فصل: كِتَابُ الصُّلْحِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الصُّلْحِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ: «إِمْضَاءُ الصُّلْحِ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا». وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ: فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ عَلَى الْإِنْكَارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ عَلَى الْإِنْكَارِ، لِأَنَّهُ مَنْ أَكَلَ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَالْمَالِكِيَّةُ تَقُولُ فِيهِ عِوَضٌ، وَهُوَ سُقُوطُ الْخُصُومَةِ وَانْدِفَاعُ الْيَمِينِ عَنْهُ. وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الْإِقْرَارِ يُرَاعَى فِي صِحَّتِهِ مَا يُرَاعَى فِي الْبُيُوعِ، فَيُفْسَدُ بِمَا تَفْسَدُ بِهِ الْبُيُوعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ الْخَاصِّ بِالْبُيُوعِ، وَيَصِحُّ بِصِحَّتِهِ، وَهَذَا هُوَ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ فَيُصَالِحُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِدَنَانِيرَ نَسِيئَةً، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ مِنْ قِبَلِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ.
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ: فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا يُرَاعَى فِي الْبُيُوعِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ فَيُنْكِرُ، ثُمَّ يُصَالِحُهُ عَلَيْهَا بِدَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ فِيهِ مِنَ الطَّرَفِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ، لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ أَخَذَ دَنَانِيرَ نَسِيئَةً فِي دَرَاهِمَ حَلَّتْ لَهُ.
وَأَمَّا الدَّافِعُ فَيَقُولُ: هِيَ هِبَةٌ مِنِّي.
وَأَمَّا إِنِ ارْتَفَعَ الْمَكْرُوهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ فَيُنْكِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ يَصْطَلِحَانِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ قَبِلَهُ إِلَى أَجَلٍ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ مَكْرُوهٌ. أَمَّا كَرَاهِيَتُهُ: فَمَخَافَةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادِقًا، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ أَنْظَرَ صَاحِبَهُ لِإِنْظَارِ الْآخَرِ إِيَّاهُ، فَيَدْخُلُهُ أَسْلِفْنِي، وَأُسْلِفْكَ.
وَأَمَّا وَجْهُ جَوَازِهِ: فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ إِنَّمَا هُوَ تَبَرُّعٌ مِنِّي، وَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَهَذَا النَّحْوُ مِنَ الْبُيُوعِ قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا وَقَعَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُفْسَخُ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ أَثَرُ عَقْدِهِ، فَإِنْ طَالَ مَضَى. فَالصُّلْحُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صُلْحٌ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ، وَصُلْحٌ يُفْسَخُ بِاخْتِلَافٍ، وَصُلْحٌ لَا يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ إِنْ طَالَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ فِيهِ اخْتِلَافٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَوْعِهَا وَفِي وَقْتِهَا، وَفِي الْحُكْمِ اللَّازِمِ عَنْهَا، وَفِي شُرُوطِهَا، وَفِي صِفَةِ لُزُومِهَا، وَفِي مَحِلِّهَا. وَلَهَا أَسْمَاءٌ: كَفَالَةٌ، وَحَمَالَةٌ، وَضَمَانَةٌ، وَزَعَامَةٌ. فَأَمَّا أَنْوَاعُهَا: فَنَوْعَانِ: حَمَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَحَمَالَةٌ بِالْمَالِ. أَمَّا الْحَمَالَةُ بِالْمَالِ: فَثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَمُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً تَشْبِيهًا بِالْعِدَّةِ وَهُوَ شَاذٌّ. وَالسُّنَّةُ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ».
وَأَمَّا الْحَمَالَةُ بِالنَّفْسِ (وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ بِضَمَانِ الْوَجْهِ): فَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا شَرْعًا إِذَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْمَالِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَحُجَّتُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يُوسُفَ: 79]. وَلِأَنَّهَا كَفَالَةٌ بِنَفْسٍ، فَأَشْبَهَتِ الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَهَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ». وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ اللَّازِمُ عَنْهَا الكفالة: فَجُمْهُورُ الْقَائِلِينَ بِحَمَالَةِ النَّفْسِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَمَّلَ عَنْهُ إِذَا مَاتَ لَمْ يَلْزَمِ الْكَفِيلَ بِالْوَجْهِ شَيْءٌ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لُزُومُ ذَلِكَ. وَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَقَالَ: إِنْ مَاتَ حَاضِرًا لَمْ يَلْزَمِ الْكَفِيلَ شَيْءٌ، وَإِنْ مَاتَ غَائِبًا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةً يُمْكِنُ الْحَمِيلَ فِيهَا إِحْضَارُهُ فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهُ فِي إِحْضَارِهِ (وَذَلِكَ فِي نَحْوِ الْيَوْمَيْنِ إِلَى الثَّلَاثَةِ)، فَفَرَّطَ: غَرِمَ، وَإِلَّا لَمْ يَغْرَمْ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا غَابَ الْمُتَحَمَّلُ عَنْهُ مَا حُكْمُ الْحَمِيلِ بِالْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْضِرَهُ أَوْ يَغْرَمَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَحْبِسُ الْحَمِيلَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَوْ يَعْلَمَ مَوْتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إِذَا عَلِمَ مَوْضِعَهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُكَلَّفَ إِحْضَارَهُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى إِحْضَارِهِ، فَإِنِ ادَّعَى الطَّالِبُ مَعْرِفَةَ مَوْضِعِهِ عَلَى الْحَمِيلِ، وَأَنْكَرَ الْحَمِيلُ؛ كُلِّفَ الطَّالِبُ بَيَانَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلَا يُحْبَسُ الْحَمِيلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُتَحَمَّلُ عَنْهُ مَعْلُومَ الْمَوْضِعِ، فَيُكَلَّفُ حِينَئِذٍ إِحْضَارَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْفِقْهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَاخْتَارَهُ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُتَحَمِّلَ بِالْوَجْهِ غَارِمٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ إِذَا غَابَ، وَرُبَّمَا احْتَجَّ لَهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ غَرِيمَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَوْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا، فَلَمْ يَقْدِرْ حَتَّى حَاكَمَهُ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَحَمَّلَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ إِلَيْهِ». قَالُوا: فَهَذَا غُرْمٌ فِي الْحَمَالَةِ الْمُطْلَقَةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَقَالُوا: إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُ مَا تَحَمَّلَ بِهِ وَهُوَ النَّفْسُ، فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُعَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْمَالِ إِلَّا لَوْ شَرَطَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ». فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُحْضِرَهُ أَوْ يُحْبَسَ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا ضَمِنَ الْمَالَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُحْضِرَ الْمَالَ، أَوْ يُحْبَسَ فِيهِ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي ضَمَانِ الْوَجْهِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ إِحْضَارُهُ إِذَا كَانَ إِحْضَارُهُ لَهُ مِمَّا يُمْكِنُ، وَحِينَئِذٍ يُحْبَسُ إِذَا لَمْ يُحْضِرْهُ، وَأَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ إِحْضَارَهُ لَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ كَمَا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ. قَالُوا: وَمِنْ ضَمِنَ الْوَجْهَ فَأُغْرِمَ الْمَالَ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ مَغْرُورًا مِنْ أَنْ يَكُونَ غَارًّا. فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ الْوَجْهَ دُونَ الْمَالِ وَصَرَّحَ بِالشَّرْطِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فِيمَا أَحْسَبُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ قَدْ أَلْزَمَ ضِدَّ مَا اشْتَرَطَ، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ ضَمَانِ الْوَجْهِ.
وَأَمَّا حُكْمُ ضَمَانِ الْمَالِ في الكفالة: فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَدِمَ الْمَضْمُونُ أَوْ غَابَ أَنَّ الضَّامِنَ غَارِمٌ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا حَضَرَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ وَكِلَاهُمَا مُوسِرٌ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُمَا، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لِلطَّالِبِ أَنْ يُؤَاخِذَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْكَفِيلِ، أَوِ الْمَكْفُولِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ مَعَ وُجُودِ الْمُتَكَفَّلِ عَنْهُ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْحَمَالَةُ، وَالْكَفَالَةُ وَاحِدَةٌ، وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ مَالًا لَزِمَهُ وَبَرِئَ الْمَضْمُونُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالَ وَاحِدٍ عَلَى اثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِمَا رَأَى أَنَّ الطَّالِبَ يَجُوزُ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ، كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ غَائِبًا، أَوْ حَاضِرًا، غَنِيًّا، أَوْ عَدِيمًا: حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِيِّ قَالَ: «تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: تُخْرِجُهَا عَنْكَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ، وَذَكَرَ رَجُلًا تَحَمَّلَ حَمَالَةَ رَجُلٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا». وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ الْمَسْأَلَةَ لِلْمُتَحَمِّلِ دُونَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمُتَحَمَّلِ عَنْهُ.
وَأَمَّا مَحِلُّ الْكَفَالَةِ: فَهِيَ الْأَمْوَالُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» (أَعْنِي: كَفَالَةَ الْمَالِ وَكَفَالَةَ الْوَجْهِ)، وَسَوَاءٌ تَعَلَّقَتِ الْأَمْوَالُ مِنْ قِبَلِ أَمْوَالٍ، أَوْ مِنْ قِبَلِ حُدُودٍ، مِثْلُ الْمَالِ الْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، أَوِ الصُّلْحِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، أَوِ السَّرِقَةِ الَّتِي لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهَا قَطْعٌ، وَهِيَ مَا دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِجَازَةُ الْكَفَالَةِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، أَوْ فِي الْقِصَاصِ دُونَ الْحُدُودِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ (أَعْنِي كَفَالَةَ النَّفْسِ).
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ (أَعْنِي مُطَالَبَتَهُ بِالْكَفِيلِ): فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَى الْمَكْفُولِ إِمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ.
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الْكَفَالَةِ بِالْوَجْهِ: فَاخْتَلَفُوا هَلْ تَلْزَمُ قَبْلَ إِثْبَاتِ الْحَقِّ أَمْ لَا؟
فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَا تَلْزَمُ قَبْلَ إِثْبَاتِ الْحَقِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَجِبُ أَخْذُ الْكَفِيلِ بِالْوَجْهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا مَتَى يَلْزَمُ ذَلِكَ؟
وَإِلَى كَمْ مِنَ الْمُدَّةِ يَلْزَمُ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ مِثْلِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَ ضَامِنًا بِوَجْهِهِ حَتَّى يَلُوحَ حَقُّهُ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفِيلُ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ، فَيُعْطِيهِ حَمِيلًا مِنَ الْخَمْسَةِ الْأَيَّامِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ حَمِيلٌ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَدُّوا ذَلِكَ بِالثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ: مَنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا حَتَّى يُثْبِتَ دَعْوَاهُ أَوْ تَبْطُلَ، وَقَدْ أَنْكَرُوا الْفَرْقَ فِي ذَلِكَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الَّذِي يَدَّعِي الْبَيِّنَةَ الْحَاضِرَةَ وَالْغَائِبَةَ، وَقَالُوا: لَا يُؤْخَذُ حَمِيلٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَذَلِكَ إِلَى بَيَانِ صِدْقِ دَعْوَاهُ أَوْ إِبْطَالِهَا. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَعَارُضُ وَجْهِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ ضَامِنٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَغِيبَ بِوَجْهِهِ فَيَعْنَتَ طَالِبُهُ، وَإِذَا أُخِذَ عَلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بَاطِلَةً فَيَعْنَتَ الْمَطْلُوبُ، وَلِهَذَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ دَعْوَى الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْغَائِبَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مَعَهُمْ ظَهْرٌ، فَصَحِبَهُمْ رَجُلَانِ فَبَاتَا مَعَهُمْ، فَأَصْبَحَ الْقَوْمُ وَقَدْ فَقَدُوا كَذَا وَكَذَا مِنْ إِبِلِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: اذْهَبْ وَاطْلُبْ، وَحَبَسَ الْآخَرَ، فَجَاءَ بِمَا ذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، قَالَ: وَأَنْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَقَتَلَكَ فِي سَبِيلِهِ» خَرَّجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ بِالْفِقْهِ، قَالَ: وَحَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَبْسًا قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَبْسُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدِي مِنْ بَابِ الْكَفَالَةِ بِالْحَقِّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ إِذَا كَانَتْ هُنَالِكَ شُبْهَةٌ لِمَكَانِ صُحْبَتِهِمَا لَهُمْ. فَأَمَّا أَصْنَافُ الْمَضْمُونِينَ: فَلَيْسَ يَلْحَقُ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِدَيْنِهِ، فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْلُومٍ قَطْعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُفْلِسُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يُضْمَنَ عَنْهُ». وَالْجُمْهُورُ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ كَفَالَةُ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْكَفَالَةِ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ يَشْتَرِطَانِ فِي وُجُوبِ رُجُوعِ الضَّامِنِ عَلَى الْمَضْمُونِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِإِذْنِهِ، وَمَالِكٌ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ. وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَفَالَةُ الْمَجْهُولِ، وَلَا الْحَقُّ الَّذِي لَمْ يَجِبْ بَعْدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ وَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا مَا تَجُوزُ فِيهِ الْحَمَالَةُ بِالْمَالِ مِمَّا لَا تَجُوزُ: فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ بِكُلِّ مَالٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ إِلَّا الْكِتَابَةَ، وَمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْخِيرُ، وَمَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَشَيْئًا مِثْلَ النَّفَقَاتِ عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَمَا شَاكَلَهَا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْحَوَالَةِ:

وَالْحَوَالَةُ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى غَنِيٍّ فَلْيَسْتَحِلْ». وَالنَّظَرُ فِي شُرُوطِهَا وَفِي حُكْمِهَا الحوالة. فَمِنَ الشُّرُوطِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبَارِ رِضَا الْمُحَالِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَبَرَ رِضَا الْمُحَالِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَالِكٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَبَرَ رِضَاهُمَا مَعًا، مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْمُحَالِ، وَاعْتَبَرَ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَقِيضُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ. فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مُعَامَلَةٌ اعْتَبَرَ رِضَا الصِّنْفَيْنِ، وَمَنْ أَنْزَلَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَالِ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْمُحِيلِ لَمْ يَعْتَبِرْ رِضَاهُ مَعَهُ كَمَا لَا يَعْتَبِرُهُ مَعَ الْمُحِيلِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ حَقَّهُ وَلَمْ يُحِلْ عَلَيْهِ أَحَدًا.
وَأَمَّا دَاوُدُ: فَحُجَّتُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ». وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبَقِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَصْلِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ اعْتِبَارِ رِضَاهُ. وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اتُّفِقَ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ: كَوْنُ مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُجَانِسًا لِمَا عَلَى الْمُحِيلِ قَدْرًا وَوَصْفًا، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا فِي الذَّهَبِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، وَمَنَعَهَا فِي الطَّعَامِ، وَالَّذِينَ مَنَعُوهَا فِي ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّهَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، لِأَنَّهُ بَاعَ الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى غَرِيمِهِ بِالطَّعَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ غَرِيمِهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ إِذَا كَانَ الطَّعَامَانِ كِلَاهُمَا مِنْ قَرْضٍ إِذَا كَانَ دَيْنُ الْمُحَالِ حَالًّا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ سَلَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ حَالَّيْنِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ حَالًّا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ كَالْبَيْعِ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَقْرِضِ. وَإِنَّمَا رَخَّصَ مَالِكٌ فِي الْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الْقَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَجَازَ الْحَوَالَةُ بِالطَّعَامِ، وَشَبَّهَهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَجَعَلَهَا خَارِجَةً عَنِ الْأُصُولِ كَخُرُوجِ الْحَوَالَةِ بِالدَّرَاهِمِ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا شَذَّ عَنِ الْأُصُولِ هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلِلْحَوَالَةِ عِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَيْنُ الْمُحَالِ حَالًّا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَالًّا كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي يُحِيلُهُ بِهِ مِثْلَ الَّذِي يُحِيلُهُ عَلَيْهِ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَحَدِهِمَا كَانَ بَيْعًا وَلَمْ يَكُنْ حَوَالَةً، فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ إِلَى بَابِ الْبَيْعِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ دَخَلَهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّيْنُ طَعَامًا مِنْ سَلَمٍ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَحُلَّ الدَّيْنُ الْمُسْتَحَالُّ بِهِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِذَا كَانَ الطَّعَامَانِ جَمِيعًا مِنْ سَلَمٍ فَلَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، حَلَّتِ الْآجَالُ أَوْ لَمْ تَحِلَّ، أَوْ حَلَّ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَحِلَّ الْآخَرُ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى كَمَا قُلْنَا. لَكِنَّ أَشْهَبَ يَقُولُ: إِنِ اسْتَوَتْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمَا جَازَتِ الْحَوَالَةُ وَكَانَتْ تَوْلِيَةً. وَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَقُولُ ذَلِكَ كَالْحَالِ إِذَا اخْتَلَفَتْ، وَيَتَنَزَّلُ الْمُحَالُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ مَنْزِلَةَ مَنْ أَحَالَهُ، وَمَنْزِلَتَهُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي أَحَالَهُ بِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَهُ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَهُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ الَّذِي أَحَالَهُ وَمَا يَجُوزُ لِلَّذِي أَحَالَ مَعَ الَّذِي أَحَالَهُ عَلَيْهِ). وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِنِ احْتَالَ بِطَعَامٍ كَانَ لَهُ مِنْ قَرْضٍ فِي طَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ بِطَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ فِي طَعَامٍ مِنْ قَرْضٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ احْتَالَ بِطَعَامٍ كَانَ مِنْ قَرْضٍ فِي طَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ: نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُحِيلِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَا عَلَى غَرِيمِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِكَوْنِهِ طَعَامًا مِنْ بَيْعٍ، وَإِنْ كَانَ احْتَالَ بِطَعَامٍ مِنْ سَلَمٍ فِي طَعَامٍ مِنْ قَرْضٍ: نَزَلَ مِنَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَنْزِلَتَهُ مَعَ مَنْ أَحَالَهُ (أَعْنِي: أَنَّهُ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ عَلَى غَرِيمِهِ الْمُحِيلِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الطَّعَامَ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ)، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْفُرُوقِ ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا أَحْكَامُهَا: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ ضِدُّ الْحَمَالَةِ فِي أَنَّهُ إِذَا أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ. قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ غَرَّهُ فَأَحَالَهُ عَلَى عَدِيمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحِيلِ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، أَوْ جَحَدَ الْحَوَالَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُشَابَهَةُ الْحَوَالَةِ لِلْحَمَالَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْوَكَالَةِ:

وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّوْكِيلُ، وَفِي الْمُوَكَّلِ.
وَالثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ.
وَالثَّالِثُ: فِي مُخَالَفَةِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا:

وَهِيَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّوْكِيلُ، وَفِي الْمُوَكِّلِ، وَفِي الْمُوَكَّلِ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ:
فِي الْمُوَكِّلِ من أركان الوكالة:
وَاتَّفَقُوا عَلَى وَكَالَةِ الْغَائِبِ، وَالْمَرِيضِ، وَالْمَرْأَةِ الْمَالِكَيْنِ لِأُمُورِ أَنْفُسِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَكَالَةِ الْحَاضِرِ الذَّكَرِ الصَّحِيحِ، فَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ وَكَالَةُ الْحَاضِرِ الصَّحِيحِ الذَّكَرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ وَكَالَةُ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ وَلَا الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْأَصْلَ: لَا يَنُوبُ فِعْلُ الْغَيْرِ عَنْ فِعْلِ الْغَيْرِ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ قَالَ: لَا تَجُوزُ نِيَابَةُ مَنِ اخْتُلِفَ فِي نِيَابَتِهِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَوَازُ قَالَ: الْوَكَالَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزَةٌ إِلَّا فِيمَا أُجْمِعُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا.
الرُّكْنُ الثَّانِي:
فِي الْوَكِيلِ من أركان الوكالة:
وَشُرُوطُ الْوَكِيلِ: أَنْ لَا يَكُونَ مَمْنُوعًا بِالشَّرْعِ مِنْ تَصَرُّفِهِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ، وَلَا الْمَجْنُونِ، وَلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا بِمُبَاشَرَةٍ، وَلَا بِوَاسِطَةٍ (أَيْ: بِأَنْ تُوَكِّلَ هِيَ مَنْ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ)، وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ بِالْوَاسِطَةِ الذَّكَرُ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ:
فِيمَا فِيهِ التَّوْكِيلُ:
وَشَرْطُ مَحِلِّ التَّوْكِيلِ: أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنِّيَابَةِ الموكل فيه مِثْلَ الْبَيْعِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، والْفُسُوخِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْمُصَارَفَةِ، وَالْمُجَاعَلَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ. وَلَا تَجُوزُ فِي الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ، وَتَجُوزُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَتَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَجُوزُ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ وَالْأَيْمَانِ. وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ الْحُضُورِ قَوْلَانِ. وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْوَكَالَةَ تَجُوزُ عَلَى الْإِقْرَارِ اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُومَةِ هَلْ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَضَمَّنُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَضَمَّنُ.
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: [فِي الْوَكَالَةِ]:
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَهِيَ عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ بَلِ الْجَائِزَةُ عَلَى مَا نَقُولُهُ فِي أَحْكَامِ هَذَا الْعَقْدِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ عِنْدَ مَالِكٍ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَهُ بِالتَّوْكِيلِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يُسَمَّى فِيهِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ سُمِّيَ عِنْدَهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالتَّعْمِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالتَّعْمِيمِ أنواع الوكالة وَهِيَ غَرَرٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْهَا مَا سُمِّيَ وَحُدِّدَ وَنُصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَقْيَسُ إِذْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْمَنْعَ، إِلَّا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ:

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَمِنْهَا أَحْكَامُ الْعَقْدِ في الوكالة، وَمِنْهَا أَحْكَامُ فِعْلِ الْوَكِيلِ. فَأَمَّا هَذَا الْعَقْدُ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدَعَ الْوَكَالَةَ مَتَى شَاءَ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ حُضُورَ الْمُوَكَّلِ، وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَهُ مَتَى شَاءَ. قَالُوا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَكَالَةً فِي خُصُومَةٍ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُشْرِفْ عَلَى تَمَامِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَكِّلُ. وَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ حُضُورُ الْخَصْمِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ إِثْبَاتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ حُضُورُهُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ شَرْطِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ هَلْ تَنْفَسِخُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ كَمَا تَنْفَسِخُ بِالْعَزْلِ فَمَتَى يَكُونُ الْوَكِيلُ مَعْزُولًا، وَالْوَكَالَةُ مُنْفَسِخَةً فِي حَقِّ مَنْ عَامَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ؟
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِالْمَوْتِ وَالْعَزْلِ. وَالثَّانِي أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَنْفَسِخْ فِي حَقِّهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ مَنْ عَامَلَ الْوَكِيلَ بِعِلْمِ الْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ، وَلَا تَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِعِلْمِ الَّذِي عَامَلَهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ، وَلَكِنْ مَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَزْلِهِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ.
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْوَكِيلِ فَفِيهَا مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ:
أَحَدُهَا: إِذَا وُكِّلَ عَلَى بَيْعِ شَيْءٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ. وَمِنْهَا إِذَا وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَكَالَةً مُطْلَقَةً لا يبع إِلَّا بِثَمَنِ مِثْلِهِ نَقْدًا بِنَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ يَجُزْ لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَبِيعَ إِلَّا بِثَمَنِ مِثْلِهِ نَقْدًا بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ بَاعَ نَسِيئَةً، أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ فِي الشِّرَاءِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِمُعَيَّنٍ، فَقَالَ: يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَأَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ نَقْدًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكَالَةِ عَلَى شِرَاءِ شَيْءٍ، لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبِيعُ الشَّيْءَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ وَنَسَاءً لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْوَكِيلِ إِذْ قَدْ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَتَهُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَبْيَنُ. وَكُلُّ مَا يَعْتَدِي فِيهِ الْوَكِيلُ ضُمِّنَ عِنْدِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى. وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شَيْئًا وَأُعْلِمَ أَنَّ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ فَالْمِلْكُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى الْوَكِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ إِلَى الْمُوَكِّلِ. وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ دَيْنًا عَنِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدْ فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ ضَمِنَ الْوَكِيلُ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مُخَالَفَةِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ:

وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي ضَيَاعِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْوَكِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ أَوِ اشْتَرَى إِذَا أَمَرَهُ بِثَمَنٍ مَحْدُودٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَثْمُونِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي تَعْيِينِ مَنْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي دَعْوَى التَّعَدِّي. فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ضَيَاعِ الْمَالِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: ضَاعَ مِنِّي، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَمْ يَضِعْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ قَبَضَهُ الْوَكِيلُ مِنْ غَرِيمِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدِ الْغَرِيمُ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَبْرَأِ الْغَرِيمُ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ عِنْدَ مَالِكٍ وَغَرِمَ ثَانِيَةً، وَهَلْ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ؟
فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ وَلَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ شَيْءٌ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الدَّفْعِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ: دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: لَا، فَقِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ. وَقِيلَ إِنْ تَبَاعَدَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ. وَأَمْرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي بِهِ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ لَمْ تَفُتِ السِّلْعَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فَاتَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، وَقِيلَ يَتَحَالَفَانِ، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيَتَرَاجَعَانِ، وَإِنْ فَاتَتْ بِالْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فِي الْبَيْعِ، فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ دَفْعَ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الشِّرَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِيمَنْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ، وَقِيلَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ.
وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْوَكِيلُ فِعْلًا هُوَ تَعَدٍّ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَهُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَكِيلِ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ، لِأَنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى الْفِعْلِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ اللُّقَطَةِ:

وَالنَّظَرُ فِي اللُّقَطَةِ فِي جُمْلَتَيْنِ:
الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَرْكَانِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِهَا.

.الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَرْكَانِ اللُّقَطَةِ:

وَالْأَرْكَانُ ثَلَاثَةٌ: الِالْتِقَاطُ، وَالْمُلْتَقِطُ، وَاللُّقَطَةُ.
فَأَمَّا الِالْتِقَاطُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَمِ التَّرْكُ؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ الِالْتِقَاطُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْفَظَ مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ بِكَرَاهِيَةِ الِالْتِقَاطِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ». وَلِمَا يُخَافُ أَيْضًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ التَّعْرِيفِ وَتَرْكِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا، وَتَأَوَّلَ الَّذِينَ رَأَوْا الِالْتِقَاطَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: أَرَادَ بِذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا أَخْذَهَا لِلتَّعْرِيفِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ لَقْطُهَا وَاجِبٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِذَا كَانَتِ اللُّقَطَةُ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فما حكم الالتقاط. قَالُوا: وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ فما حكم الالتقاط وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فَوَاجِبٌ الْتِقَاطُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ جَائِرٌ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ غَيْرُ عَادِلٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ سَلَامَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَا عَدَا لُقَطَةَ الْحَاجِّ حكمها، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ، وَلُقَطَةُ مَكَّةَ حكمها أَيْضًا لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ، وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ لَفْظَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا تُرْفَعُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ. الثَّانِي لَا يَرْفَعُ لُقَطَتَهَا إِلَّا منْشِدٌ، فَالْمَعْنَى الْوَاحِدُ أَنَّهَا لَا تُرْفَعُ إِلَّا لِمَنْ يُنْشِدُهَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يَلْتَقِطُهَا إِلَّا مَنْ يُنْشِدُهَا لِيُعَرِّفَ النَّاسَ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُعَرَّفُ هَاتَانِ اللُّقَطَتَانِ أَبَدًا فَأَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ كُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَاخْتُلِفَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْتِقَاطِ الْكَافِرِ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَالْأَصَحُّ جَوَازُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَفِي أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ وَالْفَاسِقِ للقطة لَهُ قَوْلَانِ: فَوَجْهُ الْمَنْعِ عَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ عُمُومُ أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ.
وَأَمَّا اللُّقَطَةُ تعريفها ومشروعيتها بِالْجُمْلَةِ: فَإِنَّهَا كُلُّ مَالٍ لِمُسْلِمٍ مُعَرَّضٍ لِلضَّيَاعِ كَانَ ذَلِكَ فِي عَامِرِ الْأَرْضِ أَوْ غَامِرِهَا، وَالْجَمَادُ وَالْحَيَوَانُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِلَّا الْإِبِلَ بِاتِّفَاقٍ. وَالْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً اللقطة، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟
قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ مَا يُلْتَقَطُ مِمَّا لَا يُلْتَقَطُ، وَمَعْرِفَةَ حُكْمِ مَا يُلْتَقَطُ كَيْفَ يَكُونُ فِي الْعَامِ وَبَعْدَهُ وَبِمَاذَا يَسْتَحِقُّهَا مُدَّعِيهَا. فَأَمَّا الْإِبِلُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُلْتَقَطُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْغَنَمِ أَنَّهَا تُلْتَقَطُ، وَتَرَدَّدُوا فِي الْبَقَرِ، وَالنَّصُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا كَالْإِبِلِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا كَالْغَنَمِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ.

.الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِ اللُّقَطَةِ:

وَأَمَّا حُكْمُ التَّعْرِيفِ باللقطة، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَعْرِيفِ مَا كَانَ مِنْهَا لَهُ بَالٌ سَنَةً مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْغَنَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا بَعْدَ السَّنَةِ، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِذَا انْقَضَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا إِنْ كَانَ فَقِيرًا اللقطة بعد انقضاء مدتها، أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهَا إِنْ كَانَ غَنِيًّا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الصَّدَقَةَ فَيَنْزِلَ عَلَى ثَوَابِهَا أَوْ يُضَمِّنَهُ إِيَّاهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَنِيِّ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا أَوْ يُنْفِقَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ؟
اللقطة فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ مَالًا كَثِيرًا جَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ. وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَهَا ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا الملتقط يأكل اللقطة إِلَّا أَهْلَ الظَّاهِرِ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَشَأْنَكَ بِهَا» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ: «لَقِيتُ أُوَيْسَ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ «فَاسْتَنْفِقْهَا». فَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ لَفْظِ حَدِيثِ اللُّقْطَةِ لِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. فَمَنْ غَلَّبَ هَذَا الْأَصْلَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ «فَشَأْنَكَ بِهَا» قَالَ: لَا يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفٌ إِلَّا بِالصَّدَقَةِ فَقَطْ عَلَى أَنْ يُضَمَّنَ إِنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ الصَّدَقَةَ، وَمَنْ غَلَّبَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَرَأَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، قَالَ: تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ وَهِيَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُهَا إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا. وَمَنْ تَوَسَّطَ قَالَ: يَتَصَرَّفُ بَعْدَ الْعَامِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ.
وَأَمَّا حُكْمُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْعِفَاصَ وَلَا الْوِكَاءَ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ هَلْ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى بَيِّنَةٍ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَحِقُّ بِالْعَلَامَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَمَنْ غَلَّبَ الْأَصْلَ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَمَنْ غَلَّبَ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، قَالَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ. وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ لِئَلَّا تَخْتَلِطَ عِنْدَهُ بِغَيْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهَا لِصَاحِبِهَا بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، فَلَمَّا وَقَعَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأُصُولَ لَا تُعَارَضُ بِالِاحْتِمَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا إِلَّا أَنْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ اللُّقَطَةِ أَنْ يَصِفَ مَعَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ صِفَةَ الدَّنَانِيرِ وَالْعَدَدَ، قَالُوا: وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَوَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ» قَالُوا: وَلَكِنْ لَا يَضُرُّهُ الْجَهْلُ بِالْعَدَدِ إِذَا عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَادَ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ نَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا جَهِلَ الصِّفَةَ وَجَاءَ بِالْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا غَلِطَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَأَمَّا إِذَا عَرَفَ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهِمَا وَجَهِلَ الْأُخْرَى فَقِيلَ إِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَقِيلَ إِنِ ادَّعَى الْجَهَالَةَ اسْتُبْرِئَ، وَإِنْ غَلِطَ لَمْ تُدْفَعْ إِلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ إِذَا أَتَى بِالْعَلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ هَلْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ؟
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِغَيْرِ يَمِينٍ: وَقَالَ أَشْهَبُ: بِيَمِينٍ.
وَأَمَّا ضَالَّةُ الْغَنَمِ حكمها إذا التقطت بعيدا عن العمران، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِوَاجِدِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فِي الْمَكَانِ الْقَفْرِ الْبَعِيدِ مِنَ الْعُمْرَانِ أَنْ يَأْكُلَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الشَّاةِ: «هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا لِصَاحِبِهَا أَمْ لَا؟
فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الْأَقَاوِيلِ عَنْهُ: إِنَّهُ لَا يُضَمَّنُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ كَمَا قُلْنَا لِلْأَصْلِ الْمَعْلُومِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا هُنَا غَلَّبَ الظَّاهِرَ فَجَرَى عَلَى حُكْمِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَجُزْ كَذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِيمَا وَجَبَ تَعْرِيفُهُ بَعْدَ الْعَامِ لِقُوَّةِ اللَّفْظِ هَهُنَا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُضَمَّنُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَعَامٍ لَا يَبْقَى إِذَا خُشِيَ عَلَيْهِ التَّلَفُ إِنْ تَرَكَهُ. وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ التَّلَفِ إِنْ تَرَكَهُ، كَالْعَيْنِ وَالْعُرُوضِ.
وَقِسْمٌ لَا يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ التَّلَفِ إِنْ تُرِكَ كَالشَّاةِ فِي الْقَفْرِ، وَالطَّعَامِ الَّذِي يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.
وَقِسْمٌ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ التَّلَفِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا يَبْقَى فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا بَالَ لَهُ وَلَا قَدْرَ لِقِيمَتِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ لِتَفَاهَتِهِ، فَهَذَا لَا يُعَرَّفُ عِنْدَهُ وَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا تَعْرِيفًا، وَهَذَا مِثْلُ الْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَبُ قَدِ اسْتَحْسَنَ تَعْرِيفَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا إِلَّا أَنَّ لَهُ قَدْرًا وَمَنْفَعَةً، فَهَذَا لَا اخْتِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي تَعْرِيفِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُعَرَّفُ، فَقِيلَ سَنَةً، وَقِيلَ أَيَّامًا.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا أَوْ لَهُ قَدْرٌ، فَهَذَا لَا اخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ حَوْلًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا لَا يَبْقَى بِيَدِ مُلْتَقِطِهِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ، فَإِنَّ هَذَا يَأْكُلُهُ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَهَلْ يُضَمَّنُ؟
فِيهِ رِوَايَتَانِ كَمَا قُلْنَا: الْأَشْهُرُ أَنْ لَا ضَمَانَ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ وُجِدَ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي الْحَاضِرَةِ، فَقِيلَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَا يُضَمَّنُ، أَوْ يَأْكُلَهُ فَيُضَمَّنَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ كَالْإِبِلِ، أَعْنِي أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَهُ فِيهِ التَّرْكُ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَخَذَهَا وَجَبَ تَعْرِيفُهَا، وَالِاخْتِيَارُ تَرْكُهَا، وَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا هُوَ فِي زَمَانِ الْعَدْلِ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي زَمَانِ غَيْرِ الْعَدْلِ الْتِقَاطُهَا.
وَأَمَّا ضَمَانُهَا فِي الَّذِي تُعَرَّفُ فِيهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَقَطَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى الْتِقَاطِهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ اللقطة، وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يُشْهِدْ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُضَيِّعْ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ: يَضْمَنُهَا إِنْ هَلَكَتْ وَلَمْ يُشْهِدْ. اسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِأَنَّ اللُّقَطَةَ وَدِيعَةٌ فَلَا يَنْقُلُهَا تَرْكُ الْإِشْهَادِ مِنَ الْأَمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ، قَالُوا: وَهِيَ وَدِيعَةٌ بِمَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ. وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ بِحَدِيثِ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوِي عَدْلٍ عَلَيْهَا وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُعْنِتْ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ». وَتَحْصِيلُ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ أحواله عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَخْلُو الْتِقَاطُهُ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى جِهَةِ الِاغْتِيَالِ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَهَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهَا لَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ وَلَا عَلَى جِهَةِ الِاغْتِيَالِ. فَإِنْ أَخَذَهَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِقَاطِ فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَتَعْرِيفُهَا، فَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ أَنِ الْتَقَطَهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُضَمَّنُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُضَمَّنُ إِذَا رَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَإِنْ رَدَّهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ضُمِّنَ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِهَا دُونَ يَمِينٍ إِلَّا أَنْ يُتَّهَمَ.
وَأَمَّا إِذَا قَبَضَهَا مُغْتَالًا لَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا، وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَجِدَ ثَوْبًا فَيَأْخُذَهُ، وَهُوَ يَظُنُّهُ لِقَوْمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، فَهَذَا إِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَا ادَّعَوْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ حَيْثُ وَجَدَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَتَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، وَهُوَ الْعَبْدُ يَسْتَهْلِكُ اللُّقَطَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهَا فِي رَقَبَتِهِ إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ سَيِّدُهُ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهَا، هَذَا إِذَا كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ السَّيِّدُ فَهُوَ الضَّامِنُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا السَّيِّدُ كَانَتْ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى اللُّقَطَةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: مُلْتَقِطُ اللُّقَطَةِ مُتَطَوِّعٌ بِحِفْظِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ اللُّقَطَةِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ عَنْ إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ بِحَسَبِ غَرَضِنَا فِي هَذَا الْبَابِ.