فصل: الحديث الثاني والتسعون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار **


 الحديث الثاني والثمانون

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لا يرحم الناس‏:‏ لا يرحمه الله‏)‏ متفق عليه‏.‏

يدل هذا الحديث بمنطوقه على أن من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وبمفهومه على أن من يرحم الناس يرحمه الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏الراحمون يرحمهم الرحمن‏.‏ ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء‏)‏‏.‏

فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله‏.‏

فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله‏.‏ والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم‏.‏

والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان‏:‏

النوع الأول‏:‏ رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم‏.‏ فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك‏.‏ ويعلم أن الجزاء من جنس العمل‏.‏ ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك‏:‏ من البغضاء، والعداوات، والتدابر‏.‏

فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق‏.‏

ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل‏.‏

وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم‏.‏

وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم‏.‏ فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته‏.‏

ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد‏:‏ ‏(‏ما هذا يا رسول الله‏؟‏‏)‏ فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال‏:‏ ‏(‏هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء‏)‏ وقال عند موت ابنه إبراهيم‏:‏ ‏(‏القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا‏.‏ وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏.‏

وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبلون أولادهم الصغار، فقال ذلك الأعرابي‏:‏ إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو أملك لك شيئاً أن نزع الله من قلبك الرحمة‏؟‏‏)‏‏.‏

ومن الرحمة‏:‏ رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش‏.‏ فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة‏.‏

وضدها‏:‏ تعذيب المرأة التي ربطت الهرة، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، حتى ماتت‏.‏

ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها‏.‏ ومن أساء إليها‏:‏ عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها‏.‏

فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب من أبواب رحمة الله، ونحنوا بها على جميع خلق الله، وأن يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته، إنه جواد كريم‏.‏

 الحديث الثالث والثمانون

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثَره، فليَصِلْ رحمه‏)‏ متفق عليه‏.‏

هذا الحديث فيه‏:‏ الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضى الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل، بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه‏.‏ وسبب لطول العمر‏.‏ وذلك حق على حقيقته؛ فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها‏.‏

وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يُنال به‏.‏ وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده، جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزق، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته، ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل‏.‏

وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب، من أسباب طول العمر‏.‏ فكذلك صلة الرحم جعلها الله سبباً ربانياً، فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان‏:‏ أمور محسوسة، تدخل في إدراك الحواس، ومدارك العقول‏.‏ وأمور ربانية إلهية قَدَّرها مَنْ هو على كل شيء قدير، ومَنْ جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته، ومَنْ تكفل بالكفاية للمتوكلين، ووعد بالرزق والخروج من المضائق للمتقين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما نقصت صدقة من مال‏)‏ بل تزيده‏.‏ فكيف بالصدقة والهدية على أقاربه وأرحامه‏؟‏

وفي هذا الحديث دليل‏:‏ على أن قصد العامل، ما يترتب على عمله من ثواب الدنيا لا يضره إذا كان القصد وجه الله والدار الآخرة‏.‏ فإن الله بحكمته ورحمته رتب الثواب العاجل والآجل‏.‏ ووعد بذلك العاملين؛ لأن الأمل واستثمار ذلك ينشط العاملين، ويبعث هممهم على الخير‏.‏ كما أن الوعيد على الجرائم، وذكر عقوباتها مما يخوِّف الله به عباده ويبعثهم على ترك الذنوب والجرائم‏.‏

فالمؤمن الصادق يكون في فعله وتركه مخلصاً لله، مستعيناً بما في الأعمال من المرغبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى‏.‏ والله الموفق‏.‏

 الحديث الرابع والثمانون

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏ متفق عليه‏.‏

هذا الحديث فيه‏:‏ الحث على قوة محبة الرسل واتباعهم بحسب مراتبهم، والتحذير من محبة ضدهم؛ فإن المحبة دليل على قوة اتصال المحب بمن يحبه، ومناسبته لأخلاقه، واقتدائه به‏.‏ فهي دليل على وجود ذلك‏.‏ وهي أيضاً باعثة على ذلك‏.‏

وأيضاً من أحب لله تعالى، فإن نفس محبته من أعظم ما يقربه إلى الله؛ فإن الله تعالى شكور، يعطي المتقرب أعظم – بأضعاف مضاعفة – مما بذل‏.‏ ومن شكره تعالى‏:‏ أن يلحقه بمن أحب، وإن قصر عمله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏.‏

ولهذا قال أنس‏:‏ ‏(‏ما فرحنا بشيء فرحنا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏.‏ قال‏:‏ فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ‏}‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏.‏

وهذا مشاهد مجرب إذا أحب العبد أهل الخير رأيته منضماً إليهم، حريصاً على أن يكون مثلهم‏.‏ وإذا أحب أهل الشر انضم إليهم، وعمل بأعمالهم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل‏"‏، ‏(‏ومثل الجليس الصالح، كحامل المسك‏:‏ إما أن يَحْذيك وإما أن يبيعك، وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ومثل الجليس السوء كنافخ الكِيْر‏:‏ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة‏)‏‏.‏

وإذا كان هذا في محبة الخلق فيما بينهم، فكيف بمن أحب الله، وقدَّم محبته وخشيته على كل شيء‏؟‏ فإنه مع الله، وقد حصل له القرب الكامل منه‏.‏ وهو قرب المحبين، وكان الله معه‏.‏ فـ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏‏.‏

وأعلى أنواع الإحسان محبة الرحيم الكريم الرحمن، محبة مقرونة بمعرفته‏.‏

فنسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه، وحب العمل الذي يقرّب إلى حبه؛ إنه جواد كريم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

 الحديث الخامس والثمانون

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر‏:‏ كبر ثلاثاً، ثم قال‏:‏ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مُقْرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏.‏ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البِرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى‏.‏ اللهم هَوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عَنَّا بُعده‏.‏ اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل‏.‏ اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في المال والأهل والولد‏.‏ وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن‏:‏ آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون‏)‏ رواه مسلم‏.‏

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر‏.‏

وقد اشتملت هذه الأدعية على طلب مصالح الدين – التي هي أهم الأمور – ومصالح الدنيا، وعلى حصول المحاب، ودفع المكاره والمضار وعلى شكر نعم الله، والتذكر لآلائه وكرمه، واشتمال السفر على طاعة الله، وما يقرب إليه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏كان إذا استوى على راحلته خارجاً إلى سفر‏:‏ كبر ثلاثاً‏)‏ هو افتتاح لسفره بتكبير الله، والثناء عليه، كما كان يختم بذلك‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏)‏ فيه الثناء على الله بتسخيره للمركوبات، التي تحمل الأثقال والنفوس إلى البلاد النائبة، والأقطار الشاسعة، واعتراف بنعمة الله بالمركوبات‏.‏

وهذا يدخل فيه المركوبات‏:‏ من الإبل، ومن السفن البحرية، والبرية، والهوائية‏.‏ فكلها تدخل في هذا‏.‏

ولهذا قال نوح صلى الله عليه وسلم للراكبين معه في السفينة‏:‏ ‏{‏ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏

فهذه المراكب، كلها وأسبابها، وما به تتم وتكمل، كله من نعم الله وتسخيره‏.‏ يجب على العباد الاعتراف لله بنعمته فيها، وخصوصاً وقت مباشرتها‏.‏

وفيه‏:‏ تذكر الحالة التي لولا الباري لما حصلت وذللت في قوله‏:‏ ‏(‏وما كنا له مقرنين‏)‏ أي مطيقين، لو رَدَّ الأمر إلى حولنا وقوتنا، لكنَّا أضعف شيء علماً، وقدرة وإرادة، ولكنه تعالى سخر الحيوانات وعلَّم الإنسان صنعة المركوبات، كما امتن الله في تيسير صناعة الدروع الواقعية في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ‏}‏ ‏.‏

فعلى الخلق أن يشكروا الله، إذ علمهم صناعة اللباس الساتر للعورات، ولباس الرياش، ولباس الحرب وآلات الحرب‏.‏ وعلمهم صنعة الفلك البحرية والبرية والهوائية، وصنعة كل ما يحتاجون إلى الانتفاع به، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس متنوعة‏.‏ ولكن أكثر الخلق في غفلة عن شكر الله، بل في عتو واستكبار على الله، وتجبر بهذه النعم على العباد‏.‏

وفي هذا الحديث التذكر بسفر الدنيا الحِسِّي لسفر الآخرة المعنوي؛ لقوله‏:‏ ‏(‏وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏)‏ فكما بدأ الخلق فهو يعيدهم ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى‏)‏‏.‏

سأل الله أن يكون السفر موصوفاً بهذا الوصف الجليل، محتوياً على أعمال البر كلها المتعلقة بحق الله والمتعلقة بحقوق الخلق، وعلى التقوى التي هي اتقاء سخط الله، بترك جميع ما يكرهه الله من الأعمال، والأقوال، الظاهرة والباطنة، كما سأله العمل بما يرضاه الله‏.‏

وهذا يشمل جميع الطاعات والقربات‏.‏ ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السفر الرابح، وهو السفر المبارك‏.‏

وقد كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة‏.‏

ثم سأل الله الإعانة، وتهوين مشاق السفر، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطَوِعَنَّا بعده‏)‏ لأن السفر قطعة من العذاب‏.‏ فسأل تهوينه، وطَيَّ بعيده‏.‏ وذلك بتخفيف الهموم والمشاق، وبالبركة في السير، حتى يقطع المسافات البعيدة، وهو غير مكترث، ويقيّض له من الأسباب المريحة في السفر أموراً كثيرة، مثل راحة القلب، ومناسبة الرفقة، وتيسير السير، وأمن الطريق من المخاوف، وغير ذلك من الأسباب‏.‏

فكم من سفر امتد أياماً كثيرة، لكن الله هونه، ويسره على أهله‏.‏ وكم من سفر قصير صار أصعب من كل صعب‏.‏ فما ثَمَّ إلا تيسير الله ولطفه ومعونته‏.‏

ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر‏)‏ أي‏:‏ مشقته وصعوبته ‏(‏وكآبة المنظر‏)‏ أي‏:‏ الحزن الملازم والهم الدائم ‏(‏وسوء المنقلب، في المال والأهل الوالد‏)‏ أي‏:‏ يا رب نسألك أن تحفظ علينا كل ما خلّفناه وراءنا، وفارقناه بسفرنا من أهل وولد ومال، وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة، والنعم المتواترة علينا وعليهم؛ فبذلك تتم النعمة، ويكمل السرور‏.‏

وكذلك يقول هذا في رجوعه، وعوده من سفره‏.‏ ويزيد‏:‏ ‏(‏آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون‏)‏ أي‏:‏ نسألك اللهم أن تجعلنا في إيابنا ورجوعنا ملازمين للتوبة لك، وعبادتك وحمدك، وأن تختم سفرنا بطاعتك، كما ابتدأته بالتوفيق لها‏.‏

ولهذا قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا‏}

ومدخل الصدق ومخرجه، أن تكون أسفار العبد ومداخله ومخارجه كلها تحتوي على الصدق والحق، والاشتغال بما يحبه الله، مقرونة بالتوكل على الله، ومصحوبة بمعونته‏.‏

وفيه اعتراف بنعمته آخراً، كما اعترف بها أولاً، في قوله‏:‏ ‏(‏لربنا حامدون‏)‏‏.‏

فكما أن على العبد أن يحمد الله على التوفيق لفعل العبادة والشروع في الحاجة فعليه أن يحمد الله على تكميلها وتمامها، والفراغ منها؛ فإن الفضل فضله، والخير خيره، والأسباب أسبابه‏.‏ والله ذو الفضل العظيم‏.‏

 الحديث السادس والثمانون

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏

هذا كلام جامع‏.‏ استدل به أهل العلم على مشروعية جميع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاله في حجة وجوباً في الواجبات، ومستحباً في المستحبات، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ فكما أن ذلك يشمل جزئيات الصلاة كلها‏.‏ فهذا يشمل جزئيات المناسك كلها‏.‏

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام حسن جداً في خلاصة حج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ذكره في القواعد النورانية‏.‏ فقال قدس الله روحه ورضي عنه‏:‏

وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏من شاء أن يهل بعمرة فليفعل‏.‏ ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل‏.‏ ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏)‏ فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه لا يُحل حتى يَبْلغ الهديُ مَحِلَّه ، فراجعه بعضهم في ذلك‏.‏ فغضب، وقال‏:‏ ‏(‏انظروا ما أمرتكم به فافعلوه‏)‏‏.‏ وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، فلم يحل من إحرامه‏.‏ ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي‏.‏ ولجعلتها عمرة، ولولا أن معي الهدي لأحللت‏)‏‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏(‏إني لَبِّدْتُ رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر‏)‏‏.‏ فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي، منهم‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله‏.‏ فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج، وهم ذاهبون إلى منى‏.‏ فبات بهم تلك الليلة بمنى‏.‏ وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر‏.‏ ثم سار بهم إلى نمرة، على طريق ضَبٍّ، ونمرة خارجة من عرفة، من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم، ولا من عرفة‏.‏ فنصبت له القبة بنمرة‏.‏ وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده، وبها الأسواق، وقضاء الحاجة، والأكل، ونحو ذلك‏.‏ فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عُرنَةَ، حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم، ولا من عَرَفَة‏.‏ وإنما هو برزخ بين المشعرين‏:‏ الحلال والحرام هناك، بينه وبين الموقف نحو ميل‏.‏ فخطب فيهم خطبة الحج على راحلته‏.‏ وكان يوم الجمعة، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين‏.‏ ثم سار – والمسلمون معه – إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة‏.‏ واسمه ‏(‏إلال‏)‏ على وزن هلال‏.‏ وهو الذي تسميه العامة عرفة‏.‏ فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس‏.‏ فدفع بهم إلى مزدلفة، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال، حين نزلوا بمزدلفة، وبات بها حتى طلع الفجر، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها، مغلساً بها زيادة على كل يوم، ثم وقف عند قُزَح، وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام‏.‏ فلم يزل واقفاً بالمسلمين إلى أن أسفر جداً، ثم دفع بهم حتى قدم منى، فاستفتحها برمي جمرة العقبة، ثم رجع إلى منزله بمنى، ثم أتى المنحر ونحر ثلاثاً وستين بَدَنة من الهدي الذي ساقه‏.‏ وأمر عليَاً فنحر الباقي‏.‏ وكان مائة بدنة ثم حلق رأسه‏.‏ ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة‏.‏ وكان قد عَجَّل ضَعَفة أهله من مزدلفة قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل‏.‏ ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث، يصلي بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يستفتح بالجمرة الأولى – وهي الصغرى، وهي الدنيا إلى مني – والقصوى من مكة‏.‏ ويختتم بجمرة العقبة، ويقف بين الجمرتين‏:‏ الأولى والثانية، وبين الثانية والثالثة وقوفاً طويلاً بقدر سورة البقرة، يذكر الله ويدعو ؛ فإن المواقف ثلاث‏:‏ عرفة ومزدلفة، ومنى‏.‏ ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون، فنزل بالمحصَّب، عند خيف بني كنانة، فبات هو والمسلمون ليلة الأربعاء‏.‏ وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن؛ لتعتمر من التنعيم، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة، من طريق أهل المدينة‏.‏ وقد بُني بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة‏.‏ فلم تطف قبل الوقوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة‏)‏ ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة‏.‏ ولم يقم بعد أيام التشريق، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة – رضي الله عنها – وحدها فأخذ فقهاء الحديث – كأحمد وغيره – بسنته في ذلك كله، إلى آخر ما قال رحمه الله ورضي عنه‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث السابع والثمانون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ تعدل ثلث القرآن‏)‏ رواه مسلم‏.‏

تكلم أهل العلم على معنى هذه المعادلة وتوجيهها‏.‏

وأحسن ما قيل فيها‏:‏ أن معادلتها لثلث القرآن؛ لما تضمنته من المعاني العظيمة‏:‏ معاني التوحيد، وأصول الإيمان‏.‏ فإن المواضيع الجليلة التي اشتمل القرآن عليها‏:‏

1- إما أحكام شرعية‏:‏ ظاهرة أو باطنة، عبادات أو معاملات‏.‏

2- وإما قصص وأخبار عن المخلوقات السابقة واللاحقة، وأحوال المكلفين في الجزاء على الأعمال‏.‏

3- وإما توحيد ومعارف، تتعلق بأسماء الله وصفاته، وتفرده بالوحدانية والكمال، وتنزهه عن كل عيب، ومماثلة أحد من المخلوقات‏.‏

فسورة ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ مشتملة على هذا، وشاملة لكل ما يجب اعتقاده من هذا الأصل، الذي هو أصل الأصول كلها‏.‏

ولهذا أمنا الله أن نقولها بألسنتنا، ونعرفها بقلوبنا، ونعترف بها وندين لله باعتقادها‏.‏ والتعبد لله بها، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

فالله‏:‏ هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون هو المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس، ذو الجلال والإكرام‏.‏

و‏"‏الأحد‏)‏ يعني‏:‏ الذي تفرد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال وحمد، وحكمة ورحمة، وغيرها من صفات الكمال‏.‏

فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه‏.‏ فهو الأحد في حياته وقيوميته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات‏.‏

ومن تحقيق أحديته وتفرده بها أنه ‏(‏الصمد‏)‏ أي‏:‏ الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها‏.‏ ووصف بغايتها وكمالها، بحيث لا تحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تعبر عنها ألسنتهم‏.‏ وهو المصمود إليه، المقصود في جميع الحوائج والنوائب ‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}

فهو الغني بذاته، وجميع الكائنات فقيرة إليه بذاتهم، في إيجادهم وإعدادهم وإمدادهم بكل ما هم محتاجون إليه من جميع الوجوه‏.‏ ليس لأحد منها غني عنه مثقال ذرة، في كل حالة من أحوالها‏.‏

فالصمد‏:‏ هو المصمود إليه، المقصود في كل شيء؛ لكماله وكرمه وجوده وإحسانه‏.‏ ولذلك ‏{‏لم يلد ولم يولد‏}‏ فإن المخلوقات كلها متولد بعضها من بعض، وبعضها والد بعض، وبعضها مولود وكل مخلوق فإنه مخلوق من مادة، وأما الرب جل جلاله، فإنه منزه عن مماثلتها في هذا الوصف، كما هو منزه عن مماثلتها في كل صفة نقص‏.‏

ولهذا حقق ذلك التنزيه، وتمم ذلك الكمال بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس له نظير ولا مكافئ ولا مثيل، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في جميع حقوقه التي اختص بها‏.‏

فحقه الخاص أمران‏:‏ التفرد بالكمال كله من جميع الوجوه، والعبودية الخالصة من جميع الخلق‏.‏

فحق لسورة تتضمن هذه الجمل العظيمة‏:‏ أن تعادل ثلث القرآن‏.‏ فإن جميع ما في القرآن من الأسماء الحسنى، ومن الصفات العظيمة العليا، ومن أفعال الله وأحكام صفاته، تفاصيل لهذه الأسماء التي ذكرت في هذه السورة، بل كان ما في القرآن من العبوديات الظاهرة والباطنة، وأصنافها وتفاصيلها، تفصيل لمضمون هذه السورة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الثامن والثمانون

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق‏.‏ ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها‏)‏ متفق عليه‏.‏

الحسد نوعان‏:‏ نوع محرم مذموم على كل حال، وهو أن يتمنى زوال نعمة الله عن العبد – دينية أو دنيوية – وسواء أحب ذلك محبة استقرت في قلبه، ولم يجاهد نفسه عنها، أو سعى مع ذلك في إزالتها وإخفائها‏:‏ وهذا أقبح؛ فإنه ظلم متكرر‏.‏

وهذا النوع هو الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ أن لا يتمنى زوال نعمة الله عن الغير، ولكن يتمنى حصول مثلها له، أو فوقها أو دونها‏.‏

وهذا نوعان‏:‏ محمود وغير محمود‏.‏

فالمحمود من ذلك‏:‏ أن يرى نعمة الله الدينية على عبده، فيتمنى أن يكون له مثلها‏.‏ فهذا من باب تمني الخير‏.‏ فإن قارن ذلك سعى وعمل لتحصيل ذلك، فهو نور على نور‏.‏

وأعظم من يغبط‏:‏ من كان عنده مال قد حصل له من حِلَّه، ثم سُلّط ووفق على إنفاقه في الحق، في الحقوق الواجبة والمستحبة؛ فإن هذا من أعظم البرهان على الإيمان، ومن أعظم أنواع الإحسان‏.‏

ومن كان عنده علم وحكمة علمه الله إياها، فوفق لبذلها في التعليم والحكم بين الناس‏.‏ فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شيء‏.‏

الأول‏:‏ ينفع الخلق بماله، ويدفع حاجاتهم، وينفق في المشاريع الخيرية، فتقوم ويتسلسل نفعها، ويعظم وقعها‏.‏

والثاني‏:‏ ينفع الناس بعلمه، وينشر بينهم الدين والعلم الذي يهتدي به العباد في جميع أمورهم‏:‏ من عبادات ومعاملات وغيرها‏.‏

ثم بعد هذين الاثنين‏:‏ تكون الغبطة على الخير، بحسب حاله ودرجاته عند الله‏.‏ ولهذا أمر الله تعالى بالفرح والاستبشار بحصول هذا الخير، وإنه لا يوفق لذلك إلا أهل الحظوظ العظيمة العالية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ ‏.‏

وقد يكون من تمنى شيئاً من هذه الخيرات، له مثل أجر الفاعل إذا صدقت نيته، وصمم عن عزيمته أن لو قدر على ذلك العمل، لَعَمِلَ مثله، كما ثبت بذلك الحديث‏.‏ وخصوصاً إذا شرع وسعى بعض السعي‏.‏

وأما الغبطة التي هي غير محمودة، فهي تمني حصول مطالب الدنيا لأجل اللذات، وتناول الشهوات، كما قال الله تعالى حكاية عن قوم قارون‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ فإن تمني مثل حالة من يعمل السيئات فهو بنيته، ووزرهما سواء‏.‏

فهذا التفصيل يتضح الحسد المذموم في كل حال‏.‏ والحسد الذي هو الغبطة، الذي يحمد في حال، ويذم في حال‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث التاسع والثمانون

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو، فيقول‏:‏ اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى‏)‏ رواه مسلم‏.‏

هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها‏.‏ وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا؛ فإن ‏(‏الهدى‏)‏ هو العلم النافع‏.‏ و‏"‏التقى‏)‏ العمل الصالح، وترك ما نهى الله ورسوله عنه‏.‏ وبذلك يصلح الدين‏.‏ فإن الدين علوم نافعة، ومعارف صادقة‏.‏ فهي الهدى، وقيام بطاعة الله ورسوله‏:‏ فهو التقى‏.‏

و‏"‏العفاف والغنى‏)‏ يتضمن العفاف عن الخلق، وعدم تعليق القلب بهم‏.‏ والغنى بالله وبرزقه، والقناعة بما فيه، وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية‏.‏ وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا، والراحة القلبية، وهي الحياة الطيبة‏.‏

فمن رزق الهدى والتقى، والعفاف والغنى، نال السعادتين، وحصل له كل مطلوب‏.‏ ونجا من كل مرهوب‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث التسعون

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة‏:‏ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر‏.‏ وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه‏)‏ رواه مسلم‏.‏

لا شك أن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وأن هذه غاية يسعى إليها جميع المؤمنين‏.‏ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لها سببين ، ترجع إليهما جميع الشعب والفروع‏:‏ الإيمان بالله واليوم الآخر، المتضمن للإيمان بالأصول التي ذكرها الله بقوله‏:‏ ‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ – الآية‏}‏

ومتضمن للعمل للآخرة والاستعداد لها؛ لأن الإيمان الصحيح يقتضي ذلك ويستلزمه‏.‏ والإحسان إلى الناس، ون يصل إليهم منه من القول والفعل والمال والمعاملة ما يحب أن يعاملوه به‏.‏

فهذا هو الميزان الصحيح للإحسان وللنصح، فكل أمر أشكل عليك مما تعامل به الناس فانظر هل تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة أم لا‏؟‏ فإن كنت تحب ذلك، كنت محباً لهم ما تحب لنفسك، وإن كنت لا تحب أن يعاملوك بتلك العاملة‏:‏ فقد ضيعت هذا الواجب العظيم‏.‏

فالجملة الأولى‏:‏ فيها القيام بحق الله‏.‏ والجملة الثانية فيها القيام بحق الخلق‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الحادي والتسعون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يرضى لكمن ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً‏.‏ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا‏.‏ ويكره لكم، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال‏)‏ رواه مسلم‏.‏

فيه إثبات الرضى لله، وذكر متعلقاته، وإثبات الكراهة منه‏.‏ وذكر متعلقاتها؛ فإن الله جل جلاله من كرمه على عباده، يرضى لهم ما فيه مصلحتهم، وسعادتهم في العاجل والآجل‏.‏

وذلك بالقيام بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له بأن يقوم الناس بعقائد الإيمان وأصوله، وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، وبالأعمال الصالحة، والأخلاق الزاكية‏.‏ كل ذلك خالصاً لله موافقاً لمرضاته‏.‏ على سنة نبيه‏.‏ ويعتصموا بحبل الله، وهو دينه الذي هو الوصلة بينه وبين عباده‏.‏ فيقوموا به مجتمعين متعاونين على البر والتقوى ‏(‏المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره‏)‏ بل يكون محباً له مصافياً، وأخاً معاوناً‏.‏

وبهذا الأصل والذي قبله يكمل الدين، وتتم النعمة على المسلمين، ويعزهم الله بذلك وينصرهم، لقيامهم بجميع الوسائل التي أمرهم الله بها والتي تكفل لمن قام بها بالنصر والتمكين، وبالفلاح والنجاح العاجل والآجل‏.‏

ثم ذكر ما كره الله لعباده، مما ينافي هذه الأمور التي يحبها وينقضها‏.‏ فمنها‏:‏ كثرة القيل والقال؛ فإن ذلك من دواعي الكذب، وعدم التثبت، واعتقاد غير الحق‏.‏ ومن أسباب وقوع الفتن، وتنافر القلوب‏.‏ ومن الاشتغال بالأمور الضارة عن الأمور النافعة‏.‏ وقلَّ أن يسلم أحد من شيء من ذلك، إذا كانت رغبته في القيل والقال‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏وكثرة السؤال‏)‏ فهذا هو السؤال المذموم، كسؤال الدنيا من غير حاجة وضرورة، والسؤال على وجه التعنت والإعنات، وعن الأمور التي يخشى من ضررها، أو عن الأمور التي لا نفع فيها، الداخلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}

وأما السؤال عن العلوم النافعة على وجه الاسترشاد أو الإرشاد فهذا محمود مأمور به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وإضاعة المال‏)‏ وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسرَّاق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو الغير النافعة‏.‏ فكل هذا داخل في إضاعة المال‏.‏ وإما بتولي ناقصي العقول لها، كالصغار والسفهاء والمجانين ونحوهم؛ لأن الله تعالى جعل الأموال قياماً للناس، بها تقوم مصالحهم الدينية والدنيوية‏.‏ فتمام النعمة فيها أن تصرف فيما خلقت له‏:‏ من المنافع، والأمور الشرعية، والمنافع الدنيوية‏.‏

وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها، يحب منهم أن يكونوا متثبتين في جميع ما يقولونه، وأن لا ينقلوا كل ما سمعوه، وأن يكونوا متحرين للصدق، وأن لا يسألوا إلا عما ينفع، وأن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً‏}‏ ‏.‏

 الحديث الثاني والتسعون

عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ، إلا ما أخذته من ماله بغير علمه‏.‏ فهل عليَّ في ذلك من جناح‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك‏)‏ متفق عليه‏.‏

أخذ العلماء من هذا الحديث فقهاً كثيراً‏.‏ سأشير إلى ما يحضرني‏.‏

منه، أن المستفتى والمتظلم يجوز أن يتكلم بالصدق فيمن تعلق به الاستفتاء والتظلم، وليس من الغيبة المحرمة، وهو أحد المواضع المستثنيات من الغيبة‏.‏ ويجمع الجميع، الحاجة إلى التكلم في الغير؛ فإن الغيبة المحرمة ذكرك أخاك بما يكره‏.‏ فإن احتيج إلى ذلك – كما ذكرنا وكما في النصيحة الخاصة، أو العامة، أو لا يعرف إلا بلقبه – جاز ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود‏.‏

ومنه‏:‏ أن نفقة الأولاد واجبة على الأب، وأنه يختص بها، لا تشاركه الأم فيها ولا غيره‏.‏

وكذلك فيه‏:‏ وجوب نفقة الزوجة، وأن مقدار ذلك الكفاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك‏)‏ وأن الكفاية معتبرة بالعرف بحسب أحوال الناس‏:‏ في زمانهم ومكانهم، ويسرهم وعسرهم، وأن المنفق إذا امتنع أو شحَّ عن النفقة أصلاً أو تكميلاً، فلمن له النفقة أو يباشر الإنفاق أن يأخذ من ماله، ولو بغير علمه‏.‏ وذلك لأن السبب ظاهر‏.‏ ولا ينسب في هذه الحالة إلى خيانة‏.‏ فلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تخن من خانك‏)‏‏.‏

وهذا هو القول الوسط الصحيح في مسألة الأخذ من مال من له حق عليه بغير علمه بمقدار حقه‏.‏ وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، أنه لا يجوز ذلك، إلا إذا كان السبب ظاهراً، كالنفقة على الزوجة والأولاد والمماليك ونحوهم‏.‏ وكحق الضيف‏.‏

ومنه أن المتولي أمراً من الأمور يحتاج فيه إلى تقدير مالي، يقبل قوله في التقدير؛ لأنه مؤتمن، له الولاية على ذلك الشيء‏.‏

ومنه‏:‏ أن المستفتى فتوى لها تعلق بالغير إذا غلب على ظن المسؤول صدقه‏:‏ لا يحتاج إلى إحضار ذلك الغير‏.‏ وخصوصاً إذا كان في ذلك مفسدة، كما في هذه القضية؛ فإنه لو أحضر أبا سفيان لهذه الشكاية لم يؤمن أن يقع بينه وبين زوجه ما لا ينبغي‏.‏

وليس في هذا دلالة على الحكم على الغائب؛ فإن هذا ليس بحكم‏.‏ وإنما هو استفتاء ‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الثالث والتسعون

عن أبي بكرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان‏)‏ متفق عليه‏.‏

هذا الحديث يدل على أمور‏:‏

أحدها‏:‏ نهي الحاكم بين الناس أن يحكم في كل قضية معينة بين اثنين وهو غضبان، سواء كان ذلك في القضايا الدينية أو الدنيوية‏.‏ وذلك لما في الغضب من تغير الفكر وانحرافه‏.‏ وهذا الانحراف للفكر يضر في استحضاره للحق‏.‏ ويضر أيضاً في قصده الحق‏.‏ والغرض الأصلي للحاكم وغيره‏:‏ قصد الحق علماً وعملاً‏.‏

الثاني‏:‏ يدل على أنه ينبغي أن يجتهد في الأخذ بالأسباب التي تصرف الغضب، أو تخففه‏:‏ من التخلق بالحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيبه، وما يسمعه من الخصوم؛ فإن هذا عون كبير على دفع الغضب، أو تخفيفه‏.‏

الثالث‏:‏ يؤخذ من هذا التعليل‏:‏ أن كل ما منع الإنسان من معرفة الحق أو قصده، فحكمه حكم الغضب‏.‏ وذلك كالهم الشديد، والجوع والعطش، وكونه حاقناً أو حاقباً أو نحوها، مما يشغل الفكر مثل أو أكثر من الغضب‏.‏

الرابع‏:‏ أن النهي عن الحكم في حال الغضب ونحوه مقصود لغيره‏.‏ وهو أنه ينبغي للحاكم أن لا يحكم حتى يحيط علماً بالحكم الشرعي الكلي، وبالقضية الجزئية من جميع أطرافها، ويحسن كيف يطبقها على الحكم الشرعي؛ فإن الحاكم محتاج إلى هذه الأمور الثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ العلم بالطرق الشرعية، التي وضعها الشارع لفصل الخصومات والحكم بين الناس‏.‏

الثاني‏:‏ أن يفهم ما بين الخصمين من الخصومة، ويتصورها تصوراً تاماً، ويدع كل واحد منهما يدلي بحجته، ويشرح قضيته شرحاً تاماً‏.‏ ثم إذا تحقق ذلك وأحاط به علماً احتاج إلى الأمر الثالث‏.‏

وهو صفة تطبيقها وإدخالها في الأحكام الشرعية، فمتى وفق لهذه الأمور الثلاثة، وقصد العدل، وفق له، وهدي إليه، ومتى فاته واحد منها، حصل الغلط، واختل الحكم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الرابع والتسعون

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلْ واشرب، والبَسْ وتصدق، من غير سَرَف ولا مَخيلة‏)‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وعلقه البخاري‏.‏

هذا الحديث مشتمل على استعمال المال في الأمور النافعة في الدين والدنيا، وتجنب الأمور الضارة‏.‏ وذلك أن الله تعالى جعل المال قواماً للعباد، به تقوم أحوالهم الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية‏.‏ وقد أرشد الله ورسوله فيه – استخراجاً واستعمالاً، وتدبيراً وتصريفاً – إلى أحسن الطرق وأنفعها، وأحسنها عاقبة‏:‏ حالاً ومآلاً‏.‏

أرشد فيه إلى السعي في تحصيله بالأسباب المباحة والنافعة، وأن يكون الطلب جميلاً، لا كسل معه ولا فتور، ولا انهماك في تحصيله انهِماكاً يخلّ بحالة الإنسان، وأن يتجنب من المكاسب المحرمة والرديئة ثم إذا تحصل سعي الإنسان في حفظه واستعماله بالمعروف، بالأكل والشرب واللباس، والأمور المحتاج إليها، هو ومن يتصل به من زوجة وأولاد وغيرهم، من غير تقتير ولا تبذير‏.‏

وكذلك إذا أخرجه للغير فيخرجه في الطرق التي تنفعه، ويبقى له ثوابها وخيرها، كالصدقة على المحتاج من الأقارب والجيران ونحوهم، وكالإهداء والدعوات التي جرى العرف بها‏.‏

وكل ذلك معلق بعدم الإسراف، وقصد الفخر والخيلاء، كما قيده في هذا الحديث، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}

فهذا هو العدل في تدبير المال‏:‏ أن يكون قواماً بين رتبتي البخل والتبذير‏.‏ وبذلك تقوم الأمور وتتم‏.‏ وما سوى هذا فإثم وضرر، ونقص في العقل والحال‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الخامس والتسعون

عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏قيل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده – أو يحبه – الناس عليه‏؟‏ قال‏:‏ تلك عاجل بشرى المؤمن‏)‏ رواه مسلم‏.‏

أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى؛ فإن الله وعد أولياءه – وهم المؤمنون المتقون – بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة‏.‏

و‏"‏البشارة‏)‏ الخبر أو الأمر السار الذي يعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول‏.‏

أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على يدي الملائكة، كم تكاثرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وهي معروفة‏.‏

وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين؛ نموذجاً وتعجيلاً لفضله، وتعرفاً لهم بذلك، وتنشيطاً لهم على الأعمال فأعمها توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة‏)‏‏.‏

فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظاً بحفظ الله من الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره؛ فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين‏.‏ وإذا ابتدأ عبد بالإحسان أتمه‏.‏ فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني‏.‏ فيسرّ المؤمن بذلك أكمل سرور‏:‏ سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعله‏.‏ وسرور ثان بطمعه الشديد في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله‏.‏

ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ إذا عمل العبد عملاً من أعمال الخير – وخصوصاً الآثار الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له - كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيراً وبركة‏.‏

ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبة المؤمنين للعبد‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا‏}‏ أي محبة منه لهم، وتحبيباً لهم في قلوب العباد‏.‏

ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له‏.‏ والمؤمنون شهداء الله في أرضه‏.‏

ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له؛ فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات‏.‏

ومن البشرى أن يقدر الله على العبد تقديراً يحبه أو يكرهه‏.‏ ويجعل ذلك التقدير وسيلة إلى إصلاح دينه، وسلامته من الشر‏.‏

وأنواع ألطاف الباري سبحانه وتعالى لا تعدّ ولا تحصى، ولا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث السادس والتسعون

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رضى الله في رضى الوالدين‏.‏ وسخط الله في سخط الوالدين‏)‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وصححه ابن حبان والحاكم‏.‏

هذا الحديث دليل على فضل برّ الوالدين ووجوبه، وأنه سبب لرضى الله تعالى‏.‏ وعلى التحذير عن عقوق الوالدين وتحريمه، وأنه سبب لسخط الله‏.‏

ولا شك أن هذا نم رحمة الله بالوالدين والأولاد؛ إذ بين الوالدين وأولادهم من الاتصال ما لا يشبهه شيء من الصلات والارتباط الوثيق، والإحسان من الوالدين الذي لا يساويه إحسان أحد من الخلق‏.‏ والتربية المتنوعة وحاجة الأولاد، الدينية والدنيوية إلى القيام بهذا الحق المتأكد؛ وفاء بالحق، واكتساباً للثواب، وتعليماً لذريتهم أن يعاملوهم بما عاملوا به والديهم‏.‏

هذه الأسباب وما يتفرع عنها موجب لجعل رضاهم مقروناً برضا الله، وضده بضده‏.‏

وإذا قيل‏:‏ فما هو البر الذي أمر الله به ورسوله‏؟‏

قيل‏:‏ قد حَدَّه الله ورسوله بحد معروف، وتفسير يفهمه كل أحد‏.‏ فالله تعالى أطلق الأمر بالإحسان إليهما‏.‏ وذكر بعض الأمثلة التي هي أنموذج من الإحسان‏.‏ فكل إحسان قولي أو فعلي أو بدني، بحسب أحوال الوالدين والأولاد والوقت والمكان، فإن هذا هو البر‏.‏

وفي هذا الحديث‏:‏ ذكر غاية البر ونهايته التي هي رضي الوالدين؛ فالإحسان موجب وسبب، والرضى أثر ومسبب‏.‏ فكل ما أرض الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفية، وسلوك كل طريق ووسيلة ترضيهما، فإنه داخل في البر، كما أن العقوق، كل ما يسخطهما من قول أو فعل‏.‏ ولكن ذلك مقيد بالطاعة لا بالمعصية‏.‏ فمتى تعذر على الولد إرضاء والديه إلا بإسخاط الله، وجب تقديم محبة الله على محبة الوالدين‏.‏ وكان اللوم والجناية من الوالدين، فلا يلومان إلا أنفسهما‏.‏

وفي هذا الحديث‏:‏ إثبات صفة الرضى والسخط لله، وأن ذلك متعلق بمحابه ومراضيه‏.‏ فالله تعالى يحب أولياءه وأصفياءه‏.‏ ويحب من قام بطاعته وطاعة رسوله‏.‏ وهذا من كماله وحكمته وحمده، ورحمته ورضاه وسخطه، من صفاته المتعلقة بمشيئته وقدرته‏.‏

والعصمة في ذلك‏:‏ أنه يجب على المؤمن أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله من صفات الكمال الذاتية والفعلية، على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه ومجده‏.‏ ويعلم أن الله ليس له نِدٌّ، ولا كفو، ولا مثيل في ذاته وأسمائه، وصفاته وأفعاله‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث السابع والتسعون

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث لا يَغُلُّ عليهن قلب مسلم‏:‏ إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏ رواه مسلم‏.‏

قال الشيخ شمس الدين ابن القيم رحمه الله‏:‏ أي لا يبقى في القلب غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه منه؛ فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل‏.‏ وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلال‏.‏ فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً‏.‏ ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريد الإخلاص والنصح، ومتابعة السنة‏.‏ انتهى‏.‏

أي فمن أخلص أعماله كلها لله، ونصح في أموره كلها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلاف، وعدم الاختلاف‏.‏ وصار قلبه صافياً نقياً، صار لله ولياً‏.‏ ومن كان بخلاف ذلك امتلأ قلبه من كل آفة وشر‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الثامن والتسعون

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الناس كالإبل المائة‏.‏ لا تكاد تجد فيها راحلة‏)‏ متفق عليه‏.‏

هذا الحديث مشتمل على خير صادق، وإرشاد نافع‏.‏

أما الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر، أن النقص شامل لأكثر الناس، وأن الكامل – أو مقارب الكمال – فيهم قليل، كالإبل المائة، تستكثرها‏.‏ فإذا أردت منها راحلة تصلح للحمل والركوب، والذهاب والإياب، لم تكد تجدها‏.‏ وهكذا الناس كثير‏.‏ فإذا أردت أن تنتخب منهم من يصلح للتعليم أو الفتوى أو الإمامة، أو الولايات الكبار أو الصغار، أو للوظائف المهمة، لم تكد تجد من يقوم بتلك الوظيفة قياماً صالحاً‏.‏ وهذا هو الواقع؛ فإن الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل سبب للنقائص، وهي مانعة من الكمال والتكميل‏.‏

وأما الإرشاد، فإن مضمون هذا الخير، إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة، أن يسعوا، ويجتهدوا في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات، والأمور الكلية العامة النفع‏.‏

وقد أرشد الله إلى هذا المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏.‏ فأمر بالجهاد، وأن يقوم به طائفة كافية، وأن يتصدى للعلم طائفة أخرى؛ ليعين هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء‏.‏ وأمره تعالى بالولايات والتولية أمر بها، وبما لا تتم إلا به، من الشروط والمكملات‏.‏

فالوظائف الدينية والدنيوية، والأعمال الكلية، لابد للناس منها‏.‏ ولا تتم مصلحتهم إلا بها، وهي لا تتم إلا بأن يتولاها الأكفاء والأمناء‏.‏ وذلك يستدعي السعي في تحصيل هذه الأوصاف، بحسب الاستطاعة‏.‏ قال الله تعالى ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث التاسع والتسعون

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر‏)‏ رواه الترمذي‏.‏

وهذا الحديث أيضاً يقتضي خبراً وإرشاداً‏.‏

أما الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر، أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل‏.‏ وهذا القيل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر، من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها، ظاهراً وباطناً، وضعف الإيمان، وشدة التفرد؛ لقلة المعين والمساعد‏.‏

ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين، من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدراً‏.‏

وأما الإرشاد، فإنه إرشاد لأمته، أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر على دينه وإيمانه – مع هذه المعارضات – فإن له عند الله أعلى الدرجات‏.‏ وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه؛ فإن المعونة على قدر المؤنة‏.‏

وما أشبه زماننا هذا بهذا الوصف، الذي ذكره صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سراً وعلناً للقضاء على الدين، وإلحاد وماديات، جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق‏.‏ ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، بحيث أصبحت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا، وتدمير الدين، واحتقاره والاستهزاء بأهله، وبكل ما ينسب غليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشرورها قد شاهده العباد‏.‏

فمع هذه الشرور المتراكمة، والأمواج المتلاطمة، والمزعجات الملمة، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة – مع هذه الأمور وغيرها – تجد مصداق هذا الحديث‏.‏

ولكن مع ذلك، فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصوراً على الأسباب الظاهرة‏.‏ بل يكون ملتفتاً في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل له بعد عسر يسراً، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات، وحلول المنغصات‏.‏

فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال‏:‏ ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏ و ‏(‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ على الله توكلنا‏.‏ اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى‏.‏ وأنت المستعان‏.‏ وبك المستغاث‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏)‏ ويقوم بما يقدر عليه من الإيمان والنصح والدعوة‏.‏ ويقنع باليسير، إذا لم يمكن الكثير‏.‏ وبزوال بعض الشر وتخفيفه، إذا تعذر غير ذلك ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ - وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً‏}‏ ‏.‏

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‏.‏ وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين‏.‏

الخاتمة

تمت هذه الرسالة المشتملة على شرح تسع وتسعين حديثاً، من الأحاديث النبوية الجوامع، في أصناف العلوم، والمواضيع النافعة، والعقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والفقه والآداب، والإصلاحات الشاملة، والفوائد العامة‏.‏

قال ذلك معلقها‏:‏ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي‏.‏ غفر الله له ولوالديه ووالديهم، وجميع المسلمين‏.‏

وفرغ منه في العاشر من شعبان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة‏.‏

وقد وقع الفراغ من نقلها بعون الله تعالى وتيسيره من خط المؤلف 27 رمضان سنة 1371هـ بقلم الفقير إلى ربه المنان عبد الله بن سليمان العبد الله السلمان‏.‏ غفر الله له ولوالديه ووالديهم وجميع المسلمين‏.‏

هذه جوهرة نفيسة‏.‏ وروضة ممرعة، هي، بغية الراغبين، ونزهة المستفيدين، وبهجة الناظرين، لما ظهرت به من مظهر أنيق، وتحلت به من زهور المعارف والتحقيق‏.‏ ولما أودعته من فوائد جليلة، سهل اجتناؤها، وثمرات دانية طاب مذاقها‏.‏ ومناهل عذبة، راق مشربها‏.‏ حيث اشتملت على بيان العقائد النافعة، والأصول الجامعة، والأحكام المتنوعة، والآداب السامية، وغيرها من المواضيع المهمة، والعلوم الجمة، التي تكسب الإنسان هدى ورشداً، وتزيده بصيرة ويقيناً‏.‏

وحسبك منها، أنها شرح لكلام هو أشرف الكلام، بعد كلام الله، وأجمعه للخير وأنفعه، كلام أعلم الخلق، وأفصحهم‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتبيين لمقاصده الشريفة وكنوزه النفيسة، يقدمها الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن ناصر السعدي‏.‏ جزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً‏.‏ ولا زالت شموس تحقيقه مشرقة، وبذور علومه نيِّرة‏.‏