فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (20):

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)}
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} أيها الأزواج {استبدال زَوْجٍ} إقامة امرأة ترغبون بها {مَّكَانَ زَوْجٍ} أي امرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها {وَءاتَيْتُمْ} أي أعطى أحدكم {إِحْدَاهُنَّ} أي إحدى الزوجات، فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع، والمراد من الإيتاء كما قال الكرخي: الالتزام والضمان كما في قوله تعالى: {إذا سلمتم ما أتيتم} [البقرة: 233] أي ما التزمتم وضمنتم، ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين، وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك، والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها {قِنْطَارًا} أي مالًا كثيرًا، وقد تقدمت الأقوال فيه {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} أي من القنطار المؤتى {شَيْئًا} يسيرًا أي فضلًا عن الكثير.
{أَتَأْخُذُونَهُ} أي الشيء {بهتانا وَإِثْمًا مُّبِينًا} استئناف مسوق لتقرير النهي والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين، ويحتمل أن يكونا منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثة وما نحن فيه من الثاني نحو قعدت عن الحرب جبنًا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم فقد قيل: كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقال الزجاج: الباطل الذي يتحير من بطلانه، وفسر هنا بالظلم، وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله:
وألفى قولها كذبًا ومينًا

وقيل: المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكار بعد إنكار، وقد بولغ فيه على ما تقدم في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28]، وقيل: تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي. وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو أحد قولين للإمامية، وفي «تفسير الكلبي» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الإفضاء الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية، وأيضًا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال، وذلك أنسب بالجماع، ومن ذهب إلى الثاني قال: إنما سميت الخلوة إفضاءًا لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها، والجملة حال من فاعل {تَأْخُذُونَهُ} مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي حال تأخذونه، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع {و} قد {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا} أي عهدًا {غَلِيظًا} أي شديدًا قال قتادة: هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال {فَإِمْسَاكٌ عْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] ثم قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن عروف أو لتسرحن بإحسان، وروي ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير وكثير، وعن مجاهد الميثاق الغليظ كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن.
واستدل بالآية من منع الخلع مطلقًا وقال: إنها ناسخة لآية البقرة، وقال آخر: إنها منسوخة بها، وروي ذلك عن أبي زيد وقال جماعة: لا ناسخة ولا منسوخة، والحكم الذي فيها هو الأخذ بغير طيب نفس، واستدل بها كما قال ابن الفرس قوم على جواز المغالاة في المهور. وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارًا}؟ [النساء: 20] فقال: اللهم غفرًا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له وقالوا: إن الجهل مناف للإمامة، وأجيب بأن الآية ليست نصًا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك: إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرًا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر بل بطريق الهبة، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصًا إذا أوحشها بالفراق، وقوله تعالى: {وَقَدْ أفضى} لا يعين كون المؤتى مهرًا سلمنا كونه مهرًا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه.
فقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من خير النساء أيسرهن صداقًا» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله عليه وسلم «يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها» وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعًا «أعظم النساء بركة أيسرهن صداقًا»، فنهى أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير وميلًا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به، فقوله رضي الله تعالى عنه: اللهم غفرًا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاءوا، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر نصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين، فقد أخرج ابن جرير. وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل عليًا كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال الأمير: أصبت وأخطأنا {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقد وقع لداود عليه السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه: {وَدَاوُودَ وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} إلى أن قال عز من قائل: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: 78، 79] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه لا من مطاعنه، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} [النساء: 19] وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنًا لهم في الجاهلية. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه حصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئًا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «ارجعي لعل الله تعالى ينزل فيك شيئًا» فنزلت {وَلاَ تَنْكِحُواْ} الآية، ونزلت أيضًا {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} [النساء: 19] إلخ» وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، واسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز، وفي النهاية إن دلالة الأب على الجد بأحد طريقين: إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع، ولا يخفى أن كون الدلالة بالإجماع مما لا معنى له، نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لا خفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصًا وإجماعًا، ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعني العقد إن كان صحيحًا ولا يشترط الدخول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس، فقد أخرج عنه ابن جرير والبيهقي أنه قال: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام، وروي ذلك عن الحسن وابن أبي رباح، وإن كان النكاح فاسدًا فلابد في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلًا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك لك اليمين، وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا، وإليه ذهبت الإمامية، وخالفت الشافعية في المحرم، وتحقيق ذلك أن الناس اختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل: هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية، وقيل: بالعكس وعليه أصحابنا، ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ما أطلقه الأقدمون، وقد تحقق استعمال النكاح في كل من هذه المعاني، ففي الوطء قوله صلى الله عليه وسلم:
«ولدت من نكاح لا من سفاح» أي من وطء حلال لا من وطء حرام، وقوله عليه الصلاة والسلام: «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح»، وقول الشاعر:
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ** وأخرى على خال وعم تلهف

وقول الآخر:
ومنكوحة غير ممهورة

وقول الفرزدق:
إذ سقى الله قومًا صوب عادية ** فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا

التاركين على طهر نساءهم ** والناكحين بشطي دجلة البقرا

وفي العقد قول الأعشى:
فلا تقربن جارة إن سرها ** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

وفي المعنى الأعم قول القائل:
ضممت إلى صدري معطر صدرها ** كما نكحت أم الغلام صبيها

وقول أبي الطيب:
أنكحت صم حصاها خف يعملة ** تغشمرت بي إليك السهل والجبلا

فمدعي الاشتراك اللفظي يقول تحقق الاستعمال والأصل الحقيقة، والثاني يقول: كونه مجازًا في أحدهما حقيقة في الآخر حيث أمكن أولى من الاشتراك، ثم يدعي تبادر العقد عند إطلاق لفظ النكاح دون الوطء ويحيل فهم الوطء منه حيث فهم على القرينة، ففي الحديث الأول هي عطف السفاح بل يصح حمل النكاح فيه على العقد وإن كانت الولادة بالذات من الوطء، وفي الثاني إضافة المرأة إلى ضمير الرجل فإن امرأته هي المعقود عليها فيلزم إرادة الوطء من النكاح المستثنى وإلا فسد المعنى إذ يصير يحل من المعقود عليها كل شيء إلا العقد، وفي الأبيات الإضافة إلى البقر ونفي المهور، والإسناد إلى الرماح إذ يستفاد أن المراد وطء البقر والمسبيات، والجواب منع تبادر العقد عند الإطلاق لغة بل ذلك في المفهوم الشرعي الفقهي، ولا نسلم أن فهم الوطء فيما ذكر مسند إلى القرينة وإن كانت موجودة إذ وجود قرينة تؤيد إرادة المعنى الحقيقي مما يثبت مع إرادة الحقيقي فلا يستلزم ذلك كون المعنى مجازيًا بل المعتبر مجرد النظر إلى القرينة إن عرف أنه لولاها لم يدل اللفظ على ما عنيته فهو مجاز وإلا فلا، ونحن في هذه المواد المذكورة نفهم الوطء قبل طلب القرينة، والنظر في وجه دلالتها فيكون اللفظ حقيقة وإن كان مقرونًا بما إذا نظر فيه استدعى إرادة ذلك المعنى، ألا يرى أن ما ادعوا فيه الشهادة على أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء من بيت الأعشى فيه قرينة تفيد العقد أيضًا فإن قوله:
فلا تقربن جارة

نهى عن الزنا بدليل أن سرها عليك حرام فيلزم أن قوله: فانكحن أمر بالعقد أي فتزوج إن كان الزنا عليك حرامًا أو تأبد أي توحش أي كن كالوحش بالنسبة إلى الآدميات فلا يكن منك قربان لهن كما لا يقربهن وحش، ولم يمنع ذلك أن يكون اللفظ حقيقة في العقد عندهم في البيت إذ هم لا يقولون بأنه مجاز فيه، وأما ادعاء أنه في الحديث للعقد فيستلزم التجوز في نسبة الولادة إليه لأن العقد إنما هو سبب السبب، ففيه دعوى حقيقة بالخروج عن حقيقة وهو ترجيح بلا مرجح لو كانا سواء، فكيف والأنسب كونه في الوطء ليتحقق التقابل بينه وبين السفاح إذ يصير المعنى عن وطء حلال لا وطء حرام فيكون على خاص من الوطء، والدال على الخصوصية لفظ السفاح أيضًا فثبت إلى هنا أنا لم نزده على ثبوت مجرد الاستعمال شيئًا يجب اعتباره، وقد علم أيضًا ثبوت الاستعمال في الضم فباعتباره حقيقة فيه يكون مشتركًا معنويًا من أفراده الوطء والعقد إن اعتبرنا الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول، أو الوطء فقط فيكون مجازًا في العقد لأنه إذا دار بين المجاز والاشتراك اللفظي كان المجاز أولى ما لم يثبت صريحًا خلافه ولم يثبت نقل ذلك بل قالوا: نقل المبرد عن البصريين، وغلام ثعلب عن الكوفيين أنه الجمع والضم، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه فوجب كونه مجازًا في العقد كذا في فتح القدير.
إذا علمت ذلك فنقول: حمل الشافعية النكاح في الآية التي نحن فيها على العقد دون الوطء، واستدلوا بها على حرمة المعقود عليها وإن لم توطأ، وذهبوا إلى عدم ثبوت الحرمة بالزنا وحمله بعض أصحابنا على العقد فيها، واستدلوا بها على حرمة نكاح نساء الآباء والأجداد، وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وجعلوا حرمة العقد ثابتة بالإجماع، ثم قالوا: ولو حمل على العقد تكون حرمة الوطء ثابتة بطريق الأولى.
واعترض بأنه لا ينبغي أن يقال: ثبت حرمة الموطوأة بالآية، والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة جرد العقد ولفظ الدليل الصالح له كان مرادًا منه بلا شبهة؛ فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون، ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا احتمله، وحمله آخرون على الوطء والعقد معًا فقد قال الزيلعي: الآية تتناول منكوحة الأب وطءًا وعقدًا صحيحًا، ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي، وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه، وقد نقل أيضًا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذٍ لا إشكال في كون الآية دليلًا على حرمة الموطوأة والمعقود عليها كما لا يخفى.
واعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول، والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات، ولا عموم للمشترك مطلقًا، وفي «الأكمل»، والحق أن النفي كما اقتضاه الإثبات فإن اقتضى الإثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا.
ومسألة اليمين المذكورة في «المبسوط» حلف لا يكلم مواليه وله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنث ليست باعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض، وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها، وفي البحر إن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه، ويستدل لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم، وما موصول اسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقًا، وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه، وقيل: مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم، واختار الطبري إبقاء المصدر على مصدريته ويكون المراد النهي عن كل نكاح كان لهم فاسد أي لا تنكحوا مثل نكاح آبائكم وليس بالوجيه.
{مّنَ النساء} في موضع الحال من ما أو من العائد عليها، وعند الطبري متعلقة بنكح، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين، وظاهره أنها بيانية، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذ المنكوحات لا يكن إلا نساءًا التعميم كأنه قيل: أي امرأة كانت، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء.
{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم، والكلام حينئذٍ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من ماتت منهن. والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمّ الخياط} [الأعراف: 40] والمعلق على المحال محال، وقيل: إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل، وما قد سلف ماض فكيف يستثنى منه، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعًا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره، ولا يعد ذلك زنا، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة مثلًا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه، وحكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر فارقتهن، وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، قال البلخي: وهذا خلاف الإجماع، وما علم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه: {أَنَّهُ} أي نكاح ما نكح الآباء {كَانَ فاحشة وَمَقْتًا} فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الإخبار بأنه فاحشة مبغوضًا باستحقار جدًا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الإخبار بأنه مقت، وإنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفًا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه كان على ما ذكره علي بن عيسى وغيره، وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري وارتضاه جمع من المحققين، ومن الناس من استظهر كون هذه الجملة خبرًا على تقدير الانقطاع وليس بالظاهر، ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا وليس بشيء، وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت، ويسمى الولد منه مقتي، ويقال له أيضًا: مقيت أي مبغوض مستحقر، وكان من هذا النكاح على ما ذكره الطبرسي الأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة {وَسَاء سَبِيلًا} أي بئس طريقًا طريق ذلك النكاح، ففي ساء ضمير مبهم يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وذمّ الطريق مبالغة في ذمّ سالكها وكناية عنه، ويجوز واختاره الليث أن تكون ساء كسائر الأفعال ففيها ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير به.
وسبيلًا تمييز محول عن الفاعل، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وإما معطوفة على خبر كان محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة أي ومقولًا في حقه ذلك في سائر الأعصار.
قال الإمام الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي والقبح الشرعي والقبح العادي، وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه: {فاحشة} إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي، وقوله تعالى: {وَمَقْتًا} إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله عز وجل: {وَسَاء سَبِيلًا} إشارة إلى مرتبة قبحه العادي، وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح. وأنت تعلم أن كون قوله عز شأنه: {وَمَقْتًا} إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون المراد {ومقتًا} عند الله تعالى، وأما على تقدير أن يكون المراد {ومقتًا} عند ذوي المروءات فليس بظاهر، ومن هنا قيل: إن قوله جل شأنه: {فاحشة} إشارة إلى القبح الشرعي {وَمَقْتًا} إشارة إلى العقلي عنى المنافرة {وَسَاء سَبِيلًا} إلى العرفي، وعندي أن لكل وجهًا، ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفى، ومما يدل على فظاعة أمره ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.