فصل: كِتَابُ الْخُنْثَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْخُنْثَى:

(الْكَلَامُ) فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْخُنْثَى، وَفِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ.
(أَمَّا الْأَوَّلُ) فَالْخُنْثَى مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى حَقِيقَةً، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُنْثَى.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى، فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَلَامَةِ، وَعَلَامَةُ الذُّكُورَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَبَاتُ اللِّحْيَةِ، وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى النِّسَاءِ وَعَلَامَةُ الْأُنُوثَةِ فِي الْكِبَرِ نُهُودُ ثَدْيَيْنِ كَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَنُزُولُ اللَّبَنِ فِي ثَدْيَيْهِ وَالْحَيْضُ وَالْحَبَلُ، وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهَا مِنْ فَرْجِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا يَخْتَصُّ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَكَانَتْ عَلَامَةً صَالِحَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ فَالْمَبَالُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ»، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الذُّكُورِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهُوَ أُنْثَى وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُحَكَّمُ السَّبْقُ؛ لِأَنَّ سَبْقَ الْبَوْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَخْرَجُ الْأَصْلِيُّ وَأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْآخَرِ بِطَرِيقِ الِانْحِرَافِ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ: هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ وَاجِبٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُحَكَّمُ الْكَثْرَةُ؛ لِأَنَّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَخْرَجِ الْأَصْلِيِّ كَالسَّبْقِ فَيَجُوزُ تَحْكِيمُهُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- أَنَّ كَثْرَةَ الْبَوْلِ وَقِلَّتَهُ لِسَعَةِ الْمَحِلِّ وَضَيْقِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بِخِلَافِ السَّبَقِ، وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي تَحْكِيمِ الْكَثْرَةِ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَقَالَ: هَلْ رَأَيْت حَاكِمًا يَزِنُ الْبَوْلَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا تَوَقَّفَا أَيْضًا، وَقَالَا هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَهُ فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ: حُكْمُ الْخِتَانِ وَحُكْمُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ.
أَمَّا حُكْمُ الْخِتَانِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَنْ تَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَلَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ مَالِهِ جَارِيَةً تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُنْثَى فَالْأُنْثَى تُخْتَنُ بِالْأُنْثَى عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَتَخْتِنُهُ أَمَتُهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى فَرْجِ مَوْلَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي لَهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةً خَتَّانَةً فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا وَرَدَّ ثَمَنَهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَامُ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، ثُمَّ تُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَقِيلَ: يُزَوِّجُهُ الْإِمَامُ امْرَأَةً خَتَّانَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتِنَ زَوْجَهَا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْمَرْأَةُ تَخْتِنُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَأَمَّا حُكْمُ غُسْلِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَلَكِنَّهُ يُيَمَّمُ، كَانَ الْمُيَمِّمُ رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ يَمَّمَهُ مِنْ غَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَمَّمَهُ بِالْخِرْقَةِ وَيَكُفُّ بَصَرَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْوُقُوفِ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَقِفُ بَعْدَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ قَبْلَ صَفِّ النِّسَاءِ احْتِيَاطًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا حُكْمُ إمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا فَقَدْ مَرَّ فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَيَؤُمُّ النِّسَاءَ.
وَأَمَّا حُكْمُ وَضْعِ الْجَنَائِزِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَتُقَدَّمُ جِنَازَتُهُ عَلَى جِنَازَةِ النِّسَاءِ وَتُؤَخَّرُ عَنْ جِنَازَةِ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ ذَكَرٌ فَيُسْلَكُ مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْغَنَائِمِ فَلَا يُعْطَى سَهْمًا وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ شَكًّا، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- يُعْطَى لَهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ ذَكَرًا حُكْمًا، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخُنْثَى الثُّلُثُ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى هَاهُنَا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا، وَلَوْ تَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَصَبَةً فَالنِّصْفُ لِلْخُنْثَى وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ بِنْتًا وَعَصَبَةً، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ، وَعَصَبَةً فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ، وَالْخُنْثَى لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أَيْضًا هَاهُنَا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَعَصَبَةً.
فَإِنْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْخُنْثَى وَيُجْعَلُ هَاهُنَا ذَكَرًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ أُنْثَى لَأَصَابَ السُّدُسَ وَتَعُولُ الْفَرِيضَةُ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ذَكَرًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا كَأَنَّهَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ- تَعَالَى.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُعْطَى نِصْفَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَيُعْطَى لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ الرِّجَالِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ النِّسَاءِ (وَالصَّحِيحُ) قَوْلُ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ- تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَفِي الْأَكْثَرِ شَكٌّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ الْأَكْثَرُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا الْأَقَلُّ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْأَقَلِّ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَكْثَرِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْمَالِ ثَابِتٌ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ذَكَرٌ فِيهِ وَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِمُزَاحِمَةِ الْآخَرِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ أُنْثَى وَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ.
وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَتَخْرِيجِهِ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى سَبْعَةٍ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَثَلَاثَةٌ لِلْخُنْثَى.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا: سَبْعَةٌ مِنْهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَخَمْسَةٌ لِلْخُنْثَى، وَجْهُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ وَتَخْرِيجِهِ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ لِلْخُنْثَى فِي حَالٍ سَهْمًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَلَهُ فِي حَالٍ ثُلُثَا سَهْمٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَثُلُثُ سَهْمٍ فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَهْمِ وَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَسْدَاسِ فَيَصِيرُ كُلُّ سَهْمٍ سِتَّةً فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْخُنْثَى مِنْهَا خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَبْعَةٌ، أَوْ يُقَالُ إذَا جَعَلْنَا جَمِيعَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَالْخُنْثَى يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ سِتَّةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَفِي حَالٍ أَرْبَعَةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَالْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ، وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُنَصَّفُ.
وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِلْخُنْثَى.
وَأَمَّا الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فَالسِّتَّةُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ فَيُنَصَّفُ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَخْرِيجُهُ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ نَصِيبُ ابْنٍ وَهُوَ سَهْمٌ، وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهُ نَصِيبُ بِنْتٍ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ فَلَهُ فِي حَالٍ سَهْمٌ تَامٍّ وَفِي حَالٍ نِصْفُ سَهْمٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالَتَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ، وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ تَامٌّ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَوَجَدْتُ) فِي شَرْحِ مَسَائِلِ الْمُجَرَّدِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِمَامِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْهَقِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي اخْتَصَرَ الْمَبْسُوطَ وَالْجَامِعَيْنِ وَالزِّيَادَاتِ فِي مُجَلَّدَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَرَحَهُ بِكِتَابٍ لَقَبُهُ الشَّامِلُ بَابًا فِي الْخُنْثَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُلْحِقَهُ بِهَذَا الْفَصْلِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الشَّيْخِ وَهُوَ بَابُ الْخُنْثَى.
(قَالَ) ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُوَرَّثُ الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» وَهُوَ مَذْهَبُنَا، الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِلْحَاقِ بِهِنَّ، وَبِالرِّجَالِ إذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ، فَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْقُعُودِ وَالسَّتْرِ، وَفِي الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الرِّجَالِ فِي إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَيَقُومُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَقُدَّامَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إلْحَاقًا بِالرِّجَالِ، وَفِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِثْلُ الْمَرْأَةِ، وَلَوْ مَاتَ يُمِّمَ بِالصَّعِيدِ وَلَا يُغَسِّلُهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَيُسَجَّى قَبْرُهُ وَيَدْخُلُ قَبْرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ.
فَإِنْ قَبَّلَهُ رَجُلٌ بِشَهْوَةٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُمِّهِ، وَلَوْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً يُؤَجَّلُ كَالْعِنِّينِ سَنَةً وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ، وَفِي الْكُلِّ يُعْتَبَرُ الِاحْتِيَاطُ قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَقَالَ: كُلُّ أَمَةٍ لَمْ يَعْتِقْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عَتَقَ لِمَا عُرِفَ.
(وَقَوْلُهُ) أَنَا ذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَيَشْتَرِي امْرَأَةً بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَمَةً مِنْ مَالِهِ لِلْخِدْمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
(مَاتَ) وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ إنَّهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ تَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ، وَامْرَأَةٌ أَنَّهُ كَانَ زَوْجَهَا وَكَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ لَمْ يُقْضَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إنْ ذَكَرَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا أَقْدَمَ فَيُقْضَى لَهُ وَفِي حَبْسِهِ فِي الدَّعَاوَى، وَلَا يُفْرَضُ لَهُ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الرَّجُلِ الْمُقَاتِلِ، فَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّضْخَ نَوْعُ إعَانَةٍ.
وَإِنْ أُسِرَ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي قَسَامَةٍ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الرِّجَالِ أَوْصَى رَجُلٌ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ غُلَامًا، وَبِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَكَانَ مُشْكِلًا لَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- وَعِنْدَهُمَا- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَهُ نِصْفُ الْأَلْفِ وَالْخَمْسُمِائَةِ، قَالَ: وَخُرُوجُ اللِّحْيَةِ دَلِيلُ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَالثَّدْيُ عَلَى مِثَالِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ مَعَ عَدَمِ اللِّحْيَةِ وَالْحَيْضُ دَلِيلُ كَوْنِهِ امْرَأَةً.
زُوِّجَ خُنْثَى مِنْ خُنْثَى مُشْكِلَانِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَجُلٌ وَالْآخَرَ امْرَأَةٌ صَحَّ الْوَقْفُ فِي النِّكَاحِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ، فَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْبَيَانِ لَمْ يَتَوَارَثَا لِمَا مَرَّ شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى خُنْثَى أَنَّهُ غُلَامٌ، وَشُهُودٌ أَنَّهُ جَارِيَةٌ، وَالْمَطْلُوبُ مِيرَاثٌ، قَضَيْتُ بِشَهَادَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَهْرًا قَضَيْتُ بِكَوْنِهَا جَارِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ لَا يَطْلُبُ شَيْئًا لَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الْوَصَايَا:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُزِيلٌ لَلْمِلْكِ فَتَقَعُ الْإِضَافَةُ إلَى زَمَانِ زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وَ{يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وَ{يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وَ{تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} شُرِعَ الْمِيرَاثُ مُرَتَّبًا عَلَى الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}، نَدَبَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى حَالِ الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ.
(وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ مَرِيضًا فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِنِصْفِ مَالِي؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَبِثُلُثِ مَالِي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
وَرُوِيَ: فُقَرَاءُ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ».
أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَنَا أَخَصَّ بِثُلُثِ أَمْوَالِنَا فِي آخِرِ أَعْمَارِنَا لِنَكْسِبَ بِهِ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِنَا.
وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي ثُلُثِ الْمَالِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ فَكَانَتْ مَشْرُوعَةً.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُوصُونَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ مَعَ مَا أَنَّ ضَرْبًا مِنْ الْقِيَاسِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَتَمَ عَمَلَهُ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ أَوْ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ، فَإِذَا مَسَّتْ حَاجَتُهُمْ إلَى الْوَصِيَّةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَزُولُ بِمَوْتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا يَرَى: أَنَّهُ بَقِيَ فِي قَدْرِ جِهَازِهِ مِنْ الْكَفَنِ، وَالدَّفْنِ وَبَقِيَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِحَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ لَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ».
وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْإِيصَاءِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِيصَاءِ، وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى إرَادَةِ مَنْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْوَصِيَّةُ بِهَا وَاجِبَةٌ- عِنْدَنَا- عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ فَلَا يُقْبَلُ، وَقِيلَ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}، ثُمَّ نُسِخَتْ وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَسَخَهَا الْحَدِيثُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُنْسَخُ الْكِتَابَ عِنْدَكُمْ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهَذَا مِنْ الْآحَادِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَوَاتِرٌ غَيْرَ أَنَّ التَّوَاتُرَ ضَرْبَانِ: تَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَتَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ قَرْنًا فَقَرْنًا مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ مَا رَوَوْهُ عَلَى التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَمَلِ بِهِ أَغْنَاهُمْ عَنْ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَذَا مَعَ ظُهُورِ الْقَوْلِ أَيْضًا مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْفَتْوَى بِهِ بِلَا تَنَازُعٍ مِنْهُمْ، وَمِثْلُهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ قَطْعًا، فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ جَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ يُكَفَّرُ وَجَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي ظُهُورِ الْعَمَلِ لَا يُكَفَّرُ لِمَعْنَى عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَقَوْلُهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَيْ: كُلَّ حَقِّهِ فَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ الَّذِي أُعْطِيَ لِلْوَارِثِ كُلُّ حَقِّهِ، فَيَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْوَصِيَّةِ، وَتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِذَا تَحَوَّلَ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ كَالْقِبْلَةِ لَمَّا تَحَوَّلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَبْقَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً.
وَكَالدَّيْنِ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى.
وَكَمَا فِي الْحَوَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرِ الْوَارِثِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْآيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمَخْرَجِ لَكِنْ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَكَانَ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ لَا نَاسِخًا وَالْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ إلَّا أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالُوا: إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فَرِيضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ، أَوْ زَكَاةٌ، أَوْ كَفَّارَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ جَائِزَةٌ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
(وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَقَدْ قَالُوا: إنْ كَانَ مَالُهُ قَلِيلًا، وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُوصِيَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «إنَّكَ إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالْأَجَانِبِ، وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالْأَقَارِبِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ غُنْيَةً الْوَرَثَةِ تَحْصُلُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ قِلَّتِهِ.
وَالْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّهُ، فَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ، وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، فَالْأَفْضَلُ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلْأَجَانِبِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَرِيبِ الْمُعَادِي أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الْمُوَالِي؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُعَادِي تَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدَ عَنْ الرِّيَاءِ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُ، فَإِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَكَ، وَإِنْ كَفَرَكَ، فَهُوَ شَرٌّ لَهُ وَخَيْرٌ لَكَ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمُعَادِي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْعَدَاوَةِ، وَصِيَانَةٌ لِلْقَرَابَةِ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى هَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْفَضْلِ، وَالدِّينِ وَالْحَاجَةِ، وَأَحَدُهُمَا مُعَادِي (فَأَمَّا) إذَا كَانَ الْمُوَالِي مِنْهُمَا أَعَفَّهُمَا، وَأَصْلَحَهُمَا وَأَحْوَجَهُمَا، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ تَقَعُ إعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.