوْجُودٍ، وَمَعْدُومٍ، وَأَوْصَى لَهُمَا يَلْغُو ذِكْرُ الْمَعْدُومِ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَوْجُودِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو، وَخَالِدٍ ابْنَيْ فُلَانٍ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ إنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا كَذَا هَذَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ خَمْسَةٌ فَإِذَا هُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ قَالَ: وَهُمْ سَبْعَةٌ، فَإِذَا هُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ اثْنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَلَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ أَوْ ابْنَانِ كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُونَ، وَالِاثْنَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقٌ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَهُنَاكَ أُلْحِقَ الِاثْنَتَانِ بِالثَّلَاثِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ لِفُلَانٍ ابْنٌ وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْبَنِينَ، وَالْوَاحِدُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَنِينَ لُغَةً، وَلَا لَهُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَالْمِيرَاثِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا صُرِفَ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الثُّلُثِ فِي هَذَا الْبَابِ اثْنَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ لَصُرِفَ إلَيْهِمَا كَمَالُ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ، وَحْدَهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ.
وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِابْنَيْ فُلَانٍ عَمْرٍو وَحَمَّادٍ، فَإِذَا لَيْسَ لَهُ إلَّا عَمْرٌو كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَمْرًا، وَحَمَّادًا بَدَلَيْنِ عَنْ قَوْلِهِ ابْنِي فُلَانٍ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَنِي أَخُوكَ عَمْرٌو، وَالْبَدَلُ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ: هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ يَلْغُو، كَمَا إذَا قُلْتَ: جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ يَصِيرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَاعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ، وَأَعْرَضْتَ عَنْ قَوْلِكَ: أَخُوكَ إلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ مِنْ النَّحْوِيِّينَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْمُوصِي مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ: عَمْرٍو، وَحَمَّادٍ، مُعْرِضًا عَنْ قَوْلِهِ: ابْنَيْ فُلَانٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو، وَحَمَّادٍ، وَحَمَّادٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَرَفَ كُلَّ الثُّلُثِ إلَى عَمْرٍ وَكَذَا هَاهُنَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: عَمْرٍو، وَحَمَّادٍ، كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: ابْنِي فُلَانٍ، يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ: الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَالثَّانِي يُذْكَرُ لِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ عَنْ الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ إذَا كَانَ فِي إخْوَتِهِ كَثْرَةٌ- كَانَ زَيْدٌ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ عَطْفِ الْبَيَانِ لِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ الْمُتَمَكَّنَةِ فِي قَوْلِهِ: أَخُوكَ لِكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّعْتِ، وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: ابْنَيْ فُلَانٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ إلَّا ابْنٌ، وَاحِدٌ، وَهُوَ عَمْرٌو، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ، وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، هَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْحِيحَ جَمِيعِ تَصَرُّفِهِ، وَهُوَ تَمْلِيكُهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ، وَأَنَّهُ أَوْصَى بِتَمْلِيكِ جَمِيعِ الثُّلُثِ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ: إثْبَاتُ تَمْلِيكِ النِّصْفِ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ عَطْفِ الْبَيَانِ: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَعْلُومًا، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ كَانَ زَيْدٌ مَعْلُومًا، فَزَالَ بِهِ وَصْفُ الْجَهَالَةِ الْمُعْتَرَضَةِ فِي قَوْلِهِ: أَخُوكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْإِخْوَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا: الثَّانِي غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ حَمَّادٍ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى مَوْجُودٌ لَهُ لِيَكُونَ مَعْلُومًا، فَيَحْصُلُ بِهِ بِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ فَيُجْعَلَ بَدَلًا لِلضَّرُورَةِ.
(وَلَوْ) قَالَ: أَوْصَيْتُ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ ثَلَاثَةٌ فَإِنَّ لِبَنِي فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ رُبْعَ الثُّلُثِ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ، وَهُمْ خَمْسَةٌ لَغْوٌ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَبَقِيَ قَوْلُهُ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِحُصُولِ الْوَصِيَّةِ لِأَرْبَعَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا؛ لِاسْتِوَاءِ كُلِّ سَهْمٍ فِيهَا.
(وَلَوْ) قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ بِثُلُثِ مَالِي، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ خَمْسَةٌ- فَالثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِبَنِي فُلَانٍ اسْمٌ عَامٌّ، وَقَوْلَهُ: وَهُمْ ثَلَاثَةٌ تَخْصِيصٌ أَيْ: أَوْصَيْتُ لِثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، فَصَحَّ الْإِيصَاءُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهَا مُمْكِنٌ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ.
وَكَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي كَمْ يَكُونُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؟ بِخِلَافِ مَا أَوْصَى لِوَاحِدٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مُسْتَدْرَكَةٍ.
وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةٍ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَنِيهِ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، وَالْبَيَانُ كَانَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبْهَمُ، فَلَمَّا مَاتَ عَجَزَ عَنْ الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ، فَقَامَ مَنْ يَخْلُفُهُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ حَيْثُ لَمْ تَصِحَّ، وَلَمْ تَقُمْ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَخَلَّفَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى مَقْصُودِ الْمُوصِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ زِيَادَةً فِي الْإِنْعَامِ أَوْ الشُّكْرِ أَوْ مُجَازَاةَ أَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ التَّعْيِينُ، وَهَاهُنَا الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَاسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِصِحَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فَقَالَ: أَلَا يُرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: فُلَانٌ،، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ غَيْرُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ- إنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِمَنْ سَمَّى؛ لِأَنَّهُ خَصَّ الْبَعْضَ فَكَذَا هَاهُنَا.
أَوْضَحَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- جَوَازَ تَخْصِيصِ ثَلَاثَةٍ مَجْهُولِينَ بِعِلْمِهِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَأَنَّهُ إيضَاحٌ صَحِيحٌ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ خَمْسَةٌ- فَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ رُبْعُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ فَصَارَ مُوصِيًا بِثُلُثِ مَالِهِ لِثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَكَانَ فُلَانٌ رَابِعَهُمْ، فَكَانَ لَهُ رُبْعُ الثُّلُثِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ، وَلِرَجُلٍ آخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: قَدْ أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ، وَقَدْ أَضَافَهَا إلَيْهِمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَوِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَا الْمِائَةِ فَتَحْصُلُ الْمُسَاوَاةُ، وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: قَدْ أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ نِصْفُ مَا أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْصِبَاءِ، فَيَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الشَّرِكَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ (وَكَذَا) لَوْ أَوْصَى لِاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَارِيَةٌ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِمَا ثَالِثًا كَانَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؟ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إثْبَاتَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ غَيْرُ مُمْكِنٌ.
(وَلَوْ قَالَ:) سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ، فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ- فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِي أَثْبَتَ الثُّلُثَ، فَثَبَتَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ السُّدُسَ، فَثَبَتَ الْمُتَضَمَّنُ بِهِ بِثُبُوتِ الْمُتَضَمِّنِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْأَوَّلَ زِيَادَةً.
وَلَوْ قَالَ: سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ- فَإِنَّمَا هُوَ سُدُسٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا كُرِّرَتْ كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَالسُّدُسُ هاهنا ذُكِرَ مَعْرِفَةً لِإِضَافَتِهِ إلَى الْمَالِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَوْصَى بِخَاتَمٍ لِفُلَانٍ وَبِفَصِّهِ لِفُلَانٍ آخَرَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّتَانِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ، وَإِمَّا إنْ كَانَتَا فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، فَإِنْ كَانَتَا فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ- فَالْحَلْقَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ، وَالْفَصُّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْفَصِّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتَا فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى أَيْضًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَلْقَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ، وَالْفَصُّ بَيْنَهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخَاتَمِ تَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ، وَالْفَصَّ، وَبِالْوَصِيَّةِ لِآخَرَ بِالْفَصِّ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْفَصَّ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَ الْفَصُّ دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْخَاتَمِ، وَإِذَا أَوْصَى بِالْفَصِّ لِآخَرَ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيُسَلِّمُ الْحَلْقَةَ لِلْأَوَّلِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْفَصَّ الَّذِي فِيهِ، إمَّا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْبَعْضَ بِالْوَصِيَّةِ لِآخَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَيْثُ جَعَلَهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ مَقْصُودًا بِالْوَصِيَّةِ- فَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا فَوْقَ الثَّابِتِ ضِمْنًا، وَتَبَعًا.
وَالْأَصْلُ فِي الْوَصَايَا أَنْ يُقَدَّمَ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ، وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إنَّ الرَّقَبَةَ تَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلِ، وَالْخِدْمَةَ لِلْمُوصَى لَهُ الثَّانِي؟ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ بِحُرُوفِهِ، فَيَصِيرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَهَاهُنَا كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ لَا يَصِيرُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْخَاتَمِ.
أَلَا يَرَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ لَا يُسَمَّى خَاتَمًا كَمَا لَا يُسَمَّى كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ إنْسَانًا، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، فَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي الْعَامِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ، وَمُنْفَصِلٍ، وَالْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ نَسْخًا، وَقَدْ يَكُونُ تَخْصِيصًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخَاتَمِ، وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الْحَلْقَةَ، وَالْفَصَّ لَكِنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْفَصِّ لِآخَرَ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ وَصِيَّتِهِ بِالْفَصِّ لِلْأَوَّلِ، وَالْوَصِيَّةُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا فَتَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْ كُلِّ مَا أَوْصَى بِهِ فَفِي الْبَعْضِ أَوْلَى، فَيُجْعَلُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْفَصِّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ.
وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى بِهَذِهِ الْأَمَةِ لِفُلَانٍ، وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، وَبِبِنَائِهَا لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الْقَوْصَرَّةِ لِفُلَانٍ، وَبِالثَّمَرِ الَّذِي فِيهَا لِآخَرَ إنَّهُ إنْ كَانَ مَوْصُولًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا، فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَوْصَى بِهَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ، وَبِخِدْمَتِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ، أَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، وَبِسُكْنَاهَا لِآخَرَ، وَبِهَذِهِ الشَّجَرَةِ لِفُلَانٍ، وَثَمَرَتِهَا لِآخَرَ أَوْ بِهَذِهِ الشَّاةِ لِفُلَانٍ، وَبِصُوفِهَا لِآخَرَ- فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سَمَّى لَهُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ.
وَاسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ السُّكْنَى، وَاسْمَ الشَّجَرَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّمَرَةَ لَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَلَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ ثَبَتَ فِيهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَكِنْ إذَا لَمْ يُفْرَدْ التَّبَعُ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْوَصِيَّةِ، فَلَمْ تَبْقَ تَابِعَةً، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ تُجْعَلُ الْوَصِيَّةُ الثَّابِتَةُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، وَالسُّكْنَى، وَالثَّمَرَةِ، وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ الرُّجُوعَ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَلَوْ ابْتَدَأَ بِالتَّبَعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ثُمَّ بِالْأَصْلِ بِأَنْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ لِفُلَانٍ ثُمَّ بِالْعَبْدِ لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِسُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالدَّارِ لِآخَرَ، أَوْ بِالثَّمَرَةِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالشَّجَرَةِ لِآخَرَ، فَإِذَا ذُكِرَ مَوْصُولًا- فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَإِنْ ذُكِرَ مَفْصُولًا- فَالْأَصْلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْأَصْلِ، وَالتَّبَعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّابِتَةَ تَنَاوَلَتْ الْأَصْلَ، وَالتَّبَعَ جَمِيعًا، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي التَّبَعِ وَصِيَّتَانِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيُسَلِّمُ الْأَصْلَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ، وَهَذَا حُجَّةُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ بِالْعَبْدِ بَعْد مَا أَوْصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، أَوْ أَوْصَى بِخَاتَمِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِفَصِّهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ بَعْد مَا أَوْصَى لَهُ بِالْفَصِّ أَوْ أَوْصَى بِجَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِوَلَدِهَا لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ بِالْجَارِيَةِ بَعْد مَا أَوْصَى لَهُ بِوَلَدِهَا- فَالْأَصْلُ، وَالتَّبَعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ: نِصْفُ الْعَبْدِ لِهَذَا، وَنِصْفُهُ لِلْآخَرِ، وَلِهَذَا نِصْفُ خِدْمَتِهِ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ خِدْمَتِهِ، وَكَذَا فِي الْجَارِيَةِ مَعَ وَلَدِهَا، وَالْخَاتَمِ مَعَ الْفَصِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا بِالْأَصْلِ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَعِ، وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ بِالتَّبَعِ بِانْفِرَادِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْأَصْلِ، وَالتَّبَعِ نَصًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاشْتَرَكَا فِي الْأَصْلِ، وَالتَّبَعِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لِلثَّانِي بِنِصْفِ الْعَبْدِ يُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا.
وَكَانَ لِلثَّانِي نِصْفُ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى لَهُ بِنِصْفِ الْعَبْدِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ فِي خِدْمَةِ ذَلِكَ النِّصْفِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَبَقِيَتْ وَصِيَّتُهُ بِالْخِدْمَةِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْ هَذَا.
وَقَالَ: إذَا أَوْصَى بِالْعَبْدِ لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ أَيْضًا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا، وَالْخِدْمَةَ كُلَّهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لِإِفْرَادِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، فَوَقَعَ صَحِيحًا، فَلَا تَبْطُلُ بِالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ، فَصَارَ الْمُوصَى لَهُ الثَّانِي مُوصًى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَالْخِدْمَةُ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لِمُسَاوَاتِهِ صَاحِبَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَيَنْفَرِدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ.
وَقَالَ: لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمَا فِي بَطْنِهَا، وَأَوْصَى بِهَا أَيْضًا لِلَّذِي أَوْصَى لَهُ بِمَا فِي الْبَطْنِ، فَالْأَمَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْوَلَدُ كُلُّهُ لِلَّذِي أَوْصَى لَهُ بِهِ خَاصَّةً لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّقَبَةِ، وَانْفَرَدَ صَاحِبُ الْوَلَدِ بِالْوَصِيَّةِ بِهِ خَاصَّةً.
وَلَوْ أَوْصَى بِالدَّارِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِبَيْتٍ فِيهَا بِعَيْنِهِ لِآخَرَ، فَإِنَّ الْبَيْتَ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ.
وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِمِائَةٍ مِنْهَا لِآخَرَ كَانَ تِسْعُمِائَةٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ، وَالْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْبُيُوتَ الَّتِي فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ.
وَكَذَا اسْمُ الْأَلْفِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مِائَةٍ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ،.
وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا فِي كَوْنِهِ مُوصًى بِهِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، فَيُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ: لِصَاحِبِ الْمِائَةِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ فِي الْمِائَةِ، وَلِصَاحِبِ الْأَلْفِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ.
وَكَذَلِكَ الدَّارُ، وَالْبَيْتُ.
وَلَوْ أَوْصَى بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ، وَسَاحَتِهِ لِآخَرَ كَانَ الْبِنَاءُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يُسَمَّى بَيْتًا بِدُونِ الْبِنَاءِ، فَكَانَتْ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ مُتَنَاوِلَةً لِلْبِنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، فَيُشَارِك الْمُوصَى لَهُ بِالسَّاحَةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ، وَبِبِنَائِهَا لِآخَرَ أَنَّهُمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْبِنَاءِ بَلْ تَكُونُ الْعَرْصَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ، وَالْبِنَاءُ لِآخَرَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؛ إذْ الدَّارُ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فِي اللُّغَةِ، وَالْبِنَاءُ فِيهَا تَبَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُسَمَّى دَارًا بَعْدَ زَوَالِ الْبِنَاءِ، فَكَانَ دُخُولُ الْبِنَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، فَكَانَتْ الْعَرْصَةُ لِلْأَوَّلِ، وَالْبِنَاءُ لِلثَّانِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا).
الرُّجُوعُ الثَّابِتُ مِنْ طَرِيق الضَّرُورَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَّصِلَ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بِدُونِهَا، كَمَا إذَا أَوْصَى بِسَوِيقٍ ثُمَّ لَتَّهُ بِالسَّمْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ اتَّصَلَ بِمَا لَيْسَ بِمُوصًى بِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِهِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، فَثَبَتَ الرُّجُوعُ ضَرُورَةً.
وَكَذَا إذَا وَصَّى بِدَارٍ ثُمَّ بَنَى فِيهَا أَوْ أَوْصَى بِقُطْنٍ ثُمَّ حَشَاهُ جُبَّةً فِيهِ أَوْ أَوْصَى بِبِطَانَةٍ، ثُمَّ بَطَّنَ بِهَا أَوْ بِظَهَارَةٍ، ثُمَّ ظَهَّرَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ مَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالنَّقْضِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّكْلِيفِ بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَجُعِلَ رُجُوعًا مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمُوصَى بِهِ بِغَيْرِهِ حَصَلَ بِصُنْعِ الْمُوصِي، فَكَانَ تَعَدُّدُ التَّسْلِيمِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ، وَكَانَ رُجُوعًا مِنْهُ دَلَالَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمُوصَى بِهِ بِحَيْثُ يَزُولُ مَعْنَاهُ، وَاسْمُهُ سَوَاءٌ كَانَ التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ أَوْ إلَى النُّقْصَانِ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثَمَرِ هَذَا النَّخْلِ ثُمَّ لَمْ يَمُتْ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ بُسْرًا أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الْبُسْرِ ثُمَّ صَارَ رُطَبًا أَوْ أَوْصَى بِهَذَا الْعِنَبِ، فَصَارَ زَبِيبًا، أَوْ بِهَذَا السُّنْبُلِ، فَصَارَ حِنْطَةً، أَوْ بِهَذَا الْقَصِيلِ، فَصَارَ شَعِيرًا أَوْ بِالْحِنْطَةِ الْمَبْذُورَةِ فِي الْأَرْضِ، فَنَبَتَتْ وَصَارَتْ بَقْلًا أَوْ بِالْبَيْضَةِ، فَصَارَتْ فَرْخًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِيمَا أَوْصَى بِهِ، فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ ضَرُورَةً هَذَا إذَا تَغَيَّرَ الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ لِزَوَالِ مَعْنَاهُ، وَاسْمِهِ، فَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ.
وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ- تَعَالَى، وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبِ هَذَا النَّخْلِ، فَصَارَ بُسْرًا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِتَغَيُّرِ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ الرُّطَبُ مِنْ الرُّطُوبَةِ إلَى الْيُبُوسَةِ.
وَزَوَالِ اسْمِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الذَّاتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ بَقِيَ مِنْ وَجْهٍ.
أَلَا يَرَى أَنَّ غَاصِبًا لَوْ غَصَبَ رُطَبَ إنْسَانٍ، فَصَارَ تَمْرًا فِي يَدِهِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بَلْ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ تَمْرًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ رُطَبًا مِثْلَ رُطَبِهِ.