فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (13):

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}
{تِلْكَ} أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث {حُدُودَ الله} أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه {يُدْخِلْهُ جنات} نصب على الظرفية عند الجمهور، وعلى المفعولية عند الأخفش. {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها وأبنيتها، وقد مرّ الكلام في ذلك {الانهار} أي ماؤها {خالدين فِيهَا} حال مقدرة من مفعول {يُدْخِلْهُ} لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك: مررت برجل معه صقر يصيد به غدًا، وصيغة الجمع لمراعاة معنى {مِنْ} كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها {وَذَلِكَ} أي دخول الجنات على الوجه المذكور {الفوز} أي الفلاح والظفر بالخير {العظيم} في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل؛ والجملة اعترض.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، وقال ابن جريج: من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث، وحكي مثله عن ابن جبير. {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها ما قص لنا قبل، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالًا كما حكي عن الكلبي {يُدْخِلْهُ} قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين {نَارًا} أي عظيمة هائلة {خالدا فِيهَا} حال كما سبق، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس، والخلود في دار العقاب بصفة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة، وجوز الزجاج والتبريزي كون {خالدين} [النساء: 13] هناك وخالدًا هنا صفتين لجنات أو نار، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس {وَلَهُ عَذَابٌ} أي عظيم لا يكتنه {مُّهِينٌ} أي مذل له والجملة حالية، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني، نسأل الله تعالى العافية.
واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قطع ميراثًا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة» وأخرج منصور عن سليمان بن موسى والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو، وكأن عدم القسم إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض، فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعًا «إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة»، وأخرج البيهقي، والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» ولعل الاحتمال الأول أظهر.
وهذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات لما في فتحه من التكلف، وقد تركناه لأهله.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}
{واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث، و{اللاتى} جمع التي على غير قياس، وقيل: هي صيغة موضوعة للجمع، وموضعها رفع على الابتداء، والفاحشة ما اشتد قبحه، واستعملت كثيرًا في الزنا لأنه من أقبح القبائح، وهو المراد هنا على الصحيح، والإتيان في الأصل المجيء، وفي الصحاح يقال: أتيته أتيًا قال الشاعر:
فاختر لنفسك قبل أتى العسكر

وأتوته أتوة لغة فيه، ومنه قول الهذلي:
كنت إذا أتوته من غيب

وفي القاموس أتوته أتوة وأتيته أتيًا وإتيانًا وإتيانه بكسرهما، ومأتاة وإتيا كعتى، ويكسر جئته، وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشي عن الفعل، وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين، والتعبير بذلك لمزيد التهجين، وقرأ ابن مسعود {يَأْتِينَ} فالإتيان على أصله المشهور، و{صَلَحَ مِنْ} متعلقة حذوف وقع حالًا من فاعل {يَأْتِينَ} والمراد من النساء كما قال السدي وأخرجه عنه ابن جرير النساء اللاتي قد أنكحن وأحصن، ومثله عن ابن جبير {فاستشهدوا} أي فاطلبوا أن يشهد {عَلَيْهِنَّ} بإتيانهن الفاحشة {أَرْبَعةً مّنْكُمْ} أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود، واشترط الأربعة في الزنا تغليظًا على المدعي وسترًا على العباد، وقيل: ليقوم نصاب الشهادة كاملًا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه، والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط، وجاز الإخبار بذلك لأن الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعل قاله أبو البقاء وذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الاشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير فاستشهدوا لأنه لا يصح أن يعمل النصب في {اللاتى}، وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الابتداء وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره اقصدوا اللاتي أو تعمدوا، وقيل: الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي، فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة فاستشهدوا لأنه الحكم المتلو عليهم، والخطاب قيل: للحكام، وقيل: للأزواج.
{فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بالإتيان. {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي فاحبسوهن عقوبة لهن {فِى البيوت} واجعلوها سجنًا عليهن {حتى يَعْقُوبَ الموت} المراد بالتوفي أصل معناه أي الاستيفاء وهو القبض تقول: توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك فهناك استعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف، والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أن يراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام نزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت، أو يجعل الإسناد مجازًا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله.
{أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} أي مخرجًا من الحبس بما يشرعه من الحدّ لهن قاله ابن جبير وأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك واربدّ وجهه، وفي لفظ لابن جرير يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» وروى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.
وروى ابن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها، وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر، وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد بدلائل الرجم. وقال الزمخشري: «من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلومًا بالكتاب والسنة، ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال، ويكون السبيل على هذا النكاح المغني عن السفاح»، وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في «معالم السنن»: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله تعالى لهن سبيلًا ثم إن ذلك السبيل كان مجملًا فلما قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني» إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانًا لما في تلك الآية لا ناسخًا له، وصار مخصصًا لعموم آية الجلد، وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}
{واللذان يأتيانها مِنكُمْ} هما الزاني والزانية بطريق التغليب، قاله السدي وابن زيد وابن جبير، أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا، ويؤيد ذلك كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد، وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر. وقرأ ابن كثير {واللذان} بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصًا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضًا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان والتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة {فَئَاذُوهُمَا} أي بعد استشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان، وترك ذكر ذلك تعويلًا على ما ذكر آنفًا، واختلف في الإيذاء على قولين: فعن ابن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال، وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط {فَإِن تَابَا} عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبئ عنه الفاء {وَأَصْلَحَا} أي العمل. {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي اصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما {إِنَّ الله كَانَ تَوَّابًا} مبالغًا في قبول التوبة {رَّحِيمًا} واسع الرحمة والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض، والخطاب هنا للحكام، وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما، وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك، والوجه الأول هو المشهور، والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضًا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن جبير وغيرهم، وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري وقال الفراء: إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها، وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى، وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء، وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور، وزيف هذا القول بأن لم يقل به أحد، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك، وأيضًا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا، فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن اختلاط بعضهنّ ببعض لا الحبس والمنع من الخروج، فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتي يأتين الفاحشة الزانيات، وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد وهو من أكابر المفسرين المتقدمين وقد قال غير واحد: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز، وبأن مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك، وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح حدًا ولا بيانًا للكمية فلذا اختلفوا، وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها واتخاذها سجنًا عليهن ومن حال المسجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الاختلاط، فكان الكلام في قوة فامنعوهنّ عن اختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد، وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل، وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية، والتغليب خلاف الأصل، ويبعده أيضًا لفظ منكم فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى: {أَرْبَعةً مّنْكُمْ} [النساء: 15] وأيضًا لو كان كل واحدة من الآيتين واردًا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له، وأيضًا على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحد منهما مقررًا على حاله، وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى التزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل، وأيضًا على ما قالوه يكون الكتاب خاليًا عن بيان حكم السحاق واللواطة، وعلى ما قلناه يكون متضمنًا لذلك وهو الأنسب بحاله، فقد قال سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء} [الأنعام: 38]، و{تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْء} [النحل: 89] وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد، ففي مجمع البيان أنه حمل اللذان يأتيانها على الرجلين الزانيين، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان على أن حمل {اللاتى} في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه، فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أبي مسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق، ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين، والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين، ويحتمل أيضًا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزة وقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا، وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب، ولا يمكن اعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس، وكون مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدًا ولا بيانًا للكمية ليس بشيء كما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئًا، وقال: تؤخر عقوبته إلى الآخرة، وبه أخذ الأئمة رضي الله تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدًا بعد أن ذكر في معرض الحدّ وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل؛ وكون الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى.
نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به، وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى، واعتباره في منكم تبع لاعتباره في اللذان وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه را يؤيد اعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الاستشهاد مع اشتراطه إجماعًا اكتفاءًا بما ذكر في الآية الأولى لاتحاد الاستشهادين في المسألتين، ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ما أشرنا إليه في تفسير الآية، ودعوى الاحتياج إلى التزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام، وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحدّ نسخًا في الآية الأولى مقالًا يعلم مما قدمناه في البقرة، وإذا جعل {أَوْ يَجْعَلَ} [النساء: 15] إلخ معتبرًا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها اكتفاءًا بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق واللواطة زنا فظاهر، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما، وكم حكم ترك التصريح فيه في الكتاب اعتمادًا على القياس كحكم النبيذ، وكحكم الجد وغيرهما اعتمادًا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْء وأنه ما فرط فيه من شيء، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحًا من غير اعتبار قياس، فقد ارتكب شططًا وقال غلطًا، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور، ويد الله تعالى مع الجماعة، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد حل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الاعتصام.