فصل: فَصْلٌ: بيان الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بيان الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ تَطَوُّعًا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَتْ الْمَسْأَلَةُ غَيْرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ وَالصِّفَةُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَفِي بَعْضِهَا الْقَدْرُ دُونَ الصِّفَةِ وَفِي بَعْضِهَا الصِّفَةُ دُونَ الْقَدْرِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّفَاقٌ وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَالْعَيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنْ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَا يَجُوزُ الرَّدِيءُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ فَبِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَدَّى الْجَيِّدَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً.
وَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ أَدَّى قِيمَةَ الْوَسَطِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ الرَّدِيءِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ.
وَلَوْ أَدَّى شَاةً وَاحِدَةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ تَعْدِلُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا وَالْجُودَةُ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاتَيْنِ؟ فَبِقَدْرِ الْوَسَطِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَبِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ يَقَعُ عَنْ شَاةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ رُبُعَ عُشْرِهِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ النِّصَابُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ مِنْ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ وَلَوْ أَدَّى الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِقَدْرِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهَا مُتَقَوِّمَةً؛ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى ثَوْبًا جَيِّدًا عَنْ ثَوْبَيْنِ رَدِيئَيْنِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ قِيمَةُ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ فَإِنْ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِ النِّصَابِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بِأَنْ أَدَّى الذَّهَبَ عَنْ الْفِضَّةِ أَوْ الْحِنْطَةَ عَنْ الشَّعِيرِ يُرَاعَى قِيمَةُ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ الْوَاجِبِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقَدْرُ لَا الْقِيمَةُ، وَقَالَ زُفَرُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ لَا الْقَدْرُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقَدْرِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقَدْرُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا قَالَ زُفَرُ.
وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ، إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ قَفِيزٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا وَأَدَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ يَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ لَا قِيمَةُ الْجَوْدَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ اعْتِبَارًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِلْقِيمَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: إنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَقَوُّمِهَا شَرْعًا لِجَرَيَانِ الرِّبَا، وَالرِّبَا اسْمٌ لِمَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْقِطَ لِاعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَهُوَ النَّصُّ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي سُقُوطَ تَقَوُّمِهَا مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ حِنْطَةً رَدِيئَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَأَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قَفِيزًا آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا لِلْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ وَالْأَنْفَعِ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ وَالْقَدْرُ نَاقِصٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِاعْتِبَارِ الْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْقَدْرُ هاهنا أَنْفَعُ لَهُمْ، وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ قَلْبُ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٌ مَصْنُوعٍ مِنْ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ دِرْهَمٍ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ جِنْسَةِ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوْ أَدَّى عَنْهَا خَمْسَةً زُيُوفًا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ جَازَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا النَّذْرِ إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَأَدَّى قَفِيزًا رَدِيئًا يَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْفَضْلِ وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ قَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى النِّصْفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ آخَرَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَهَذَا وَالزَّكَاةَ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً بِشَاتَيْنِ فَتَصَدَّقَ مَكَانَهُمَا بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ جَازَ وَيَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى مَكَانَهُمَا شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ فِي نَفْسِ الْإِرَاقَةِ لَا فِي التَّمْلِيكِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ.
وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عِتْقَ رَقَبَتَيْنِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ ثَمَّةَ لَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ بَلْ فِي إزَالَةِ الرِّقِّ، وَإِزَالَةُ رِقٍّ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إزَالَةِ رِقَّيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ سَمِينَةً إلَّا عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَدَاءُ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ جَائِزٌ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ الْكَامِلِ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ.
وَكَذَا إذَا أَدَّى الْعَيْنَ عَنْ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ فَأَدَّى خَمْسَةً عَيْنًا عَنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ النَّاقِصِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِيَّةُ الدَّيْنِ لِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِهِ فِي الْعَاقِبَةِ.
وَكَذَا الْعَيْنُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الْفَقِيرِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَلَا يَخْرُجُ عَمَّا عَلَيْهِ، وَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَيْنٍ يَنْوِي عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ قَضَاءً عَنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ يَصِيرُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٍ وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ تَصِيرُ عَيْنًا بِالِاسْتِيفَاءِ فَتَبَيَّنَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ لَا يَصِيرُ عَيْنًا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَوَهَبَ مِنْهُ الْمِائَتَيْنِ يَنْوِي عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَا يَنْقَلِبُ عَيْنًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَيَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَقِيرًا فَوَهَبَ الْمِائَتَيْنِ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَوَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ زَكَاتُهَا دَيْنًا عَلَيْهِ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ قَدْرُ الزَّكَاةِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْغَنِيِّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْجَوَازَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ بَلْ عَلَى امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا فِي الْعَاقِبَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالًا وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بيانُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ بِحَرْفِ اللَّامِ وَأَنَّهُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَوْ جَازَ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْآيَةُ خُرِّجَتْ لِبَيَانِ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا وَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِمْ فَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَّا الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ مَعَ غِنَاهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِمَالَةَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِمْ الْعِمَالَةَ لِمَا نَذْكُرُ ثُمَّ لابد مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ.
أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسٌ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَفِي أَنَّ أَيَّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْحَسَنُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ.
وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ وَقَالَ قَتَادَةَ: الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَلَهُ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ وَقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا يَقُوتُهُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ سُمِّيَ مِسْكِينًا لَمَّا أَسْكَنَتْهُ حَاجَتُهُ عَنْ التَّحَرُّكِ فَلَا يَقْدِرُ يَبْرَحُ عَنْ مَكَانِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقَاوِيلِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: أَيْ اسْتَتَرَ بِالتُّرَابِ وَحَفَرَ الْأَرْضَ إلَى عَانَتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ سَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ أَنَّ لَهُ حَلُوبَةً هِيَ وَفْقُ الْعِيَالِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ حَاجَةَ الْمِسْكِينِ أَشَدُّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ مَا كَانَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَيَتَعَفَّفُ وَلَا يَخْرُجُ فَيَسْأَلُ وَلَهُ حِيلَةٌ فَسُؤَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَالِهِ.
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قِيلَ: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْأَلُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ مِسْكِينًا فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْ هَذَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا مَكْسَبَ لَهُ أَيْ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ لَهُ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ.
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدُ فِي كَوْنِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ فِي الْوَصَايَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا غَيْرَ سَدِيدٍ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْعَطْفُ دَلِيلُ الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى آخَرَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ وَالْوَصِيَّةُ مَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُوصِي أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ نَصِّ كَلَامِهِ فَتَجْرِي عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّا عَقَلْنَا الْمَعْنَى فِيهَا وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَإِزَالَةُ الْمَسْكَنَةِ وَجَمِيعُ الْأَصْنَافِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ افْتَرَقَا لَا لِمَا قَالُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمْ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُعْطَوْنَ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ كِفَايَتَهُمْ مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطِيهِمْ الثَّمَنَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مِنْهُمْ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا الثَّمَنُ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِطَرِيقِ الْعِمَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنْهَا شَيْئًا وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا فِي يَدِهِ سَقَطَ حَقُّهُ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ أَنَّهَا تَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ كَذَا هَذَا دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَكَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الصَّدَقَاتِ بِجِبَايَتِهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا مَحَالَةَ، وَجَهَالَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِجَارَةِ فَجَهَالَةُ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا أَوْلَى، فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ قَسَمَ بَلْ بَيَّنَ فِيهَا مَوَاضِعَ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفَهَا لِمَا نَذْكُرُ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا لَا يَحِلُّ لَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ مُصَدِّقًا وَفَرَضَ لَهُ» وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ لَمَا فَرَضَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْعِمَالَةَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بَعَثَ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحِلُّ لَكُمْ الصَّدَقَةُ وَلَا غُسَالَةُ النَّاسِ»؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُجَبَّى صَدَقَةٌ وَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِ الْإِمَامِ حُصِّلَتْ الصَّدَقَةُ مُؤَدَّاةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِهَا وَإِذَا حُصِّلَتْ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ مَطْهَرَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِي الْمَالِ فَلَا يُبَاحُ لِلْهَاشِمِيِّ لِشَرَفِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ تَنَاوُلِ الْخَبَثِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَقُولُ لِلْعِمَالَةِ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَيَجِبُ صِيَانَةُ الْهَاشِمِيِّ عَنْ ذَلِكَ كَرَامَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَنِيِّ وَقَدْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْغِنَى لَا يَمْنَعُ مِنْ تَنَاوُلِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَابْنِ السَّبِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مِلْكًا فَكَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ إنَّ الَّذِي يُعْطِي لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ فَرْضٌ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمَفْرُوضِ أَنَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فُرِضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مَرَادِس السُّلَمِيُّ وَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَأَتْبَاعٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهُمْ أَسْلَمَ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُمْ أَسْلَمَ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً.
وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ مِنْ الْمُسَالِمِينَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيضًا لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِمَنْ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ، وَقَدْ حَسُنَ إسْلَامُ عَامَّتِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِحُسْنِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَجَمِيلِ سِيرَتِهِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ.
وَاخْتُلِفَ فِي سِهَامِهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ اُنْتُسِخَ سَهْمُهُمْ وَذَهَبَ وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْطَى الْآنَ لِمِثْلِ حَالِهِمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ حَقَّهُمْ بَقِيَ وَقَدْ أُعْطِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآنَ يُعْطَى لِمَنْ حَدَثَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَتَقْرِيرًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُعْطِي الرُّؤَسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ لَهُمْ غَلَبَةٌ يُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ كَانَ يُعْطِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا أَعْطَيَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ مِنْهُ لِسِهَامِهِمْ فَبَدَّلَ لَهُمْ الْخَطَّ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ الْخَطَّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَمَزَّقَهُ وَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيكُمْ لِيُؤَلِّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزّ اللَّهُ دِينَهُ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا السَّيْفُ فَانْصَرَفُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالُوا: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ هُوَ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو بَكْرٍ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَبَلَغَ ذَلِكَ الصَّحَابَةَ فَلَمْ يُنْكِرُوا فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَالْإِسْلَامُ يَوْمئِذٍ فِي ضَعْفٍ وَأَهْلُهُ فِي قِلَّةٍ وَأُولَئِكَ كَثِيرٌ ذُو قُوَّةٍ وَعَدَدٍ وَالْيَوْمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَزَّ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ وَاشْتَدَّتْ دَعَائِمُهُ وَرَسَخَ بُنْيَانُهُ وَصَارَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَذِلَّاءَ، وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنًى خَاصٍّ يَنْتَهِي بِذَهَابِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ عَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِحَاجَتِهِ إلَى مُعَاهَدَتِهِمْ وَمُدَارَاتِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَضَعْفِهِمْ فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ إلَى أَهْلِ الْعُهُودِ عُهُودَهُمْ وَأَنْ يُحَارِبَ الْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ «بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» إلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَاهُ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: الرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} أَيْ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ وَهُوَ أَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يَدْخُلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ: لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا» وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ كِتَابَتِهِ فَيُعْتِقُ.
وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً الْإِعْتَاقُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ وَالدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ تَمْلِيكٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ فَكَانَ حَقُّهُ فِيهِ بَاقِيًا وَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَأَمَّا الَّذِي يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْمُؤَدِّي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْعٌ فَيَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالْغَارِمِينَ} قِيلَ: الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ لَكِنْ مَا وَرَاءَهُ لَيْسَ بِنِصَابٍ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ»، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَازِي وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ اعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ، وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا لَهُ»، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا لِخَمْسٍ الْعَامِلِ عَلَيْهَا، وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا، وَغَارِمٍ، وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفَقِيرٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى غَنِيٍّ» نَفَى حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ وَاسْتَثْنَى الْغَازِيَ مِنْهُمْ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَيَقْتَضِي حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْغَازِي الْغَنِيِّ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ» جَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ قِسْمًا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَقِسْمًا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ فَلَوْ جَازَ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْغَنِيِّ لَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْغَازِي فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَسَمَّاهُ غَنِيًّا عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا ثُمَّ تَحْدُثُ لَهُ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَمَتَاعٌ يَمْتَهِنُهُ وَثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى لَا تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَعْزِمُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي سَفَرِ غَزْوٍ فَيَحْتَاجُ إلَى آلَاتِ سَفَرِهِ وَسِلَاحٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِي غَزْوِهِ وَمَرْكَبٍ يَغْزُو عَلَيْهِ وَخَادِمٍ يَسْتَعِينُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَاتِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ فِي سَفَرِهِ وَهُوَ فِي مَقَامِهِ غَنِيٌّ بِمَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَحْتَاجُ فِي حَالِ سَفَرِهِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» عَلَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي حَالِ مُقَامِهِ فَيُعْطَى بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَفَرِهِ لِمَا أَحْدَثَ السَّفَرُ لَهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْطَى حِينَ يُعْطَى وَهُوَ غَنِيٌّ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْغَارِمِ غَنِيًّا فِي الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْغُرْمِ بِهِ وَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْغُرْمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ اسْمٌ لِمَنْ يُسْتَغْنَى عَمَّا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} فَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي وَطَنِهِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ صُرِفَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ فَيَجِبُ إيصَالُ كُلِّ صَدَقَةٍ إلَى كُلِّ صِنْفٍ إلَّا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصْرَفُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إذْ الثَّلَاثَةُ أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ وَلَنَا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَعَمَلُ الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «فَإِنْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَصْنَافَ الْأُخَرَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذْهَبَةً فِي تُرَابِهَا فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا: تُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» وَلَوْ كَانَ كُلُّ صَدَقَةٍ مَقْسُومَةً عَلَى الثَّمَانِيَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا دَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُذْهَبَةَ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قَلُوبُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا إجْمَاع الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي أَوْ كَلَامٌ نَحْوَ هَذَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى بِصَدَقَةٍ فَبَعَثَهَا إلَى أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُهَا فَفِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا عَمَلُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ تَكَلَّفَ طَلَبَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ الْإِمَامُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ مَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ فَرَّقَ صَدَقَةً وَاحِدَةٍ عَلَى هَؤُلَاءِ.
وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِسْمَةُ عَلَى السَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْسِمُوهَا كَذَلِكَ وَيُضَيِّعُوا حُقُوقَهُمْ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ الصَّدَقَاتِ إلَى هَؤُلَاءِ بِأَسَامِيَ مُنْبِئَةٍ عَنْ الْحَاجَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ وَالْحَاجَةُ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا بَيَانُ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذَا الْحَقِّ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا لِلتَّسْوِيَةِ لُغَةً إنَّمَا الصِّيغَةُ لِلشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةُ لُغَةً حَرْفٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْخِلَافَةُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ؟ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ بِالسَّوِيَّةِ.
وَلَوْ قِيلَ الْخِلَافَةُ بَيْنَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ كَانَ خَطَأً؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْتَى أَنَّهُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ الْمَوْتَى كَانَ لِفُلَانٍ نِصْفُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ لَقَالَ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ الْآيَةَ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ: ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ هُنَاكَ لَيْسَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ إذْ الصِّيغَةُ لَا تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَلْ مُوجَبُ الصِّيغَةِ مَا قِلْنَا، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا جُعِلَ الثُّلُثُ حَقًّا لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وَهُوَ شَيْءٌ مَعْلُومٌ لَا يَزِيدُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يُتَوَهَّمُ لَهُ عَدَدٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَقَسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ نَظَرًا لَهُمَا جَمِيعًا فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَعَيِّنَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالْمَدَدَ حَتَّى يُحَرَّمَ الْبَعْضُ بِصَرْفِهَا إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُرْدِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذَا فَنِيَ مَالٌ يَجِيءُ مَالٌ آخَرُ وَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ تَجِيءُ سَنَةٌ أُخْرَى بِمَالٍ جَدِيدٍ وَلَا انْقِطَاعَ لِلصَّدَقَاتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا صَرَفَ الْإِمَامُ صَدَقَةً يَأْخُذُهَا مِنْ قَوْمٍ إلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ لَمْ يَثْبُتْ الْحِرْمَانُ لِلْبَاقِينَ بَلْ يُحْمَلُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى فَيَصْرِفُ إلَى فَرِيقٍ آخَرَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ مَالٍ يُحْمَلُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ لَا يَجُوزُ صَرْفُ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَةِ إلَيْهِ كَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَالٌ تَمَكَّنَ فِيهِ الْخَبَثُ لِكَوْنِهِ غُسَالَةُ النَّاسِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لَهُمْ بِهِ مِنْ الذُّنُوبِ، وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْخَبِيثِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ لِلْفَقِيرِ لَا لِلْغَنِيِّ.
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى عَبْدِ الْغَنِيِّ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَدْفُوعِ نَفْعٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَنِيٌّ فَكَانَ دَفْعًا إلَى الْغَنِيِّ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَالدَّفْعُ يَقَعُ إلَى الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ فَكَانَ كَسْبُهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَدَيْنِ التِّجَارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا ظَاهِرًا فِي حَقِّهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا.
وَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ كَسْب الْمَالِكِ الْمُكَاتَبِ مِلْكُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَأَمَّا وَلَدُ الْغَنِيِّ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُعَدُّ غَنِيًّا بِغِنَى أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ دُفِعَ إلَى امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَزَوْجُهَا غَنِيٌّ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُعْطِي إذَا قُضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا فَتَصِيرُ غَنِيَّةً بِغِنَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا شَرْطُ الْقَضَاءِ لَهَا بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَقِيرَةَ لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِغِنَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا إلَّا مِقْدَارَ النَّفَقَةِ فَلَا تُعَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ غَنِيَّةً.
وَكَذَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لِمَا قُلْنَا: إنْ تُقَدَّرَ النَّفَقَةُ لَا يَصِيرُ غَنِيًّا فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَقْفِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ إنْ سَمَّاهُمْ الْوَاقِفُ فِي الْوَقْفِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ.
ثُمَّ لابد مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغِنَى فَنَقُولُ الْغِنَى أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا وَلَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الْأَخْذُ أَمَّا الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ نِصَابًا مِنْ الْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا فَهُوَ الَّذِي تَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَبْلُغُ قِيمَةُ الْفَاضِلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالدَّوَابِّ وَالْخَدَمِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلِابْتِذَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ، فَإِذَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ قَدْرُ الْحَاجَةِ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ فِي مَنْزِلِهِ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ وَثِيَابُ الْبَدَنِ وَكُتُبُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يُعْطُونَ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ وَالدَّارِ.
وَقَوْلُهُ: كَانُوا، كِنَايَةً عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لابد لِلْإِنْسَانِ مِنْهَا فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ.
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى فِيمَنْ لَهُ حَوَانِيتُ وَدُورُ الْغَلَّةِ لَكِنْ غَلَّتُهَا لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَيَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحِلُّ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ وَكَرْمٌ لَكِنْ غَلَّتُهُ لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لِلْقُوتِ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ شَهْرٍ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ سَنَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَحِلُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحِلُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْمُسْتَحِقُّ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ.
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخَرَ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ».
وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ شِتَاءٍ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي الْفَتَاوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا يُبَاحُ أَنْ يُعْطَى، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَلَنَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» قَسَّمَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ: الْأَغْنِيَاءُ، وَالْفُقَرَاءُ فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءَ يُرَدُّ فِيهِمْ فَكُلُّ مَنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ يَكُونُ مَرْدُودًا فِيهِ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ السُّؤَالِ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهُمَا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ سَدَادٌ مِنْ الْعَيْشِ فَالتَّعَفُّفُ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ وَلَا كَسْبَ لَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْحَاجَةَ وَيَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا وَخَوْفُ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فِي الثَّانِي لَا يَجْعَلُهُ فَقِيرًا فِي الْحَالِ أَلَا تَرَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَذَا فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ»، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «حُمِلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا كُلُّهُمْ زَمْنَى بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ «إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعْطِيَهُمَا الْحَرَامَ، وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ السُّؤَالِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ كَذَا هَذَا.
وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ أَعْطَى جَازَ وَسَقَطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْقُطُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا نِصَابٌ كَامِلٌ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بِهَذَا الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى الْغَنِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ غَنِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ كَانَ فَقِيرًا فَالصَّدَقَةُ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَجَازَتْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغِنَى يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَيَقْبِضُ ثُمَّ يَمْلِكُ الْمَقْبُوضَ ثُمَّ يَصِيرُ غَنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ يَصِيرُ هُوَ الْغَنِيُّ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ يُغْنِي بِهِ إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ.
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِغْنَاءَ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ أَنَّهُ يُغْنِيهِ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وُضِعَتْ لِمِثْلِ هَذَا الْإِغْنَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» هَذَا إذَا أُعْطِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ عِيَالٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَصَدَّق عَلَيْهِ قَدْرَ دَيْنِهِ وَزِيَادَةً مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عِيَالٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ.
وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَدَادُ عَيْشٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ظَهْرُ الْغِنَى؟ قَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ مَا يُعَشِّيهِمْ» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَا مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}، وَتَرْكُ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْحَالِ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَافِرِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» أَمْرٌ بِوَضْعِ الزَّكَاةِ فِي فُقَرَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهَا فِي غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ صَرْفَهَا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ يَقَعُ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَجْهُ قَوْلِهِمْ الِاعْتِبَارُ بِالزَّكَاةِ وَبِالصَّرْفِ إلَى الْحَرْبِيِّ وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ وَعُمُومُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الزَّكَاةَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقَوْله تَعَالَى فِي الْكَفَّارَاتِ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مِسْكِينٍ وَمِسْكِينٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ إيصَالِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ بِرٌّ بِهِمْ إلَّا أَنَّ الْبِرَّ بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُرَادٍ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الذِّمِّيِّ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ».
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ» وَرُوِيَ: «أَنَّهُ رَأَى فِي الطَّرِيقِ تَمْرَةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ» وَالْمَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَنَّهَا مِنْ غُسَالَةِ النَّاسِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهَا الْخَبَثُ فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِيهمْ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْقَمَ بْنَ أَبِي أَرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أَيْ: فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُمْ؟.
وَكَذَا مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ كَافِرًا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيَّ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمُضَاعَفَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ خَاصَّةً وَبَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَاتُ آلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ مُتَّصِلَةً بَيْنَ الْمُؤَدِّي وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْأَدَاءِ تَمْلِيكًا مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ يَكُونُ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الدَّفْعُ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي دَفْعِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى هَؤُلَاءِ وَالدَّفْعُ إلَيْهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْرَيْنِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ وَكَوْنُهُ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَمْنَعُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ الْأَقَارِبِ وَمِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِانْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا دَفَعَ الصَّدَقَةَ إلَى إنْسَانٍ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِحَالِهِ أَنَّهُ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ صَوَابُهُ وَفِي وَجْهٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ أَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى رَجُلٍ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ وَقْتَ الدَّفْعِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ بَعْدَ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَيْثُ نَوَى الزَّكَاةَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالظَّاهِرُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالْيَقِينِ فَإِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلِّ الصَّدَقَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دُفِعَ إلَيْهِ وَيَقَعُ تَطَوُّعًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ خَطَر بِبَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ جَوَازُهُ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَا طَلَبَ الدَّلِيلَ أَوْ تَحَرَّى بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ الدَّلِيلَ فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ بِيَقِينٍ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَالصَّرْفُ إلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ تَحَرِّيهِ، فَإِذَا تُرِكَ لَمْ يُوجَدْ الصَّرْفُ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَيَجُوزُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فَهُوَ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ وَتَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الصَّدَقَةِ فَدَفَعَ إلَيْهِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَدَفَعَ أَوَرَآهُ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى زِيِّ الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحِلًّا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ مَوْلَى لِهَاشِمِيٍّ كَافِرٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ مَوْلُودٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَسْعَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُجْتَهِدٌ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَبَطَلَ اجْتِهَادُهُ وَكَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ أَوْ أَوَانِيَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ فِيهَا وَكَمَا لَوْ صَرَفَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَمَا إذَا صَرَفَ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ بِخِلَافِهِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ هُوَ مَحَلٌّ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ صَرَفَ إلَى مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْمَاءِ الطَّاهِرِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى صَرْفِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ: ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ قُلْنَا أَنَّهُ صَارَ مَحِلَّ الصَّدَقَةِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا نَقُولُ كَذَلِكَ بَلْ الْمَحَلُّ الْمَأْمُورُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ شَرْعًا حَالَةُ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ خَطَؤُهُ وَلَهُمَا فِي الصَّرْفِ إلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مَعْنٍ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ لَيْلًا فَيَتَصَدَّقَ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ مَعْنٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَآهَا فِي يَدِهِ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أُرِدْك بِهَا فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْنٌ لَك مَا أَخَذْتَ وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْتَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.