فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (108):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)}
{قُلْ} يا أيها الرسول مخاطبًا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحى إليك أو للمكلفين مطلقًا كما قال الطبرسي {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ} وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مرآنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر، وقيل: المراد من الحق النبي صلى الله عليه وسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن {الحق} هو ما دل عليه قوله تعالى: {وَأَنْ يُمْسِكُ} [يونس: 107] إلخ وهو كما ترى {فَمَنُ اهتدى} بالإيمان والمتابعة {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} أي منفعة اهتدائه لها {وَمَن ضَلَّ} بالكفر والاعراض {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فوبال ضلاله عليها، قيل: والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير اشعار بكون ذلك بواسطته صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
{واتبع} في جميع شؤونك من الاعتقاد والعمل والتبليغ {مَا يوحى إِلَيْكَ} على نهج التجدد والاستمرار، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلى الله عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدًا {واصبر} على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل {حتى يَحْكُمَ الله} بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ووعد للمؤمنين والوعيد للكافرين والحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين.

.سورة هود:

مكية كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مردويه عن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات: {فعلك تارك}، {أفمن كان على بينة من ربه}، {أقم الصلاة طرفي النهار} وروي استثناء الثالثة عن قتادة قال الجلال السيوطي: ودليله من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر.
وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير واثنتان في المدني الأول وثلاث في الكوفي.
ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا مجملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة إنا أرسلنا نوحا التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا: {الر كتاب أحكمت آياته} نظير قوله سبحانه هناك: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك وإتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك.
وورد في فضلها ما ورد فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا هودا يوم الجمعة».
وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قد شبت قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات و{عم يتساءلون}، و{إذا الشمس كورت}».
وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال: «أجل شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل».
وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة وعم وإذا الشمس كورت.
وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله لقد شبت فقال: «شيبتني هود والواقعة» إلى آخر ما في خبر عمر.
وفي بعضها الاقتصار على: «شيبتني هود وأخواتها».
وفي بعض آخر بزيادة: «وما فعل بالأمم من قبلي».
وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له أصحابه: أسرع إليك الشيب؟ فقال: «شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة».
وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال: رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام: فقلت: يا رسول الله، روي عنك أنك قلت: «شيبتني هود» قال: «نعم». فقلت: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال: «لا ولكن قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}». وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه والحق أن الذي شيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره مما عظم أمره على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلى الله عليه وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلى الله عليه وسلم وكون ما ذكر مشيبا مفهوما ما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر} اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل. وسيبويه. وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي. والسدى، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادي كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقايل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسمًا للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بالر وقيل: محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: {كِتَابٌ} خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر {أُحْكِمَتْ ءاياته} أي نظمت نظمًا محكمًا لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالأحكام مستعار من إحكام البناء عنى اتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالأحكام من أحكمه إذا منعه؛ ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم إن أغضبا

وقيل: المراد منعت من الفساد أخذًا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد نزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوف يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلا أو بعضًا على حسب ما أشرنا إليه؛ وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلًا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلّ شَيْء وَكِيلٌ} [هود: 12] {وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} [هود: 51] الآية ونسخت بقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكمية أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيمًا، ومنه قول نمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضًا رويدا ** إذا أنت حاولت أن تحكما

فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيمًا، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لاسيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللالئ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلًا فصلًا من السورو يراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضًا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجمًا نجمًا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، و{ثُمَّ} على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجمًا حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الأخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازًا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخير الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخى رتبة التفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الأحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الأحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد بثم تبلغ اثنين وثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالًا ولا حجر. والزمخشري ذكر للأحكام على ما في الكشف ثلاثة أوجه. أخذه من أحكام البناء نظرًا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الأحكام جعلها حكيمة. أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة. جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها، وجعلها فصولًا سورة سورة وآية آية. وتفريقها في التنزيل. وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى {ثُمَّ} ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضًا أنه إذا أريد بالإحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الأحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويًا لكن التفصيل اكمال لما فيه من الإجمال، وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الأحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولًا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيًا أيضًا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقًا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فأخباري، والأحسن أن يراد بالأحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين {حكيم} و{خبير} و{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ} و{فُصّلَتْ} ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والأخباري انتهى فليتأمل، وقرئ {أُحْكِمَتْ} بالبناء للفاعل المتكلم و{فُصّلَتْ} بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: {فُصّلَتْ} هنا مثلها في قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94] أي انفصلت وصدرت {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الداليت على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقًا حسنًا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلت الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ} [النور: 36-37] على قراءة البناء للمفعول، وقوله:
لبيك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط مما تطيح الطوائح

ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لاسيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، و{لَّدُنْ} من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والراد هنا الأخير مجازًا، وينبت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالًا واحدًا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الأخبار بها وعنها ولا يينى عليها المبتدأ بخلاف عند ولدي فانهما لا يلزمان استعمالًا واحدًا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت. نعم جاء عن قيس اعرابها تشبيهًا بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم {بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] بالجر واشمام الدال الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن من وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله:
وتذكر نعماه لدن أنت يافع

وفعلية كقوله:
صريح غوان راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب

ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله:
وليت فلم تقطع لدن ان وليتنا ** قرابة ذي قربى ولاحق مسلم

ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لاسيما في مثل لدن أنت يافع وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله:
لدن غدوة حتى دنت لغروب

وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضماء كان، وفيها ثمان لغات. فمنهم من يقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يتلقى ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى لد بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام والدال وسكون النون. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضًا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول لد بضم اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول: {لَّدُنْ} بضم اللام وسكون الدال وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء لد بحذف نون {لَّدُنْ} التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل لد لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فقتول: من لدنك ولا يجوز من لدك كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.