فصل: الْقِسْمُ الثَّانِي: (فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْقِسْمُ الثَّانِي: [فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ]:

وَأَمَّا النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الْعَدَّةِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الرَّجْعِيَّاتِ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وَاخْتَلَفُوا فِي سُكْنَى الْمَبْتُوتَةِ وَنَفَقَتِهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لَهُ: فَاسْتَدَلَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِمَنْ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ». وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا لَهَا السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ: فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِسْقَاطَ السُّكْنَى، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَعَلَّلُوا أَمْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِأَنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهَا بَذَاءٌ.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ: فَصَارُوا إِلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}. وَصَارُوا إِلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا لِكَوْنِ النَّفَقَةِ تَابِعَةً لِوُجُوبِ الْإِسْكَانِ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَفِي الْحَامِلِ وَفِي نَفْسِ الزَّوْجِيَّةِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَحَيْثُمَا وَجَبَتِ السُّكْنَى فِي الشَّرْعِ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ هَذَا: لَا نَدَعُ كِتَابَ نَبِيِّنَا وَسُنَّتَهُ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الْآيَةَ. وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ سُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَوْجَبَ النَّفَقَةَ حَيْثُ تَجِبُ السُّكْنَى، فَلِذَلِكَ الْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَهَا الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مَصِيرًا إِلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالْمَعْرُوفِ مِنَ السُّنَّةِ، وَإِمَّا أَنَّ يُخَصَّصَ هَذَا الْعُمُومُ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَعَسِيرٌ، وَوَجْهُ عُسْرِهِ ضَعْفُ دَلِيلِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي طَلَاقٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوِ اخْتِيَارِ الْأَمَةِ نَفْسَهَا إِذَا أُعْتِقَتْ. وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فِي الْفُسُوخِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ يَتَعَلَّقُ فِيهِ أَحْكَامُ عِدَّةِ الْمَوْتِ رَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَهَا هَاهُنَا، فَنَقُولُ:

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ]:

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ مِنْ زَوْجِهَا الْحُرِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ، وَفِي عِدَّةِ الْأَمَةِ إِذَا لَمْ تَأْتِهَا حَيْضَتُهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ فَمَاذَا حُكْمُهَا؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ تَمَامِ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنْ تَحِيضَ حَيْضَةً وَاحِدَةً فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَهِيَ عِنْدَهُ مُسْتَرَابَةٌ، فَتَمْكُثُ مُدَّةَ الْحَمْلِ. وَقِيلَ عَنْهُ: إِنَّهَا قَدْ لَا تَحِيضُ، وَقَدْ لَا تَكُونُ مُسْتَرَابَةً، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا إِمَّا غَيْرُ مَوْجُودٍ (أَعْنِي: مَنْ تَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) وَإِمَّا نَادِرٌ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهَا مِنَ النِّسَاءِ إِذَا وُجِدَتْ، فَقِيلَ: تَنْتَظِرُ حَتَّى تَحِيضَ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَتَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ. وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [عِدَّةُ الْحَامِلِ الَّتِي يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَهِيَ الْحَامِلُ الَّتِي يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا): فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، مَصِيرًا إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي الطَّلَاقِ. وَأَخْذًا أَيْضًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنْ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ وَفِيهِ: «فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ». وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِدَّتَهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ: إِمَّا الْحَمْلُ، وَإِمَّا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ عِدَّةِ الْمَوْتِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عُمُومِ آيَةِ الْحَوَامِلِ وَآيَةِ الْوَفَاةِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي عِدَّةِ مِلْكِ الْيَمِينِ:

وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَنْ تَحِلُّ لَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً، أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ غَيْرَ أُمِّ وَلَدٍ. فَأَمَّا الزَّوْجَةُ الأمة المتوفى عنها الحائل: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ عِدَّتَهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْعِدَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: بَلْ عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ مَصِيرًا إِلَى التَّعْمِيمِ.
وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ أم الولد المتوفى عنها: فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَجَمَاعَةٌ: عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَهَا السُّكْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: عِدَّتُهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا.
وَقَالَ قَوْمٌ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ: أَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلَا مُطَلَّقَةً فَتَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اسْتِبْرَاءُ رَحِمِهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِحَيْضَةٍ تَشْبِيهًا بِالْأَمَةِ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا، وَذَلِكَ مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلَا بِأَمَةٍ فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ أَمَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ رَحِمَهَا بِعِدَّةِ الْأَحْرَارِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا لَهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ»، وَضَعَّفَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ تَشْبِيهًا بِالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ: فَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَهِيَ مُتَرَدِّدَةُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ شَبَّهَهَا بِالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فَضَعِيفٌ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَنْ شَبَّهَهَا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْمُتْعَةِ:

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا فِي بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا مُسَمًّى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ إِلَّا الَّتِي سُمِّيَ لَهَا وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}. فَاشْتَرَطَ الْمُتْعَةَ مَعَ عَدَمِ الْمَسِيسِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهَا مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِبْ لَهَا الصَّدَاقُ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجِبَ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَهَذَا لَعَمْرِي مُخَيِّلٌ، لِأَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يَجِبُ لَهَا صَدَاقٌ أُقِيمَتِ الْمُتْعَةُ مَقَامَهُ، وَحَيْثُ رَدَّتْ مِنْ يَدِهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ لَمْ يَجِبْ لَهَا شَيْءٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَيَحْمِلُ الْأَوَامِرَ الْوَارِدَةَ بِالْمُتْعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، إِلَّا الَّتِي سُمِّيَ لَهَا وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ: فَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى الْعُمُومِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا مُتْعَةَ لَهَا لِكَوْنِهَا مُعْطِيَةً مِنْ يَدِهَا، كَالْحَالِ فِي الَّتِي طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ فَرْضِ الصَّدَاقِ. وَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَقُولُونَ: هُوَ شَرْعٌ فَتَأْخُذُ وَتُعْطِي.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالْمُتْعَةِ عَلَى النَّدْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أَيْ عَلَى الْمُتَفَضِّلِينَ الْمُتَجَمِّلِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْإِجْمَالِ وَالْإِحْسَانِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ هَلْ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهَا إِحْدَادٌ.

.بَابٌ فِي بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ:

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ إِذَا وَقَعَ التَّشَاجُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَجُهِلَتْ أَحْوَالُهُمَا فِي التَّشَاجُرِ (أَعْنِي: الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} الْآيَةَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَالْآخَرُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، إِلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُرْسَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُمَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَافِذٌ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ هَلْ يُحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ قَوْلُهُمَا فِي الْفُرْقَةِ وَالِاجْتِمَاعِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا إِذْنٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا: لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يُفَرِّقَا، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ إِلَيْهِمَا التَّفْرِيقَ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ مَا رَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَكَمَيْنِ: إِلَيْهِمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْجَمْعُ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِيَدِ أَحَدٍ سِوَى الزَّوْجِ أَوْ مَنْ يُوَكِّلُهُ الزَّوْجُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْحَكَمَيْنِ يُطَلِّقَانِ ثَلَاثًا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَكُونُ وَاحِدَةً، وَقَالَ أَشْهَبُ وَالْمُغِيرَةُ: تَكُونُ ثَلَاثًا إِنْ طَلَّقَاهَا ثَلَاثًا. وَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الرَّجُلِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا أَنَّهُ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟
إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقًا فَرَّقْتُمَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِمَا فِيهِ لِي وَعَلَيَّ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ، قَالَ: فَاعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ إِذْنَهُ. وَمَالِكٌ يُشَبِّهُ الْحَكَمَيْنِ بِالسُّلْطَانِ، وَالسُّلْطَانُ يُطَلِّقُ بِالضَّرَرِ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا تَبَيَّنَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْإِيلَاءِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}. وَالْإِيلَاءُ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلَ أَنْ لَا يَطَأَ زَوْجَتَهُ، إِمَّا مُدَّةً هِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَوْ بِإِطْلَاقٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْإِيلَاءِ فِي مَوَاضِعَ:
فَمِنْهَا: هَلْ تُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْمَضْرُوبَةِ بِالنَّصِّ لِلْمُولِي، أَمْ إِنَّمَا تُطَلَّقُ بِأَنْ يُوقَفَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ؟
فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ.
وَمِنْهَا: هَلِ الْإِيلَاءُ يَكُونُ بِكُلِّ يَمِينٍ، أَمْ بِالْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ فَقَطْ؟
وَمِنْهَا: إِنْ أَمْسَكَ عَنِ الْوَطْءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ هَلْ يَكُونُ مُولِيًا أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْمُولِي هُوَ الَّذِي قَيَّدَ يَمِينَهُ بِمُدَّهٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَطْ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟
أَوِ الْمُولِي هُوَ الَّذِي لَمْ يُقَيِّدْ يَمِينَهُ بِمُدَّهٍ أَصْلًا؟
وَمِنْهَا: هَلْ طَلَاقُ الْإِيلَاءِ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيٌّ؟
وَمِنْهَا: إِنْ أَبَى الطَّلَاقَ وَالْفَيْءَ هَلْ يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: هَلْ يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ إِذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا مِنْ غَيْرِ إِيلَاءٍ حَادِثٍ فِي الزَّوَاجِ الثَّانِي؟
وَمِنْهَا: هَلْ مِنْ شُرُوطِ رَجْعَةِ الْمُولِي أَنْ يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: هَلْ إِيلَاءُ الْعَبْدِ حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ إِيلَاءِ الْحُرِّ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: هَلْ إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ تَلْزَمُهَا عِدَّةٌ أَمْ لَا؟
فَهَذِهِ هِيَ مَسَائِلُ الْخِلَافِ الْمَشْهُورَةُ فِي الْإِيلَاءِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْزِلَةَ الْأُصُولِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ خِلَافَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا، وَعُيُونَ أَدِلَّتِهِمْ، وَأَسْبَابَ خِلَافِهِمْ عَلَى مَا قَصَدْنَا.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [هَلْ تُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْمَضْرُوبَةِ في الإيلاء]:

أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ هَلْ تُطَلَّقُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ نَفْسِهَا، أَمْ لَا تُطَلَّقُ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ أَنْ يُوقَفَ فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ؟
فَإِنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبَا ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ، وَاللَّيْثَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ هُوَ هَذَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ - وَبِالْجُمْلَةِ الْكُوفِيُّونَ - إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ إِلَّا أَنْ يَفِيءَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: فَإِنْ فَاءُوا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا؟
فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا قَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَمَعْنَى الْعَزْمِ عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَنْ لَا يَفِيءَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ. فَمَنْ فَهِمَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْفَيْئَةِ اشْتِرَاطَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} أَيْ بِاللَّفْظِ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ حَقًّا لِلزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَأَشْبَهَتْ مُدَّةَ الْأَجَلِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى فِعْلِهِ. وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ يَقَعُ مِنْ فِعْلِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا (أَعْنِي: لَيْسَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَّا تَجَوُّزًا)، وَلَيْسَ يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهٍ يُسْمَعُ، وَهُوَ وُقُوعُهُ بِاللَّفْظِ لَا بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى التَّعْقِيبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَيْئَةَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَرُبَّمَا شَبَّهُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِمُدَّةِ الْعِتْقِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهَ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِالْعِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، إِذْ كَانَتِ الْعِدَّةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُ نَدَمٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَشَبَّهُوا الْإِيلَاءَ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَشَبَّهُوا الْمُدَّةَ بِالْعِدَّةِ وَهُوَ شَبَهٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [مَا هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِيلَاءُ؟

]:
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِيلَاءُ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يَقَعُ الْإِيلَاءُ بِكُلِّ يَمِينٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. فَمَالكٌ اعْتَمَدَ الْعُمُومَ (أَعْنِي: عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}). وَالشَّافِعِيُّ يُشَبِّهُ الْإِيلَاءَ بِيَمِينِ الْكَفَّارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْيَمِينَيْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْوَطْءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ هَلْ يَكُونُ مُولِيًا؟

]:
وَأَمَّا لُحُوقُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لِلزَّوْجِ إِذَا تَرَكَ الْوَطْءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَمَالِكٌ يُلْزِمُهُ وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِتَرْكِ الْوَطْءِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ. فَالْجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الظَّاهِرَ، وَمَالِكٌ اعْتَمَدَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاعْتِقَادِهِ تَرْكَ الْوَطْءِ، وَسَوَاءٌ شَدَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّ الضَّرَرَ يُوجَدُ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [مُدَّةُ الْإِيلَاءِ]:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إِذْ كَانَ الْفَيْءُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءَ عِنْدَهُ هِيَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَقَطْ، إِذْ كَانَ الْفَيْءُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ فِيهَا، وَذَهَبَ الْحَسَنُ. وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ وَقْتًا مَا وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا، يُضْرَبُ لَهُ الْأَجَلُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُولِيَ هُوَ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصِيبَ امْرَأَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُدَّةِ: إِطْلَاقُ الْآيَةِ. فَاخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ الْفَيْءِ، وَفِي صِفَةِ الْيَمِينِ وَمُدَّتِهِ هُوَ كَوْنُ الْآيَةِ عَامَّةً فِي هَذِهِ الْمَعَانِي أَوْ مُجْمَلَةً. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي صِفَةِ الْمُولِي وَالْمُولَى مِنْهَا وَنَوْعِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ.
وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ: هُوَ سَبَبُ السُّكُوتِ عَنْهَا. وَهَذِهِ هِيَ أَرْكَانُ الْإِيلَاءِ (أَعْنِي: مَعْرِفَةَ نَوْعِ الْيَمِينِ، وَوَقْتِ الْفَيْءِ وَالْمُدَّةِ وَصِفَةِ الْمُولِي وَالْمُولَى مِنْهَا وَنَوْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فِيهِ).

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [هَلْ طَلَاقُ الْإِيلَاءِ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيٌّ؟

]:
فَأَمَّا الطَّلَاقُ الَّتِي يَقَعُ بِالْإِيلَاءِ: فَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجْعِيٌّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ وَقَعَ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ رَجْعِيٌّ، إِلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَائِنٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ: هُوَ بَائِنٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَزُلِ الضَّرَرُ عَنْهَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُجْبِرُهَا عَلَى الرَّجْعَةِ. فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْإِيلَاءِ لِلْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الطَّلَاقِ: فَمَنْ غَلَّبَ الْأَصْلَ قَالَ: رَجْعِيٌّ، وَمَنْ غَلَّبَ الْمَصْلَحَةَ قَالَ: بَائِنٌ.

.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ [إِذَا أَبَى الطَّلَاقَ وَالْفَيْءَ هَلْ يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ؟

]:
وَأَمَّا هَلْ يُطَلِّقُ الْقَاضِي إِذَا أَبَى الْفَيْءَ أَوِ الطَّلَاقَ أَوْ يُحْبَسُ حَتَّى يُطَلِّقَ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يُحْبَسُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا بِنَفْسِهِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ فِي الطَّلَاقِ لِلْمَصْلَحَةِ: فَمَنْ رَاعَى الْأَصْلَ الْمَعْرُوفَ فِي الطَّلَاقِ قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا مِنَ الزَّوْجِ. وَمَنْ رَاعَى الضَّرَرَ الدَّاخِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ قَالَ: يُطَلِّقُ السُّلْطَانُ وَهُوَ نَظَرٌ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ الْعَمَلُ بِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ.

.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ [هَلْ يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ إِذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا؟

]:
وَأَمَّا هَلْ يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ إِذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا؟
فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُ: إِذَا رَاجَعَهَا فَلَمْ يَطَأْهَا تَكَرَّرَ الْإِيلَاءُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَهُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الطَّلَاقُ الْبَائِنُ يُسْقِطُ الْإِيلَاءَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَجَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَتَكَرَّرُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْيَمِينِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْمَصْلَحَةِ لِظَاهِرِ شَرْطِ الْإِيلَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا إِيلَاءَ فِي الشَّرْعِ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ يَمِينٌ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ لَا فِي نِكَاحٍ آخَرَ، وَلَكِنْ إِذَا رَاعَيْنَا هَذَا وُجِدَ الضَّرَرُ الْمَقْصُودُ إِزَالَتُهُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَلِذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ إِذَا وُجِدَ مَعْنَى الْإِيلَاءِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ [هَلْ تَلْزَمُ الزَّوْجَةَ الْمُولَى مِنْهَا عِدَّةٌ أَمْ لَا؟

]:
وَأَمَّا هَلْ تَلْزَمُ الزَّوْجَةَ الْمُولَى مِنْهَا عِدَّةٌ أَوْ لَيْسَ تَلْزَمُهَا؟
فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: لَا تَلْزَمُهَا عِدَّةٌ إِذَا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَقَالَ بِقَوْلِهِ طَائِفَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهَذِهِ قَدْ حَصَلَتْ لَهَا الْبَرَاءَةُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَعْتَدَّ كَسَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الْعِدَّةَ جَمَعَتْ عِبَادَةً وَمَصْلَحَةً: فَمَنَ لَحَظَ جَانِبَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يَرَ عَلَيْهَا عِدَّةً، وَمَنْ لَحَظَ جَانِبَ الْعِبَادَةِ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ.

.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ [إِيلَاءُ الْعَبْدِ حكمه]:

وَأَمَّا إِيلَاءُ الْعَبْدِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إِيلَاءُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ إِيلَاءِ الْحُرِّ، قِيَاسًا عَلَى حُدُودِهِ وَطَلَاقِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: إِيلَاؤُهُ مِثْلُ إِيلَاءِ الْحُرِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَيْمَانِ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ، وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ، وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى مُدَّةِ الْعِنِّينِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّقْصُ الدَّاخِلُ عَلَى الْإِيلَاءِ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ لَا بِالرِّجَالِ كَالْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً كَانَ الْإِيلَاءُ إِيلَاءَ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَى النِّصْفِ. وَقِيَاسُ الْإِيلَاءِ عَلَى الْحَدِّ غَيْرُ جَيِّدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا كَانَ حَدُّهُ أَقَلَّ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ مِنْهُ أَقَلُّ قُبْحًا، وَمِنَ الْحَرِّ أَعْظَمُ قُبْحًا، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ إِنَّمَا ضُرِبَتْ جَمْعًا بَيْنَ التَّوْسِعَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَبَيْنَ إِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مُدَّةً أَقْصَرَ مِنْ هَذِهِ كَانَ أَضْيَقَ عَلَى الزَّوْجِ وَأَنْفَى لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَالْحُرُّ أَحَقُّ بِالتَّوْسِعَةِ وَنَفْيِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنَ الْإِيلَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَالزَّوْجَةُ حُرَّةً فَقَطْ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَالْوَاجِبُ التَّسْوِيَةُ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِتَأْثِيرِ الرِّقِّ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي زَوَالِ الرِّقِّ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى إِيلَاءِ الْأَحْرَارِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْتَقِلُ مِنْ إِيلَاءِ الْعَبِيدِ إِلَى إِيلَاءِ الْأَحْرَارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْتَقِلُ، فَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عُتِقَتْ وَقَدْ آلَى زَوْجُهَا مِنْهَا انْتَقَلَتْ إِلَى إِيلَاءِ الْأَحْرَارِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا إِيلَاءَ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَقَعَ وَتَمَادَى حُسِبَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ مِنْ يَوْمِ بَلَغَتْ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي تَرْكِ الْجِمَاعِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا إِيلَاءَ عَلَى خَصِيٍّ وَلَا عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ.

.الْمَسْأَلَةُ العَاشِرَةُ [هَلْ مِنْ شَرْطِ رَجْعَةِ الْمُولِي أَنْ يَطَأَ فِي الْعِدَّةِ؟

]:
وَأَمَّا هَلْ مِنْ شَرْطِ رَجْعَةِ الْمُولِي أَنْ يَطَأَ فِي الْعِدَّةِ أَمْ لَا؟
فَإِنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا لَمْ يَطَأْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرِ مَرَضٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا رَجْعَةَ عِنْدَهُ لَهُ عَلَيْهَا وَتَبْقَى عَلَى عِدَّتِهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ يَعُودُ بِرَجْعَتِهِ إِيَّاهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَا يَعُودُ: فَإِنْ عَادَ لَمْ يُعْتَبَرْ وَاسْتُؤْنِفَ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ (أَعْنِي: تُحْسَبُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ)، وَإِنْ لَمْ يَعُدِ الْإِيلَاءُ لَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ يَكُونُ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَكَيْفَمَا كَانَ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ الرَّجْعَةِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ: كُلُّ رَجْعَةٍ مِنْ طَلَاقٍ كَانَ لِرَفْعِ ضَرَرٍ، فَإِنَّ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ بِزَوَالِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُهُ الْمُعْسِرُ بِالنَّفَقَةِ إِذَا طُلِّقَ عَلَيْهِ ثُمَّ ارْتَجَعَ، فَإِنَّ رَجْعَتَهُ تُعْتَبَرُ صِحَّتُهَا بِيَسَارِهِ. فَسَبَبُ الْخِلَافِ: قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ شَبَّهَ الرَّجْعَةَ بِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ أَوْجَبَ فِيهَا تَجَدُّدَ الْإِيلَاءِ، وَمَنْ شَبَّهَ هَذِهِ الرَّجْعَةَ بِرَجْعَةِ الْمُطَلِّقِ لِضَرَرٍ لَمْ يَرْتَفِعْ مِنْهُ ذَلِكَ الضَّرَرُ قَالَ: يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.

.كِتَابُ الظِّهَارِ:

وَالْأَصْلُ فِي الظِّهَارِ في الكتاب والسنة الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الْآيَةَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: «ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أُوَيْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو إِلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ، فَمَا خَرَجْتُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) الْآيَاتِ، فَقَالَ: لِيُعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَتْ: لَا يَجِدُ، قَالَ: فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، قَالَ: فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍّ، قَالَتْ: وَأَنَا أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: لَقَدْ أَحْسَنْتِ اذْهَبِي فَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْكَلَامُ فِي أُصُولِ الظِّهَارِ يَنْحَصِرُ فِي سَبْعَةِ فُصُولٍ:
مِنْهَا: فِي أَلْفَاظِ الظِّهَارِ.
وَمِنْهَا: فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ.
وَمِنْهَا: فِيمَنْ يَصِحُّ فِيهِ الظِّهَارُ. وَمِنْهَا فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُظَاهِرِ.
وَمِنْهَا: هَلْ يَتَكَرَّرُ الظِّهَارُ بِتَكَرُّرِ النِّكَاحِ؟
وَمِنْهَا: هَلْ يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَيْهِ؟
وَمِنْهَا: الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَلْفَاظِ الظِّهَارِ:

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا ذَكَرَ عُضْوًا غَيْرَ الظَّهْرِ، أَوْ ذَكَرَ ظَهَرَ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ عَلَى التَّأْبِيدِ غَيْرَ الْأُمِّ. فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ ظِهَارٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا إِلَّا بِلَفْظِ الظَّهْرِ وَالْأُمِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ بِكُلِّ عُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى لِلظَّاهِرِ: وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيمِ تَسْتَوِي فِيهِ الْأُمُّ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالظَّهْرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْضَاءِ.
وَأَمَّا الظَّاهِرُ مِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسَمَّى ظِهَارًا إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهِ لَفْظُ الظَّهْرِ وَالْأُمِّ.
وَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ عَلَيَّ كَأُمِّي وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَنْوِي فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِجْلَالَ لَهَا وَعِظَمَ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ ظِهَارٌ.
وَأَمَّا مَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّهُ ظِهَارٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ بِظِهَارٍ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِمُحَرَّمَةٍ غَيْرِ مُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ كَتَشْبِيهِهَا بِمُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ؟

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ:

وَأَمَّا شُرُوطُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ في الظهار: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ دُونَ الْعَوْدِ، وَشَذَّ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ فَقَالَا: لَا تَجِبُ دُونَ الْعَوْدِ. وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَهُوَ نَصٌّ فِي مَعْنَى وُجُوبِ تَعَلُّقِ الْكَفَّارَةِ بِالْعَوْدِ. وَأَيْضًا فَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الظِّهَارَ يُشْبِهُ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ، فَكَمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمُخَالَفَةِ أَوْ بِإِرَادَةِ الْمُخَالَفَةِ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الظِّهَارِ. وَحُجَّةُ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ: أَنَّهُ مَعْنَى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْعُلْيَا، فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَهَا بِنَفْسِهِ لَا بِمَعْنًى زَائِدٍ تَشْبِيهًا بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْفِطْرِ. وَأَيْضًا قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ طَلَاقَ الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ تَحْرِيمُهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وَالْعَوْدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْعَوْدُ فِي الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ الْعَوْدِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مَا هُوَ؟
فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَالْوَطْءِ مَعًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِمَ عَلَى وَطْئِهَا فَقَطْ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ نَفْسُ الْوَطْءِ، وَهِيَ أَضْعَفُ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَوْدُ هُوَ الْإِمْسَاكُ نَفْسُهُ، قَالَ: وَمَنْ مَضَى لَهُ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ وَلَمْ يُطَلِّقْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَائِدٌ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ إِقَامَتَهُ زَمَانًا يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَلِّقَ يَقُومُ مَقَامَ إِرَادَةِ الْإِمْسَاكِ مِنْهُ، أَوْ هُوَ دَلِيلُ ذَلِكَ. وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: الْعَوْدُ هُوَ أَنْ يُكَرِّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ ثَانِيَةً، وَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِعَائِدٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. فَدَلِيلُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَالِكٍ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الظِّهَارِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِرَادَتِهِ الْعَوْدَ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ، وَهُوَ الْوَطْءُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَوْدَةُ هِيَ: إِمَّا الْوَطْءُ نَفْسُهُ، وَإِمَّا الْعَزْمُ عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ نَفْسُهُ هُوَ الْوَطْءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا حَتَّى يُكَفِّرَ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْعَوْدُ نَفْسُهُ هُوَ الْإِمْسَاكَ لَكَانَ الظِّهَارُ نَفْسُهُ يُحَرِّمُ الْإِمْسَاكَ فَكَانَ الظِّهَارُ يَكُونُ طَلَاقًا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُعَرِّفُهُ الْفُقَهَاءُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْعَوْدِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَرَاهُ دَاوُدُ، أَوِ الْوَطْءَ نَفْسَهُ، أَوِ الْإِمْسَاكَ نَفْسَهُ، أَوْ إِرَادَةَ الْوَطْءِ. وَلَا يَكُونُ تَكْرَارَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ، وَالتَّأْكِيدُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَلَا يَكُونُ إِرَادَةَ الْإِمْسَاكِ لِلْوَطْءِ، فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ بَعْدُ، فَقَدْ بَقِيَ أَنْ يَكُونَ إِرَادَةَ الْوَطْءِ، وَإِنْ كَانَ إِرَادَةَ الْإِمْسَاكِ لِلْوَطْءِ فَقَدْ أَرَادَ الْوَطْءَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ. وَمُعْتَمَدُ الشَّافِعِيَّةِ فِي إِجْرَائِهِمْ إِرَادَةَ الْإِمْسَاكِ، أَوِ الْإِمْسَاكَ مَجْرَى إِرَادَةِ الْوَطْءِ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ يَلْزَمُ عَنْهُ الْوَطْءُ، فَجَعَلُوا لَازِمَ الشَّيْءِ مُشَبَّهًا بِالشَّيْءِ، وَجَعَلُوا حُكْمَهُمَا وَاحِدًا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الْإِمْسَاكِ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ الْإِمْسَاكِ، وَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَ إِثْرَ الظِّهَارِ، وَلِهَذَا احْتَاطَ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، فَجَعَلَ الْعَوْدَ هُوَ إِرَادَةَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا (أَعْنِي: الْوَطْءَ وَالْإِمْسَاكَ).
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ الْوَطْءَ فَضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهَا تَشْبِيهُ الظِّهَارِ بِالْيَمِينِ (أَيْ: كَمَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إِنَّمَا تَجِبُ بِالْحِنْثِ كَذَلِكَ الْأَمْرُ هَاهُنَا)، وَهُوَ قِيَاسُ شَبَهٍ عَارَضَهُ النَّصُّ.
وَأَمَّا دَاوُدُ: فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وَذَلِكَ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى الْقَوْلِ نَفْسِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ الْعَوْدُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظِهَارِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: ثُمَّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا. وَسَبَبُ الْخِلَافِ بِالْجُمْلَةِ إِنَّمَا هُوَ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ لِلْمَفْهُومِ: فَمَنِ اعْتَمَدَ الْمَفْهُومَ جَعَلَ الْعَوْدَةَ إِرَادَةَ الْوَطْءِ أَوِ الْإِمْسَاكِ، وَتَأَوَّلَ مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} بِمَعْنَى الْفَاءِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَمَدَ الظَّاهِرَ: فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعَوْدَةَ تَكْرِيرَ اللَّفْظِ، وَأَنَّ الْعَوْدَةَ الثَّانِيَةَ إِنَّمَا هِيَ ثَانِيَةٌ لِلْأُولَى الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَنْ تَأَوَّلَ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَالْأَشْبَهُ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ بِنَفْسِ الظِّهَارِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، إِلَّا أَنْ يُقَدِّرَ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفًا وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِمْسَاكِ، فَهُنَا إِذًا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَوْدَةُ هِيَ تَكْرَارَ اللَّفْظِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِرَادَةَ الْإِمْسَاكِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَوْدَةَ الَّتِي هِيَ فِي الْإِسْلَامِ. وَهَذَانِ يَنْقَسِمَانِ قِسْمَيْنِ (أَعْنِي الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ): أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَدِّرَ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفًا، وَهُوَ إِرَادَةُ الْإِمْسَاكِ فَيُشْتَرَطُ هَذِهِ الْإِرَادَةُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَإِمَّا أَلَّا يُقَدِّرَ فِيهَا مَحْذُوفًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فُرُوعٍ وَهُوَ: هَلْ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ إِرَادَةِ الْإِمْسَاكِ، أَوْ مَاتَتْ عَنْهُ زَوْجَتُهُ، هَلْ تَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟
في الظهار فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ إِرَادَةِ الْعَوْدَةِ، أَوْ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَأَنَّهَا إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ إِرَادَةِ الْعَوْدَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مِيرَاثِهَا إِلَّا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا شُذُوذٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.