فصل: فَصْلٌ: وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وُجُوبُ طَاعَةِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ:

وَمِنْهَا، وُجُوبُ طَاعَةِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى الْفِرَاشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قِيلَ: لَهَا الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي نَفْسِهَا، وَتَحْفَظَ غَيْبَتَهُ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِنَّ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ عَدَمِ طَاعَتِهِنَّ، وَنَهَى عَنْ طَاعَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}، فَدَلَّ أَنَّ التَّأْدِيبَ كَانَ لِتَرْكِ الطَّاعَةِ، فَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ طَاعَتِهِنَّ الْأَزْوَاجَ.

.فَصْلٌ: وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ:

وَمِنْهَا وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ تُطِعْهُ فِيمَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ بِأَنْ كَانَتْ نَاشِزَةً، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا كُونِي مِنْ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَلَعَلَّ تَقْبَلُ الْمَوْعِظَةَ، فَتَتْرُكُ النُّشُوزَ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ، وَرَجَعَتْ إلَى الْفِرَاشِ وَإِلَّا هَجَرَهَا.
وَقِيلَ يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا، وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ قِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا، وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إيَّاهَا لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَدِّبَهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَيُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ، وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ وَخَوْفِ النُّشُوزِ وَالتَّنَازُعِ وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا، وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا، وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا، فَإِذَا هَجَرَهَا، فَإِنْ تَرَكَتْ النُّشُوزَ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا عِنْدَ ذَلِكَ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا شَائِنٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ، وَإِلَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ، وَإِلَّا غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنْ قُبِلَتْ، وَإِلَّا بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَكَبَتْ مَحْظُورًا سِوَى النُّشُوزِ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا تَعْزِيرًا لَهَا؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ كَمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ.

.فَصْلٌ: الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ:

وَمِنْهَا الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمُسْتَحَبٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قِيلَ هِيَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَخُلُقًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، وَقِيلَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ هِيَ أَنْ يُعَامِلَهَا بِمَا لَوْ فُعِلَ بِك مِثْلُ ذَلِكَ لَمْ تُنْكِرْهُ بَلْ تَعْرِفُهُ، وَتَقْبَلُهُ وَتَرْضَى بِهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مَعَ زَوْجِهَا بِالْإِحْسَانِ بِاللِّسَانِ، وَاللُّطْفِ فِي الْكَلَامِ، وَالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الزَّوْجِ، وَقِيلَ فِي، قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنْ حَيْثُ الْفَضْلُ وَالْإِحْسَانُ هُوَ أَنْ يُحْسِنَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْبِرِّ بِاللِّسَانِ، وَالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَيُكْرَهُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ عَنْ إنْزَالٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَلَهَا فِي الْوَلَدِ حَقٌّ، وَبِالْعَزْلِ يَفُوتُ الْوَلَدُ، فَكَأَنَّهُ سَبَبًا لِفَوَاتِ حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَزْلُ بِرِضَاهَا لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِفَوَاتِ حَقِّهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْزِلُوهُنَّ أَوْ لَا تَعْزِلُوهُنَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ خَلْقَ نَسَمَةٍ، فَهُوَ خَالِقُهَا» إلَّا أَنَّ الْعَزْلَ حَالَ عَدَمِ الرِّضَا صَارَ مَخْصُوصًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةَ الْغَيْرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْعَزْلُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا أَوْ رِضَا مَوْلَاهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ حَقُّهَا، وَالْعَزْلُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي ذَلِكَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَرَاهَةَ الْعَزْلِ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ لَهُ لَا لَهَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ:

وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، فَلَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعِدَّةِ، وَهُوَ حُكْمُ الدُّخُولِ فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمَهْرِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ أَعْنِي مَحَلَّ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْمَنَافِعِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ، وَالْحُرُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ خُلُوصٌ، وَالْمِلْكُ يُنَافِي الْخُلُوصَ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْآدَمِيِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالرِّقِّ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي الرِّقَّ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى دَرْءِ الْحَدِّ وَصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الضَّيَاعِ بِثَبَاتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَصِيَانَةِ الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ غَرَامَةٍ، وَلَا عُقُوبَةٍ تُوجِبُ الْمَهْرَ، فَجُعِلَ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا قَبْلَهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا» جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ، فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْمَهْرِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُقْرِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى.
وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَكَذَا هَذَا الْخِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَنَافِعَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا كَالْأَعْيَانِ، فَيَلْزَمُ إظْهَارُ أَثَرِ التَّقَوُّمِ، وَذَلِكَ بِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَإِنَّمَا الْعُدُولُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَمْ تَصِحَّ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبْنَا كَمَالَ الْقِيمَةِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَذَا هَاهُنَا.
(وَلَنَا) أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ مَا قَوَّمَا الْمَنَافِعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى، فَلَا تَتَقَوَّمُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى، فَحَصَلَتْ الزِّيَادَةُ مُسْتَوْفَاةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى لَا يَبْلُغُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لِرِضَاهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ أَيِّ وَقْتٍ تُعْتَبَرُ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: إنَّهَا تَجِبُ مِنْ حِينِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ زُفَرُ: مِنْ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عِنْدَهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ الْوَطْءِ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِالْوَطْءِ تَجِبُ عَقِيبَ الْوَطْءِ بِلَا فَصْلٍ كَأَحْكَامِ سَائِرِ الْعِلَلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الْوَطْءِ مُنْعَقِدٌ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْفِرَاشُ لَا يَزُولُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ الْوَطْءِ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ.
وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ يَلْزَمُهُ مَهْرٌ آخَرُ، فَكَانَ التَّفْرِيقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَمَا تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ حَقِيقَةً مَعَ قِيَامِ الْمَنَافِع لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى ذَلِكَ، فَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْتَوْفَى عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَلَمْ يُوجَدْ اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ حَقِيقَةً بِالْخَلْوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِدَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَلَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا أَقَمْنَا التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَقَامَهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يُحْتَاطُ فِيهِ لِوُجُودِ دَلِيلِ التَّمَكُّنِ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَلَمْ يُوجَدْ هاهنا بِخِلَافِ الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْهُ شَرْعًا بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوْ الْإِحْرَامِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلُ الْإِطْلَاقِ شَرْعًا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّمَكُّنُ ثَابِتًا، وَدَلِيلُهُ مَوْجُودٌ، فَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلَا يُوجِبُ الْمَهْرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ بِهَا الْعِدَّةُ، فَالْمَهْرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي وُجُوبِهَا، وَلَا يُحْتَاطُ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ، فَبَيَانُهُ بَيَانُ مَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسْبَابٌ لَكِنَّ الْوَاقِعَ بِبَعْضِهَا فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ، وَبَعْضُهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَفِي بَعْضِهَا يَقَعُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا.
الطَّلَاقُ بِصَرِيحِهِ، وَكِنَايَاتِهِ، وَلَهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ، وَمِنْهَا اللِّعَانُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَكَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ، وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْفُرْقَةُ فِي الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ، بَلْ تَكُونُ فَسْخًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَمَّا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ إلَّا إذَا مُلِكَتْ كَالْمُخَيَّرَةِ، فَكَانَ فَسْخًا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ، فَكَذَا إذَا اُلْتُحِقَ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ.
وَكَذَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْمَرْأَةُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْغُلَامُ، فَاخْتَارَ نَفْسَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَيْضًا، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَالِانْفِصَالُ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ، فلابد أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا.
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَإِذًا لَا فَائِدَةَ فِي الْخِيَارِ إلَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ، فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْفُرْقَةِ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ، فَلَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْبَدَلُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ الْمُبْدَلُ إلَيْهَا، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، فَلَا يُفْسَخُ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا يَغْرَمُ قِيمَتَهَا، وَقِيمَتُهَا هُوَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، فَلَا يُفِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ، فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ، فَلَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ.
وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِعَيْبِ الْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ، وَالتَّأَخُّذِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ فُرْقَةُ بُطْلَانٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إيفَاءِ حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ ظُلْمٌ وَضَرَرٌ فِي حَقِّهَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَامَ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةَ بُطْلَانٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ.
وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ، وَالْفُرْقَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وِلَايَةُ الطَّلَاقِ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ.
وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجَةِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا الْمُشْرِكُ أَوْ الْمَجُوسِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَا كِتَابِيَّيْنِ، فَأَسْلَمَ الزَّوْجُ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مَحَلٌّ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً، فَكَذَا بَقَاءً، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ نِكَاحِ الْكَافِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ ابْتِدَاءً، فَكَذَا فِي الْبَقَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، فَإِنْ أَسْلَمَ؛ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ؛ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ غَيْرَ أَنَّ الْإِبَاءَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَهُوَ الْإِبَاءُ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَالْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الطَّلَاقَ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ الْإِبَاءُ مِنْ الزَّوْجِ يَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِلْحَالِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى تَمْضِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ مُضِيِّهَا؛ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ؛ بَانَتْ بِمُضِيِّهَا أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنْ كَفَرَ الزَّوْجُ يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ، وَكَذَلِكَ شِرْكُ الْمَرْأَةِ، وَتَمَجُّسُهَا مَانِعٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ، وَالْمَجُوسِيَّةِ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ يُبْطِلُهُ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ، فَعَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَامْتَنَعَ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ لَمَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ؛ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ عَاصِمًا لِلْأَمْلَاكِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُبْطِلًا لَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِالْكُفْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُمَا، وَلَمْ يَمْنَعْ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْبَقَاءَ وَأَنَّهُ أَسْهَلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّا لَوْ بَقَّيْنَا النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا لَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ، وَالْكَافِرُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِفْرَاشُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ لِخُبْثِهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ هَذَا النِّكَاحِ فَائِدَةٌ، فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا عِنْدَ إبَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْيَأْسَ عَنْ حُصُولِ الْمَقَاصِدِ يَحْصُلُ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمُشْرِكَةُ أَوْ الْمَجُوسِيَّةُ أَوْ الْكِتَابِيَّةُ، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ يَشْتَرِكُ فِي سَبَبِهَا الزَّوْجَانِ، وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، فَإِنَّ الْإِبَاءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِإِبَائِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَكَذَا بِإِبَائِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْإِبَاءِ لِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إذَا لَمْ تَحْصُلْ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّفْرِيقِ هُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَالْقَاضِي يَنُوبُ مَنَابَهُ كَمَا فِي الْفُرْقَةِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الْفُرْقَةِ هُوَ فُرْقَةُ الطَّلَاقِ، فَيُجْعَلُ طَلَاقًا مَا أَمْكَنَ، وَفِي إبَاءِ الْمَرْأَةِ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا.
وَمِنْهَا رِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ مُفْضٍ إلَيْهِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ لِأَحَدٍ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ مَعَ الرِّدَّةِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَبْقَى مَعَ زَوَالِ الْعِصْمَةِ غَيْرَ أَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا رِدَّةُ الرَّجُلِ، فَهِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا تُجْعَلُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفُرْقَةِ هُوَ فُرْقَةُ الطَّلَاقِ، وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِرِدَّتِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَذَا بِرِدَّتِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ الرَّجُلِ، وَهُوَ رِدَّتُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الرِّدَّةُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَفُرْقَةُ الْمَوْتِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَفَادُ بِالنِّكَاحِ، وَالْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِالرِّدَّةِ فُرْقَةٌ وَاقِعَةٌ بِطَرِيقِ التَّنَافِي؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي عِصْمَةَ الْمِلْكِ، وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّنَافِي لَا يُسْتَفَادُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَثَمَرَاتِهِ، وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الزَّوْجِ، فَيَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَّا التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي الطَّلَاقَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ كَأَنَّهُ طَلَّقَ بِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فُرْقَةَ الْإِبَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَفُرْقَةَ الرِّدَّةِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِطَرِيقِ التَّنَافِي، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، فَتَثْبُتُ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ تَتَأَجَّلُ الْفُرْقَةُ إلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ هَذَا إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.
فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَكَذَا إذَا ارْتَدَّا؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا، وَزِيَادَةً، وَلِلِاسْتِحْسَانِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا ارْتَدَّتْ فِي زَمَن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَ حَضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ بِمَ يُعْلَمُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا، وَأَسْلَمُوا مَعًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقِرَانُ بَلْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ فِي الرِّدَّةِ، وَالْإِسْلَامِ فَفِيمَا عُلِمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَرَّقَ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ مَا بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى، وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً، فَتَمَجَّسَتْ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَكَانَتْ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ، وَإِنْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ الْمَهْرُ سُمِّيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ تَجِبُ الْمُتْعَةُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَجِبُ كُلُّ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً؛ فَتَنَصَّرَتْ أَوْ نَصْرَانِيَّةً؛ فَتَهَوَّدَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تُجْبَرُ عَلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَعُودَ إلَى دِينِهَا الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً بِأَنَّ الدِّينَ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بَاطِلٌ، فَكَانَ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ تَقْرِيرًا عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
(وَلَنَا) أَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً؛ فَصَبَأَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الصَّابِئِيَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا.
وَمِنْهَا إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَكِنْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِي الْحَالِ بَلْ تَقِفُ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْبَاقِي مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَنَفْسُ الْكُفْرِ أَيْضًا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِذَا أَبَى حِينَئِذٍ يُفَرَّقُ، وَكَانَتْ الْفُرْقَةُ حَاصِلَةً بِالْإِبَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ الْإِبَاءُ إلَّا بِالْعَرْضِ، وَقَدْ امْتَنَعَ الْعَرْضُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ إذْ الْمُشْرِكُ لَا يَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، فَيُقَامُ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ، وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إذْ هُوَ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَقَامَ الْعِلَّةِ، وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ جَائِزٌ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ، وَهِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ صَارَ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي.
وَتَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بِسَبَبِ الْإِبَاءِ حُكْمًا وَتَقْدِيرًا.
وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ هَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ بَعْدَ مُضِيِّهَا؟ بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَمَّتْ الْحِيَضُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ.
وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا بِأَنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْتَأْمَنًا، وَبَقِيَ الْآخَرُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ السَّبْيُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَتْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَخَلَّفَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ كَافِرًا بِمَكَّةَ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ».
وَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ لَمَا رُدَّ بَلْ جُدِّدَ النِّكَاحُ؛ وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ، وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ، وَالْوِلَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ.
(وَلَنَا) أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ، فَيَزُولُ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ أَمْوَالِهِ، وَتُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَيُخَالِطُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَكَانَ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ ثَابِتًا، فَيَبْقَى النِّكَاحُ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مَا أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ رَاوِي الرَّدِّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ، فَظَنَّ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ، وَرَاوِي النِّكَاحِ الْجَدِيدِ اعْتَمَدَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَصَارَ كَاحْتِمَالِ الْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا؛ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُسْلِمًا بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ لَا لِلتَّوَطُّنِ، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِالدُّخُولِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
وَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ مَعًا أَوْ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، فَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا، وَانْعِدَامِ السَّبْيِ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَأُحْرِزَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدَهُ بِالسَّبْيِ، وَعِنْدَنَا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.
وَلَوْ سُبِيَا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدَهُ تَقَعُ لِوُجُودِ السَّبْيِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} حَرَّمَ الْمُحْصَنَاتِ، وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ إذْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، وَاسْتَثْنَى الْمَمْلُوكَاتِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِهَا؛ وَلِأَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي؛ لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ، وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الرَّقَبَةِ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَسْبِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ، وَمَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي؛ يَزُولُ مِلْكُ الزَّوْجِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً هِيَ مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ فِي الْأَمَةِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ، وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ.
(وَلَنَا) أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلِهِ مُطْلَقًا، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ إمَّا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ أَوْ تَقْدِيرًا لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَإِمَّا لِفَوَاتِ حَاجَةِ الْمَالِكِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالزَّوَالِ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَنَاقُضًا، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّنَاقُضِ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ، وَالْمَحَلُّ صَالِحٌ، وَالْمَالِكُ صَالِحٌ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْمِلْكِ، وَإِمْكَانُ الِاسْتِمْتَاعِ ثَابِتٌ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا إذَا سُبِيَا مَعًا، وَلَا يَكُونُ نَادِرًا.
وَكَذَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَالْمَسْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْكَفَرَةِ أَوْ اسْتِنْقَاذِ الْأُسَرَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ السَّبْيُ وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ، فَنَعَمْ لَكِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْوَارِدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وَمِلْكُ الزَّوْجِ هاهنا قَائِمٌ لِمَا بَيَّنَّا، فَلَمْ يَكُنْ السَّبْيُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلسَّابِي، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا سُبِيَتْ، وَحْدَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ.
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الطَّارِئُ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ مَلَكَ شِقْصًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُقَارَنَ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ يُبْطِلُهُ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ لَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا، فَتُجْعَلُ فَسْخًا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِطَرِيقِ التَّنَافِي لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ كَالْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ وَالْمَأْذُونِ إذَا اشْتَرَيَا زَوْجَتَيْهِمَا لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُفِيدُ لَهُمَا مِلْكَ الْمُتْعَةِ، فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ.
وَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ هُوَ الْمِلْكُ مِنْ.
وَجْهٍ، فَكَانَ مِلْكُهُ فِيهَا ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَالنِّكَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ فِي انْعِقَادِهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِالشَّكِّ، وَإِذَا كَانَ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعَتْ الْعِدَّةُ مِنْ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَمْ تَمْنَعْ الْبَقَاءَ كَذَا هَذَا، وَقَالُوا فِيمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ، ثُمَّ مَاتَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فِي الْمُكَاتَبِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ، وَعِنْدَهُ يُورَثُ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهَا فِي زَوْجِهَا، فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ فِي أَمْلَاكِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورَثِ، وَمِلْكُهُ فِي الْمُكَاتَبِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى إبْقَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ لَهُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يُصَيِّرُ ذَلِكَ الْحَقَّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ مِنْ قِبَلِهِ، فَلَوْ نَقَلْنَا الْمِلْكَ مِنْ الْمَيِّتِ إلَى الْوَارِثِ لَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ لِانْعِدَامِ تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِيهِ لَأَجْلِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِلْمُكَاتَبِ، فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ، وَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَشَرْطُهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ ثَبَتَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ، فَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ كَمَنْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً، فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ بَانَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لَهُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ.
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ، فَأَرْضَعَتْهُمَا بَانَتَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَحُرْمَةُ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ يَسْتَوِي فِيهَا السَّابِقُ وَالطَّارِئُ.
وَكَذَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ الْمُقَارَنِ وَالطَّارِئِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ.
وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا، وَالْفُرْقَةُ بِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ، وَالْفُرَقُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي بَعْضِهَا الْخَلَاصُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ، وَفِي بَعْضِهَا الْمَحَلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ، فَافْهَمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.