فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (4):

{كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)}
{كَلاَّ} ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه المفرط على ما قيل واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظًا ومعنى وأنا لا أرى بأسًا في كون ذلك ردعًا له عن كل ما تضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة وقوله تعالى: {لَيُنبَذَنَّ} جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب أفعاله المذكورة {فِى الحطمة} أي في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقي فيها وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعيًا منزلة المعتاد. والحطم كسر الشيء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا:
انا حطمنا بالقضيب مصعبا ** يوم كسرنا أنفه ليغضبا

ويقال رجل حطمة أي أكول تشبيهًا له بالنار ولذا قيل في أكول. كإنمافي جوفه تنور، وفسر الضحاك الحطمة هنا بالدرك الرابع من النار وقال الكلبي هي الطبقة السادسة من جهنم وحكى القشيري عنه أنها الدرك الثاني وقال الواحدي هي باب من أبواب جهنم وزعم أبو صالح انها النار التي في قبورهم وليس بشيء وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (5):

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)}
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة} لتهويل أمرها ببيان انها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن بخلاف عنه وابن حيصن وحميد وهرون عن أبي عمرو {لينبذان} بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله وعن الحسن أيضًا لينبذن بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع لكل همزة باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وانصاره بناء على ما سمعت في قراءته هناك وعن أبي عمرو لننبذنه بنون العظمة وهاء النصب ونون التأكيد وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة.

.تفسير الآية رقم (6):

{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)}
{نَارُ الله} خبر مبتدأ محذوف والجملة لبيان شان المسؤول عنها أي هي نار الله {الموقدة} بأمر الله عز وجل وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالايقاد من تهويل ما لا مزيد عليه.

.تفسير الآية رقم (7):

{الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}
طَّلِعُ عَلَى الافئدة} أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد الطف ما في الجسد وأشده تالما بادنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الأعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب انه قال في الآية تأكل كل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤاد فإذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه وجوز أن يراد الإطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل اناه تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم ما فيها فتجازي كلا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب. وأرباب الإشارة يقولون ان ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب.

.تفسير الآية رقم (8):

{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)}
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد.

.تفسير الآية رقم (9):

{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}
{فِى عَمَدٍ} جمع عمود كما قال الراغب والفراء وقال أبو عبيدة جمع عماد وفي البحر وهو اسم جمع الواحد عمود وقرأ الإخوان وأبو بكر عمد بضمتين وهارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف وقوله تعالى: {مُّمَدَّدَةِ} ضفة عمد في القراآت الثلاث أي طوال والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في عليهم أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون فيها وهي والعياذ بالله تاعلى على ما روي عن ابن زيد عمد من حديد وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها من نار واستظهر بعضهم أن العمد تمدد على الأبواب بعد أن تؤصد عليهم تأكيدًا ليأسهم واستيثاقًا في استيثاق وفي حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعًا أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز وجل إلى أهل النار ملائكة باطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار فيطبق عليهم بتلك الأطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم وينساهم الجبار عز وجل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولا يستغيثون بعدها أبدًا وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرًا وشهيقًا وفيه فذلك قوله تعالى إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقًا ؤصدة حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكان الطيبي وفي الإرشاد عن أبي البقاء أنه صفة لمؤصدة وقال بعض لا مانع عليه أن يكون صلة مؤصدة على معنى أن الأبواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب ثم أن ما ذكر لإشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفارًا همزوا ولمزوا خير البشر صلى الله عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لأن المغتاب كأنه سارق من أعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود وقد يقال من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى همزة لمزة قيل {الحطمة} للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الاضلاع المدلول عليه بالحطمة وجيء بالنبيذ المنبئ عن الاستحقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيء في مقابله {تطلع على الأفئدة} [الهمزة: 7] ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن ياصد عليه قيل في مقابله إنها عليهم مؤصدة ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل في عمد ممددة وقد صرح بذلك بعض الأجلة فليتأمل والله تعالى أعلم.

.سورة الفيل:

مكية وأيها خمس بلا خلاف فيهما وكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له عليه الصلاة والسلام عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم فإن عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيت فالسورة مشيرة إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئا أو على قدرته عز وجل إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة.
في قوله سبحانه: {لينبذن في الحطمة} إلخ.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} الظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وهي بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل لأنها سببية ويجوز جعلها علمية من أول الأمر إلا أن ذاك أبلغ وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه سمعه متواترًا وكيف في محل نصب على المصدرية بفعل والمعنى أي فعل فعل وقيل على الحالية من الفاعل والكيفية حقيقة للفعل لا بألم تر لمكان الاستفهام والجملة سادة مسد المفعولين لتر وجوز بعضهم نصب كيف بتر لانسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في شرح المفتاح الشريفي وصرح أبو حيان بامتناعه لأنه يراعي صدارته إبقاء لحكم أصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كما قال غير واحد من الإرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري لا يشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الإجماع وكل ما خالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الأقوال المذكورة في كتب السير وعلى الأول المرجح الذي عليه الجمهور قيل ولادته عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعث الله تعالى فيه الطير على أصحاب الفيل من ذلك العام وهو المذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس ولد عليه الصلاة والسلام يوم الفيل وذهب السهيلي أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يومًا وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الأول وقال الحافظ الدمياطي بخمسة وخمسين يومًا وقيل بأربعين وقيل بشهر والمشهور ما ذهب إليه السهيلي وفي قوله تعالى: {رَبَّكَ} نوع رمز إلى الإرهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لا ينافي الإرهاص وكذا لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس: خلأت أي حزنت ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل إذ لم يدع أن ما كان للإرهاص لا غير ومثل هذه العلل لا يضر تعددها ويؤيد الإرهاص قصة القرامطة وغيرهم وتفصيل القصة أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن إسحاق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولا يأباه التسمية بأبرهة بناءً على أن معناه بالحبشة الأبيض الوجه كما لا يخفى وقيل أنه الحميري خرج على ارباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بكسر النون بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الأشرم خلفه غلامه عتورة فحمل عليه أرباط بحربة فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الأشرم فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله وملك مكانه فغضب النجاشي فاسترضاه فرضي فأثبته ثم أنه بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها سماها القليس بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الأدب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على ما يقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام وكتب إلى النجاشي إنني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها قبلك ولست نته حتى أصرف إليها حجر العرب فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم بن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه فأخبر أبرهة فقال من صنع هذا فقيل رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب كة غضب لما سمع قولك اصرف إليها حج العرب ففعل ذلك فاستشاط أبرهة غضبًا وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وقيل أججت رفقة من العرب نارًا حولها فحملتها الريح فأحرقتها فغضب لذلك فأمر الحبشة فتهيأت وتجهزت فخرج في ستين ألفًا على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قويًا عظيمًا واثنا عشر فيلًا غيره وقيل ثمانية وروي ذلك عن الضحاك وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهو قول الأكثرين الأوفق بظاهر الآية فسمعت العرب بذلك فأعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقًا عليهم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيرًا فأراد قتله فقال أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي فتركه وحبسه عنده حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيرًا فهم بقتله فقال نحو ما سبق فخلى سبيله وخرج به يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقيف فقال له أيها الملك إنما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت اللات إنما تريد البيت الذي كة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس كمعظم موضع بطريق الطائف معروف فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن إسحاق وقيل القبر الذي هناك لأبي رغال رجل من ثمود وهو أبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكرًا فيه حديثًا رواه أبو داود في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعًا وقال فيما تقدم بعد نقله عن الجوهري ليس بجيد وجمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم أن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلًا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصور حتى انتهى إلى مكة فساق أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذٍ سيد قريش فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لا طاقة لهم به فكفوا وبعث أبرهة حياطة الحميري إلى مكة وقال قل لسيد أهل هذا البلد أن الملك يقول: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فإنني به فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا به طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه وأن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًا وعشيًا ما عندي غناءً في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سائس الفيل سأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي فبعث إليه فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت فقال افعل فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلى على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه والقول بأنه أعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ما علمت من القول المرجح اللهم إلا أن يقال أنه تجلى فيه ذلك النور وإن كان قد انتقل ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فقال حاجتي أن يرد علي الملك إبلي فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب: إني رب الإبل وإن للبيت ربًا سيمنعه قال ما كان ليمنع مني قال أنت وذاك، وفي رواية أنه دخل عليه مع عبد المطلب ثقانة بن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى فرد الإبل على عبد المطلب فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفًا من معرة الجيش ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة:
لا هم أن المرء يمـ ** ـنع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليـ ** ـب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم غدوا محالك

جروا جموع بلادهم ** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم ** جهلًا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكعب ** تنا فأمر ما بدا لك

وقال أيضًا:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ** يا رب فامنع عنهم حماكا

أن عدو البيت من عادا كا ** امنعهم أن يخربوا فناكا

ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه إلى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل كة إذا دخلها فلما أصبح تهيأ للدخول وعبى جيشه وهيأ الفيل فلما وجهوه إلى مكة أقبل نفيل بن جبيب حتى قام إلى جنبه فأخذ بإذنه فقال ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل إذن فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول إلى الشام ففعل مثل ذلك فوجهوه إلى مكة فبرك فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك وقيل إن عبد المطلب هو الذي عرك أذنه وقال له ما ذكر وكان ذلك عند وادي محسر وأرسل الله تعالى طيرًا من البحر قيل سودًا وقيل خضرًا وقيل بيضًا مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدًا منهم إلا هلك ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما نزل بهم:
أين المفر والاله الطالب ** والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضًا:
ألا حييت عنا يا ردينا ** نعمناكم عن الإصباح عينا

ردينة لو رأيت ولا تريه ** لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتني وحمدت أمري ** ولا تأسى على ما فات بينا

فكل القوم تسأل عن نفيل ** كأن عليه للحبشان دينا

وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار إلى ذلك ابن الزبعرى بقوله من أبيات يذكر فيها مكة:
سائل أمير الحبش عنا ما ترى ** ولسوف يلبي الجاهلين عليمها

ستون ألفًا لم يؤبوا أرضهم ** بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم أنه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فأخبره الخبر والطير على رأسه فلما فرغ ألقى عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم وقيل إن سائس الفيل وقائده تخلفًا في مكة فسلما فعن عائشة أنها قالت: أدركت قائد الفيل وسائسه كة أعميين مقعدين يستطعمان الناس وعن عكرمة أن من أصابه الحجر جدرته وهو أول جدري ظهر أي بأرض العرب فعن يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضًا ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعًا فرجع رافعًا رأسه كاشفًا عن فخذه فلما رأى ذلك أبوه قال ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلا بشيرًا أو نذيرًا فلما دنا من ناديهم قالوا ما وراءك قال هلكوا جميعًا فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب:
أنت منعت الحبش والافيالا ** وقد رعوا بمكة الاحبالا

وقد خشينا منهم القتالا

وكل أمر منهم معضالا

شكرًا وحمدًا لك ذا الجلالا

هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه طولات كتب السير وقرأ السلمي ألم تر بسكون الراء جدًا في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم قيل والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماءً إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر وقوله تعالى: