فصل: الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدَةِ:

وَالطَّلَاقُ الْمُقَيَّدُ لَا يَخْلُو مِنْ قِسْمَيْنِ: إِمَّا تَقْيِيدُ اشْتِرَاطٍ، أَوْ تَقْيِيدُ اسْتِثْنَاءٍ. وَالتَّقْيِيدُ الْمُشْتَرَطُ لَا يَخْلُو أَنْ يُعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ مِنْ لَهُ اخْتِيَارٌ، أَوْ بِوُقُوعِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، أَوْ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مَجْهُولِ الْعِلْمِ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْمُعَلِّقُ لِلطَّلَاقِ بِهِ مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحِسِّ، أَوْ إِلَى االْوُجُودِ، أَوْ بِمَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ أَوْ لَا يَكُونَ. فَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ بِمَشِيئَةِ مَخْلُوقٍ: فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَسَوَاءٌ عَلَّقَهُ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ (مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) أَوْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ (مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ): فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ شَيْئًا وَهُوَ وَاقِعٌ وَلَا بُدَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا اسْتَثْنَى الْمُطَلِّقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يَتَعَلَّقُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْأَفْعَالِ الْحَاضِرَةِ الْوَاقِعَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ؟
وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ فِعْلٌ حَاضِرٌ: فَمَنْ قَالَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَالَ: لَا يُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا اشْتِرَاطُ الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ. وَمَنْ قَالَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَالَ: يُؤَثِّرُ فِيهِ.
وَأَمَّا إِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ تَصِحُّ مَشِيئَتُهُ، وَيُتَوَصَّلُ إِلَى عِلْمِهَا: فَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِ الَّذِي عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِمَشِيئَتِهِ.
وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا مَشِيئَةَ لَهُ: فَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ، قِيلَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ دَاخِلَانِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِطَلَاقِ الْهَزْلِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ بِالْهَزْلِ عِنْدَهُ يَقَعُ قَالَ: يَقَعُ هَذَا الطَّلَاقُ. وَمَنِ اعْتَبَرَ وُجُودَ الشَّرْطِ قَالَ: لَا يَقَعُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ عُدِمَ هَاهُنَا.
وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ: فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا تُوجَدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ أَوْ لَا يَقَعَ عَلَى السَّوَاءِ، كَدُخُولِ الدَّارِ وَقُدُومِ زَيْدٍ، فَهَذَا يَقِفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ غَدًا، فَهَذَا يَقَعُ نَاجِزًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَيَقِفُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالشَّرْطِ الْمُمْكِنِ الْوُقُوعِ قَالَ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِوُقُوعِ الشَّرْطِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْوَطْءِ الْوَاقِعِ فِي الْأَجَلِ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِكَوْنِهِ وَطْئًا مُسْتَبَاحًا إِلَى أَجَلٍ قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْهُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ وُقُوعُ الشَّرْطِ، وَقَدْ لَا يَقَعُ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَمَجِيءِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ:
إِحْدَاهُمَا: وُقُوعُ الطَّلَاقِ نَاجِزًا.
وَالثَّانِيَةُ: وُقُوعُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ بِإِنْجَازِ الطَّلَاقِ فِي هَذَا يَضْعُفُ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ عِنْدَهُ بِمَا يَقَعُ وَلَا بُدَّ، وَالْخِلَافُ فِيهِ قَوِيٌ.
وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ الْمَجْهُولِ الْوُجُودِ: فَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ خَلَقَ اللَّهُ الْيَوْمَ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ حُوتًا بِصِفَةِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي هَذَا، وَأَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِخُرُوجِهِ إِلَى الْوُجُودِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ وَلَدْتِ أُنْثَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَوَقَّفُ عَلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَى الْوُجُودِ.
وَأَمَّا إِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا تَلِدُ أُنْثَى، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحِينِ يَقَعُ عِنْدَهُ وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى، وَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ أَنْ يُوقَفَ الطَّلَاقُ عَلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ ضِدِّهِ.
وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّهُ إِذَا أَوْجَبَ الطَّلَاقَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَإِذَا أَوْجَبَ الطَّلَاقَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرْطِ تَرْكِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ عَلَى الْحِنْثِ حَتَّى يَفْعَلَ، وَيُوقَفُ عِنْدَهُ عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ أَجَلِ الْإِيلَاءِ ضُرِبَ لَهُ أَجْلُ الْإِيلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَقَعُ عِنْدَهُ حَتَّى يَفُوتَ الْفِعْلُ إِنْ كَانَ مِمَّا يَقَعُ فَوْتُهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ عَلَى بِرٍّ حَتَّى يَفُوتَ الْفِعْلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ كَانَ عَلَى الْبِرِّ حَتَّى يَمُوتَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَبْعِيضِ الْمُطَلَّقَةِ، أَوْ تَبْعِيضِ الطَّلَاقِ، وَإِرْدَافِ الطَّلَاقِ عَلَى الطَّلَاقِ: فَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَبْعِيضِ الْمُطَلَّقَةِ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا قَالَ يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ شَعْرُكِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُطَلَّقُ إِلَّا بِذِكْرِ عُضْوٍ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ كَالرَّأْسِ وَالْقَلْبِ وَالْفَرْجِ، وَكَذَلِكَ تُطَلَّقُ عِنْدَهُ إِذَا طَلَّقَ الْجُزْءَ مِنْهَا، مِثْلَ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا تُطَلَّقُ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ عِنْدَ مَالِكٍ: طَلَّقْتُكِ نِصْفَ تَطْلِيقِةٍ طُلِّقَتْ، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ عِنْدَهُ لَا يَتَبَعَّضُ. وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ إِذَا تَبَعَّضَ لَمْ يَقَعْ.
وَأَمَّا إِذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، نَسَقًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ ثَلَاثًا عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَقَعُ وَاحِدَةً. فَمَنْ شَبَّهَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ بِلَفْظِهِ بِالْعَدَدِ (أَعْنِي: بِقَوْلِهِ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا) قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ بِاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ قَالَ: لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي ارْتِدَافِهِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ.
وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ: فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَدَدِ فَقَطْ، فَإِذَا طَلَّقَ أَعْدَادًا مِنَ الطَّلَاقِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ ذَلِكَ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، أَوِ اثْنَتَيْنِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا هُوَ أَقَلُّ. وَإِذَا اسْتَثْنَى مَا هُوَ أَقَلُّ: فَإِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ: فَإِذَا اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ، فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ وَيَسْقُطُ الْمُسْتَثْنَى، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً.
وَأَمَّا إِنِ اسْتَثْنَى الْأَكْثَرَ مِنَ الْأَقَلِّ فَيَتَوَجَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ أَنْ يُسْتَثْنَى الْأَكْثَرُ مِنَ الْأَقَلِّ. وَالْآخَرُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَأَمَّا إِذَا اسْتَثْنَى ذَلِكَ الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ عَلَى أَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْهُ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقُلْ بِالتُّهْمَةِ وَكَانَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ اسْتِحَالَةَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا طَالِقٌ مَعًا، فَإِنَّ وُقُوعَ الشَّيْءِ مَعَ ضِدِّهِ مُسْتَحِيلٌ. وَشَذَّ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، فَقَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِصِفَةٍ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ، وَلَا بِفِعْلٍ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي وَقْتِ وُقُوعِهِ إِلَّا بِإِيقَاعِ مَنْ يُطَلِّقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا دَلِيلَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقٍ فِي وَقْتٍ لَمْ يُوقِعْهُ فِيهِ الْمُطَلِّقُ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ إِيقَاعَهُ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِاللُّزُومِ لَزِمَ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى يُوقِعَ، هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ عِنْدِي وَحُجَّتُهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَذْكُرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ احْتِجَاجَهُ فِي ذَلِكَ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْمُطَلِّقِ الْجَائِزِ الطَّلَاقِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الزَّوْجُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ غَيْرُ الْمُكْرَهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَطَلَاقِ الْمَرِيضِ وَطَلَاقِ الْمُقَارِبِ لِلْبُلُوغِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُ الْمَرِيضِ إِنْ صَحَّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ أَمْ لَا؟
فَأَمَّا طَلَاقُ الْمُكْرَهِ: فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ عِنْدِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَدَاوُدَ وَجَمَاعَةٍ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَفَرَّقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الطَّلَاقَ أَوْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا، فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَعَنْهُمْ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَقَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ وَاقِعٌ. وَكَذَلِكَ عِتْقُهُ دُونَ بَيْعِهِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْمُطَلِّقُ مِنْ قِبَلِ الْإِكْرَاهِ مُخْتَارٌ أَمْ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ؟
لِأَنَّهُ لَيْسَ يُكْرَهُ عَلَى اللَّفْظِ إِذْ كَانَ اللَّفْظُ إِنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِهِ. وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي إِيقَاعِ الشَّيْءِ أَصْلًا. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ مُوقِعًا لِلَّفْظِ بِاخْتِيَارِهِ أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ اسْمُ الْمُكْرَهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُغَلَّظٌ فِيهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى جِدُّهُ وَهَزْلُهُ.
وَأَمَّا طَلَاقُ الصَّبِيِّ: فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِذَا نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِذَا هُوَ أَطَاقَ صِيَامَ رَمَضَانَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً جَازَ طَلَاقُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا طَلَاقُ السَّكْرَانِ: فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُقُوعِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ، مِنْهُمُ الْمُزَنِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَجْنُونِ، أَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟
فَمَنْ قَالَ هُوَ وَالْمَجْنُونُ سَوَاءٌ، إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا فَاقِدًا لِلْعَقْلِ، وَمِنْ شَرْطِ التَّكْلِيفِ الْعَقْلُ قَالَ: لَا يَقَعُ. وَمَنْ قَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّكْرَانَ أَدْخَلَ الْفَسَادَ عَلَى عَقْلِهِ بِإِرَادَتِهِ، وَالْمَجْنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، أَلْزَمَ السَّكْرَانَ الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ السَّكْرَانَ بِالْجُمْلَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَلْزَمُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْقَوَدُ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ النِّكَاحَ وَلَا الْبَيْعَ. وَأَلْزَمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ:
كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ مَنْطِقِ السَّكْرَانِ فَمَوْضُوعٌ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلَا عِتْقٌ وَلَا نِكَاحٌ وَلَا بَيْعٌ وَلَا حَدٌّ فِي قَذْفٍ، وَكُلُّ مَا جَنَتْهُ جَوَارِحُهُ فَلَازِمٌ لَهُ، فَيُحَدُّ فِي الشُّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ. وَثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ السَّكْرَانِ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ لَيْسَ نَصًّا فِي إِلْزَامِ السَّكْرَانِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ السَّكْرَانَ مَعْتُوهٌ مَا، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ (أَعْنِي: أَنَّ طَلَاقَهُ لَيْسَ يَلْزَمُ). وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتَارَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ قَوْلَهُ الْمُوَافِقَ لِلْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ طَلَاقَهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي يُطَلِّقُ طَلَاقًا بَائِنًا وَيَمُوتُ مِنْ مَرَضِهِ هل ترثه زوجته، فَإِنَّ مَالِكًا وَجَمَاعَةً يَقُولُ: تَرِثُهُ زَوْجَتُهُ. وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ لَا يُوَرِّثُهَا. وَالَّذِينَ قَالُوا بِتَوْرِيثِهَا انْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَفِرْقَةٌ قَالَتْ: لَهَا الْمِيرَاثُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَهَا الْمِيرَاثُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ تَرِثُ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، تَزَوَّجَتْ أَمْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَرِيضُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا طَلَّقَ فِي مَرَضِهِ زَوْجَتَهُ لِيَقْطَعَ حَظَّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ. فَمَنْ قَالَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَوْجَبَ مِيرَاثَهَا، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَلَحَظَ وُجُوبَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجِبْ لَهَا مِيرَاثًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ فَالزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهَا، وَلَا بُدَّ لِخُصُومِهِمْ مِنْ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي الشَّرْعِ نَوْعًا مِنَ الطَّلَاقِ تُوجَدُ لَهُ بَعْضُ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَبَعْضُ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَعْسَرُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِحَّ أَوْ لَا يَصِحَّ، لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ طَلَاقًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ إِلَى أَنْ يَصِحَّ أَوْ لَا يَصِحَّ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَعْسُرُ الْقَوْلُ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنِسَ الْقَائِلُونَ بِهِ أَنَّهُ فَتْوَى عُثْمَانَ وَعُمَرَ، حَتَّى زَعَمَتِ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَشْهُورٌ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّهَا تَرِثُ فِي الْعِدَّةِ، فَلِأَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ، وَعَنْ عَائِشَةَ.
وَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ فِي تَوْرِيثِهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ لَحَظَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَرِثُ زَوْجَيْنِ، وَلِكَوْنِ التُّهْمَةِ هِيَ الْعِلَّةُ عِنْدَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْمِيرَاثَ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا طَلَبَتْ هِيَ الطَّلَاقَ، أَوْ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا الزَّوْجُ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَرِثُ أَصْلًا. وَفَرَّقَ الْأَوْزَاعِيُّ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالطَّلَاقِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ فِي التَّمْلِيكِ، وَلَهَا فِي الطَّلَاقِ. وَسَوَّى مَالِكٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ: إِنْ مَاتَتْ لَا يَرِثُهَا، وَتَرِثُهُ هِيَ إِنْ مَاتَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ جِدًّا.
الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنَ النِّسَاءِ وَمَنْ لَا يَتَعَلَّقُ. - وَأَمَّا مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَدُهُنَّ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ (أَعْنِي: الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ).
وَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ نَكَحْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ: فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: قَوْلٌ: إِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَعَلَّقُ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَصْلًا، عَمَّ الْمُطَلِّقُ أَوْ خَصَّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَجَمَاعَةٍ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ، عَمَّمَ الْمُطَلِّقُ جَمِيعَ النِّسَاءِ أَوْ خَصَّصَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ النِّسَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِنْ خَصَّصَ لَزِمَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ (أَعْنِي: مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ بَلَدِ كَذَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَكَذَلِكَ فِي وَقْتِ كَذَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُطَلَّقْنَ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا زُوِّجْنَ).
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ مِنْ شَرْطِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وُجُودُ الْمِلْكِ مُتَقَدِّمًا بِالزَّمَانِ عَلَى الطَّلَاقِ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ؟
فَمَنْ قَالَ هُوَ مِنْ شَرْطِهِ قَالَ: لَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ إِلَّا وُجُودُ الْمِلْكِ فَقَطْ قَالَ: يَقَعُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ: فَاسْتِحْسَانٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا عَمَّمَ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى النِّكَاحِ الْحَلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَنَتًا بِهِ وَحَرَجًا، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ.
وَأَمَّا إِذَا خَصَّصَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِذَا أَلْزَمْنَاهُ الطَّلَاقَ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَلَاقَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «لَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ». وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ. وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَضَعَّفَ قَوْمٌ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

.الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ:

وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بَائِنٍ، وَرَجْعِيٍّ، وَكَانَتْ أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ غَيْرَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْجِنْسِ بَابَانِ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الِارْتِجَاعِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ:

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ رَجْعَةَ الزَّوْجَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذَا الطَّلَاقِ تَقَدُّمَ الْمَسِيسِ لَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْإِشْهَادِ. وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْإِشْهَادُ في الرجعة شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ؟
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ؟
فَأَمَّا الْإِشْهَادُ: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلظَّاهِرِ: وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَتَشْبِيهُ هَذَا الْحَقِّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الْإِنْسَانُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْإِشْهَادُ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْآيَةِ حَمْلَ الْآيَةَ عَلَى النَّدْبِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا تَكُونُ بِهِ الرَّجْعَةُ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِالْقَوْلِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَوْمٌ قَالُوا: تَكُونُ رَجْعَتُهَا بِالْوَطْءِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ إِلَّا إِذَا نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ مَعَ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَجَازَ الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ إِذَا نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ وَدُونَ النِّيَّةِ. فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَقَاسَ الرَّجْعَةَ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَ: قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ.
وَأَمَّا سَبَبُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَلَّلَةُ الْوَطْءِ عِنْدَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُولَى مِنْهَا وَعَلَى الْمُظَاهَرَةِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْفَصِلْ عِنْدَهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ وَطْءَ الرَّجْعِيَّةِ حَرَامٌ حَتَّى يَرْتَجِعَهَا، فَلَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنَ النِّيَّةِ. فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَخْلُو مَعَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهَا إِذَا كَانَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ مَعَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَتَزَيَّنَ الرَّجْعِيَّةُ لِزَوْجِهَا، وَتَتَطَيَّبَ لَهُ وَتَتَشَوَّفَ وَتُبْدِيَ الْبَنَانَ وَالْكُحْلَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَكُلُّهُمْ قَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ بِدُخُولِهِ بِقَوْلٍ أَوْ حَرَكَةٍ مِنْ تَنَحْنُحٍ أَوْ خَفْقِ نَعْلٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَابِ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً وَهُوَ غَائِبٌ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، فَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ، فَتَتَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا لِلَّذِي عَقَدَ عَلَيْهَا النِّكَاحَ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، هَذَا قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ قَالَ: الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الثَّانِي، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ الْمَدَنِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالُوا: وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي مُوَطَّئِهِ إِلَى يَوْمِ مَاتَ وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا: زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي ارْتَجَعَهَا أَحَقُّ بِهَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ الْأَبْيَنُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الزَّوْجَ الَّذِي ارْتَجَعَهَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمَا كَانَ أَصْدَقَهَا. وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَيَكْتُمُهَا رَجْعَتَهَا حَتَّى تَحِلَّ فَتَنْكَحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّهَا لِمَنْ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنْ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَطْ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهَا الْمَرْأَةُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَإِذَا كَانَتِ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً كَانَ زَوَاجُ الثَّانِي فَاسِدًا، فَإِنَّ نِكَاحَ الْغَيْرِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِبْطَالِ الرَّجْعَةِ لَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا اثْنَانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَمَنْ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا».

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الِارْتِجَاعِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ:

وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ: إِمَّا بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ: فَذَلِكَ يَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الْمُخْتَلِعَةِ بِاخْتِلَافٍ. وَهَلْ يَقَعُ أَيْضًا دُونَ عِوَضٍ؟
فِيهِ خِلَافٌ. وَحُكْمُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ هَذَا الطَّلَاقِ حُكْمُ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ (أَعْنِي: فِي اشْتِرَاطِ الصَّدَاقِ وَالْوَلِيِّ وَالرِّضَا)، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا غَيْرُهُ، وَهَؤُلَاءِ كَأَنَّهُمْ رَأَوْا مَنْعَ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ عِبَادَةً.
وَأَمَّا الْبَائِنَةُ بِالثَّلَاثِ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ كُلَّهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ، لِحَدِيثِ رَفَاعَةَ بْنِ سَمَوُءَلٍ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، فَنَكَحَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَاعْتَرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَفَارَقَهَا، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا وَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ». وَشَذَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. وَالنِّكَاحُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَقْدِ. وَكُلُّهُمْ قَالَ: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يُحِلُّهَا، إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، فَقَالَ: لَا تَحِلُّ إِلَّا بِوَطْءٍ بِإِنْزَالٍ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَيُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ وَيُحَصِّنُ الزَّوْجَيْنِ وَيُوجِبُ الصَّدَاقَ: هُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ إِلَّا الْوَطْءُ الْمُبَاحُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فِي غَيْرِ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ حَيْضٍ أَوِ اعْتِكَافٍ، وَلَا يُحِلُّ الذِّمِّيَّةَ عِنْدَهُمَا وَطْءُ زَوْجٍ ذِمِّيٍّ لِمُسْلِمٍ، وَلَا وَطْءُ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا. وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، فَقَالُوا: يُحِلُّ الْوَطْءُ وَإِنْ وَقَعَ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَقْتٍ غَيْرِ مُبَاحٍ. وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْمُرَاهِقِ عِنْدَهُمْ يُحِلُّ، وَيُحِلُّ وَطْءُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ لِلْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ عِنْدَهُمْ، وَالْخَصِيُّ الَّذِي يَبْقَى لَهُ مَا يُغَيِّبُهُ فِي فَرْجٍ. وَالْخِلَافُ فِي هَذَا كُلِّهِ آيِلٌ إِلَى: هَلْ يَتَنَاوَلُ اسْمُ النِّكَاحِ أَصْنَافَ الْوَطْءِ النَّاقِصِ أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ (أَعْنِي: إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ): فَقَالَ مَالِكٌ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ لَا تَحِلُّ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ إِرَادَةُ الْمَرْأَةِ التَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ إِرَادَةُ الرَّجُلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ وَقَالُوا: هُوَ مُحَلِّلٌ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ (أَيْ: لَيْسَ يُحَلِّلُهَا)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» فَلَعْنُهُ إِيَّاهُ كَلَعْنِهِ آكِلَ الرِّبَا وَشَارِبَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَاسْمُ النِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى النِّكَاحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ: فَتَعَلَّقَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَهَذَا نَاكِحٌ، وَقَالُوا: وَلَيْسَ فِي تَحْرِيمِ قَصْدِ التَّحْلِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ صِحَّةَ مِلْكِ الْبُقْعَةِ أَوِ الْإِذْنَ مِنْ مَالِكِهَا فِي ذَلِكَ، قَالُوا: وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ النَّهْيُ عَلَى فَسَادِ عَقْدِ النِّكَاحِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَبِرْ مَالِكٌ قَصْدَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوَافِقْهَا عَلَى قَصْدِهَا لَمْ يَكُنْ لِقَصْدِهَا مَعْنًى، مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِيَدِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي: هَلْ يَهْدِمُ الزَّوْجُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَهْدِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَهْدِمُ (أَعْنِي: إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ غَيْرَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَاجَعَهَا، هَلْ يُعْتَدُّ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟
) فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ الثَّالِثَةَ بِالشَّرْعِ قَالَ: لَا يُهْدَمُ مَا دُونَ الثَّالِثَةِ عِنْدَهُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الثَّالِثَةَ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهَا قَالَ: يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ:

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَابَانِ:
الْأَوَّلُ: فِي الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي: فِي الْمُتْعَةِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْعِدَّةِ:

وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي فَصْلَيْنِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي عِدَّةِ الزَّوْجَاتِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي عِدَّةِ مِلْكِ الْيَمِينِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عِدَّةِ الزَّوْجَاتِ:

وَالنَّظَرُ فِي عِدَّةِ الزَّوْجَاتِ يَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مَعْرِفَةِ الْعِدَّةِ.
وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ.

.النَّوْعُ الْأَوَّلُ [فِي مَعْرِفَةِ الْعِدَّةِ]:

وَكُلُّ زَوْجَةٍ فَهِيَ: إِمَّا حُرَّةٌ، وَإِمَّا أَمَةٌ. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ إِذَا طُلِّقَتْ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ: مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا عدتها: فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِإِجْمَاعٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا: فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ: مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْحَيْضِ. وَغَيْرُ ذَوَاتِ الْحَيْضِ: إِمَّا صِغَارٌ وَإِمَّا يَائِسَاتٌ. وَذَوَاتُ الْحَيْضِ: إِمَّا حَوَامِلُ، وَإِمَّا جَارِيَاتٌ عَلَى عَادَاتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ، وَإِمَّا مُرْتَفِعَاتُ الْحَيْضِ، وَإِمَّا مُسْتَحَاضَاتٌ. وَالْمُرْتَفِعَاتُ الْحَيْضِ فِي سِنِّ الْحَيْضِ: إِمَّا مُرْتَابَاتٌ بِالْحَمْلِ (أَيْ: بِحِسٍّ فِي الْبَطْنِ)، وَإِمَّا غَيْرُ مُرْتَابَاتٍ. وَغَيْرُ مُرْتَابَاتٍ: إِمَّا مَعْرُوفَاتُ سَبَبَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ، وَإِمَّا غَيْرُ مَعْرُوفَاتٍ. فَأَمَّا ذَوَاتُ الْحَيْضِ عدة ذوات الحيض الْأَحْرَارُ الْجَارِيَاتُ فِي حَيْضِهِنَّ عَلَى الْمُعْتَادِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَالْحَوَامِلُ مِنْهُنَّ عِدَّتُهُنَّ وَضْعُ حَمْلِهِنَّ، وَالْيَائِسَاتُ مِنْهُنَّ عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الْآيَةَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الْآيَةَ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْأَقْرَاءِ مَا هِيَ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الْأَطْهَارُ (أَعْنِي: الْأَزْمِنَةَ الَّتِي بَيْنَ الدَّمَّيْنِ).
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الدَّمُ نَفْسُهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ: أَمَّا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا مِنَ الصَّحَابَةِ فَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحَيْضُ: أَمَّا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا مِنَ الصَّحَابَةِ فَعَلِيٌّ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَحَكَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: الْأَقْرَاءُ هِيَ الْحَيْضُ. وَحَكَى أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ أَحَدَ عَشَرَ أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ: فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهَا الْأَطْهَارُ، عَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ تَوَقَّفْتُ الْآنَ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ هُوَ أَنَّهَا الْحَيْضُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ هُوَ أَنْ مَنْ رَأَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ رَأَى أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتِ الرَّجْعِيَّةُ عِنْدَهُ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا الْحَيْضُ لَمْ تَحِلَّ عِنْدَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: اشْتِرَاكُ اسْمِ الْقُرْءِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ: عَلَى الدَّمِ وَعَلَى الْأَطْهَارِ. وَقَدْ رَامَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ فِي الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَرَاهُ: فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْأَطْهَارُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْجَمْعَ خَاصٌّ بِالْقُرْءِ الَّذِي هُوَ الطُّهْرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْءَ الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ يُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ، لَا عَلَى قُرُوءٍ، وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْحَيْضَةَ مُؤَنَّثَةٌ، وَالطُّهْرَ مُذَكَّرٌ، فَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ لَمَا ثَبَتَ فِي جَمْعِهِ الْهَاءُ، لِأَنَّ الْهَاءَ لَا تَثْبُتُ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الِاشْتِقَاقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَرَّأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ (أَيْ: جَمَّعْتُهُ)، فَزَمَانُ اجْتِمَاعِ الدَّمِ هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ، فَهَذَا هُوَ أَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِيَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ظَاهِرٌ فِي تَمَامِ كُلِّ قُرْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْقُرْءِ عَلَى بَعْضِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَإِذَا وُصِفَتِ الْأَقْرَاءُ بِأَنَّهَا هِيَ الْأَطْهَارُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ عِنْدَهُمْ بِقُرْءَيْنِ وَبَعْضِ قُرْءٍ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ تَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الَّذِي تُطَلَّقُ فِيهِ وَإِنْ مَضَى أَكْثَرُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الثَّلَاثَةِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَاسْمُ الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ فِي كَمَالِ كُلِّ قُرْءٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ هِيَ الْحَيْضَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهَا إِنْ طُلِّقَتْ فِي حَيْضَةٍ أَنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِهَا. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ احْتِجَاجَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ لَفْظِ الْقُرْءِ، وَالَّذِي رَضِيَهُ الْحُذَّاقُ أَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. فَمِنْ أَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا إِنْ شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». قَالُوا: وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ الْأَطْهَارُ، لِكَيْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَّصِلًا بِالْعِدَّةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ قَوْلُهُ: فَتِلْكَ الْعِدَّةُ أَيْ فَتِلْكَ مُدَّةُ اسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ، لِئَلَّا يَتَبَعَّضَ الْقُرْءُ بِالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ. وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَبَرَاءَتُهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِالْحَيْضِ لَا بِالْأَطْهَارِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عِدَّةُ مَنِ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ عَنْهَا بِالْأَيَّامِ، فَالْحَيْضُ هُوَ سَبَبُ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَقْرَاءُ هِيَ الْحَيْضَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: الْأَقْرَاءُ هِيَ الْأَطْهَارُ: بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَرَاءَةِ الرَّحِمِ هُوَ النَّقْلَةُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، لَا انْقِضَاءُ الْحَيْضِ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْحَيْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَالثَّلَاثُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِنَّ التَّمَامُ (أَعْنِي: الْمُشْتَرَطَ) هِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ احْتِجَاجَاتٌ طَوِيلَةٌ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَحُجَّتُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْمَسْمُوعِ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ مُتَسَاوِيَةٍ.
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقَائِلُونَ: أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ الْأَطْهَارُ أَنَّهَا تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْحَيْضُ. فَقِيلَ: تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقِيلَ: حِينَ تَغْتَسِلُ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَقِيلَ: حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ، وَإِنْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَةً، حُكِيَ هَذَا عَنْ شَرِيكٍ. وَقَدْ قِيلَ: تَنْقَضِي بِدُخُولِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ أَيْضًا شَاذٌّ، فَهَذِهِ هِيَ حَالُ الْحَائِضِ الَّتِي تَحِيضُ.
وَأَمَّا الَّتِي تُطَلَّقُ فَلَا تَحِيضُ وَهِيَ فِي سِنِّ الْحَيْضِ وَلَيْسَ هُنَاكَ رِيبَةٌ حَمْلٍ وَلَا سَبَبٌ مِنْ رَضَاعٍ وَلَا مَرَضٍ: فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ عِنْدَ مَالِكٍ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهِنَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَةَ أَشْهُرٍ اعْتَبَرَتِ الْحَيْضَ، وَاسْتَقْبَلَتِ انْتِظَارَهُ، فَإِنْ مَرَّ بِهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ الثَّانِيَةَ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَكْمِلَ الثَّلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي انْتَظَرَتِ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ، فَإِنْ مَرَّ بِهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَاضَتِ الثَّالِثَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ كَانَتْ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ عِدَّةَ الْحَيْضِ وَتَمَّتْ عِدَّتُهَا، وَلِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ مَا لَمْ تَحِلَّ. وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ مَتَّى تَعْتَدُّ بِالتِّسْعَةِ أَشْهُرٍ؟
فَقِيلَ: مِنْ يَوْمِ طُلِّقَتْ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: مِنْ يَوْمِ رَفْعِهَا حَيْضَتَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فِي الَّتِي تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا وَهِيَ لَا تَيْأَسُ مِنْهَا فِي الْمُسْتَأْنَفِ: إِنَّهَا تَبْقَى أَبَدًا تَنْتَظِرُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي السَّنِّ الَّذِي تَيْأَسُ فِيهِ مِنَ الْمَحِيضِ، وَحِينَئِذٍ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ وَتَحِيضُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ مَالِكٍ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِدَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَعُ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ظَنًّا غَالِبًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ تَحِيضُ الْحَامِلُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعِدَّةُ الْحَمْلِ كَافِيَةٌ فِي الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَلْ هِيَ قَاطِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عِدَّةَ الْيَائِسَةِ، فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ حُكِمَ لَهَا بِحُكْمِ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَاحْتَسَبَتْ بِذَلِكَ الْقُرْءِ، ثُمَّ تَنْتَظِرُ الْقُرْءَ الثَّانِيَ أَوِ السَّنَةَ إِلَى أَنْ تَمْضِيَ لَهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَصَارُوا إِلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَالَّتِي هِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ لَيْسَتْ بِيَائِسَةٍ، وَهَذَا الرَّأْيُ فِيهِ عُسْرٌ وَحَرَجٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَكَانَ جَيِّدًا إِذَا فُهِمَ مِنَ الْيَائِسَةِ الَّتِي لَا يُقْطَعُ بِانْقِطَاعِ حَيْضَتِهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} رَاجِعًا إِلَى الْحُكْمِ، لَا إِلَى الْحَيْضِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ مَالِكًا لَمْ يُطَابِقْ مَذْهَبُهُ تَأْوِيلَهُ الْآيَةَ، فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنَ الْيَائِسَةِ هُنَا مَنْ تُقْطَعُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ أَهْلِ الْحَيْضِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ السِّنِّ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} رَاجِعًا إِلَى الْحُكْمِ لَا إِلَى الْحَيْضِ {أَيْ: إِنْ شَكَكْتُمْ فِي حُكْمِهِنَّ}، ثُمَّ قَالَ فِي الَّتِي تَبْقَى تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لَا تَحِيضُ وَهِيَ فِي سَنِّ مَنْ تَحِيضُ إِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ.
وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ وَابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الرِّيبَةَ هَاهُنَا فِي الْحَيْضِ، وَأَنَّ الْيَائِسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ مَا لَمِ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِمَا يَئِسَ مِنْهُ بِالْقَطْعِ، فَطَابَقُوا تَأْوِيلَ الْآيَةِ مَذْهَبَهُمُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنِعْمَ مَا فَعَلُوا لِأَنَّهُ إِنْ فُهِمَ هَاهُنَا مِنَ الْيَائِسِ الْقَطْعُ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تَنْتَظِرَ الدَّمَ وَتَعْتَدَّ بِهِ حَتَّى تَكُونَ فِي هَذَا السِّنِّ (أَعْنِي: سَنَّ الْيَائِسِ). وَإِنَّ مَنْ فَهِمَ مِنَ الْيَائِسِ مَا لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَقَدْ يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ الَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا عَنِ الْعَادَةِ وَهِيَ فِي سِنِّ مَنْ تَحِيضُ بِالْأَشْهُرِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْيَائِسَةَ فِي الطَّرَفَيْنِ لَيْسَ هِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِدَّةِ لَا بِالْأَقْرَاءِ وَلَا بِالشُّهُورِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ التِّسْعَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَاسْتِحْسَانٌ.
وَأَمَّا الَّتِي ارْتَفَعَتْ حَيْضَتُهَا لِسَبَبٍ مَعْلُومٍ مِثْلَ رِضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ عدتها، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهَا تَنْتَظِرُ الْحَيْضَ، قَصُرَ الزَّمَانُ أَمْ طَالَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرِيضَةَ مِثْلُ الَّتِي تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا لِغَيْرِ سَبَبٍ.
وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ عدتها: فَعِدَّتُهَا عِنْدَ مَالِكٍ سَنَةٌ إِذَا لَمْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ، فَإِنْ مَيَّزَتْ بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ عِدَّتَهَا السَّنَةُ. وَالْأُخْرَى: أَنَّهَا تَعْمَلُ عَلَى التَّمْيِيزِ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عِدَّتُهَا الْأَقْرَاءُ إِنْ تَمَيَّزَتْ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ لَهَا فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عِدَّتُهَا بِالتَّمْيِيزِ إِذَا انْفَصَلَ عَنْهَا الدَّمُ، فَيَكُونُ الْأَحْمَرُ الْقَانِي مِنَ الْحَيْضَةِ، وَيَكُونُ الْأَصْفَرُ مِنْ أَيَّامِ الطُّهْرِ، فَإِنْ طَبَّقَ عَلَيْهَا الدَّمُ اعْتَدَّتْ بِعَدَدِ أَيَّامِ حَيْضَتِهَا فِي صِحَّتِهَا. وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى بَقَاءِ السَّنَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا مِثْلَ الَّتِي لَا تَحِيضُ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ. وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا ذَهَبَ فِي الْعَارِفَةِ أَيَّامَهَا أَنَّهَا تَعْمَلُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: «اتْرُكِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْكِ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي الدَّمَ». وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ التَّمْيِيزَ مَنِ اعْتَبَرَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ: «إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ إِذَا اخْتَلَطَ عَلَيْهَا الدَّمُ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي الْأَغْلَبِ أَنَّهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ تَحِيضُ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَخَفَاؤُهُ كَارْتِفَاعِهِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَرَابَةُ (أَعْنِي: الَّتِي تَجِدُ حِسًّا فِي بَطْنِهَا تَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ حَمْلٌ عدتها): فَإِنَّهَا تَمْكُثُ أَكْثَرَ مُدَّةِ حَمْلٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ: أَرْبَعُ سِنِينَ. وَقِيلَ: خَمْسُ سِنِينَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّةِ الْحَوَامِلِ لِوَضْعِ حَمْلِهِنَّ {أَعْنِي: الْمُطَلَّقَاتِ} لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
وَأَمَّا الزَّوْجَاتُ غَيْرُ الْحَرَائِرِ: فَإِنَّهُنَّ يَنْقَسِمْنَ أَيْضًا بِتِلْكَ الْأَقْسَامِ بِعَيْنِهَا (أَعْنِي: حُيَّضًا وَيَائِسَاتٍ وَمُسْتَحَاضَاتٍ وَمُرْتَفِعَاتِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ يَائِسَاتٍ). فَأَمَّا الْحُيَّضُ اللَّاتِي يَأْتِيهِنَّ حَيْضُهُنَّ عدة الأمة من ذوات الحيض: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ حَيْضَتَانِ. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: إِلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ كَالْحُرَّةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ. فَأَهْلُ الظَّاهِرِ اعْتَمَدُوا عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}. وَهِيَ مِمَّنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُطَلَّقَةِ. وَاعْتَمَدَ الْجُمْهُورُ تَخْصِيصَ هَذَا الْعُمُومِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَبَّهُوا الْحَيْضَ بِالطَّلَاقِ وَالْحَدِّ (أَعْنِي: كَوْنَهُ مُتَنَصِّفًا مَعَ الرِّقِّ)، وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا حَيْضَتَيْنِ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَبَعَّضُ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمُطَلَّقَةُ الْيَائِسَةُ مِنَ الْمَحِيضِ أَوِ الصَّغِيرَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: عِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفُ شَهْرٍ نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ إِذَا قُلْنَا بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، فَكَأَنَّ مَالِكًا اضْطَرَبَ قَوْلُهُ، فَمَرَّةً أَخَذَ بِالْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي الْيَائِسَاتِ، وَمَرَّةً أَخَذَ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الَّتِي تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ: فَالْقَوْلُ فِيهَا هُوَ الْقَوْلُ فِي الْحُرَّةِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ فِي الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، هَلْ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً أَمْ لَا؟
فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: تَسْتَأْنِفُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: تَبْقَى فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهَا الْأَوَّلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّتَهَا وَلَا عِدَّةً مُسْتَأْنَفَةً. وَبِالْجُمْلَةِ فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ كُلَّ رَجْعَةٍ تَهْدِمُ الْعِدَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسِيسٌ، مَا خَلَا رَجْعَةَ الْمُولِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَقَبْلَ الْوَطْءِ ثَبَتَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الْأُولَى، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ رَجْعَةُ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ تَقِفُ صِحَّتُهَا عِنْدَهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ: فَإِنْ أَنْفَقَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ وَهُدِمَتِ الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ بَقِيَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الْأُولَى. وَإِذَا تَزَوَّجَتْ ثَانِيًا فِي الْعِدَّةِ: فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ. وَالْأُخْرَى نَفْيُهُ. فَوَجْهُ الْأُولَى: اعْتِبَارُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ التَّدَاخُلِ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: كَوْنُ الْعِدَّةِ عِبَادَةً، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْوَطْءِ الَّذِي لَهُ حُرْمَةٌ. وَإِذَا عُتِقَتِ الْأَمَةُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ عدتها مَضَتْ عَلَى عِدَّةِ الْأَمَةِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَنْتَقِلُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ دُونَ الْبَائِنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَنْتَقِلُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْعِدَّةُ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَمْ مِنْ أَحْكَامِ انْفِصَالِهَا؟
فَمَنْ قَالَ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ: لَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَحْكَامِ انْفِصَالِ الزَّوْجِيَّةِ قَالَ: تَنْتَقِلُ، كَمَا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ زَوْجَةٌ ثُمَّ طُلِّقَتْ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ فَبَيِّنٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجْعِيَّ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِصْمَةِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ الْمِيرَاثُ بِاتِّفَاقٍ إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْمَوْتِ. فَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ قِسْمَيِ النَّظَرِ فِي الْعِدَّةِ.