فصل: تفسير الآية رقم (164):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (164):

{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}
{وَرُسُلًا} نصب ضمر أي أرسلنا رسلًا؛ والقرينة عليه قوله سبحانه: {أَوْحَيْنَا} [النساء: 163] السابق لاستلزامه الإرسال، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه، وقيل: القرينة قوله تعالى: {قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ} لا أنه منصوب بقصصنا بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل، ولا أنه منصوب بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل كما قيل لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلى الله عليه وسلم وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاء، ثم في إيتاء الكتاب، ثم في الإرسال، فإن قوله سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] منتظم لمعنى {ءاتيناك} [طه: 99] و{أرسلناك} [البقرة: 119] حتمًا فكأنه قيل: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان، وآتيناك مثل ما آتينا فلانًا، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك شيئًا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ ومعنى قصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية أخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذه السورة أو اليوم، قيل: قصهم عليه صلى الله عليه وسلم كة في سورة الأنعام (83- 86) وغيرها، وقال بعضهم: قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن.
{وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من أن الرسل ثلثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقًا، فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، فيمكن أن يكون قصهم عليه صلى الله عليه وسلم بعد فعلمهم، فأخبر بما أخبر على أن القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن {لَمْ} في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص ذكر الأخبار، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلى الله عليه وسلم نفي ذكر عددهم مجردًا من ذكر الأخبار والقصص، فيمكن أن يقال: لم يذكر سبحانه له صلى الله عليه وسلم أخبارهم أصلًا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلًا فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه وحاشاه عليه الصلاة والسلام عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية، فأخطأ في الفهم ومات في ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية.
{وَكَلَّمَ الله موسى} برفع الجلالة ونصب موسى، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب. {تَكْلِيمًا} مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير واحد، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة، كما يقال: قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا، مع أنه أكد الفعل، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان:
بكى الخز من روح وأنكر جلده ** وعجت عجيجًا من جذام المطارف

فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج، وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول: التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة والجملة إما معطوفة على قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] عطف القصة على القصة لا على {ءاتَيْنَا} [النساء: 163] وما عطف عليه، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلًا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلًا مع ظهور حكمة ذلك.
هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام الله عز وجل، وقد وقع التكليم أيضًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء مع زيادة رفعة، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى، بل ما من ذرة نور شعت في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلى الله عليه وسلم، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ** فإنما اتصلت من نوره بهم

فصلى الله تعالى عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

.تفسير الآية رقم (165):

{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}
{رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} نصب على المدح، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من {رُسُلًا} [النساء: 164] الذي قبله، أو ضميره وهي حال موطئة، والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها، وجوز أن يكون نصبًا على البدلية من {رُسُلًا} الأول، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظًا بعيد، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مبشرين من آمن وأطاع بالجنة والثواب ومنذرين من كفر وعصى بالنار والعقاب.
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي معذرة يعتذرون بها قائلين {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لابد من الشرع وإرسال الرسل؛ وأن العقل لا يغني عن ذلك، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث. وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى قتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، فلا يبطل قول أهل السنة أنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء، واللام متعلقة بأرسلنا المقدر، أو بشرين ومنذرين على التنازع، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه، و{حُجَّةٌ} اسم كان وخبرها {لِلنَّاسِ} و{عَلَى الله} حال من {حُجَّةٌ} ويجوز أن يكون الخبر {عَلَى الله} و{لِلنَّاسِ} حال، ولا يجوز أن يتعلق على بحجة لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا.
وقوله تعالى: {بَعْدَ الرسل} أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم ظرف لحجة، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها {وَكَانَ الله عَزِيزًا} لا يغالب في أمر يريده. {حَكِيمًا} في جميع أفعاله، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز، وقيل: عزيزًا في عقاب الكفار حكيمًا في الإعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (166):

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}
{لكن الله يَشْهَدُ} بتخفيف النون ورفع الجلالة. وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] إلخ قيل: إنهم لا يشهدون لكن الله يشهد. وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد، وقيل: إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى: {ا أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن، فالجار والمجرور متعلق بيشهد والباء صلة والمشهود به هو الحقية، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم، وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لهم: «إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله. فقالوا: ما نعلم ذلك فنزلت: {لكن الله يَشْهَدُ}» وفي رواية ابن جرير عنه: أنه لما نزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] قالوا: ما نشهد لك فنزل: {لكن الله يَشْهَدُ بما أَنزَلَ إِلَيْكَ}، وقرئ {أَنَزلَ} على البناء للمفعول.
{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ذكر فيه أربعة أوجه: الأول: أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، واختاره جماعة من المفسرين، والثاني: أن يكون المعنى أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه، واختاره الطبرسي والثالث: أن يكون المعنى أنزله بما علم من مصالح العباد مشتملًا عليه، والرابع: أن يكون المعنى أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والعلم على الوجه الأول قيل: عنى المعلوم، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم مجازًا عن ذلك ولو جعل عليه العلم عناه المصدري، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانًا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال: فعله بعلمه إذا كان متقنًا وعلى ما ينبغي، فيكون وصفًا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم عناه، أو هو في الثالث عنى المعلوم، والظرف حال من الفاعل أو المفعول، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل، وعلى الثالث من المفعول، وجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا مطلقًا أي إنزالًا متلبسًا بعلمه، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة، وقيل: إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير لأنزل إليك لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم عنى الرقيب والحافظ، والظرف حال من الفاعل، ويكون {أَنزَلَهُ} تكريرًا ليعلق به ما علق أو كما قيل، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام، وقيل: إن فيه تعظيمًا لأمر القرآن بحفظه من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضًا من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضًا، وقرئ نزله.
{والملئكة يَشْهَدُونَ} أيضًا بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة، والجملة عطف على ما قبلها، وقيل: حال من مفعول {أَنزَلَهُ} أي أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر، وأيًا مّا كان فيشهدون من الشهادة، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ {وكفى بالله شَهِيدًا} على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة أو اتفقت منه كبوة {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} [النساء: 148] أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها، وقيل: لا يحب الله تعالى إفشاء سر الربوبية وأظهار مواهب الألوهية، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إلا من ظلم بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني، وفي تسمية تلك الغلبة ظلمًا خفاء لا يخفى. وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جلّ جلاله، وإنما ظلموا أنفهسم كما نطق بذلك الكتاب {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعًا مباينًا للتفصيل، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك} أي الإيمان بالكل جمعًا وتفصيلًا والكفر بالكل {سَبِيلًا} [النساء: 150] أي طريقًا {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} المحجوبون {حَقًّا} [النساء: 151] بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط، وتوحيدهم زندقة وضلال، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس سره {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} وهم المؤمنون جمعًا وتفصيلًا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة {أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} من الجنات الثلاث {وَكَانَ الله غَفُورًا} يستر ذواتهم وصفاتهم {رَّحِيمًا} [النساء: 152] يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} أي علمًا يقينيًا بالمكاشفة من سماء الروح {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم بظلمهم وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم {ثُمَّ اتخذوا العجل} أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري النفس الأمارة {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} الرادعة لهم عن ذلك {وآتينا موسى سلطانًا مبينًا} [النساء: 153] وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} أي جعلناه مستوليًا عليهم {يثاقهم} أي بسبب أن يعطوا الميثاق، وأشير بالطور إلى موسى عليه السلام، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب} أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الملوك {سُجَّدًا} [النساء: 154] خضعًا متذللين، وقوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} [النساء: 158] أشير به على ما ذكره بعض القوم والعهدة عليه إلى اتصال روحه عليه السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه السلام روحانية فلك الشمس الذي هو ثابة قلب العالم، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء بالله عز وجل، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدًا، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلهًا وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت خالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساوي:
مساو لو قسمن على الغواني ** لما أمهرن إلا بالطلاق

{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات} عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث {أُحِلَّتْ لَهُمْ} بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع {وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله} أي طريقه الموصلة إليه سبحانه: {كَثِيرًا} [النساء: 160] أي خلقًا كثيرًا وهي القوى الروحانية {وَأَخْذِهِمُ الربا} وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} لما أنه الحجاب العظيم {وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل} [النساء: 161] أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع {لكن الراسخون فِي العلم} المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار {والمؤمنون} بالإيمان العياني حال كونهم {يُؤْمِنُونَ بما أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية {والمقيمين الصلاة} على أكمل وجه {والمؤتون الزكواة} ببذل قوامهم في أصناف الطاعة {والمؤمنون بالله واليوم الاخر} أي بالمبدأ والمعاد، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162] لا يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ} [النساء: 163] الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] على قول: {رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ} بتجليات اللطف {وَمُنذِرِينَ} بتجليات القهر {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محى ذلك بأمداد الرسل {وَكَانَ الله عَزِيزًا} فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم {حَكِيمًا} [النساء: 165] فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسا تقتضيه الحكمة {لكن الله يَشْهَدُ بما أَنزَلَ إِلَيْكَ} لتجليه فيه سبحانه: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي متلبسًا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. ومن هنا علم صلى الله عليه وسلم ما كان وما هو كائن {والملئكة} هم أصحاب النفوس القدسية {يَشْهَدُونَ} أيضًا لعدم احتجابهم {وكفى بالله شَهِيدًا} [النساء: 166] لأنه الجامع ولاموجود غيره، والله تعالى الموفق للصواب.