فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْعُشْرِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ عُشْرٌ كَامِلٌ، وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ»، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، أَوْ الْعَيْنُ، أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتِهَا وَلَوْ سُقِيَ الزَّرْعُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ سَيْحًا وَفِي بَعْضِهَا بِآلَةٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي السَّوْمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْغَلَّةِ مِنْ سَقْيٍ، أَوْ عِمَارَةٍ، أَوْ أَجْرِ الْحَافِظِ، أَوْ أَجْرِ الْعُمَّالِ، أَوْ نَفَقَةِ الْبَقَرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ»، أَوْجَبَ الْعُشْرَ وَنِصْفَ الْعُشْرِ مُطْلَقًا عَنْ احْتِسَابِ هَذِهِ الْمُؤَنِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْحَقَّ عَلَى التَّفَاوُتِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤَنِ وَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤَنُ لَارْتَفَعَ التَّفَاوُتُ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ نَوْعَانِ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ أَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَمَا وَظَّفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِي كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا وَدِرْهَمُ الْقَفِيزِ صَاعٌ وَالدِّرْهَمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَالْجَرِيبُ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ كِسْرَى يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَصَبَةٍ وَفِي جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ هَكَذَا وَظَّفَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا.
وَأَمَّا جَرِيبُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ النَّخِيلُ مُلْتَفَّةً جَعَلْت عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْأَرْضِ الَّتِي يُتَّخَذُ فِيهَا الزَّعْفَرَانُ قَدْرُ مَا تُطِيقُ فَيُنْظَرُ إلَى غَلَّتِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الرُّطَبَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا مَسَحَا سَوَادَ الْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَضَعَا عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا: بَلْ حَمَّلْنَا مَا تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ؟ فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ فَيُقَدَّرُ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ فَيُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَقَالُوا: نِهَايَةُ الطَّاقَةِ قَدْرُ نِصْفِ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ أَرْضُ زَعْفَرَانٍ فَزَرَعَ مَكَانَهُ الْحُبُوبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ: إنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَ حَيْثُ لَمْ يَزْرَعْ الزَّعْفَرَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطَّلَ الْأَرْضَ فَلَمْ يَزْرَعْ فِيهَا شَيْئًا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ كَذَا هَذَا.
وَكَذَا إذَا قَطَعَ كَرْمَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَزَرَعَ فِيهِ الْحُبُوبَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الْكَرْمِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ قَدْرَ الْخَرَاجِ لَا غَيْرَ يُؤْخَذُ نِصْفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَخْرَجَتْ مِثْلَيْ الْخَرَاجِ فَصَاعِدًا يُؤْخَذُ جَمِيعُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُطِيقُ قَدْرَ خَرَاجِهَا الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا يَنْقُضُ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا تُطِيقُ بِلَا خِلَافٍ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَوْضُوعِ أَنَّهُ هَلْ تُزَادُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُزَادُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُزَادُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُوَظَّفِ إذَا كَانَتْ تُطِيقُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الطَّاقَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْقَدْرُ الْمَوْضُوعُ مِنْ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ مَنْصُوصٌ وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ.
وَأَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَفْتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً فَيَمُنَّ عَلَى أَهْلِهَا وَيَجْعَلَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْخَارِجِ، أَوْ ثُلُثُهُ، أَوْ رُبُعُهُ وَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا فَعَلَ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْخَرَاجِ حُكْمَ الْعُشْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ إلَّا أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْوَاجِبِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَالْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ عُشْرُ الْخَارِجِ، أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ وَذَلِكَ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ قِيمَتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْجُزْءِ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَفْعِ الْقِيَمِ وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ.

.فَصْلٌ: وَقْتُ الْوُجُوبِ:

وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَوَقْتُ الْوُجُوبِ وَقْتُ خُرُوجِ الزَّرْعِ وَظُهُورِ الثَّمَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتُ الْإِدْرَاكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتُ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الثَّمَرُ قَدْ حُصِدَ فِي الْحَظِيرَةِ وَذُرِّيَ الْبُرُّ وَكَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ثُمَّ ذَهَبَ بَعْضُهُ كَانَ فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ الْعُشْرُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ هُوَ وَقْتُ التَّصْفِيَةِ فِي الزَّرْعِ وَوَقْتُ الْجُذَاذِ فِي الثَّمَرِ، هُوَ يَقُولُ: تِلْكَ الْحَالُ هِيَ حَالُ تَنَاهِي عِظَمِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهَا فَكَانَتْ هِيَ حَالَ الْوُجُوبِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَيَوْمُ حَصَادِهِ هُوَ يَوْمُ إدْرَاكِهِ فَكَانَ هُوَ وَقْتَ الْوُجُوبِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهُ كَمَا خَرَجَ حُصِّلَ مُشْتَرَكًا كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} جَعَلَ الْخَارِجَ لِلْكُلِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَإِذَا عَرَفْتَ وَقْتَ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ فَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُضْمَنُ عُشْرُهُ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُضْمَنُ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ وَفِي الْهَلَاكِ أَيْضًا فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِالْهَالِكِ فَمَا هَلَكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَمَا هَلَكَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُعْتَبَرُ.
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ الزَّرْعَ أَوْ الثَّمَرَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ حَتَّى ضُمِّنَ أَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الْمُتْلِفِ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ وَأَدَّى عُشْرَهُ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَدَّى قَدْرَ عُشْرِ الْمُتْلَفِ مِنْ ضَمَانِهِ وَمَا بَقِيَ فَعُشْرُهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ أَكَلَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ قُدِّرَ عُشْرُ مَا أَتْلَفَ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ الْبَاقِي يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ وَالظُّهُورِ فَكَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ عُشْرَ الْمُتْلَفِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَلَا عُشْرَ فِي الْهَالِكِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ هَلَكَ كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ لَا يُضْمَنُ بِالْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا لَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي عِنْدَهُمَا بَلْ إنْ بَلَغَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا هَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ، أَوْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ، فَإِنْ هَلَكَ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَبَقِيَ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ، قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ نِصَابُ الْبَاقِي بِالْهَالِكِ، وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِي تَمَامِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ بَلْ يُعْتَبَرُ التَّمَامُ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَا فَلَا، وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ: فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَقَدْرُ عُشْرِ الْمُسْتَهْلَكِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَعُشْرُ الْبَاقِي فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أُخِذَ الضَّمَانُ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أُخِذَ ضَمَانُهُ وَأَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ وَعُشْرَ الْبَاقِي مِنْهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَكَلَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الثَّمَرِ، أَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَعُشْرُ مَا بَقِيَ يَكُونُ فِيهِ.
وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا أَكَلَ، أَوْ أَطْعَمَ بِالْمَعْرُوفِ لَا يَضْمَنُ عُشْرَهُ لَكِنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ الْكُلُّ نِصَابًا أَدَّى عُشْرَ مَا بَقِيَ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبُعَ».
وَرُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ أَبَا خَيْثَمَةَ خَارِصًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ زَادَ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ زِدْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَمَا يُصِيبُ الرِّيحُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ» وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَرِيَّةِ الصَّدَقَةُ أَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْخَرْصِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِي الْمَالِ عَرِيَّةً وَوَصِيَّةً فَلَوْ ضَمِنَ عُشْرَ مَا تَصَدَّقَ، أَوْ أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّخْفِيفُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ الْعُشْرِ وَفِيهِ حَرَجٌ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَفِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ ضَرَرٌ بِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي كُلِّ خَارِجٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي.
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَأْكُولِ أَفْضَلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ} فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُؤْكَلُ وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَازِمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الْقَطْعُ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ وَأُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مَأْكُولًا أَوَبَاقِيًا عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ إيتَاءُ حَقِّهِ يَوْمَ حَصَادِهِ لَكِنْ مَا حَقُّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ عَنْ الْبَاقِي فَحَسْبُ أَمْ عَنْ الْبَاقِي وَالْمَأْكُولِ؟ وَالْآيَةُ لَا تَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ لابد وَأَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ} فَائِدَةٌ، فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى مَا قُلْتُمْ وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ الْكَفَرَةِ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِجَعْلِهَا لِلْأَصْنَامِ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ} أَيْ انْتَفِعُوا بِهَا وَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالصَّرْفِ إلَى الْأَصْنَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهَا وَرَدَتْ قَبْلَ حَدِيثِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ رُكْنِ زكَاةِ الزروعِ والثمارِ:

وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ هَذَا النَّوْعِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ، أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَلَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ رَأْسًا مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَإِنَّنَا ذَكَرْنَاهَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَلَا مَعْنًى لِلْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا هَلَاكُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِمَا فِيهِ كَهَلَاكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَيُؤَدَّى عُشْرُ الْبَاقِي قَلَّ الْبَاقِي، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ قَدْرِ النِّصَابِ إنْ بَلَغَ نِصَابًا يُؤَدَّى وَإِلَّا فَلَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ قَدْرِ الْهَالِكِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أَخَذَ الضَّمَانَ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الضَّمَانِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ الْبَعْضُ بِأَنْ أَكَلَهُ ضِمْنَ عُشْرِ الْهَالِكِ وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ.
وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهَا مَوْتُ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ إذَا كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤَدَّى الْعُشْرُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ:

هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي.
بَيَانِ مَا فِيهِ الْخُمُسُ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا لَا خُمُسَ فِيهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ أَخْذِ الْخُمُسِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى كَنْزًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي يُسَمَّى مَعْدِنًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلْمَعْدِنِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِلْكَنْزِ مَجَازًا.
أَمَّا الْكَنْزُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَارِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَالْمُصْحَفِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَامَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهَا الصَّنَمُ، أَوْ الصَّلِيبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ لَا عَلَامَةَ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ كَالْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُغْنَمُ إلَّا أَنَّهُ مَالٌ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ كَالْمَعْدِنِ عَلَى مَا بُيِّنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ فِي زَمَانِنَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ مَالِ الْكَفَرَةِ بَلْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا بِوَضْعِ الْكَفَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَنْزِ فَقَالَ: فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ»، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَهُوَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا، أَوْ صَغِيرًا؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَاجِدٍ وَوَاجِدٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ؟ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَاَلَّذِي مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مَالُ الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ فَيُخَمَّسُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هِيَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ إنْ كَانَ حَيًّا وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إنْ عُرِفُوا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ وَلَا وَرَثَتُهُ تَكُون لِأَقْصَى مَالِكٍ لِلْأَرْضِ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ مَا وَصَلَتْ إلَيْهَا يَدُ الْغَانِمِينَ وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُ الْوَاجِدِ لَا غَيْرُ فَيَكُونُ غَنِيمَةً يُوجِبُ الْخُمُسَ، وَاخْتِصَاصُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ إنَّمَا مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا وُجِدَ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْغَانِمِينَ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ كَمَا وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَرَدَ عَلَى مَا فِيهَا فَمَلَكَ مَا فِيهَا وَبِالْبَيْعِ لَا يَزُولُ مَا فِيهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ زَوَالَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، وَالْبَيْعُ وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ لَا عَلَى مَا فِيهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا تَبَعًا لَهَا فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْخُطَّةِ وَكَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ وَصَارَ هَذَا كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً كَانَتْ ابْتَلَعَتْ لُؤْلُؤَةً، أَوْ اصْطَادَ طَائِرًا كَانَ قَدْ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً أَنَّهُ يَمْلِكُ الْكُلَّ، وَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ، أَوْ الطَّائِرَ لَا تَزُولُ اللُّؤْلُؤَةُ وَالْجَوْهَرَةُ عَنْ مِلْكِهِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى السَّمَكَةِ وَالطَّيْرِ دُونَ اللُّؤْلُؤَةِ وَالْجَوْهَرَةِ كَذَا هَذَا فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ إيَّاهُ الْأَرْضَ؟ وَالْإِمَامُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ جَوْرًا فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ الْجَوْرَ فِي الْقِسْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا الْأَرْضَ فَبَقِيَ الْكَنْزُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا رَقَبَةَ الْأَرْضِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْأَرْضَ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وُجُوبِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ حَتَّى يَسْقُطَ الْخُمُسُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَالثَّانِي أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُسَاوَاةِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْقِسْمَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ هَذَا إذَا وَجَدَ الْكَنْزَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلَا خُمُسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَخَذَهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِانْعِدَامِ غَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ الْكُلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ، أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ يَظْهَرُ فِي الْمَمْلُوكِ لَا فِي الْمُبَاحِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِبَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ لِتَمَكُّنِ خُبْثِ الْخِيَانَةِ فِيهِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ.
أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ.
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْ كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَلِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُولِ الْأَخْذِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، أَوْ فِي دَارِ نَفْسِهِ فَفِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ وَجَدَ فِيهِ الْمُؤْنَةَ وَهُوَ الْخُمُسُ لَمْ يَصِرْ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ.
وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ إلَيْهِ يَدُ الْخُصُوصِ وَهِيَ يَدُ الْمُخْتَطِّ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ كَالْمَعْدِنِ إلَّا أَنَّ الْمَعْدِنَ انْتَقَلَ بِالْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَالْكَنْزُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَالدُّرَّةَ لِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا فَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ الدُّرَّةُ فِي الْبَيْعِ كَذَا هاهنا وَالْمُخْتَطُّ لَهُ مَنْ خَصَّهُ الْإِمَامُ بِتَمْلِيكِ الْبُقْعَةِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ لَهُ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا إذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا الْمَعْدِنُ فَالْخَارِجُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: مُسْتَجْسِدٌ وَمَائِعٌ، وَالْمُسْتَجْسِدُ مِنْهُ نَوْعَانِ أَيْضًا: نَوْعٌ يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَوْعٌ لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْكُحْلِ وَالْمَغْرَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَائِعُ نَوْعٌ آخَرُ كَالنَّفْطِ وَالْقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَالْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إلَّا الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فَإِنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ الْكُلُّ إلَّا إذَا قَاطَعَهُ الْإِمَامُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ حَتَّى شَرَطَ فِيهِ النِّصَابَ فَلَمْ يُوجِبْ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَشَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْحَوْلَ أَيْضًا.
وَأَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوَاجِبُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ فِي الْكُلِّ لَا يُشْتَرَطُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَرَائِطُ الزَّكَاةِ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا فِي الْغَنَائِمِ.
وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَلَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَلِيلَةَ وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا رُبُعَ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا الْعُشْرُ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِرُبُعِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْكَنْزِ مَجَازًا لِدَلَائِلَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَمَا فِي الْمَعْدِنِ هُوَ الْمُثَبَّتُ فِي الْأَرْضِ لَا الْكَنْزُ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مُجَاوِرًا لِلْأَرْضِ، وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ الْكَنْزِ الْعَادِيِّ، فَقَالَ: فِيهِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» عَطَفَ الرِّكَازَ عَلَى الْكَنْزِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَعْدِنُ، وَالثَّالِثُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: «الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْقَلِيبُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قِيلَ: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً فَقَدْ، أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْخُمُسُ فِي الْكُلِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ زَالَتْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْجِبَالِ، وَالْمَفَاوِزِ فَبَقِيَ مَا تِحَتَهَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ كَمَا فِي الْكَنْزِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى رُبُعِ الْعُشْرِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَاجَتِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ.
وَأَمَّا مَا لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّ الزِّرْنِيخَ، وَالْجِصَّ، وَالنُّورَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَكَانَ كَالتُّرَابِ، وَالْيَاقُوتَ، وَالْفُصُوصَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهَا أَحْجَارٌ مُضِيئَةٌ وَلَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ.
وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ، وَالنَّفْطِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيَكُونُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ.
وَأَمَّا الزِّئْبَقُ فَفِيهِ الْخُمُسُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا خُمُسَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الزِّئْبَقِ فَقَالَ: لَا خُمُسَ فِيهِ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ مِثْلُ الرَّصَاصِ، وَالْحَدِيدِ ثُمَّ بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِيرِ، وَالنَّفْطِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْمَاءَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ إنْ كَانَ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْفِضَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ بِنَفْسِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ تَنْطَبِعُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ يُخَالِطُهَا مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ آنُكِ وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَذَا هَذَا إذَا وُجِدَ الْمَعْدِنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ دَارٍ، أَوْ مَنْزِلٍ، أَوْ حَانُوتٍ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ وَحْدَهُ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ تَوَابِعِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ فِيهَا وَمِنْهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؟ فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُخْتَطُّ لَهُ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ مَلَكَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَتَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِتَوَابِعِهَا أَيْضًا بِخِلَافِ الْكَنْزِ عَلَى مَا مَرَّ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا خُمُسَ فِيهِ فِي الدَّارِ وَفِي الْأَرْضِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ وَذَكَرَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ فِي الْأَرْضِ، وَالدَّارِ جَمِيعًا إذَا كَانَ الْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَلَكَ الْأَرْضَ مِنْ مِلْكِهِ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَعْدِنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ، وَالْإِمَامُ مَلَكَهُ مُطْلَقًا عَنْ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ كَذَلِكَ وَلِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ الْكُلُّ لِلْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ مَعَ الْخُمُسِ إذَا عُلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْدَفِعُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ جَازَ؟ وَإِذَا مَلَكَهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ مُطْلَقًا عَنْ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ.
وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّارِ، وَالْأَرْضِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ تَمْلِيكَ الْإِمَامِ الدَّارَ جُعِلَ مُطْلَقًا عَنْ الْحُقُوقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَلَا الْخَرَاجُ؟ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ تَمْلِيكَهَا وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِهَا الْعُشْرُ، أَوْ الْخَرَاجُ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْخُمُسُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، هَذَا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ رُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ كَمَا فِي الْكَنْزِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ.
فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُلِّ حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ لِلْوَاجِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ وُجِدَتْ، مَا فِيهَا قَالَ: فِيهَا الْخُمُسُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعْدِنِ فَكَذَا فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِجَمْعِهِمَا وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ مَالًا مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ إذْ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ انْتَزَعْنَاهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَلِأَنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ، وَالْعَنْبَرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إنْ اسْتَخْرَجَ مِنْ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا.
وَقِيلَ فِي الْعَنْبَرِ: إنَّهُ مَائِعٌ نَبَعَ فَأَشْبَهَ الْقِيرَ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَوْثٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَرْوَاثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي اللُّؤْلُؤِ، وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ مَالًا مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ، وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَبَيَانُ مَصَارِفِ الْخُمُسِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ السِّيَرِ وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ بِأَنْ كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ الْخُمُسِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْخُمُسَ لِلْوَاجِدِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا.
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ جَازَ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَانِيًا بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ، وَالْعُشْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.