فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (55):

{فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}
{فَمِنْهُمْ} أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم {مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي بما أوتي آل إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ} أي أعرض {عَنْهُ} ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام، وقيل: له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحًا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم، وليس بشيء، وقيل: معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير {بِهِ} و{عَنْهُ} على هذا لإبراهيم، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وجعل الكلام متفرعًا على قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} [النساء: 47] أو على قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} إلخ في غاية البعد، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي نارًا مسعرة موقدة إيقادًا شديدًا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى.

.تفسير الآية رقم (56):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام، ويدخل أولئك دخولًا أوليًا، وعلى الأول: فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام، وعلى الثاني: فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم، و{سَوْفَ} كما قال سيبويه: كلمة تذكر للتهديد والوعيد، وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] و{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} [يوسف: 98]؛ وكثيرًا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد، وتنكير {نَارًا} للتفخيم أي: يدخلون ولابد نارًا هائلة {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي احترقت وتهرت وتلاشت، من نضج الثمر واللحم نضجًا ونضجًا إذا أدرك، و{كُلَّمَا} ظرف زمان والعامل فيه {بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدًا جديدًا مغايرًا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب؟ وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلًا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فَيَدُ قاتل النفس ظلمًا مثلًا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح، والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببًا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعًا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلًا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولًا: ببدن من حديد تحله الروح، وثانيًا: ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرًا لم يبعد عقلًا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط.
ولما توقف الأمر عقلًا على إثبات الأجسام أصلًا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسًا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بما كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وما في شرح البخاري للسفيري من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت وأني كنت ريحًا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئًا، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت نزلة الجذع الملقى لا أحرك يدًا ولا رجلًا، فيبعث الله تعالى ملكًا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانًا فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارًا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير: اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما لا أراه صحيحًا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به. ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة. فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال: قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك قال: إني قرأتها قبل {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة} فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال: بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا.
{لِيَذُوقُواْ العذاب} أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار رارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرًا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس را تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعمًا أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله: {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] وسميت السرابيل جلودًا للمجاورة، وفيه أنه ترك للظاهر، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزًا} أي لم يزل منيعًا لا يدافع ولا يمانع، وقيل: إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به {حَكِيمًا} في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه؛ والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارًا.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}
{والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلًا للمساءة والمسرة، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبينا صلى الله عليه وسلم، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار} قرأ عبد الله سيدخلهم بالياء والضمير للاسم الجليل، وفي السين تأكيد للوعد، وفي اختيارها هنا واختيار {سَوْفَ} في آية الكفر ما لا يخفى.
{خالدين فِيهَا أَبَدًا} إعظامًا للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في {سَنُدْخِلُهُمْ} وقوله تعالى: {لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن، في محل النصب على أنه حال من {جنات}، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر. والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار.
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا} أي فينانًا لا وجوب فيه، ودائمًا لا تنسخه الشمس وسجسجًا لا حر فيه ولا قرّ، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو يوم أيوم، وليل أليل وقال الإمام المرزوقي: إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو كبسن في قولك: حسن بسن، وقرئ {يدخلهم} بالياء عطف على {لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ} لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58].
هذا ومن باب الإشارة: في الآيات {حَدِيثًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} خطاب لأهل الإيمان العلمي، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب، وقيل: إنه خطاب لأهل المحبة العشق الذين أسكرهم شراب ليلى ومدام مي، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من الليّ ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم: يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي، وليس في الجنان تقييد، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وقوموا لله قانتين وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة {وَلاَ جُنُبًا} أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقرّ وستر العورة، أو المباشرة لحفظ النسل {حتى تَغْتَسِلُواْ} وتتطهروا ياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار {وَإِنْ كُنتُم مرضى} بأدواء الرذائل {أَوْ على سَفَرٍ} في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط} أي الاشتغال بلوث المال ملوثًا محبته {أَوْ لامستم النساء} أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} علمًا يهديكم إلى التخلص عن ذلك {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا} أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية {إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا} يعفو عما صدر منكم قتضى تلك الهيئات {غَفُورًا} [النساء: 34] يستر الشين بالزين {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا} أي بعضًا {مّنَ الكتاب} وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق {يَشْتَرُونَ الضلالة} ويتركون التوحيد الحقيقي {وَيُرِيدُونَ} مع ذلك {أَن تَضِلُّواْ السبيل} [النساء: 44] الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم {وكفى بالله وَلِيًّا} يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد {وكفى بالله نَصِيرًا} [النساء: 45] ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق {مّنَ الذين هَادُواْ} رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادًا لله تعالى لا قصدًا ولا تبعًا لا عبارة ولا إشارة، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى عنى الدوال عليه، أو كلمه عنى آثار كلمه أعني كن المتعددة حسب تعدد تعلقات الإرادة.
ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودًا غير وجود الله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات {وَعَصَيْنَا} فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون {و} يقولون أيضًا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به {عَظِيمٍ أَسْمِعْ} ما يعارض ما تدعيه {غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي لا أسمعك الله {وراعنا} يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدين} [النساء: 46] الذي عليه العارف بربه {قَلِيلًا يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه من علم الباطن {ا نَزَّلْنَا مُصَدّقًا} على قلوب أوليائي من العلم اللدني {مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ} من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} وهي وجوه القلوب بالعمى {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} [النساء: 47] فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية، ويحتمل أن يكون هذا خطابًا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين، وإبعادهم بالمسخ {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته «لا أحد أغير من الله» {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} أن يغفر له تاب أو لم يتب، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة: فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلًا، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقًا بالسر والعلانية، وشرك خفي بالأوصاف وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية وتوبته بالوحدة وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية {وَمَن يُشْرِكْ بالله} أيّ شرك كان من هذه المراتب {فَقَدِ افترى} وارتكب حسب مرتبته {إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] لا يقدر قدره {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة {بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء} [النساء: 49] كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلًا، ويحتمل أن يكون هذا تعجيبًا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها.
{وكفى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 50] ظاهرًا لا خفاء فيه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أَتَوْا نَصِيبًا} بعضًا {مّنَ الكتاب} الجامع، وأشير به إلى علم الظاهر {يُؤْمِنُونَ بالجبت} أي بجبت النفس {والطاغوت} أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لأجل الذين ستروا الحق {هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ} الإيمان الحقيقي {سَبِيلًا} [النساء: 51] {أولئك الذين لَّعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم عن معرفته وقربه {وَمَن يَلْعَنِ} أي يبعده {الله} عن ذلك {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] يهديه إلى الحق {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيرًا} [النساء: 53] ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى: {مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم} من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم} وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة {الكتاب} أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن {والحكمة} علم الباطن أو باطن الباطن {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 54] وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا} أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} عظيمة وهي نار القهر والحجاب، أو نار الحسد {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها {بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم {لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56] ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف {خالدين فِيهَا أَبَدًا} لبقاء أرواحهم المفاوضة عليها ما يروحها {لَّهُمْ فِيهَا أزواج} من التجليات التي يلتذون بها {مُّطَهَّرَةٍ} من لوث النقص {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا} [النساء: 57] وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك حو البشرية عنهم، نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عز من قائل: