فصل: تفسير الآية رقم (174):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (173):

{فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}
{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} إلخ تفصيلًا للجزاء كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وا يصيبه من عذاب الله تعالى، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها. وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول أما على الفريقين لا على قسمي الجزاء، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئًا أصلًا، وقرئ {فَسَيَحْشُرُهُمْ} بكسر الشين وهي لغة، وقرئ فسنحشرهم بنون العظمة، وفيه التفات.
{وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} بتضعيف أجورهم أضعافًا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية. والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» {وَأَمَّا الذين استنكفوا} عن عبادة الله تعالى: {واستكبروا} عنها {فَيُعَذّبُهُمْ} بسبب ذلك {عَذَابًا أَلِيمًا} لا يحيط به الوصف {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيًّا} يلي أمورهم ويدبر مصالحهم {وَلاَ نَصِيرًا} ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه.

.تفسير الآية رقم (174):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}
{يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بالبراهين القاطعة بما تخرّ له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر {قَدْ جَاءكُمُ} أتاكم ووصل إليكم {بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ} أي حجة قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل. وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه أن المراد بالبرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والتنوين للتفخيم، ومن لابتداء الغاية مجازًا وهي متعلقة بجاء أو حذوف وقع صفة مشرفة لبرهان مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك لتربيتهم وتكميلهم. {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الإعذار {نُورًا مُّبِينًا} وهو القرآن كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضًا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلًا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين لأنه بَينٌ بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجيء به أحد، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورًا توقيرًا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه قاله مولانا شيخ الإسلام والأمر على غير ذلك التقدير هين.

.تفسير الآية رقم (175):

{فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}
{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله} حسا يوجبه البرهان الذي جاءهم {واعتصموا بِهِ} أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره. وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين، وهو خلاف الظاهر {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ} أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاءًا لحق واجب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة، فعلى الأول: التجوز في كلمة {فِى} لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف، وعلى الثاني: التجوز في المجرور دون الجار قاله الشهاب والبحث في ذلك شهير ومنه متعلق حذوف وقع صفة مشرفة لرحمة {وَفَضَّلَ} أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك.
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي إلى الله عز وجل، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه، وقيل: الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود، وقيل: على الفضل {صراطا مُّسْتَقِيمًا} هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الأخرى، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي. وفي وجه انتصاب {صِرَاطًا} أقوال، فقيل: إنه مفعول ثانٍ لفعل مقدر أي يعرفهم صراطًا، وقيل: إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم، وقيل: مفعول ثان له بناءًا على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة. ومن الناس من جعل {إِلَيْهِ} متعلقًا قدر أي مقربين إليه، أو مقربًا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول، ومنهم من جعله حالًا من صراطًا ثم قال: ليس لقولنا: يهديهم طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى، فالأوجه أن يجعل {صِرَاطًا} بدلًا من {إِلَيْهِ} وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا: يهديهم طريق الإسلام موصلًا إلى عبادته معناه واضح، ولا وجه لكون {صِرَاطًا} بدلًا من الجار والمجرور فافهم.

.تفسير الآية رقم (176):

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
{يَسْتَفْتُونَكَ} أي في الكلالة استغنى عن ذكره لوروده في قوله تعالى: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} والجار متعلق بـ {يُفْتِيكُمْ}، وقال الكوفيون: بـ {يَسْتَفْتُونَكَ} وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة، وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة، والآية نزلت في جابر بن عبد الله كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره. وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب عليّ فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض» وهي آخر آية نزلت، فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء، والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام كما نص على ذلك المحققون، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتسمى آية الصيف، أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: «ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء».
{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} استئناف مبين للفتيا، وارتفع {امرؤ} بفعل يفسره المذكور على المشهور، وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد، وقيل: حال منه، واعترض بأنه نكرة، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات، وقال الحلبي: يصح كونه حالًا منه؛ و{هَلَكَ} صفة له، وجعله أبو البقاء حالًا من الضمير المستكن في {هَلَكَ}، وقيل عليه: إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير، وإن ردّ بقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100]، وقال أبو حيان: «الذي يقتضيه النظر أن ذلك ممتنع، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي» ووافقه الحلبي، وقال السفاقسي: الأظهر أن هذا مرجح لا موجب، والمراد من الولد على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت عند غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والإمامية لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية، وتعقبه بعض المحققين مختارًا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما، أما الابن فلأنه يسقط الأخت، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقًا ولا مفهومًا، وأيضًا الكلام في الكلالة وهو من لا يكون له ولد أصلًا وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم، فلابد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم.
وقوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ} عطف على {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ويحتمل الحالية، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة [النساء: 12]. {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي بالفرض والباقي للعصبة، أو لها بالردّ إن لم يكن له عصبة، والفاء واقعة في جواب الشرط {وَهُوَ} أي المرء المفروض {يَرِثُهَا} أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب؛ وقد سدت كما قال أبو البقاء مسدّ جواب الشرط في قوله تعالى: {إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} ذكرًا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح عنه صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة.
{فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} عطف على الشرطية الأولى، والضمير لمن يرث بالأخوة، وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لابد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ، ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئًا، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل: إنهما يستحقان ما ذكر جرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد، وإليه ذهب الأخفش، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضًا فعاد الإشكال، وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث، وأن الأصل والتقدير إن كان من يرث بالإخوة اثنين، وإن كان من يرث ذكورًا وإناثًا فيما يأتي؛ وإنما قيل: كانتا وكانوا لمطابقة الخبر كما قيل: من كانت أمك، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال، لأنه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد.
وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين: الأول أن ضمير كانتا لا يعود على الأختين بل على الوارثتين، وثم صفة محذوفة لاثنتين، والصفة مع الموصوف هو الخبر، والتقدير: فإن كانتا أي الوارثتان اثنتين من الأخوات {فلهما الثلثان مما ترك} فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، والثاني أن يكون الضمير عائدًا على الأختين كما ذكروا ويكون خبر كان محذوفًا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلًا، ويكون اثنتين حالًا مؤكدة، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء الهالك، ويدل على حذف الخبر الذي هو له {وَلَهُ أُخْتٌ}. {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالًا وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الانثيين} أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينة رجالًا ونساءً الواقع بدلًا، وقيل: فيه اكتفاء.
{يُبَيّنُ الله لَكُمْ} حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها، وإلى هذا ذهب أبو مسلم {أَن تَضِلُّواْ} أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد. وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي {ءانٍ} أي لئلا تضلوا، وقيل: ليس: هناك حذف ولا تقدير وإنما المنسبك مفعول {يُبِينُ} أي يبين لكم ضلالكم، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو {يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال عز وجل لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب، واعترض بأن المبين صريحًا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال: بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه، وفيه تأمل، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض، وفيها أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي وهي أيضًا آخر ما نزل من الأحكام {والله بِكُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة حياكم ومماتكم {عَلِيمٌ} مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
وهذا ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} ستروا ما اقتضاه استعدادهم {وَصُدُّواْ} ومنعوا غيرهم {عَنْ} سلوك {سَبِيلِ الله} أي الطريق الموصلة إليه {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} [النساء: 167] لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لبطلان استعدادهم {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء: 168] لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيرًا} [النساء: 169] لانجذابهم إليها بالطبيعة {حَكِيمًا يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} نهي لليهود والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا، وقد غلا الفريقان في دينهم، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي البواطن فحطوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} الداعي إليه {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} أي حقيقة من حقائقه الدالة عليه {وَرُوحٌ مّنْهُ} أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن سبب تخصيص عيسى عليه السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره فكان بذلك روحًا كاملًا مظهرًا لاسم الله تعالى صادرًا من اسم ذاتي ولم يكن صادرًا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فإن أرواحهم وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الأسمائية فما سمي عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون، وكانت دعوته عليه السلام إلى الباطن والعالم القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته الغيبية، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في «الجواهر والدرر» {مَّا كَانَ الله} بالجمع والتفصيل {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة} لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي، وعيسى عليه السلام في الحقيقة فان وجوده بوجود الله تعالى وحياته عليه السلام بحياته جل شأنه وعلمه عليه السلام بعلمه سبحانه: {إِنَّمَا الله إله واحد} وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له في الوجود {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} [النساء: 171] أي ما في سموات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ} في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدًا محتاجًا ذليلًا مفتقرًا غير مستنكف عن ذلة العبودية {وَلاَ الملئكة المقربون} الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة، وأما في مقام الجمع فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا... {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} بظهور أنانيته {وَيَسْتَكْبِرْ} بطغيانه في الظهور بصفاته {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ} الإيمان الحقيقي حو الصفات وطمس الذات {وَعَمِلُواْ الصالحات} وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} من جنات صفاته {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} بالوجود الموهب لهم بعد الفناء {وَأَمَّا الذين استنكفوا} وأظهروا الأنانية {واستكبروا} وطغوا فقال قائلهم: أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه {فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا} [النساء: 173] باحتجابهم وحرمانهم {نَصِيرًا يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ} وهو التوحيد الذاتي {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174] وهو التفصيل في عين الجمع؛ فالأول: إشارة إلى القرآن، والثاني: إلى الفرقان {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث أنها أغيار {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ} وهي جنات الأفعال {وَفَضَّلَ} وهو جنات الصفات {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صراطا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 175] وهو الفناء في الذات، أو الرحمة جنات الصفات، والفضل جنات الذات؛ والهداية إليه صراطًا مستقيمًا الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة، ولا حجر على أرباب الذوق، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ونسأله التوفيق لفهم كلامه، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.