فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (5):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ} أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والاعراض على ما قيل؛ وقيل: هو على حقيقته أي حركوها استهزاءًا، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن ذلك.
روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبي مقت الناس ابن أبي ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم له: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارًا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أخرجه عبد بن حميد. وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «تب» فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} إلخ، وفي حديث أخرجه الإمام أحمد. والشيخان. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال: حتى أنزل الله تعالى تصديقي في {إِذَا جَاءكَ المنافقون} [المنافقون: 1] ما نصه فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، فجمع الضمائر: إما على ظاهره، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانًا، وإذًا على ما مر، و{يَسْتَغْفِرِ} مجزوم في جواب الأمر، و{رَسُولِ الله} فاعل له، والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن {رَسُولِ الله} يطلبه عاملان: {يَسْتَغْفِرِ} و{تَعَالَوْاْ} فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وجملة {يَصِدُّونَ} في موضع الحال، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي، ومثلها في الحالية جملة {هُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ}؛ وقرأ مجاهد. ونافع. وأهل المدينة. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. والمفضل. وأبان عن عاصم. والحسن. ويعقوب بخلاف عنهما {لَوَّوْاْ} بتخفيف الواو، والتشديد في قرارة باقي السبعة للتكثير، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الاتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (6):

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}
{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جل شأنه: {لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} وتعليله بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم. والإظهار في مقام الاضمار لبيان غلوهم في الفسق؛ والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولًا أوليًا، والآية في ابن أبي كسوابقها كما سمعت ولواحقها كما صح وستسمعه قريبًا إن شاء الله تعالى، والاستغفار لهم قيل: على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الاتيان لا يظهر كونه سببًا للاستغفار، ويومئ إليه قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي: «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم.
وحكى مكي أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعدما صدر منهم ما صدر بالتوبة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ} [التوبة: 80] إلخ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم. فنزلت هذه الآية {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ...}» إلخ.
وأخرج أيضًا عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفًا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدًا وهو عدم المغفرة لهم مطلقًا، والآية الأولى فيما اختار نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضًا إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده: حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق.
وقرأ أبو جعفر استغفرت دة على الهمزة فقيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى: {قُلْ مَا حَرَّمَ} [الأنعام: 143] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضًا ضم ميم {عَلَيْهِمْ} إذ أصلها الضم ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة {أَمْ} عليها كما في قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقال الزمخشري: قرأ أبو جعفر آستغفرت إشباعًا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبًا لهمزة الوصل ألفًا كما في آلسحر. وآلله وقال أبو جعفر بن القعقاع: دة على الهمزة وهي ألف التسوية.
وقرأ أيضًا بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (7):

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}
{هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم، وجوز أن يكون جاريًا مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل، والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك، أخرج الترمذي وصححه. وجماعة عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فإني رجل من الأنصار أعرابيًا فأرخى ذمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرًا ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب، وقال: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِهِمْ} يعني الأعراب، ثم قال لأصحابه: إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل، قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فحلف وجحد وصدقه صلى الله عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلي أن مقتك وكذبك المسلمون فوقع على من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينا أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذا أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: ما قال لي شيئًا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال: أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} حتى بلغ {لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل} [المنافقون: 81] وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضًا.
وأخرج الإمام أحمد. ومسلم. والنسائي نحو ذلك، والأخبار فيه أكثر من أن تحصى؛ وتلك الغزاة التي أشار إليها زيد قال سفيان: يرون أنها غزاة بني المصطلق، وفي الكشاف خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين، والظاهر أن التعبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقرون برسالته عليه الصلاة والسلام ظاهرًا.
وجوز أن يكونوا قالوه تهكمًا أو لغلبته عليه الصلاة والسلام حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز وجل إجلالًا لنبيه عليه الصلاة والسلام وإكرامًا، والانفضاض التفرق، و{حتى} للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة والسلام ولا يصحبوه.
وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم فنى طعامهم فنفض الرجل وعاءه، والفعل مما يتعدى بغير الهمزة وبالهمزة لا يتعدى، قال في الكشاف: وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماء والأرض} ردّ وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى انفضاضهم عنه عليه الصلاة والسلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشؤنه عز وجل، ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون.

.تفسير الآية رقم (8):

{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل} قائله كما سمعت ابن أبي، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وإسناد القول المذكور إلى جميعهم لرضاؤهم به كما في سابقه.
وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة. والسبتي في اختياره لنخرجن بالنون، ونصب {الاعز} على أن {لَيُخْرِجَنَّ الاعز} مفعول به، و{الاذل} إما حال بناءًا على جواز تعريف الحال، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبهًا الأذل، أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه.
وحكى الكسائي. والفراء أن قومًا قرأوا ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء. ورفع {الاعز} على الفاعلية. ونصب {الاذل} على ما تقدم، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج، وقرئ ليخرجن بالياء مبنيًا للمفعول، ورفع {الاعز} على النيابة عن الفاعل، ونصب {الاذل} على ما مر.
وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني لنخرجن بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب {الاعز}، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وخرجت على أن نصب {لَيُخْرِجَنَّ الاعز} على الاختصاص كما في قولهم: نحن العرب أقرى الناس للضيف، ونصب {الاذل} على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي. والفراء، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل: وهو كما ترى، ولعل هذه القراءة غير ثابة عن الحسن، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} رد لما زعموه ضمنًا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا للغير، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر، وقيل: إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الايمان، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن أبي وكان مخلصًا سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال: والله على أن لا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال: وراءك، قال: ما لك ويلك؟ا قال: والله لا تدخلها أبدًا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل؛ وصح من رواية الشيخين.
والترمذي. وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام: يا نبي الله مر معاذًا أن يضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة: ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه.
وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلًا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيهًا قال: ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية، وأريد بالتيه الكبر، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر، وقد نص على ذلك أبو حفص السهر وردي قدس سره فقال: العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فأنها أيضًا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل.
{ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة، وقيل في وجهه: إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدًا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى، ثم قيل: خص الجملة الأولى ب{لاَّ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] والثانية بـ {لاَّ يَعْلَمُونَ} لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوثر ما هو أبلغ لما هو ادعى له.
وعن الراغب معنى قوله تعالى: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ} [المنافقون: 7] إلخ أنهم يأمرون بالاضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه خالفتهم أمره عز وجل، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين.