فصل: تفسير الآية رقم (134):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (134):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية. {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة} جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي: من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول: {رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201]، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلًا خالصًا لوجه الله تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء، وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران فيقال: من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار»، وقيل: إنه الجزاء إلا أنه مؤل بما يجعله مرتبًا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه، وقيل: المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلًا ما يريده كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] الآية.
{وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك، وقد يقال: ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي، والأول: مسموع، والثاني: مبصر، وقيل: السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام.

.تفسير الآية رقم (135):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
{بَصِيرًا ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف. وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلًا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك {شُهَدَاء} بالحق {لِلَّهِ} بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي، وانتصاب {شُهَدَاء} على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن. وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية: أي كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد، وقيل: إنه صفة {قَوَّامِينَ}، وقيل: إنه خبر {كُونُواْ} وقوّامين حال {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازًا فتشمل الإقرار المراد هاهنا والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقيل: الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد، والجار على ما أشير إليه ظرف مستقر وقع خبرًا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرًا عنه فيصير مستقرًا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه، ويجوز أن يكون ظرفًا لغوًا متعلقًا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالًا على أنفسكم، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه {شُهَدَاء} أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه بقوّامين وفيه بعد، {وَلَوْ} إما على أصلها أو عنى إن وهي وصلية، وقيل: جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها {أَوِ الوالدين والاقربين} أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم، وعطف الأول بأو لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة.
{أَن يَكُنَّ} أي المشهود عليه {غَنِيًّا} يرجى في العادة ويخشى {أَوْ فَقَيرًا} يترحم عليه في الغالب ويحنى، وقرأ عبد الله إن يكن غني أو فقير بالرفع على إن كان تامة، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى: {فالله أولى بِهِمَا} أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبًا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس، ولولا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم صالح العباد منكم، وقرأ أبيّ فالله أولى بهم بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدًا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف بأو الإفراد كما قيل: لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وقيل: إن {أَوْ} عنى الواو، والضمير عائد إلى المذكورين، وحكي ذلك عن الأخفش، وقيل: إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيًا وأن يكون فقيرًا فقد يكونان غنيين، وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما فقيرًا والآخر غنيًا، فحيث لم تذكر الأقسام أتى بأو لتدل على ذلك، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه، وقيل: غير ذلك، وقال الرضي: الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض بأو يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد، وذلك يدور على القصد، فيجوز: جاءني زيد أو عمرو وذهب، أو وهما ذاهبان إلى المسجد، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير، نعم قيل: إن الظاهر الإفراد دون التثنية، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة.
وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد فتأمل.
{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} أي هوى أنفسكم {أَن تَعْدِلُواْ} من العدول والميل عن الحق، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي، فالاحتمالات أربعة: الأول: أن يكون عنى العدول وهو علة للمنهي عنه، فلا حاجة إلى تقدير، والثاني: أن يكون عنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا، والثالث: أن يكون عنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق، والرابع: أن يكون عنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور.
{وَإِن تَلْوُواْ} ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر، وقيل: اللي المطل في أدائها، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنها.
{أَوْ تُعْرِضُواْ} أي تتركوا إقامتها رأسًا وهو خطاب للشهود، وقيل: إن الخطاب للحكام، واللي الحكم بالباطل، والإعراض عدم الإلتفات إلى أحد الخصمين، ونسب هذا إلى السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا، وقرأ حمزة {وَأَنْ} بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية عنى مباشرة الشهادة، وقيل: إن أصله تلووا بواوين أيضًا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة، أو ابتداءًا إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وعلى هذا فالقراءتان عنى {وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بما تَعْمَلُونَ} من اللي والإعراض، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر {خَبِيرًا} عالمًا مطلعًا فيجازيكم على ذلك، وهو وعيد محض على القراءة الأولى، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنًا «للوعد».
والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم تصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر، وحملها بعضهم على ما يشمل القسمين، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده. وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدًا، وأبعد منه راحل بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة كون المراد منها كونوا شهداء لله تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقية أحكامه ولو كان ذلك مضرًا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك {أَن يَكُنَّ} أي الشاهد {غَنِيًّا} تضر شهادته بغناه {أَوْ فَقَيرًا} تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه {فالله} تعالى: {أولى بِهِمَا} من أنفسهما، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّامًا بذلك لكونه ممنوعًا من الخروج إلى القاضي؛ وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم، وهو ظاهر على رأي، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق، وفي الشهادة حقوق، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}
{خَبِيرًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى: {ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه، وروي هذا عن الحسن واختاره الجبائي، وقيل: الخطاب لهم، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينًا، أو: آمنوا بما ذكر مفصلًا بناءًا على أن إيمان بعضهم إجمالي، وأيًا مّا كان فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرًا فمعنى {ءامَنُواْ} أخلصوا الإيمان، واختاره الزجاج وغيره. وقيل: لمؤمني اليهود خاصة، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك ووسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم، وقيل: لمؤمني أهل الكتابين، وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: للمشركين المؤمنين باللات والعزى، وقيل: لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] والكتاب الأول القرآن، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد: {وَكُتُبِهِ} والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه. ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناءًا على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل: آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو نزل وأنزل على البناء للمفعول، واستعمال نزل أولًا وأنزل ثانيًا لأن القرآن نزل مفرقًا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.
{وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الاخر} أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو كما قال العلامة الثاني قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وههنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو عنى أو في شيء، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيدًا} ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف ببعد والمشهور أن المراد بالضلال البعيد الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه، ويجوز أن يراد ضلالًا بعيدًا عن الوقوع، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له، وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلًا، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلًا عليه، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب، وقيل: اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة، وقرئ بكتابه على إرادة الجنس.