فصل: فَصْلٌ: وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا فَاسْتَغْنَى إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل غُرُوب الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ وَكَذَا إنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ تَجِبْ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ هُوَ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إلَى، أَوْقَاتِهَا وَإِضَافَةِ الصَّوْمِ إلَى الشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ وَقْتُ الْفِطْرِ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ».
أَيْ وَقْتُ فِطْرِكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ خَصَّ وَقْتَ الْفِطْرِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَى الْيَوْمِ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْوَقْتِ بِالْفِطْرِ يَظْهَرُ بِالْيَوْمِ وَإِلَّا فَاللَّيَالِي كُلُّهَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ سَوَاءٌ فَلَا يَظْهَرُ الِاخْتِصَاصُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ أَيْ صَدَقَةُ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُضَافَةً إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا.
وَلَوْ عَجَّلَ الصَّدَقَةَ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَن عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وَقْتَ وُجُوبِ هَذَا الْحَقِّ هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ كَتَعْجِيلِ الْأُضْحِيَّةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَجْهُ قَوْلِ خَلَفٍ هَذِهِ فِطْرَةٌ عَنْ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّوْمِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْيَوْمِ، أَوْ الْيَوْمَيْنِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَوَجْهُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّعْجِيلِ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ يَبْقَى إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَيَحْصُلُ الْإِغْنَاءُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَبْقَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا وَذِكْرُ السَّنَةَ، وَالسَّنَتَيْنِ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِكْثَارِ الْمُدَّةِ أَيْ يَجُوزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْمُدَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشُورِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَقْتُ أَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ.
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ إنَّ هَذَا حَقٌّ مَعْرُوفٌ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ.
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَيَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، أَوْ بِآخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» فَإِذَا أَخْرَجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فَارِغَ الْقَلْبِ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ.

.فَصْلٌ: رُكْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالتَّمْلِيكُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدَّوْا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ، وَالْأَدَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ فَلَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ أَصْلًا وَلَا بِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مُطْلَقٍ، وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هاهنا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْر عَنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ جَمَاعَةً مَسَاكِينَ وَيُعْطَى مَا يَجِبُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِسْكِينًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةٌ فَجَازَ جَمْعُهَا وَتَفْرِيقُهَا كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلَا يَبْعَثُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا سَاعِيًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْعَثْ وَلَنَا فِيهِ قُدْوَةٌ.

.فَصْلٌ: مَكَانُ أَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ:

وَأَمَّا مَكَانُ الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ حَيْثُ هُوَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ عَبِيدِهِ حَيْثُ هُمْ حَكَى الْحَاكِمُ رُجُوعَهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةِ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَحَيْثُ الْمَالِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهَا إلَى أَهْلِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى قَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَيَبْعَثَهَا إلَيْهِمْ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ ثُمَّ زَكَاةُ الْمَالِ تُؤَدَّى حَيْثُ الْمَالُ فَكَذَا زَكَاةُ الرَّأْسِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي لَا بِمَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مَالُهُ لَا تَسْقُطُ الصَّدَقَةُ.
وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ تَسْقُطُ؟ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ الصَّدَقَةُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمُؤَدِّي وَلَمَّا تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْمَالِ اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمَالِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يُؤَدَّى عَنْ الْعَبْدِ الْحَيِّ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ الْمَيِّتِ حَيْثُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَبْدِ الْحَيِّ عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُهُ وَفِي الْمَيِّتِ لَا فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمَوْلَى.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَا يُسْقِطُ زَكَاةَ الْمَالِ يُسْقِطُهَا إلَّا هَلَاكُ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهِ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ قَائِمَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَائِمًا، وَالزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الصَّوْمِ.

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، وَصِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهَا، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَا يُفْسِدُهَا وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ.

.بَيَانِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ:

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالصَّوْمُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى وَيَنْقَسِمُ إلَى: لُغَوِيٍّ، وَشَرْعِيٍّ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَيُسَمَّى الْمُمْسِكُ عَنْ الْكَلَامِ وَهُوَ الصَّامِتُ صَائِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَيْ صَمْتًا وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْمُمْسِكُ عَنْ الْعَلَفِ صَائِمًا قَالَ الشَّاعِرُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنْ الْعَلَفِ، وَغَيْرُ مُمْسِكَةٍ.
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْجِمَاعُ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى: فَرْضٍ، وَوَاجِبٍ، وَتَطَوُّعٍ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إلَى: عَيْنٍ، وَدَيْنٍ، فَالْعَيْنُ: مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، إمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا، وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أَيْ: فُرِضَ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَا يَجْحَدُهَا إلَّا كَافِرٌ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَإِنَّهَا مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا، إذْ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّقْوَى لِأَنَّهُ إذَا انْقَادَتْ نَفْسُهُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَلَالِ طَمَعًا فِي مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَرَامِ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِلِاتِّقَاءِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ فَرْضٌ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ، وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتْ الشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَاعَتْ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَشِيَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمَعَاصِي وَإِنَّهُ فَرْضٌ.
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ: فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْإِفْطَارِ، وَصَوْمِ الْمُتْعَةِ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا، ثُمَّ بَعْضُ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنِ مُتَتَابِعٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، بَلْ صَاحِبُهَا فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ: فَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا، أَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ: فَلِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}.
وَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: فَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ).
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: التَّتَابُعُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
وَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ: فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ، يَكُونُ مُتَتَابِعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ: فَصَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَصَوْمُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيْ: فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ.
وَكَذَا النَّاذِرُ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ، ذُكِرَ الصَّوْمُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ، لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَتَابِعًا، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَةَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ فَيُزَادُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَصْفُ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا زِيدَ وَصْفُ التَّتَابُعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا فَكَذَا الْقَضَاءُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ غَيْرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنَّهُ يُتَابِعُ لَكِنَّهُ إنْ فَرَّقَ جَازَ وَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّتَابُعَ أَفْضَلُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لَمَا احْتَمَلَ الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمَا احْتَمَلَ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ لَوْ عَرَفُوهُ.
وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لَوْ ثَبَتَتْ فَهِيَ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ، إذْ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً وَصَارَتْ كَالْمَتْلُوِّ وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الِاشْتِرَاطَ لَمَا احْتَمَلَ الْخِلَافَ مِنْ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ ذِكْرِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْمَتْلُوِّ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا، فَنَقُولُ: التَّتَابُعُ فِي الْأَدَاءِ مَا وَجَبَ لِمَكَانِ الصَّوْمِ، لِيُقَالَ: أَيْنَمَا كَانَ الصَّوْمُ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ صَوْمُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ إلَّا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، فَكَانَ لُزُومُ التَّتَابُعِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ: أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْفِعْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَيَكُونُ التَّتَابُعُ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ دَارَ الْفِعْلُ، وَكُلُّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَفَوْتُ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُسْقِطُ التَّتَابُعَ وَإِنْ بَقِيَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَعْبَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا، لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْهُ يَقْضِي إنْ شَاءَ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقًا، لِأَنَّ التَّتَابُعَ هاهنا لِمَكَانِ الْوَقْتِ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ مُتَتَابِعًا، لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إلَّا بِهِ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ ذُكِرَ لِلصَّوْمِ فَكَانَ الشَّرْطُ هُوَ وَصْلَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا إلَّا بِالْأَدَاءِ مُتَتَابِعًا، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّتَابُعُ لِأَجْلِ نَفْسِ الصَّوْمِ فَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى وَصْفِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَإِذَا وَجَبَ لِضَرُورَةِ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ، أَوْ شَرْطِ التَّتَابُعِ لَوَجَبَ الِاسْتِقْبَالُ، فَيَقَعُ جَمِيعُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَوَقَعَ عَامَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ، وَبَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ: أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لِلصَّوْمِ لَوَجَبَ كَمَا فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَكَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْقَتْلِ، وَكَذَا لَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ بَرِئَ فِي الشَّهْرِ وَصَامَ الْبَاقِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَصْلُ الْبَاقِي بِشَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالْإِفْطَارِ، إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ شَهْرٍ عَنْهُ، إنَّهَا كَمَا طَهُرَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَصِلَ، وَتُتَابِعَ، حَتَّى لَوْ تَرَكَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَوَّالًا مُتَّصِلًا وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا آخَرَ.
فَدَلَّ أَنَّ التَّتَابُعَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِأَجْلِ الصَّوْمِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ: فَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَصَوْمُ قَضَائِهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ، وَصَوْمُ الِاعْتِكَافِ عِنْدَنَا، أَمَّا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِالشُّرُوعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ: فَقَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ: فَنَذْكُرُهُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ: فَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَقْسَامِ الصِّيَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الصِّيَامِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا: وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ، وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ: وَهُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ وَهُوَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ: وَهُوَ شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ: فَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْجِمَاعَ، وَالْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ فِي اللَّيَالِي إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ.
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ هُمَا: بَيَاضُ النَّهَارِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ» ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَكَانَ هَذَا تَعْيِينًا: لِلَّيَالِيِ الْفِطْرُ، وَالنَّهَارُ لِلصَّوْمِ، فَكَانَ مَحَلُّ الصَّوْمِ هُوَ الْيَوْمُ لَا اللَّيْلُ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الصَّوْمُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا: مِنْ التَّقْوَى، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعَمِ، الْحَامِلُ عَلَى شُكْرِهَا لَا يَحْصُلُ بِالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ لَانَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ شَاقٍّ عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِمْسَاكِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ فَلَا يَكُونُ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ: فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا» فَقَدْ جَعَلَ السَّنَةَ كُلَّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَوْلُهُ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» جَعَلَ الدَّهْرَ كُلَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ» وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَهَا كَانَ الصَّوْمُ حَسَنًا وَعِبَادَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي بَعْضِهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِي الْبَعْضِ.
أَمَّا الصِّيَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهَةِ فَمِنْهَا: صَوْمُ يَوْمَيْ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ».
وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ عَيَّنَ هَذِهِ الْأَيَّامَ لِأَضْدَادِ الصَّوْمِ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ، وَالْمَعْقُولِ يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيُحْمَلُ التَّعْيِينُ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَنَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْإِفْطَارُ.
وَمِنْهَا إتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ رَمَضَانُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، وَالْعِلْمِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَالْإِتْبَاعُ الْمَكْرُوهُ هُوَ: أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ.
فَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ: فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ.
وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ، أَمَّا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي رَمَضَانَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مَنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ: بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَكُونُ تَطَوُّعًا فَلِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَرَدِّدَةَ لَا تَكُونُ نِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْيِينٌ لِلْعَمَلِ، وَالتَّرَدُّدُ يَمْنَعُ التَّعْيِينَ.
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ: فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا»، اسْتَثْنَى التَّطَوُّعَ، وَالْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ وَقَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» أَيْ: صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا، أَوْ يُفْطِرَ، أَوْ يَنْتَظِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَيَقُولَانِ لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ صَامَا وَنَبَّهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَوْ صَامَ لَدَارَ الصَّوْمُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَوْ أَفْطَرَ لَدَارَ الْفِطْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي شَعْبَانَ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الصَّوْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَكَانَ يَضَعُ كُوزًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الشَّكِّ، فَإِذَا جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَفْتَاهُ بِالْإِفْطَارِ وَشَرِبَ مِنْ الْكُوزِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُسْتَفْتِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْتَى بِالصَّوْمِ لَاعْتَادَهُ النَّاسُ فَيَخَافُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْفَرِيضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَامُ سِرًّا وَلَا يُفْتَى بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلَّا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ.
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَأَفْتَى بِالْفِطْرِ ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْتَفْتِي: تَعَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخْبَرَهُ سِرًّا فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْتَظِرُ فَلَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَفْطَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَصْبِحُوا يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرِينَ مُتَلَوِّمِينَ أَيْ: غَيْرَ آكِلِينَ وَلَا عَازِمِينَ عَلَى الصَّوْمِ، إلَّا إذَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ» فَوَصَلَ يَوْمَ الشَّكِّ بِهِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ».
وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ، أَوْ بِيَوْمَيْنِ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الشَّهْرَ وَلَيْسَ فِيهِ وَهْمُ الزِّيَادَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ».
وَمِنْهَا صَوْمُ الْوِصَالِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ» فَسَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوِصَالَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ لَا يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْفِطْرَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ زَمَانِ الْفِطْرِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هاهنا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هاهنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْوِصَالِ: أَنْ يَصُومَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ دُونَ لَيْلَتِهِ، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِيهِ: أَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ الَّذِي لابد مِنْهُ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ وَقِيلَ لَهُ: إنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» أَشَارَ إلَى الْمُخَصِّصِ وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ بِفَضْلِ قُوَّةِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ صَامَ سَائِرَ الْأَيَّامِ وَأَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي، كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا قَدْ صَامَ الدَّهْرَ كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ لَيْسَ لِمَكَانِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بَلْ لِمَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ وَيُؤَدِّي إلَى التَّبَتُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ: فَفِي حَقِّ غَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ، لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّدْبِ إلَى صَوْمِهِ، وَلِأَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إنْ كَانَ لَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ، وَالدُّعَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ فَضِيلَةَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُسْتَدْرَكُ عَادَةً، فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ، وَالدُّعَاءِ فِيهِ لَا يُسْتَدْرَكُ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ عَادَةً إلَّا فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ فَكَانَ تَعْظِيمُهَا بِالصَّوْمِ مُسْتَحَبًّا، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ بِانْفِرَادِهِ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ، وَالْمِهْرَجَانِ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ، وَكَذَا صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ الطَّعَامِ، وَالْكَلَامِ جَمِيعًا، لِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ» وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحْدَهُ لِمَكَانِ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ عَامَّتُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ، فَيُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَتِهَا بِالصَّوْمِ.
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ: فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ صَوْمُ سَيِّدِنَا دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، إذْ الطَّبْعُ أَلُوفٌ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أَيْ: أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ، وَكَذَا صَوْمُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، مِنْهَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا».
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ: فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ إلَّا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَوْمَيْ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمَ الشَّكِّ أَمَّا مَا سِوَى صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَلِوُرُدِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يُوجَدُ بِوُجُودِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ كَامِلٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ، إنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا، فَيُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عَنْهُ.
وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ قَضَاءً، فَلَا يَكُونُ قَضَاءً مَعَ الشَّكِّ وَهَلْ يَصِحُّ النَّذْرُ بِصَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا وَيَصُومَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَكُونُ مُسِيئًا، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ النَّذْرُ لِأَنَّهُ، أَوْجَبَ نَاقِصًا وَأَدَّاهُ نَاقِصًا، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَضْعًا، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ يَثْبُتُ ضَرُورَةً صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ، وَالْمُؤَدَّى هاهنا لَا يَجِبُ صِيَانَتُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ، فَلَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ، فَلَا يُضْمَنُ بِالْإِفْسَادِ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَكْرُوهَةٍ فَأَفْسَدَهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ الْفَرْقِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ،.
وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ: فَوَقْتُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرُهُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ وَقْتِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ، أَمَّا الْأُوَلُ: فَوَقْتُ صَوْمِ رَمَضَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَيْ: فَلْيَصُمْ فِي الشَّهْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَصُومُوا شَهْرَكُمْ» أَيْ: فِي شَهْرِكُمْ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُصَامُ وَإِنَّمَا يُصَامُ فِيهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً يُعْرَفُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً يُعْرَفُ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا».
وَكَذَلِكَ إنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ أَكْمَلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ وَكَمَالُهُ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا بِيَقِينٍ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ، أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَرَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ صَامُوا وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ جَمَاعَةٌ يَقَعُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَدَدَ الْجَمَاعَةِ بِعَدَدِ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: خَمْسُمِائَةٍ، بِبَلْخٍ قَلِيلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ، أَوْ اثْنَانِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا قُبِلَ، لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِذَا كَانَ إخْبَارًا لَا شَهَادَةً فَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فَقَطْ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ وَهَاهُنَا الظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ جَمَاعَةٍ لَا يُحْصَوْنَ إيَّاهُ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ دَلِيلُ كَذِبِهِ، أَوْ غَلَطِهِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ التَّسَاوِيَ فِي الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ قِطْعَةً مِنْ الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهْرَ الْهِلَالُ فَرَآهُ وَاحِدٌ ثُمَّ اسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ الْمِصْرِ، أَوْ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ، وَجْهُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَطَالِعَ تَخْتَلِفُ بِالْمِصْرِ وَخَارِجَ الْمِصْرِ فِي الظُّهُورِ، وَالْخَفَاءِ لِصَفَاءِ الْهَوَاءِ خَارِجَ الْمِصْرِ فَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَة أَنَّ الْمَطَالِعَ لَا تَخْتَلِفُ إلَّا عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الْفَاحِشَةِ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنْ يَصُومَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ شَهِدَ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ يَقْضِي لِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي زَعْمِهِ فَيُعَامَلُ بِمَا عِنْدَهُ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَلْزَمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِهِ لَا يَقْدَحُ فِي عِلْمِهِ فَيُؤَاخَذُ بِعِلْمِهِ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَلِهَذَا، أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمَ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالرُّؤْيَةِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ تَثْبُتْ رُؤْيَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا: أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ عَامَّةِ النَّاسِ إيَّاهُ فِي التَّفَقُّدِ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ دَلِيلُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَبْقَى مِنْ شَعْبَانَ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا رِوَايَةَ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ يَصُومُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ احْتِيَاطًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَلَوْ صَامَ هَذَا الرَّجُلُ وَأَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يُرَ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ زَادَ صَوْمُهُ عَلَى ثَلَاثِينَ لِأَنَّا إنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ احْتِيَاطًا،، وَالِاحْتِيَاطُ هاهنا أَنْ لَا يُفْطِرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَا رَآهُ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا بَلْ كَانَ خَيَالًا فَلَا يُفْطِرُ مَعَ الشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ لَلَحِقَهُ التُّهْمَةُ لِمُخَالِفَتِهِ الْجَمَاعَةَ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُفْطِرَ وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا، رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، أَوْ مَحْدُودًا تَائِبًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا عَدْلًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
(وَلَنَا)
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا»، فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ وَهُوَ الصَّوْمُ وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ، إلَّا أَنَّهُ إخْبَارٌ فِي بَابِ الدِّينِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَدَالَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، فَيَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَحَّتْ رِوَايَتُهُمَا؟.
وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلُوا إخْبَارَ أَبِي بَكْرَةَ وَكَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَدْلٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ إخْبَارُ رَجُلٍ عَدْلٍ عَنْ رَجُلٍ عَدْلٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ، وَلَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، حُرَّيْنِ، عَاقِلَيْنِ، بَالِغَيْنِ، غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ، فِي قَذْفٍ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَالْأَمْوَالِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ الْإِفْطَارَ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ» وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ شَيْءٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ مُتَّهَمًا، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ هُنَاكَ لَا تُهْمَةَ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الصَّوْمِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ صَامُوا رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَفْطَرُوا بِتَمَامِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْفِطْرِ يُقْبَلُ وَإِنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ بِشَهَادَتِهِ فَثَبَتَتْ الرَّمَضَانِيَّةُ بِشَهَادَتِهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ، لَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْفِطْرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَحْدَهُ مَقْصُودًا لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا شَهَادَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا.
أَلَا تَرَى لَوْ شَهِدَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ،، وَالِاحْتِيَاطُ هاهنا فِي أَنْ لَا يُفْطِرُوا بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُطْلَقٍ، فَيَظْهَرُ فِي الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الْعَدَدِ، فَأَوْرَدَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ إشْكَالًا فَقَالَ: إذَا قَبِلْتَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ تُفْطِرُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَمَتَى أَفْطَرْتَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى شَهَادَتِهِ فَقَدْ أَفْطَرْتَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَأَجَابَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَتَعَجَّلَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي شَهَادَتِهِ فَالصَّوْمُ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَيُخْتَمُ بِكَمَالِ الْعَدَدِ، وَقِيلَ فِيهِ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جِوَازَ الْفِطْرِ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِ مَقْصُودًا بَلْ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ يَثْبُتُ بِمُقْتَضَى الشَّيْءِ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ مَقْصُودًا كَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَتِهَا مَقْصُودًا، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُ.
(وَأَمَّا) هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا مَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهِلَالُ شَوَّالٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى النَّاسِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ بَلْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ.
وَلَوْ رَأَوْا يَوْمَ الشَّكِّ الْهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ هِلَالُ شَوَّالٍ إذَا رَأَوْهُ يَوْمَ الشَّكِّ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَهُمَا، وَيَكُونُ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَعِنْدَهُ إنْ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ يَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ عَادَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ، وَلَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» أَمَرَ بِالصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ يَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ فَأَكْمَلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ عَشِيَّةَ التَّاسِعِ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَصَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَهْلُ الْمِصْرِ قَدْ أَصَابُوا وَأَحْسَنُوا وَأَسَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَخْطَأَ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَامَ رَمَضَانُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، أَوْ بَعْدَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ.
وَقَدْ عَمِلَ أَهْلُ الْمِصْرِ بِذَلِكَ وَخَالَفَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَصَابَ أَهْلُ الْمِصْرِ وَأَخْطَأَ الرَّجُلُ وَلَا قَضَاءَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ إلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثًا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلَوْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ قَاضِيهمْ، أَوْ عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا رَمَضَانَ فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَعَدَمُ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا يَقْدَحُ فِي رُؤْيَةِ أُولَئِكَ، إذْ الْعَدَمُ لَا يُعَارِضُ الْوُجُودَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ قَاضِيهمْ وَلَا عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَدْ أَسَاءُوا حَيْثُ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ.
وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَطَالِعُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْبَلَدَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ لِأَنَّ مَطَالِعَ الْبِلَادِ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْفَاحِشَةِ تَخْتَلِفُ فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَطَالِعُ بَلَدِهِمْ دُونَ الْبَلَدِ الْآخَرِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ فِي أَهْلِ إسْكَنْدَرِيَّةَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بِهَا وَمَنْ عَلَى مَنَارَتِهَا يَرَى الشَّمْسَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ.
فَقَالَ: يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الْفِطْرُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلَى رَأْسِ الْمَنَارَةِ إذَا كَانَ يَرَى غُرُوبَ الشَّمْسِ لِأَنَّ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ مَطْلَعُهَا فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ مَوْضِعٍ مَغْرِبُهُ وَلَوْ صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَفْطَرُوا لِلرُّؤْيَةِ وَفِيهِمْ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنْ عَلِمَ مَا صَامَ أَهْلُ مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ هَذَا الْقَدْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الرَّجُلُ مَا صَنَعَ أَهْلُ مِصْرِهِ، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالنُّقْصَانُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ، وَقَالُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ شَهْرًا لِعُذْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَضَى شَهْرًا بِالْهِلَالِ فَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، إنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا دُونَ الْهِلَالِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَيَقْضِي يَوْمًا آخَرَ تَكْمِلَةَ الثَّلَاثِينَ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ فَيَصِحُّ أَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ.
وَكَذَا الْعَقْلُ، وَالْإِفَاقَةُ لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ فِي النَّهَارِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، لَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ لِعَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا تُتَصَوَّرُ، وَفِي كَوْنِهِمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْهَا النِّيَّةُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَصْلِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ وَقْتِهِ.
أَمَّا الْأُوَلُ: فَأَصْلُ النِّيَّةِ شَرْطُ جَوَازِ الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ جَائِزٌ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ.
وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلتَّعْيِينِ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَا مُزَاحَمَةَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا صَوْمًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَقَوْلُهُ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ، وَالِاخْتِيَارُ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَتَحَقَّقَانِ بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ: فَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْإِمْسَاكُ لَا يَصِيرُ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ، لِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ وَزَمَانُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ، فَنَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْوَصْفِ، لَكِنْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْأَصْلِ، بَيَانُهُ أَنَّ أَصْلَ الْإِمْسَاكِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَادَةً، أَوْ حَمِيَّةً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ فَاعِلٍ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ فلابد مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إذَا صَارَ أَصْلُ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ بِأَصْلِ النِّيَّةِ، وَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِفَرْضِهِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ: فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: صَوْمُ النَّفْلِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، فَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ: فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهَا زِيَادَةُ الثَّوَابِ، فلابد مِنْ زِيَادَةِ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ شُرِطَتْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ إمَّا لِيَصِيرَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَلَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ كَانَ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَكْفِي لِقَطْعِ التَّرَدُّدِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَقَدْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ مَا نَوَى، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ لَا يَتَنَوَّعُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْيِيزِ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَهُوَ خَارِجُ رَمَضَانَ مُتَنَوِّعٌ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَقَوْلُهُ: هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ لَا تَتَأَدَّى نِيَّةُ الْفَرْضِ بِدُونِ نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَقَوْلُهُ: الْفَرْضِيَّةُ صِفَةٌ لِلصَّوْمِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ فَتَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ زَائِدَةٍ مَمْنُوعٌ أَنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ لَا تَحْتَمِلُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَيْهَا قَائِمَةً بِهَا بَلْ هُوَ وَصْفٌ إضَافِيٌّ فَيُسَمَّى الصَّوْمُ مَفْرُوضًا وَفَرِيضَةً لِدُخُولِهِ تَحْتَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِفَرْضِيَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صِفَةً قَائِمَةً بِالصَّوْمِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَزِيَادَةُ الثَّوَابِ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ لَا لِزِيَادَةِ صِفَةِ الْعَمَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ صَامَ الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَعَنْ الْمَنْذُورِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَقَعُ وَكَذَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ هُوَ يَقُولُ: لَمَّا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْمُعْرِضُ عَنْ فِعْلٍ لَا يَكُونُ آتِيًا بِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ نَوَى الْأَصْلَ، وَالْوَصْفَ، وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَصْفِ فَبَطَلَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ، وَإِنَّهَا كَافِيَةٌ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ تَعَيَّنَ لِصَوْمِهِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُعَيَّنٌ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ التَّعْيِينُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ فَسْخِ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَالْآخَرُ تَعَيَّنَ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ وَهُوَ الْعَبْدُ فَيَظْهَرُ تَعْيِينُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ لَهُ وَهُوَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَبَقِيَتْ الْأَوْقَاتُ مَحَلًّا لَهَا فَإِذَا نَوَاهَا صَحَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُ: فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعْ عَمَّا نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْإِفْطَارُ لَهُ رُخْصَةٌ فَإِذَا اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ صَارَ هُوَ، وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ كَالْمُقِيمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ نَظَرًا لَهُ، فَلَأَنْ يُرَخَّصَ لَهُ إسْقَاطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِيهِ أَكْثَرُ أَوْلَى.
وَأَمَّا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ خَارِجَ رَمَضَانَ وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ خَارِجَ رَمَضَانَ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ كُلِّهِ كَذَا فِي رَمَضَانَ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ نِيَّةِ الْمُتَطَوِّعِ بَلْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ كَافِيَةٌ فَتَلْغُو نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ فَيَصِيرُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ فَمَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ يُتَرَخَّصُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُتَرَخَّصْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ: فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ صَارَ كَالصَّحِيحِ، وَالْكَرْخِيُّ سَوَّى بَيْنَ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ صَوْمُ الشَّهْرِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْوَاجِبَ صَوْمُ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَنَا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ، فَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ.
وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا مَحَلٌّ لِلصَّوْمِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُ وَهُوَ اللَّيَالِي، فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُمَا فَصَارَ صَوْمُ كُلِّ يَوْمَيْنِ عِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَصَلَاتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ صَامَ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لَا يَقَعُ عَمَّا عَلَيْهِ لِأَنَّ زَمَانَ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَعَيَّنَ لَهُ الْوَقْتُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ وَقْتٌ لِلصِّيَامَاتِ كُلِّهَا عَلَى الْإِبْهَامِ فلابد مِنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلْبَعْضِ بِالنِّيَّةِ لِتَتَعَيَّنَ لَهُ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيَقَعُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى بِصَوْمِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ عَيَّنَ الْوَقْتَ لِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ فَسَقَطَتَا لِلتَّعَارُضِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَيَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي التَّطَوُّعِ لَغْوٌ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالصَّوْمُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ جِهَتَيْ التَّعْيِينِ تَعَارَضَتَا لِلتَّنَافِي فَسَقَطَتَا بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَخَلَفُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى الصِّيَامَاتِ حَتَّى تَنْدَفِعَ بِهِ نِيَّةُ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ صَوْمٍ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَبَ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ أَقْوَى فَلَا يُزَاحِمُهُ الْأَضْعَفُ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَصَامَهُ يَنْوِي النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ: فَهُوَ عَنْ النَّذْرِ لِتَعَارُضِ النِّيَّتَيْنِ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ نِيَّةُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَيَقَعُ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ وَقْتُ النِّيَّةِ: فَالْأَفْضَلُ فِي الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا أَنْ يَنْوِيَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ اللَّيْلِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُقَارِنُ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ حَقِيقَةً وَمِنْ اللَّيْلِ تُقَارِنُهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يَجُوزُ، وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إلَّا التَّطَوُّعُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّطَوُّعَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَكَذَا التَّطَوُّعُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ».
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ» وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي طَلْحَةَ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ: فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ كَصَوْمِ الْفَرْضِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مُتَجَزِّئٌ حَتَّى قَالَ: يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ فَرْضًا كَانَ، أَوْ نَفْلًا وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ لِمَا نَذْكُرُ، فَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الرُّكْنِ عَنْ الشَّرْطِ، فَلَا يَصِيرُ صَائِمًا شَرْعًا، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ»، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ رُكْنٌ فلابد لَهُ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ انْعَدَمَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَمْ يَقَعْ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِلَّهِ تَعَالَى لِفَقْدِ شَرْطِهِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ.
وَكَذَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلَى قَوْله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالصَّوْمِ مُتَرَاخِيًا عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ أَمْرٌ بِالنِّيَّةِ إذْ لَا صِحَّةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ، فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَقَعُ صَوْمًا وُجِدَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ لِأَنَّ إتْمَامَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ بَعْضٍ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ شَرْعًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ مَعَ شَرَائِطِهِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَحَلِّيَّةِ، وَلَا كَلَامَ فِي سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ وَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الْعِبَادَةِ مَا يَكُونُ شَاقًّا عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ، فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ: فَمُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا بَلْ يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسِيلَةً لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَنْوِيَ وَقْتَ الرُّكْنِ فَإِذَا نَوَى ظَهَرَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالنِّيَّةُ تُشْتَرَطُ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ عِبَادَةٍ لَا لِمَا يَصِيرُ عِبَادَةً بِطَرِيقِ الْوَسِيلَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا صِيَامُ الْقَضَاءِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ: فَمَا صَامَهَا فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ لَهَا شَرْعًا لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ مَوْضُوعٌ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ صَوْمًا آخَرَ بَقِيَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِلتَّطَوُّعِ شَرْعًا، فَلَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ، فَأَمَّا هاهنا فَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَقَدْ صَامَهُ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَشَرَائِطِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ حَتْمًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَالْوَقْتُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فَأَشْبَه صَوْمَ الْقَضَاءِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَذَا لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ كَذَا هَذَا.
وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُتَرَخَّصَ بِالْإِفْطَارِ، وَلَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَالتَّيْسِيرِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَقَدْ صَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَالْمُقِيمِ سَوَاءٌ.
وَيَتَّصِلُ بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَهُمَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ وَوَقْتِ النِّيَّةِ مَسْأَلَةُ الْأَسِيرِ فِي يَدِ الْعَدُوِّ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّهُ إذَا صَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَافَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ بِأَنْ تَقَدَّمَ، أَوْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ جَازَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ شَوَّالٌ يَجُوزُ لَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ مُوَافَقَةُ الشَّهْرَيْنِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ.
وَأَمَّا مُوَافَقَةُ الْعَدَدِ فَلِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَا بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّهُ نَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعْيِينُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرَ شَوَّالٍ يَنْظُرُ إنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ كَامِلًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمَيْنِ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَشَوَّالُ كَامِلًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلَ عَدَدَ الْفَائِتِ، وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ نَاقِصًا قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِلنُّقْصَانِ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا آخَرَ سِوَى هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الشَّهْرَانِ كَامِلَيْنِ، أَوْ نَاقِصَيْنِ، أَوْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ كَامِلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْفَائِتَ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ صَامَ بِالتَّحَرِّي سِنِينَ كَثِيرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَفِي الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّابِعَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ صَامَ صَوْمَ رَمَضَانَ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ فَيَقَعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ لِأَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ رَمَضَانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَفَصَّلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجُوزُ.
وَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ صَامَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَا قَضَاهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الرَّابِعَةِ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ كُلِّهَا، أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَا نَوَى عَنْهُ، وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّهُ صَامَ قَبْلَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ.
وَكَذَا الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا: وَهُوَ رَجُلٌ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَلَوْ اقْتَدَى بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ زَيْدٌ فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ، فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِالْإِمَامِ، وَفِي الثَّانِي نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِأَحَدٍ كَذَلِكَ هاهنا إذَا نَوَى فِي صَوْمِ كُلِّ سَنَةٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ نِيَّتُهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ الثَّانِي فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ فَيَقَعُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا عَمَّا ظَنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الصِّيَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ: شَرَائِطُ الْوُجُوبِ.
فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يُخَاطَبُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا مَضَى فَلَمْ يُتَصَوَّرْ قَضَاءُ الْوَاجِبِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ سَابِقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مِنْ مَشَايِخِنَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِمَكَانِ الْحَرَجِ إذْ لَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَلَزِمَهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا مَضَى مِنْ الرَّمَضَانَاتِ فِي حَالِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى.
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ، أَوْ لِمَا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَهُّمُ الْخِطَابِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتِ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي حَالِ الصِّبَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَكَانِ الْحَرَجِ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ فَكَانَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَرَجٌ.
وَكَذَا إذَا بَلَغَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُجْزِئُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ نَوَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِيهِ، وَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَجَوَازًا وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا أَدْرَكَا وَقْتَ النِّيَّةِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا أَدْرَكَا مِنْ اللَّيْلِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا الْبَعْضُ لَمْ يَجِبْ الْبَاقِي، أَوْ لِمَا فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الْإِفَاقَةُ، وَالْيَقَظَةُ؟ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ لَكِنْ أَصْلُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ الْوُجُوبُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَسْبَابِ لَا بِالْخِطَابِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ لِثُبُوتِهِ بَلْ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ، أَوْ أَبَى، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَهُوَ إسْقَاطُ مَا فِي الذِّمَّةِ وَتَفْرِيغُهَا مِنْ الْوَاجِبِ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَتُشْتَرَطُ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَلَى أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى الْعَاجِزِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَا إلَى الْعَاجِز عَنْ فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَجْنُونُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ، أَوْ لِاسْتِتَارِهِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ لِعَجْزِهِمَا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِمَا عَاجِزُونَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَنْ أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِمْ وَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ بَلْ يَثْبُتُ جَبْرًا.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أُسْتَاذِي الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدِّينِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمَعْقُولَ هُوَ وُجُوبُ الْفِعْلِ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ، وَالْقَادِرُ عَلَى فِعْلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ضَرُورَةً، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ عَاجِزُونَ عَنْ فِعْلِ الْخِطَابِ بِالصَّوْمِ وَعَنْ أَدَائِهِ إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَاَلَّذِي دَعَا الْأَوَّلِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، وَالِانْتِبَاهِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ، أَوْ كُلِّهِ، وَمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، فَقَالُوا: إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي فَوَاتَ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ، فلابد مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ فَوَاتِهِ حَتَّى يُمْكِنَ إيجَابُ الْقَضَاءِ فَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ، وَالْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي فَوْتَ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُسْتَوْعِبًا بِأَنْ جُنَّ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْضِي، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَتَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فِي الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ شَهْرًا، وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا.
أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ: فَاتَهُ الْوَاجِبُ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ لَهُمْ وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الشَّهْرُ إذْ الصَّوْمُ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا، يُقَالُ صَوْمُ الشَّهْرِ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ.
وَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ حَرَجٌ.
وَأَمَّا مَنْ أَبَى الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ: هَذَا شَخْصٌ فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْ: لَمْ يَصُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَرَج فِي قَضَاءِ نِصْفِ الشَّهْرِ، وَتَأْثِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ السَّنَةِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ فَبَقِيَ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْهُ وَقْتًا لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ فَاتَهُ الثَّوَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالصَّوْمِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَقُومَ الصَّوْمُ فِيهَا مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُسْتَوْعِبَ قَلَّمَا يَزُولُ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ إذَا اسْتَوْعَبَ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهُ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ اسْتِيعَابَهُ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ مَا مَضَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ مَا إذَا أَفَاقَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَلَوْ جُنَّ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بُعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ كُلِّ الشَّهْرِ إلَّا قَضَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي جُنَّ فِيهِ إنْ كَانَ نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ قَضَى جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلَوْ جُنَّ فِي طَرَفَيْ الشَّهْرِ وَأَفَاقَ فِي وَسَطِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الطَّرَفَيْنِ.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: لَا يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صَبِيٍّ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ جُنَّ فَلَمْ يَزَلْ مَجْنُونًا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، أَوْ أَكْثَرُ ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَمَانَ الْإِفَاقَةِ فِي حَيِّزِ زَمَانِ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْعَارِضِ فَإِنَّ هُنَاكَ زَمَانَ التَّكْلِيفِ سَبَقَ الْجُنُونَ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ.
وَجْهُ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا عَارِضًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ فِي الْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا.
وَعَلَى هَذَا الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ إنَّهَا شَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَائِضَ فِي السُّنَّةِ إلَّا قَضَاءُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلسَّائِلَةِ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ هَكَذَا كُنَّ النِّسَاءُ يَفْعَلْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
أَشَارَتْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ تَعَبُّدًا مَحْضًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَتَوَاهَا بَلَغَتْ الصَّحَابَةَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا عَنْ فَرْضٍ وَلَا عَنْ نَفْلٍ، لِعَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا، وَوُجُودِهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُوجَدُ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي، وَعَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ مَعَ الْأَيَّامِ الْأُخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ طَهُرَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْحَيْضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَالنِّفَاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَيَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ عَنْ رَمَضَانَ إذَا نَوَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالنِّفَاسُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلِاغْتِسَالِ وَمِقْدَارُ مَا يَسَعُ النِّيَّةَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ دُونَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَلَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ، وَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا لَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحَيْضِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُهُ النِّيَّةَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا أَصْلِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا عِنْدَهُ.