فصل: الْبَابُ الْخَامِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْبَابُ الْخَامِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ:

وَأَمَّا كَيْفَ يَقْضِي الْقَاضِي، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ وَأَلَّا يَسْمَعَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَأَنْ يَبْدَأَ بِالْمُدَّعِي فَيَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ إِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ قَتْلٍ وَجَبَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبُ إِلَّا مَعَ شَاهِدٍ. وَإِذَا كَانَ فِي الْمَالِ فَهَلْ يُحَلِّفُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَفْسِ الدَّعْوَى أَمْ لَا يُحَلِّفُهُ حَتَّى يُثْبِتَ الْمُدَّعِي الْخُلْطَةَ؟
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: الْيَمِينُ تَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَفْسِ الدَّعْوَى لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبُ الْيَمِينُ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ، وَقَالَ بِهَا السَّبْعَةُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ. وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ بِهَا النَّظَرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ لِكَيْلَا يَتَطَرَّقَ النَّاسُ بِالدَّعَاوِي إِلَى تَعْنِيتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِذَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمِنْ هُنَا لَمْ يَرَ مَالِكٌ إِحْلَافَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا إِذَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا شَاهِدٌ، وَكَذَلِكَ إِحْلَافُ الْعَبْدِ سَيِّدَهُ فِي دَعْوَى الْعِتْقِ عَلَيْهِ. وَالدَّعْوَى لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ: فَإِنْ كَانَتِ الذِّمَّةُ فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ مِنْ تِلْكَ الدَّعْوَى وَأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً سُمِعَتْ مِنْهُ بَيِّنَتُهُ بِاتِّفَاقٍ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اخْتِلَافٌ فِي عَقْدٍ وَقَعَ فِي عَيْنٍ مِثْلِ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي عَيْنٍ {وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى اسْتِحْقَاقًا}، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا فِي النِّكَاحِ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تُسْمَعُ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تُسْمَعُ (أَعْنِي: فِي أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مَالٌ لَهُ وَمِلْكٌ). فَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ لَا تُسْمَعُ، أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ فِي حَيِّزِ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ فِي حَيِّزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقَلِبَ الْأَمْرُ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عِبَادَةً.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ تُفِيدُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ مَوْجُودًا بِيَدِهِ، أَمْ لَيْسَتْ تُفِيدُ ذَلِكَ؟
فَمَنْ قَالَ: لَا تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا، قَالَ: لَا مَعْنَى لَهَا، وَمَنْ قَالَ: تُفِيدُ اعْتَبَرَهَا. فَإِذَا قُلْنَا بِاعْتِبَارِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَمْ تُثْبِتْ إِحْدَاهُمَا أَمْرًا زَائِدًا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي مِلْكِ ذِي الْمِلْكِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْضِيَ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَا يَعْتَبِرَ الْأَكْثَرَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى عَلَى أَصْلِهِ وَلَا تَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بِالْعَدَالَةِ كَمَا لَا تَتَرَجَّحُ عِنْدَ مَالِكٍ بِالْعَدَدِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَتَرَجَّحُ بِالْعَدَدِ وَإِذَا تَسَاوَتْ فِي الْعَدَالَةِ فَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْبَيِّنَةِ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَوَجَبَ الْحَقُّ، لِأَنَّ يَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَاهِدَةٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ دَلِيلَهُ أَضْعَفَ الدَّلِيلَيْنِ (أَعْنِي: الْيَمِينَ).
وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ عَيْنًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى مُدَّعِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَالًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ يُكَلِّفُ الْمُقِرَّ غُرْمَهُ فَإِنِ ادَّعَى الْعُدْمَ حَبَسَهُ الْقَاضِي عِنْدَ مَالِكٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ عُدْمُهُ إِمَّا بِطُولِ السِّجْنِ أَوَبِالْبِينَةِ إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فَإِذَا لَاحَ عُسْرُهُ خَلَّى سَبِيلَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَقَالَ قَوْمٌ: يُؤَاجِرُهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِغُرَمَائِهِ أَنْ يَدُورُوا مَعَهُ حَيْثُ دَارَ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا جَرَحَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ يَسْقُطُ إِذَا كَانَ التَّجْرِيحُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْتَقِضْ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْتَقِضُ.
وَأَمَّا إِنْ رَجَعَتِ الْبَيِّنَةُ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَثْبُتُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا بِشَهَادَتِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مَالًا ضَمِنُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَضْمَنُونَ فِي الْغَلَطِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضْمَنُونَ الْمَالَ. وَإِنْ كَانَ دَمًا فَإِنِ ادَّعَوُا الْغَلَطَ ضَمِنُوا الدِّيَةَ، وَإِنْ أَقَرُّوا أُقِيدَ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ، وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.

.الْبَابُ السَّادِسُ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ:

وَأَمَّا مَتَى يَقْضِي؟
فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ الْقَاضِي فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ وَفَصْلِهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ تَوْقِيفِ الْمُدَّعَى فِيهِ وَإِزَالَةِ الْيَدِ عَنْهُ إِذَا كَانَ عَيْنًا. فَأَمَّا مَتَى يَقْضِي الْقَاضِي؟
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْغُولَ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»، وَمِثْلُ هَذَا عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ عَطْشَانَ أَوْ جَائِعًا أَوْ خَائِفًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنِ الْفَهْمِ، لَكِنْ إِذَا قَضَى فِي حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِالصَّوَابِ، فَاتَّفَقُوا فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْفُذُ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَهُوَ الْغَضْبَانُ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا مَتَى يَنْفُذُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَبَعْدَ ضَرْبِ الْأَجَلِ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِ، (وَمَعْنَى نُفُوذِ هَذَا: هُوَ أَنْ يُحِقَّ حُجَّةَ الْمُدَّعِي أَوْ يَدْحَضَهَا). وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ حُجَّةً بَعْدَ الْحُكْمِ؟
فِيهِ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ يَسْمَعُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ مِثْلَ الْإِحْبَاسِ وَالْعِتْقِ وَلَا يَسْمَعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى التَّعْجِيزَ، قِيلَ: لَا يَسْمَعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا إِذَا أَقَرَّ بِالْعَجْزِ.
وَأَمَّا وَقْتُ التَّوْقِيفِ فى القضاء فَهُوَ عِنْدَ الثُّبُوتِ وَقَبْلَ الْإِعْذَارِ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يُرِدِ الَّذِي اسْتُحِقَّ الشَّيْءُ مِنْ يَدِهِ أَنْ يُخَاصِمَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ فِي رُجُوعِهِ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَيْهِ فَيُثْبِتَ شِرَاءَهُ مِنْهُ إِنْ أَنْكَرَهُ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِهِ إِنْ أَقَرَّهُ فَلِلْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْءَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ وَيَتْرُكَ قِيمَتَهُ بِيَدِ الْمُسْتَحِقِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَشْتَرِيهِ مِنْهُ، فَإِنْ عَطِبَ فِي يَدِ الْمُسْتَحِقِّ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ. وَإِنْ عَطِبَ فِي أَثْنَاءِ الْحُكْمِ: مِمَّنْ ضَمَانُهُ؟
اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنْ عَطِبَ بَعْدَ الثَّبَاتِ فَضَمَانُهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا بَعْدَ الثَّبْتِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قَسَمٌ يَقْضِي بِهِ الْحُكَّامُ، وَجُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَقِسْمٌ لَا يَقْضِي بِهِ الْحُكَّامُ، وَهَذَا أَكْثَرُهُ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْأَحْكَامِ هُوَ مِثْلُ رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَاخِرِ كُتُبِهِمُ الَّتِي يُعَرِّفُونَهَا بِالْجَوَامِعِ. وَنَحْنُ فَقَدَ رَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الْمَشْهُورَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا يَنْبَغِي قَبْلَ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ الْعَمَلِيَّةَ أقسامها الْمَقْصُودُ مِنْهَا هُوَ الْفَضَائِلُ النَّفْسَانِيَّةُ. فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ مَنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَشُكْرِ مَنْ يَجِبُ شُكْرُهُ، وَفِي هَذَا الْجِنْسِ تَدْخُلُ الْعِبَادَاتُ، وَهَذِهِ هِيَ السُّنَنُ الْكَرَامِيَّةُ. وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْفَضِيلَةِ الَّتِي تُسَمَّى عِفَّةً وَهَذِهِ صِنْفَانِ: السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَالسُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْمَنَاكِحِ. وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ الْعَدْلِ وَالْكَفِّ عَنِ الْجَوْرِ. فَهَذِهِ هِيَ أَجْنَاسُ السُّنَنِ الَّتِي تَقْتَضِي الْعَدْلَ فِي الْأَمْوَالِ، وَالَّتِي تَقْتَضِي الْعَدْلَ فِي الْأَبْدَانِ، وَفِي هَذَا الْجِنْسِ يَدْخُلُ الْقِصَاصُ وَالْحُرُوبُ وَالْعُقُوبَاتُ، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا إِنَّمَا يُطْلَبُ بِهَا الْعَدْلُ. وَمِنْهَا السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَعْرَاضِ. وَمِنْهَا السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ وَتَقْوِيمِهَا، وَهِيَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا طَلَبُ الْفَضِيلَةِ الَّتِي تُسَمَّى السَّخَاءَ، وَتَجَنُّبُ الرَّذِيلَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْبُخْلَ. وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ، وَتَدْخُلُ أَيْضًا فِي بَابِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الصَّدَقَاتِ. وَمِنْهَا سُنَنٌ وَارِدَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَحَفِظِ فَضَائِلِهِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرِّيَاسَةِ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ سُنَنَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُوَّامِ بِالدِّينِ. وَمِنَ السُّنَّةِ الْمُهِمَّةِ فِي حِينِ الِاجْتِمَاعِ السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ السُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى: النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ وَالْبِغْضَةُ (أَيِ: الدِّينِيَّةُ) الَّتِي تَكُونُ إِمَّا مِنْ قِبَلِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ السُّنَنِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ سُوءِ الْمُعْتَقَدِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَكْثَرُ مَا يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجَوَامِعِ مِنْ كُتُبِهِمْ مَا شَذَّ عَنِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ فَضِيلَةُ الْعِفَّةِ، وَفَضِيلَةُ الْعَدْلِ، وَفَضِيلَةُ الشَّجَاعَةِ، وَفَضِيلَةُ السَّخَاءِ، وَالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ كَالشُّرُوطِ فِي تَثْبِيتِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ. كَمُلَ كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ، وَبِكَمَالِهِ كَمُلَ جَمِيعُ الدِّيوَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ.