فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (108):

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستترون منهم حياءًا وخوفًا من ضررهم، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على {الذين يَخْتَانُونَ} [النساء: 107] على الأظهر، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال من {مِنْ} {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه، وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشالكة {وَهُوَ مَعَهُمْ} على الوجه اللائق بذاته سبحانه، وقيل: المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه؛ والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون.
{إِذْ يُبَيّتُونَ} أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به قبله، وقيل: متعلق بـ {يَسْتَخْفُونَ}. {مَا لاَ يرضى مِنَ القول} من رمي البريء وشهادة الزور. قال النيسابوري: وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولًا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي؛ وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هاهنا فتذكر {وَكَانَ الله بما يَعْمَلُونَ} أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية {مُحِيطًا} أي حفيظًا كما قال الحسن أو عالمًا لا يعزب عنه شيء ولا يفوت كما قال غيره وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه.

.تفسير الآية رقم (109):

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}
{هَأَنْتُمْ هَؤُلاء} خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع، والجملة مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: {جادلتم عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} جملة مبينة لوقوع أولاء خبرًا فهو عنى المجادلين وبه تتم الفائدة، ويجوز أن يكون أولاء إسمًا موصولًا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة، و{جادلتم} صلته، فالحمل حينئذ ظاهر، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.
{فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيمة} أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثًا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ} يومئذ {وَكِيلًا} أي حافظًا ومحاميًا من بأس الله تعالى وعقابه، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه، و{أَمْ} هذه منقطعة كما قال السمين، وقيل: عاطفة كما نقله في الدر المصون، والاستفهام كما قال الكرخي: في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلًا.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا} أي شيئًا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالإنكار، وقيل: السوء ما دون الشرك، والظلم الشرك، وقيل: السوء الصغيرة والظلم الكبيرة. {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير {يَجِدِ الله غَفُورًا} لما استغفره منه كائنًا ما كان {رَّحِيمًا} متفضلًا عليه، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار، قيل: وتخويف لمن لم يستغفر لوم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)}
{وَمَن يَكْسِبْ} أي يفعل {ءاثِمًا} ذنبًا من الذنوب {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال {وَكَانَ الله عَلِيمًا} بكل شيء ومنه الكسب {حَكِيمًا} في كل ما قدر وقضى، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى، وقيل: {عَلِيمًا} بالسارق {حَكِيمًا} في إيجاب القطع عليه، والأولى أولى.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}
{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} أي صغيرة أو ما لا عمد فيه من الذنوب. وقرأ معاذ بن جبل {يَكْسِبْ} بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب {أَوْ إِثْمًا} أي كبيرة أو ما كان عن عمد، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دونه، وفي الكشاف الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يَثُم الأعمال أي يكسرها بإحباطه، وفي الكشف كأن هذا أصله، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى: {كبائر الإثم} [الشورى: 37]، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي يقذف به ويسنده، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل: ثم يرم بأحد الأمرين، وقيل: إنه عائد على {ءاثِمًا} فإن المتعاطفين بأو يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو {إِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] وعلى المعطوف نحو {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34]، وقيل: إنه عائد على الكسب على حدّ {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8]، وقيل: في الكلام حذف أي يرم بها وبه و{ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، وقرئ {يرم} بهما {بَرِيئًا} مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل أو بأبي مليك {فَقَدِ احتمل} افعل من رمى البريء، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل، وقيل: افتعل عنى فعل فاقتدر وقدر {بهتانا} وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته، وقيل: هو الكذب الذي يتحير في عظمه، والماضي بهت كمنع، ويقال في المصدر: بهتًا وبهتًا وبهتًا {وَإِثْمًا مُّبِينًا} أي بينًا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة لإثمًا وقد اكتفى في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر نزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه. وعبر عنه بهما تهويلًا لأمره وتفظيعًا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية ما خطيئة كانت أو إثمًا بهتان وإثم في نفسه، أما كونه بهتانًا فظاهر، وأما كونه إثمًا فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضًا كذلك، بل لا يجوز ذلك قطعًا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان، فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحًا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبئ عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحًا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط كذا قاله شيخ الإسلام ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن في التنزيل لفًا ونشرًا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى: {فَقَدِ احتمل} إلخ لأنه بكسبه الإثم آثم، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه، وإن أجيب عنه فافهم..

.تفسير الآية رقم (113):

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي؛ وقيل: المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك. {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي من الذين يختانون، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه، أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها، ويجوز أن يكون الضمير راجعًا إلى الناس، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن، وقيل: المراد بهم وفد ثقيف، فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنهم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم صلى الله عليه وسلم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت». وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلى الله عليه وسلم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته.
{أَن يُضِلُّوكَ} أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام، أو بأن يهلكوك، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى، ومنه على ما قيل: قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] والجملة جواب {لَوْلاَ} وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانًا بانتفاء تأثيره بالكلية، وقيل: المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة. وقال الراغب: إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلى الله عليه وسلم أصلًا وإنما كان ذلك صوابًا عندهم وفي ظنهم؛ وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفًا والتقدير ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك ثم استأنف بقوله سبحانه: {لَهَمَّتْ} أي لقد همت بذلك {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم، والجملة اعتراضية، وقوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْء} عطف عليه وعطف على {أَن يُضِلُّوكَ} وهم محض؛ و{مِنْ} صلة، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئًا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم، وأما ما خطر ببالك فكان عملًا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل الله تعالى عليك، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك.
{وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} أي القرآن الجامع بين العنوانين، وقيل: المراد بالحكمة السنة، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك، والجملة على ما قال الأجهوري: في موضع التعليل لما قبلها، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم.
{وَعَلَّمَكَ} بأنواع الوحي {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين، أو من أمور الدين وأحكام الشرع كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو من الخير والشر كما قال الضحاك أو من أخبار الأولين والآخرين كما قيل أو من جميع ما ذكر كما يقال. ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي أنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى، واستظهر في البحر العموم. {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا} لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة، ومن ذلك النبوة العامة والرياسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة.

.تفسير الآية رقم (114):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن} أي الذين يختانون، واختار جمع أن الضمير للناس، وإليه يشير كلام مجاهد، والنجوى في الكلام كما قال الزجاج: ما يتفرد به الجماعة أو الاثنان، وهل يشترط فيه أن يكون سرًا أو لا؟ قولان: وتكون عنى التناجي، وتطلق على القوم المتناجين كـ {إِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] وهو إما من باب رجل عدل، أو على أنه جمع نجي كما نقله الكرماني والظرف الأول خبر {لا} والثاني في موضع الصفة للنكرة أي: كائن من نجواهم.
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى من أمر {بِصَدَقَةٍ} فالكلام على حذف مضاف، وبه يتصل الاستثناء، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدًا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ، فإنه في كثير من نجواه خير فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع، وجوز رحمه الله تعالى، بل زعم أنه الأولى أن يجعل {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} متعلقًا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعًا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير.
{أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف، وإرشاد ضال إلى غير ذلك، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانًا بالاعتناء بهما لما في الأول: من بذل المال الذي هو شقيق الروح وما في الثاني: من إزالة فساد ذات البين وهي الحالقة للدين كما في الخبر، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك، ولا كذلك الأمر بالإصلاح، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، وأما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس}. ولا يخفى ما فيه، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف، نعم أبيح الكذب لذلك، فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها».
وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة، وأيد بما أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال: بلى قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا»، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال. ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين» ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي المذكور من الصدقة وأخويها، والكلام تذييل للاستثناء، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقًا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل: حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول: نعم ما فعلت، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى {يَفْعَلُ} حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب، ولا يتوقف ذلك على اللفظ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر {وَمَن يَفْعَلْ} الأمر واحدًا، وقيل: لا حاجة إلى جعله تذييلًا ليحتاج إلى التأويل تحصيلًا للمطابقة، بل لما ذكر الآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل: ومن يمتثل.
{ابتغاء مرضات الله} أي لأجل طلب رضاء الله تعالى: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمة على الالتفات، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء {أَجْرًا عَظِيمًا} لا يحيط به نطاق الوصف، قيل: وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرًا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي، وقال الغزالي: إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا، وقيل: هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص، وفي دلالة الآية على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرًا عظيمًا وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر.