فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (35):

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق} احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزامًا غب إلزام وإفحامًا إثر إفحام. وفصله إيذانًا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه.
والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك الله سبحانه أم الشركاء؟. ومنهم من يبقى الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل، ومن الناس من خصص طريق الهداية، والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى {قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ} أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه، والكلام في الأمر على طرز ما سبق، وفعل الهداية يتعدى إلى اثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كاستعماله قاصرًا عنى اهتدى، والمبرد أنكر هذا حيث قال: إن هدى عنى اهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره، وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدى بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى، وأما قوله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق} فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله جل شأنه.
وقيل: اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول، والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة، وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه، ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه، وقيل: التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل الله يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى} بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب. وحفص، وأصله يهتدي وكسر الهاء لالتقاء الساكنين. وقرأ حماد. ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء اتباعًا للهاء، وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه. وقرأ ابن كثير. وورش عن نافع. وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالًا لقرب مخرجهما وأدغمت فيها. وقرأ أبو عمرو. وقالون عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء تنبيهًا على أن الحركة فيها عارضة، وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين.
واستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد: من رام هذا لابد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق، وذكر القاضي أنه لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك، وأنكر بعضهم هذه القراءة وادعى أنه إنما قرأ بالاختلاس، والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضًا وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة.
وقرأ حمزة. والكسائي {يَهْدِى} كيرمي، وهو إما لازم عنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفًا أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجح الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها، وإنما نفى الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبًا فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق إلخ.، والمقصود من ذلك الإلزام، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور.
وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق، وإما عنى حقيق كما اختاره أبو حيان، وهو خبر عن الموصول، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، و{أَن يُتَّبَعَ} في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع {إِلاَّ أَن يهدى} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. وغيرهما أن المراد الأوثان؛ ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم، وقيل: المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانًا مكلفًا فيهديه وهو من قولك: هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل: الآية الأولى {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابًا من دون الله وليس بالعيد فيما أرى، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعى على أحدهم اللهم إلا أن يقال: إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك، وعبر بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدى مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث أنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم. وقرئ إلا أن {يَهْدِى} مجهولًا مشددًا دلالة على المبالغة في الهداية {فَمَالَكُمْ} أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب.
وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] فلعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل: فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز وجل: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالًا بل هو استفهام آخر للإنكار والتعجب أيضًا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء لله جل وعلا، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بما يَفْعَلُونَ (36)}
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا} كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنًا واهيًا مستند إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يلتفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلًا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفراد من أفراد العلم والتفات إليه. وتنكير {ظَنّا} للنوعية، وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقيقة التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعناداف، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندًا، ولعل النيابة حينئذٍ عن الجميع باعتبار هذا البعض، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنًا ولا يتركونه أبدًا، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنًا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والأكثر عنى الجميع وهذا كما ورد القليل عنى العدم في قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] وفي قوله:
قليل التشكي في المصيبات حافظ ** من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضًا، ومن الناس من جعل ضمير {أَكْثَرُهُمْ} للناس وحينئذٍ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة {إَنَّ الظن} مطلقًا {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، والجار متعلق بما قبله {وشيئًا} نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما، ويجوز أن يكون مفعولًا به والجار والمجرور في موضع الحال منه، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه، وفيه دليل لمن قال: إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عامًا للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه.
{شَيْئًا إِنَّ الله عَلَيمٌ بما يَفْعَلُونَ} وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجًا أوليًا. وقرئ {تَفْعَلُونَ} بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد.

.تفسير الآية رقم (37):

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)}
{وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله} شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن، وقيل: إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم: {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا} [يونس: 15] وقيل: بقوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [يونس: 20] إلخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد {وَكَانَ} هنا ناقصة عند كثير من الكاملين {وهذا} اسمها {والقرءان} نعت له أو عطف بيان {وَأَنْ يَفْتَرِى} بتأويل المصدر أي افتراء خبر {كَانَ} وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ بد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر، ومنه قوله:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

وذهب بعض المعربين أن {مَا كَانَ} عنى ما صح وأن في الكلام لا ما مقدرة لتأكيد النفي، والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنين لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122] {وَأَنْ يَفْتَرِى} خبر كان {وَمِن دُونِهِمَا الله} خبر ثان وهو بيان للأول، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي حمن جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرًا من غير الله تعالى كيف كان، وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل {مِن دُونِ الله} وما ذكر في حاصل المعنى أمر مقبول كمالا يخفى، وجوز البدر الدماميني أن تكون {كَانَ} تامة {وَأَنْ يَفْتَرِى} بدل اشتمال من {هذا القرءان} وتعقب بأنه لا يحسن قطعًا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضًا لابد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتني الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى، وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتًا للحسن أصلًا، واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتبارًا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، والظاهر عندي أن المبالغة حينئذٍ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى، ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين: إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية: وما صح وما استقام وكان محالًا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى را يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط كان لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر، ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة، والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة، وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه.
واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون، والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتى إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل. وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاجب. وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب، ولعل ذلك من باب المجاز، وحينئذٍ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وقيل: لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب. وغيره، ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول.
قيل: وقد يجاب أيضًا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفى في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلًا لذلك فينتفي تعلق الافتراء بالفعل من باب أولى، وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي، وقد نص أبو البقاء على جواز كونه الخبر محذوفًا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنًا أن يفترى، وقال العلامة ابن حجر: إن الآية جواب عن قولهم: {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ} [يونس: 15] وهو طلب للافتراء في المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال، على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فإنه نزل عن استغافار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير، وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر.
{ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، فالمراد من الموصول الجنس، وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله، وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به.
وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأن ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق، ووجه كونه مصدقًا لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسا ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانًا لغيره لا بالعكس، وزعم بعضهم أن المراد من {الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أخبار الغيوب والإضافة للفاعل، وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء، ونصب التصديق على العطف على خبر كان أو على أنه خبر لكان مقدرة، وقيل: على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر. أي أنزل لتصديق ذلك، وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل لأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه، وقيل: نصب على المصدرية لفعل مقدر أي صدق تصديق إلخ، وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق إلخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ الكتاب} أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع، والعطف نصبًا أو رفعًا على {تَصْدِيقَ} وقوله سبحانه: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر، وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها، وجوز أن يكون حالًا من الكتاب وإن كان مضافًا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافًا نحويًا لا محل له من الإعراب أو بيانيًا جوابًا للسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه {مِن رَّبّ العالمين} خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق حذوف وقع حالًا من الكتاب و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها. وجوز أن يكون حالًا من الضمير المجرور في {فِيهِ}.