فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (38):

{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}
{والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس} أي للفخار ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال، والموصول عطف على نظيره أو على الكافرين، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الانفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي. {وَرِئَاء} مصدر منصوب على الحال من ضمير {يُنفِقُونَ} وإضافته إلى الناس من إضافة المصدر لمفعوله أي مرائين الناس {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} القادر على الثواب والعقاب {وَلاَ باليوم الاخر} الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود، وروي ذلك عن مجاهد، أو مشركو مكة أو المنافقون كما قيل. {وَمَن يَكُنِ الشيطان} والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن {لَهُ قَرِينًا} أي صاحبًا وخليلًا في الدنيا {فَسَاء} فبئس الشيطان أو القرين. {قَرِينًا} لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار وساء منقولة إلى باب نعم، وبئس فهي ملحقة بالجامدة؛ فلذا قرنت بالفاء، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير قد كقوله سبحانه: {وَمَن جَاء بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم فحملهم على ذلك وزينه لهم، وجوز أن يكون وعيدًا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم لهم الحسرة على ساق..

.تفسير الآية رقم (39):

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي ما الذي عليهم، أو أي وبال وضرر يحيق بهم. {لَوْ ءامَنُواْ بالله واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ} على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى كما يشعر به السياق ويفهمه الكلام {مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} من الأموال، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل كان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطًا، فكيف إذا تدفقت منه المنافعا وهذا أسلوب بديع كثيرًا ما استعملته العرب في كلامها، ومن ذلك قول من قال:
ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلًا في الفعل، ألا ترى أن من قال للأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرًا؟ وللقصير ماذا عليك لو كنت طويلًا؟ نسب إلى ما يكره. واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضًا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال واجبًا لكان في غاية الصعوبة، وأجيب بعد تسليم الإشعار بأن الصعوبة في التفاصيل وليست واجبة وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة، و{لَوْ} إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي لو آمنوا لم يضرهم وإما عنى أن المصدرية كما قال أبو البقاء وعلى الوجهين لا استئناف. وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم، ولو قيل: أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان عنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلًا بين العديلين لكان له وجه لاسيما إذا قلنا بالعطف. {وَكَانَ الله عَلِيمًا} خبر يتضمن وعيدًا وتنبيهًا على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به، وقيل: فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا، ولا بأس بأن يراد كان عليمًا بهم وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (40):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} المثقال مفعال من الثقل، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل: جاهلية وإسلام وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطًا، وعلى مطلق المقدار وهو المراد هنا ولذا قال السدي: أي وزن ذرة وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى. وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد، وعن الأول: أنها رأس النملة، وعنه أيضًا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة، وقريب منه ما قيل: إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة، وقيل هي الخردلة، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ مثقال نملة ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة والعظم كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه} [القارعة: 6] إلى أنه وإن كان حقيرًا فهو باعتبار جزئه عظيم، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول، أي ظلمًا قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامهما، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدًا أو لا يظلمهم مثقال ذرة. قال السمين: وكأنهم ضمنوا {يظلم} معنى يغصب أو ينقص فعدوه لاثنين. وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلًا، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهى عنه مما ينبغي أن يجتنب.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا، واعترض على ذلك بقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه، قال في الكشف وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما نقول: الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض، وأما ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات، لكن الحكمة وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي مانعة، وعن هذا قالوا: الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة؛ والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح، ونحن نقول: إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضًا بناءًا على وعده المحتوم، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصًا منافيًا للألوهية وكمال الغنى، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلمًا، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما، والخلف ممتنع لذاته، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعًا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن إخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم.
{وَإِن تَكُ حَسَنَةً} الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال، وإنما أنث حملًا على المعنى لأنه عنى وإن تكن زنة ذرة حسنة، وقيل: لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو.
كما شرقت صدر القناة من الدم

أو صفة له نحو {لاَّ تَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس، وقيل: أنث الضمير لتأنيث الخبر، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودًا وصفيته، والحسنة غلبت عليها الإسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو الكلام هو الجملة وقيل: الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيهًا لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضًا حرصًا على التخفيف فيما كثر دوره، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضًا في مثل قوله:
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة ** فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة، وقرأ ابن كثير {حَسَنَةٌ} بالرفع على أن {تَكُ} تامة أي وإن توجد أو تقع {حَسَنَةٌ}.
{يضاعفها} أضعافًا كثيرة حتى يوصلها كما مر عن أبي هريرة إلى ألفي ألف حسنة، وعنى التكثير لا التحديد، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلًا مما لا يعقل، وإن ذهب إليه بعض المحققين، وما في الحديث من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل محمول على هذا للقطع بأنها أكلت، واحتمال إعادة المعدوم بعيد، وكذا كتابة ثوابها مضاعفًا، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار، مثلًا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءًا أو ثلاثين أو أزيد، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية، وجعل قوله تعالى: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} على هذا عطفًا لبيان الأجر المتفضل به، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدًا بعد واحد إلى أبد الدهر، وتسمية ذلك أجرًا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه، وعلى الأول جعله البعض واردًا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة وليس بشيء لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضًا لكن قتضى الوعد الذي لا يخلف، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضًا قتضى الكرم كما قيل: وعد الكريم دين، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد، والداعي إليه عدم التكرار، وقال الإمام أيضًا: «إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة... وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية»، ولا يخلو عن حسن، ولدن عنى عند، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب، ولذا لا يقال: لديّ مال إلا وهو حاضر بخلاف عند، وتقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدي ولدني كما قاله الزجاج ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى: {مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير يضعفها بتضعيف العين وتشديدها، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما عنى، وقال أبو عبيدة: ضاعف يقتضي مرارًا كثيرة، وضعف يقتضي مرتين، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر.