فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.سورة الحجر:

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة ومجاهد وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وقوله سبحانه: {كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين} وذكر الجلال السيوطي في الإتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت: وينبغي استثناء قوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين} الآية لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع.
وهي تسع وتسعون آية قال الداني: وكذا الطبرسي بالإجماع وتحتوي على ما قيل على خمس آيات نسختها آية السيف.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك وأيضا ذكر في الأولى طرف من أحوال المجرمين في الآخرة وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السماوات والأرض ما ذكر وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام وأيضا في كل من تسلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى.
بسم الله الرحمن الرحيم.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر} قد تقدم الكلام فيه {تِلْكَ} اختار غير واحد أنه إشارة إلى السورة أي تلك السورة العظيمة الشأن {ءايات الكتاب} الكامل الحقيقي باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق كما يشعر به التعريف أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فالمراد به جميع القرآن أو جميع المنزل إذ ذاك {وَقُرْءانَ} عظيم الشأن كما يشعر به التنكير {مُّبِينٌ} مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه، فالمبين إما من المتعدي أو اللازم، وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازًا عن غيره نسيج وحده بديعًا في بابه خارجًا عن دائرة البيان قرآنًا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر هاهنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرًا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين.
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ؛ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن. وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات. والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن اسورة. وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة. وإما القرآن فآثر هاهنا أحد إلا وجه هناك.
قال في الكشف: لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر، والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} [الرعد: 1] وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال: وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك.
ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن هاهنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنًا لأنه أدل على خصوص المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز، وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغني عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلابد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى.
ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلًا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان، وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب، ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف.
وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض، فإن قلت: رجع المآل إلى أن {الكتاب وَقُرْءانٍ} وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة رفعه {الرَ تِلْكَ} وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ {الكتاب} قلت: أقدره معرفة {الرَ تِلْكَ} في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذًا محدود بل محصور إلى آخر ما قاله، وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة، وأمر العطف على هطا طظاهر جدًا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر، والمراد بالإشارة عليه خفاء أيضًا.
وفي البحر أن الإشارة على هذا القول إلى آيات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن.

.تفسير الآية رقم (2):

{رُا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
{رُّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} بما يجب الايمان به {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} مؤمنين بذلك، وقيل: المراد كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره، وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود، وفيه نظر، وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار.
أخرج ابن المبارك. وابن أبي شيبة. والبيهقي. وغيرهم عن ابن عباس. وأنس رضي الله تعالى عنهم أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا: هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشكرون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب الله تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته.
وأخرج الطبراني. وابن مردويه. بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسًا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من الناس ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية}
وأخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي موسى الأشعري. وأبي سعيد الخدري نحو ذلك يرفعه كل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وروى ذلك عن كثير من السلف الصالح، فقول الزمخشري: إن القول به باب من الودادة بيت من السفاهة قعيدته عقيدته الشوهاء، وقال الضحاك: إن ذلك في الدنيا عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم، وعن ابن مسعود أن الآية في كفار قريش ودوا ذلك يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين، وفي رواية عنه وعن أناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن ذلك حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار.
وذكر ابن الأنباري أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المسلم، {وَرَبُّ} على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية، ويقال فيها رب بضم الراء وتشديد الباء وفتحها ورب بفتح الراء ورب بضمهما وربت بالضم وفتح الباء والتاء وربت بسكون التاء وربت بفتح الثلاثة وربت بفتح الأولين وسكون التاء وتخفيف الباء من هذه السبعة وربتا بالضم وفتح الباء المشددة ورب بالضم والسكون ورب بالفتح والسكون فهذه سبع عشرة لغة حكاها ما عدا ربتا ابن هشام في «المغنى» وحكى أبو حيان إحدى عشر منها ربتا وإذا اعتبر ضم الاتصال بما والتجرد منها بلغت اللغات ما لا يخفى، وزعم ابن فضالة في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع كقد وأن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وأن فتح الراء مطلقًا شاذ، وهي حرف جر خلافًا للكوفية.
والأخفش في أحد قوليه. وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالأخبار عنها في قوله:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ** عارًا عليك ورب قتل عار

فرب عندهم مبتدا وعار خبره، وتقع عندهم مصدرًا كرب ضربة ضربت، وظرفًا كرب يوم سرت، ومفعولًا به كرب رجل ضربت، واختار الرضى أسميتها إلا أن إعرابها عنده رفع أبدًا على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم: أقل رجل يقول ذلك إلا زيدًا، وقال: إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسمًا لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت، وأن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها، وأجيب عن البيت بأن المعروف وبعض بدل رب، وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله:
يا رب هيجا هي خير من دعه

والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ، ويردّ قياسها على كم كما قال أبو علي: إنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فهي وفي مفادها أقوال. أحدها: أنها للتقليل دائمًا وهو قول الأكثرين، وعد في البسيط منهم الخليل. وسيبويه، والأخفش. والمازني. والفارسي. والمبرد. والكسائي. والفراء. وهشام. وخلق آخرون. ثانيها: أنها للتكثير دائمًا وعليه صاحب العين. وابن درستويه. وجماعة، وروى عن الخليل. ثالثها: واختاره الجلال السيوطي وفاقًا للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالبًا والتكثير نادرًا. رابعها: عكسه جزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في «المغنى». وخامسها: أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين. سادسها: أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان. سابعها: أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول لا علم. وابن السيد. ثامنها: أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوبًا غالبًا، ونحو قوله:
تيقنت أن رب امرئ خيل خائنا ** أمين وخوان يخال أمينا

وقوله:
ولو علم الأقوام كيف خلفتهم ** لرب مفد في القبور وحامد

يحتمل أن يكون كما قال الشمني ضرورة، وقال أبو حيان: المراد تصدرها على ما تتعلق به فلا يقال: لقيت رب رجل عالم، وذكروا أنها قد تسبق بألا كقوله:
ألا رب مأخوذ باجرام غيره ** فلا تسأمن هجران من كان أجرما

وبيا صدر جواب شرط غالبًا كقوله:
فإن أمس مكروبًا فيا رب قينة

ومن غير الغالب يا رب كاسية الحديث ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعروف بأل احتجاجًا بقوله:
ربما الجامل المؤبل فيهم ** وعناجيج بينهن المهار

وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة، وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد. وابن السراج. والفارسي. وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدرًا ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في المغني وارتضاه الرضى، وقال الأخفش. والفراء. والزجاج. وابن طاهر. وابن خروف. وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى، وتجر مضافًا إلى ضمير مجرورها معطوفًا بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه، وما حكاه الأصمعي من مباشرة رب للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ؟ فقالت: رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديرًا للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقًا، وتجر ضميرًا مفردًا مذكرًا يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه؛ وسمع جره في قوله:
وربه عطب أنقذت من عطبه

على نية من وهو شاذ، وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسرة تثنية وجمعًا وتأنيثًا كما في قوله:
ربها فتية دعوت إلى ما ** يورث الحمد دائمًا فأجابوا

والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة، واختار ابن عصفور تبعًا لجماعة أنه نكرة وإن جرها إياه ليس قليلًا ولا شاذًا خلافًا لابن مالك، وإنها زائدة في الإعراب لا المعنى، وإن محل مجرورها على حسب العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافًا للزجاج ومتابعيه في قولهم: بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله:
وسن كسنيق سناء وسنما ** ذعرت بمد لاح الهجير نهوض

وأنها تتعلق كمسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وأن التعلق بالعامل الذي يكون خبر لمجرورها أو عاملًا في موضعه أو مفسرًا له قاله أبو حيان، وقال ابن هشام قول الجمهور أنها معدية للعامل أن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفًا يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت، ثم على التعليق قال لكذة: حذفه لحن، والخليل وسيبويه نادر كقوله:
ودوية قفر تمشي نعامها ** كمشي النصارى في خفاف اليرندج

أي قطعتها ويرد ليكذة هذا وقولهم: رب رجل قائم ورب ابنة خير من ابن، وقوله:
ألا رب من تغتشه لك ناصح ** وموتمن بالغيب غير أمين

والفارسي. والجزولي كثير وبه جزم ابن الحاجب. ورابعها: واجب كما نقله صاحب البسيط عن بعضهم وخامسها: ونقل عن ابن أبي الربيع يجب حذفه إن قامت الصفة مقامه وإلا جاز الأمر أن سواء كان دليل أم لا؟ ويجب عند المبرد. والفارسي. وابن عصفور، وهو المشهور كما قال أبو حيان: ورأى الأكثرين كونه ماضيًا معنى، وقال ابن السراج: يأتي حالًا، وابن مالك يأتي مستقبلًا واختاره في البحر إلا أنه قال بقلته وكثرة وقوع الماضي، وأنشد له قول سليم القشيري:
ومعتصم بالجبن من خشية الردى ** سيردى وغاز مشفق سيؤب

وقول هند:
يا رب قائلة غدا ** يا لهف أم معاوية

وجعل كابن مالك الآية من ذلك وتأولها الأكثرون بأنه وضع فيها المضارع موضع الماضي على حد {ونفخ في الصور} [الكهف: 99] وتعقبه ابن هشام بأن فيه تكلفًا لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز به عن المستقبل، وأجاب الشمني بأنه لا تكلف فيه لأنهم قالوا: إن هذه الحالة المستقبلة جعلت نزلة الماضي المتحقق فاستعمل معها را المختصة بالماضي وعدل إلى لفظ المضارع لأنه كلام من لا خلاف في اخباره فالمضارع عنده نزلة الماضي فهو مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل وهو كما ترى، وعن أبي حيان أنه أجاب عن بيت هند بأنه من باب الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق را بما بعدها وهو نظير قولك، رب مسيء اليوم يحسن غدًا أي رب رجل يوصف بهذا الوصف وتأول الكوفيون كما في المطول الآية بأنها بتقدير كان أي را كان يود الذين كفروا فحذف لكثرة استعمال كان بعد را، وضعف ذلك أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع إضمار كان، وفي «جمع الجوامع» وشرحه أن ما تزاد بعد رب فالغالب الكف وإيلائها حينئذ الفعل الماضي لأن التكثير أو التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمستقبل مجهول كقوله:
ربما أوفيت في علم ** ترفعن ثوبي شمالات

وقد يليها المضارع {أَشْرَكُواْ يَوَدُّ} الآية وقد يليها الجملة الاسمية نحو:
ربما الجامل المؤبل فيهم

وقد لا تكف نحو:
ربما ضربة بسيف صقيل ** بين بصري وطعنة نجلاء

وقيل: يتعين بعدها الفعلية إذا كفت وإليه ذهب الفارسي وأول البيت على أن ما نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدأها أي رب شيء هو الجامل، وقد يحذف الفعل بعدها كقوله:
فذلك أن يلق الكريهة يلقها ** حميدًا وأن يستغن يومًا فربما

وقد تلحق بها ما ولا تكف كقوله:
ماوى يا ربتما غارة ** شعواء كالكية بالميسم

انتهى.
وبنحو تأويل الفارسي البيت أول بعضهم الآية فقال: إن {مَا} نكرة موصوفة بجملة {يَوَدُّ} إلى آخره والعائد محذوف، والفعل المتعلق به رب محذوف أي رب شيء يوده الذين كفروا تحقق وثبت ونحوه قول ابن أبي الصلت:
ربما تجزع النفوس من الأمر ** له فرجة كحل العقال

والتزم كون المتعلق محذوفًا لأنها حينئذ لا يجوز تعلقا بيود ولابد لها من فعل تتعلق به على ما صححه جمع، وأما على ما اختاره الرضى من كونها مبتدأ لا خبر هل والمعنى قليل أو كثير وداد الذين كفروا فلا حاجة إليه، وهذا التأويل على ما قال السمرقندي أحد قولي البصريين، وتعقبه العلامة التفتازاني بأنه لا يخفى ما فيه من التعسف وبتر النظ الكريم أي قطع {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} عما قبله، ووجه التعسف أن المعنى على تقليل أو تكثير ودادهم لا على تقليل أو تكثير شيء إلا أن يراد رب شيء يودونه من حيث إنهم يودونه، والمختر عندي ما اختاره أبو حيان وكذا صاحب اللب من أن رب تدخل على الماضي والمضارع إلا أن دخولها على الماضي أكثر، ومن تتبع أشعار العرب رأى فيها مما دخلت فيه على المضارع ما يبعد ارتكاب التأويل معه كما لا يخفى على المنصف المتتبع واختلفوا في مفادها هنا فذهب جمع كثير إلى أنه التقليل وهو ظاهر أكثر الآثار حيث دلت على أن ودادهم ذلك عند خروج عصاة المسلمين من جهنم وبقائهم فيها. نعم زعم بعضهم أن الحق أن ما فيها محمول على شدة ودادهم إذ ذاك وأن نفس الوداد ليس مختصًا بوقت دون وقت بل هو متقرر مستمر في كل آن يمر عليهم.
ووجه الزمخشري الاتيان بأداة التقليل على هذا بأنه وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك ورا ندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكًا فيه أو قليلًا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المطنون كما يتحرزون من التعرض للغم المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة بالبحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة اه.
والكلام عليه على ما قيل من الكناية الإيمامية وفي لك من المبالغة ما لا يخفى، قال ابن المنير: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرًا، ومنه والله تعالى أعلم {قَدْ تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] المقصود منه توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم، وقوله:
قد أترك القرن مصفرًا أنامله

فإنه إنما يتمدح بالإكثار من ذلك وقد عبر بقد المفيدة للتقليل، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك فمنهم من وجهه بما ذكر عن الزمخشري من التنبيه بالأدنى على الأعلى، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد وذلك شأن كل ما بغل نهايته أن يعود إلى عكسه، وقد أفصح المتنبي عن ذلك بقوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ** للمنتهى ومن السرور بكاء

وكلا الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام لأنه إذا اقتضى مثلًا تكثيرًا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع لأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين، وقال في الكشف: الأصل في هذا الباب أن استعارة أحد الضدين للآخر تفيد المبالغة للتعكيس ولا تختص بالتهكم والتمليح على ما يوهمه ظاهر لفظ صاحب المفتاح في موضع فهو الذي عد المفازة من هذا القبيل لقصد التفاؤل قم قد يختص موقعها بفائدة زائدة كما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وليس في ذلك كناية إيمائية وإنما ذلك من فوائد هذه الاستعارة وسيجيء إن شاء الله تعالى فيه كلام أتم بسطًا في سورة التكوير اه.
والحق أنه لا مانع من القول بالكناية الإيمائية كما لا يخفى، وقيل؛ إن التقليل بالنسبة إلى زمان ذهاب عقلهم من الدهشة عنى أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وظاهر صنيع العلامة التفتازاني في المطول اختياره، وجوز أن تكو مستعارة للتكثير والقول بالاستعارة له لا يحتاج إليه على القول المحكي عن صاحب العين ومن معه حسا سمعت، وذكر ابن الحاجب أنها نقلت من التقليل إلى التحقيق كما نقلوا قد إذا دخلت على المضارع منه إليه. ومفعول {يَوَدُّ} محذوف أي الإسلام بدلالة {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} بناءًا على أن {لَوْ} للتمني والجملة في موقع الحال أي قائلين لو كانوا مسلمين، وتقدير المفعول ما ذكرنا هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال الشهاب: تقديره النجاة ولا ينبغي تقديره الإسلام لأنه يصير تقديره يودوا الإسلام لو كانوا مسلمين وهو حشو وفيه نظر.
وقال صاحب الفرائد: إن {لَّوْ كَانُواْ} إلى آخره منزل منزلة المفعول. وتعقب بأنه غير ظاهر إذ ليس ذلك مما يعمل في الجمل إلا أن يكون عنى ذكروا التمني ويجري مجرى القول على مذهب بعض النحاة. والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك: حلف بالله تعالى ليفعلن ولو قلت لأفعلن لجاز، وعلى ذلك جاز قوله تعالى: {تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيّتَنَّهُ} [النمل: 49] بالنون والياء وإيثار الغيبة أكثر لئلا يلبس والتعليل بقلة التقدير ليس بشيء كما كشف ذلك في الكشف، وأنكر قوم ورود {لَوْ} للتمني، وقالوا ليست قسمًا برأسها وإنما هي الشرطية أشربت معنى التمني وعلى الأول الأصح لا جواب لها على الأصح.
وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي، ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو؛ وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لابد لها من جواب لكنه التزم حذفه لإشرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إا وضع واحد وهو الحقيقة، وقيل: إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعول {يَوَدُّ} ما علمت، وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعدما يدل على التمني فالمصدر حينئذٍ هو المفعول وهو على القول بأن {مَا} نكرة موصوفة بدل منها كما في البحر. وقرأ عاصم. ونافع {رُّا} بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا، وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لاسيما فيما يتعلق برب لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم، ورأيته ورب الكعبة أجهل من رأيت من صغار الطلبة برب نعم له من العظاميين أمثال أصمهم الله تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم.