فصل: كِتَابُ الْوَكَالَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْوَكَالَةِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّوْكِيلِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ، رُكْنِ التَّوْكِيلِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي حُكْمِ التَّوْكِيلِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالتَّوْكِيلُ: إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا: الْحِفْظُ، قَالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أَيْ الْحَافِظُ، وَقَالَ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ حَفِيظًا، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وَقَالَ اللَّهُ- تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ- خَبَرًا عَنْ سَيِّدِنَا هُودٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أَيْ اعْتَمَدْتُ عَلَى اللَّهِ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْهِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا عَلَى تَقْرِيرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ، وَالْحِفْظِ إلَى الْوَكِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا أَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ.

.فَصْلٌ: رُكْنُ التَّوْكِيلِ:

وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ.
فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ بِكَذَا أَوْ افْعَلْ كَذَا أَوْ أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَنَحْوُهُ.
وَالْقَبُولُ مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَبَضَهُ لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
ثُمَّ رُكْنُ التَّوْكِيلِ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا؛ وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ قَدِمَ زَيْدٌ؛ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ وَقَدْ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ غَدًا، وَيَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّمْلِيكَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ، وَالتَّقْيِيدَاتُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالرَّجْعَةُ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ التَّوْكِيلِ:

وَأَمَّا الشَّرَائِطُ: فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِهِ، فَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، كَيْفَ يَحْتَمِلُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ؟ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا؟ وَكَذَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ، وَيَصِحُّ بِالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ: كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ.
وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ: كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ، وَعَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ بِالتِّجَارَةِ أَيْضًا، كَمَا إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِهِ فَائِدَةً، لِوُجُودِ الْمُجِيزِ لِلْحَالِ، وَهُوَ الْوَلِيُّ.
وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ، وَيَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَيَمْلِكَانِ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ وَأَمَّا التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ: فَمَوْقُوفٌ: إنْ أَسْلَمَ يَنْفُذُ، وَإِنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، يَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ نَافِذٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَكَالَةُ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: إنَّ أَوْلِيَائِي غُيَّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُنِي ثُمَّ قَالَ لِعَمْرِو ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنِّي فَزَوَّجَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ صَبِيًّا» وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ انْعَدَمَ هُنَاكَ وَوُجِدَ هُنَا؛ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَ بَالِغًا، وَإِذَا كَانَ صَبِيًّا تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَا رِدَّةُ الْوَكِيلِ: لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ؛ فَتَجُوزُ وَكَالَةُ الْمُرْتَدِّ، بِأَنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ؛ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّهُ نَافِذُ التَّصَرُّفَاتِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ.
(وَأَمَّا) عِلْمُ الْوَكِيلِ: فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطٌ، إمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ، وَإِمَّا عِلْمُ مَنْ يُعَامِلُهُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ قَبْلَ عِلْمِهِ، وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِالتَّوْكِيلِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ، أَوْ الْوَكِيلُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْآمِرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى اكْتِسَابِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ.
(وَأَمَّا) عِلْمُ الْوَكِيلِ عَلَى التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيلِ: فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ.
وَذُكِرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِرَجُلٍ: اذْهَبْ بِعَبْدِي هَذَا إلَى فُلَانٍ، فَيَبِيعُهُ فُلَانٌ مِنْكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ صَحَّ شِرَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُشْتَرِي بِالتَّوْكِيلِ كَعِلْمِ الْبَائِعِ الْوَكِيلَ.
وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِقَوْمٍ: بَايِعُوا عَبْدِي؛ فَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَبَايَعُوهُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ.
وَلَيْسَ التَّوْكِيلُ كَالْوِصَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ، أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ إنَّ الْوَصِيَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ؛ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبُولًا مِنْهُ لِلْوِصَايَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْهَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفٌ عَنْ الْمُوصِي، قَائِمٌ مَقَامَهُ، كَالْوَارِثِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ.
وَلَوْ بَاعَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَهُ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَا الْوَصِيُّ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَحُكْمُ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، أَوْ سَبَبِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ شَرْطٌ، فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ كَتَبَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَيْهِ، فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، صَارَ وَكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْعَدْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ وَكِيلًا كَمَا فِي الْعَزْلِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ الْحُدُودُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَالتَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا بِالْإِثْبَاتِ، وَالثَّانِي بِالِاسْتِيفَاءِ، أَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ فَإِنْ كَانَ حَدًّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا يَتَقَدَّرُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِمَا إلَّا مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَذَا بِالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ وَسِيلَةٌ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ فِي التَّوْكِيلِ بِالْإِثْبَاتِ.
(وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ حَاضِرًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ فَيَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ كَيْفَمَا كَانَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا حَقُّهُ، فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِنَائِبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ.
(وَلَنَا) الْفَرْقُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الرَّامِيَ فِيمَا رَمَاهُ، أَوْ يَتْرُكُ الْخُصُومَةَ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالتَّعْزِيرِ إثْبَاتًا وَاسْتِيفَاءً بِالِاتِّفَاقِ.
وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا، أَوْ حَاضِرًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.
(وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ الْمَوْلَى حَاضِرًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ.
وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ قَائِمٌ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَعَفَا، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ.
(وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى نَوْعَيْنِ، نَوْعٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ، كَالْقِصَاصِ، وَقَدْ مَرَّ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَنَوْعٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ وَأَخْذُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ، كَالدُّيُونِ وَالْإِعْتَاقِ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى الْقِصَاصِ، فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ، وَالْعَيْنِ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، بِرِضَا الْخَصْمِ، حَتَّى يَلْزَمَ الْخَصْمَ جَوَابُ التَّوْكِيلِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ لَهَا لَحْمًا يَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ، فَجَعَلَ الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: مَا قُضِيَ لِوَكِيلِي فَلِيَ وَمَا قُضِيَ عَلَى وَكِيلِي فَعَلَيَّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِتَوْكِيلِهِ، فَكَانَ تَوْكِيلُهُ بِرِضَا الْخَصْمِ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بِرِضَا الْخَصْمِ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتَحْسَنُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً غَيْرَ بَرِيزَةٍ، فَجَوَّزُوا تَوْكِيلَهَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي مَوْضِعِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ إلَّا تَوْكِيلُ الْبِكْرِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا يُذْكَرُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ صَادَفَ حَقَّ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَقِفُ عَلَى رِضَا الْخَصْمِ، كَالتَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى حَقُّ الْمُدَّعِي، وَالْإِنْكَارُ حَقُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ صَادَفَ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ نَفْسِهِ، فَلَا يَقِفُ عَلَى رِضَا خَصْمِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ خَاصَمَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الدَّعْوَى الصَّادِقَةُ، وَالْإِنْكَارُ الصَّادِقُ، وَدَعْوَى الْمُدَّعِي خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ، وَالسَّهْوَ وَالْغَلَطَ، وَكَذَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا يَزْدَادُ الِاحْتِمَالُ فِي خَبَرِهِ بِمُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ حَقًّا، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْجَوَابَ لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْفَسَادِ، وَإِحْيَاءِ الْحُقُوقِ الْمَيِّتَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ، فَلَا تَلْزَمُ الْخُصُومَةُ عَنْ جَوَابِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، مَعَ مَا أَنَّ النَّاسَ فِي الْخُصُومَاتِ عَلَى التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَشَدُّ خُصُومَةً مِنْ الْآخَرِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ الْوَكِيلُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، فَيَعْجِزُ مَنْ يُخَاصِمُهُ عَنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَيُشْرَطُ رِضَا الْخَصْمِ، لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ وَإِذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الدَّعْوَى، وَعَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ، وَهَلَكَتْ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ الْحُضُورِ لِمَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَعَنْ الْجَوَابِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا؛ فَيَضِيعُ حَقُّهَا.
(وَأَمَّا) فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَا ضَرُورَةَ، وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ وَتَزْكِيَةَ الشُّهُودِ فِي عَقْدِ التَّوْكِيلِ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ، وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ الطَّالِبِ أَوْ مِنْ الْمَطْلُوبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ الطَّالِبُ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ، يَجُوزُ، وَإِنْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ؛ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ فِي عَقْدِ التَّوْكِيلِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَلَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّوْكِيلِ مِنْ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، هَذَا إذَا وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ.
(وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ: فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، أَنَّهُ يَجُوزُ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ، وَالْمُفَاوَضَةِ، وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَمْلِكُونَ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّوْكِيلِ.
وَيَجُوزُ مِنْ الذِّمِّيِّ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مَصُونَةٌ مَرْعِيَّةٌ عَنْ الضَّيَاعِ كَحُقُوقِنَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ، إنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ مِنْ الْغَرِيمِ بَرِئَ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ، وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْقَضَاءَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا أَيْضًا، وَيَجُوزُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُقُوقٌ يَتَوَلَّاهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهَا غَيْرَهُ.
وَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَلَى إنْكَارٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِ: وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْإِيدَاعُ وَالرَّهْنُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيهَابُ وَالِارْتِهَانُ، لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا.
وَيَجُوزُ بِالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ، إلَّا أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مَا اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ، إلَّا إذَا بَلَغَ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ لِيَسْتَقْرِضَ كَذَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالصُّلْحِ وَبِالْإِبْرَاءِ وَيَجُوزُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمَا بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُمَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمَا لِمَا نَذْكُرُ فَإِذَا تَقَابَضَ الْوَكِيلَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ إذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الرَّسُولِ، فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُمَا عَنْ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا افْتَرَقَا، فَقَدْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، فَبَقَاؤُهُ وَافْتِرَاقُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ لِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرْطًا، وَهُوَ الْخُلُوُّ عَنْ الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْوَكَالَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ نَوْعَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْعَامُّ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ، أَوْ مَا رَأَيْتَ، أَوْ أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ، أَوْ أَيَّ دَارٍ شِئْتَ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ لَكَ مِنْ الثِّيَابِ، وَمِنْ الدَّوَابِّ، وَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ.
وَالْخَاصُّ: أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ دَابَّةً أَوْ جَوْهَرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ فَرَسًا أَوْ بَغْلًا، أَوْ حِمَارًا أَوْ شَاةً وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً لَا تَمْنَعُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِمَا أَيْضًا.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً» وَلَوْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الْأُضْحِيَّةَ، وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَلَّتْ الْجَهَالَةُ، صَحَّ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَإِلَّا فَلَا، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ اسْمُ مَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ، إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ ثَوْبِ الْإِبْرَيْسَمِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ كَثِيرَةً، فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ، فَلَا يَصِحُّ.
وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَا تَقِلُّ، إلَّا بِذِكْرِ النَّوْعِ: بِأَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي حَيَوَانًا، أَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي دَابَّةً، أَوْ أَرْضًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ جَوْهَرًا أَوْ حُبُوبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمُ جِنْسٍ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فلابد مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ: ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي دَارًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الدَّارِ وَالدَّارِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنْ عَيَّنَ الدَّارَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ الثَّمَنَ جَازَ أَيْضًا وَيَقَعُ عَلَى دُورِ الْمِصْرِ الَّذِي وَقَّعَ فِيهِ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ حَتَّى يُعَيِّنَ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَارِ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي دَارًا فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ حَبَّةَ لُؤْلُؤٍ أَوْ فَصَّ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مُتَفَاحِشٌ وَالصِّفَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ فلابد مِنْ بَيَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ مَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ يُكْتَفَى فِيهِ بِذِكْرِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا الصِّفَةُ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا تُرْكِيًّا، أَوْ مِقْدَارُ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، وَبِحَالِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِذَا ذَكَرَ الصِّفَةَ يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِحَالِ الْآمِرِ، فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَمْثَالُهُ عَادَةً حَتَّى إنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْمُشْتَرِي عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي خَادِمًا مِنْ جِنْسِ كَذَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى مَا يَتَعَامَلُهُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ كَثِيرًا، لَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ، وَكَذَا الْبَدَوِيُّ إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي خَادِمًا حَبَشِيًّا فَهُوَ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَهُمَا أَصْلًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فَحُشَتْ بِتَرْكِ ذَكَرِهِمَا جَمِيعًا، فَمَنَعَتْ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِمَارًا أَوْ بَغْلًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بَعِيرًا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ صِفَةً وَلَا ثَمَنًا قَالُوا إنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ، وَالصِّفَةُ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَا الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ إنْ اشْتَرَى حِمَارًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِأَكْثَرَ، قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، إذَا كَانَ الْحِمَارُ مِمَّا يَشْتَرِي مِثْلَهُ الْمُوَكِّلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَشْتَرِي مِثْلَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مُكَارِيًا فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ حِمَارًا مِصْرِيًّا يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يَشْتَرِي الْحِمَارَ لِلْعَمَلِ وَالْحَمْلِ لَا لِلرُّكُوبِ.
وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي شَاةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةً وَلَا ثَمَنًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ بِحَالِ الْمُوَكِّلِ ولابد وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِنْطَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: إمَّا: قَدْرُ الثَّمَنِ، وَإِمَّا قَدْرُ الْمُثَمَّنِ وَهُوَ الْمَكِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ طَيْلَسَانًا لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالنَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.