فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (70):

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بما تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}
{قَالُوا} مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتضمنة للإنذار على ما أشير إليه. {أَجئْتَنَا لنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ} أي لنخصه بالعبادة {وَنَذَرَ} أي نترك {مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا} من الأوثان، وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه السلام بذلك ومنشؤه انهماكهم في التقليد والحب لما ألفوه وألفوا عليه أسلافهم، ومعنى المجيء إما مجيئه عليه السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء، وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لا يكون إلا ملكًا من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والروع فيه فإن جاء وقام وقعد وذهب كما قال جماعة تستعملها العرب لذلك تصويرًا للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني، ونصب {وحده} على الحالية، وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيجاد الموضوع موضع الحال أعني موحدًا. واختلف هؤلاء فيما إذا قلت: رأيت زيدًا وحده مثلًا فالأكثرون يقدرون في حال إيجاد له بالرؤية فيجعلونه حالًا من الفاعل، والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالًا من المفعول. ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالًا من الفاعل وأوجب كونه حالًا من المفعول لا غير لأنهم إذا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر:
والذئب أخشاه أن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيدًا وحده فإن المعنى يصح معهما، ومنهم من يقول: إنه مصدر موضوع موضع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم.
وحكى الأصمعي وحد يوحد، وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف، وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب، وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد، ولعل القائل بما ذكر يقول: إنه مصدر وضع موضع الظرف. وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال: زيد إقبالًا وإدبارًا هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام، وإذا أحطت به خبرًا فاعلم أن {نعبد الله وحده} في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل، والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحدًا هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي، والمعنى في التقادير الثلاثة لا يختلف إلا يسيرًا، والكلام الذي هو فيه متضمن للإيجاب والسلب وله احتمالات نفيًا وإثباتًا وتفصيل ذلك في رسالة في مولانا تقي الدين السبكي المسماة بـ: الرفدة في معنى وحده. وفيها يقول الصفدي:
خل عنك الرقدة ** وانتبه للرفدة

تجن منها علما ** فاق طعم الشهدة

وأراد بما في قوله تعالى: {فَأْتنَا بما تَعدُنَا} العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: {أفلا تتقون} [الأعراف: 65] {إنْ كُنْتَ منَ الصادقين} بالإخبار بنزوله، وقيل: بالإخبار بأنك رسول الله تعالى إلينا، وجواب {إن} محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به.

.تفسير الآية رقم (71):

{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)}
{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} أي وجب وثبت. وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام، واستعماله هنا فيما ذكر مجاز من إطلاق السبب على المسبب. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم، واختار بعضهم أن {وقع} عنى قضى وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر، وفي الكشف أن الوقوع عنى الثبوت وحرف الاستعلاء إما لأنه ثبوت قوي أكد ما يكون وآجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى موصوف بالنزول من السماء فتدبر. والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله} [النحل: 1].
{مِّنْ رَّبِّكُمْ} أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى. والجار والمجرور قيل: متعلق حذوف وقع حالًا مما بعد، والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله، وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهي كما قال شيخ الإسلام للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم، وكذا تقديمهما على الفاعل وهو قوله تعالى: {رجْسٌ} مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى: {وَغَضَبٌ} فرا يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم. والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرآن عند ابن زيد من الارتجاس وهو والارتجاز عنى حتى قيل: إن أصله ذلك فأبدلت الزاي سينًا كما أبدلت السين تاء في قوله:
ألا لحى الله بني السعلات ** عمرو بن يربوع شرار الناتليسوا بأعفاف ولا أكيات

فإنه أراد الناس وأكياس. وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به، وعليه فالعطف في قوله:
إذا سنة كانت بنجد محيطة ** وكان عليهم رجسها وعذابها

للتفسير. والغضب عند كثير عنى إرادة الانتقام. وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء. والذاهبون إلى ما تقدم إنما لم يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله، ولا يبعد أن يفسر الرجس بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذٍ إشارة إلى حالهم في الأولى والأخرى. ويمكن إرجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا وإلا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك: وقع عليهم عذاب وإرادة انتقام على ظاهر كلامهم. وأيًا ما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل.
{أَتُجَادلُونَني في أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ} إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه السلام داعيًا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة، وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم، والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي عزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحق لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى: {مَا نَزَّلَ الله بهَا منْ سُلْطَان} أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه.
والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة زيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم، وقيل: إنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك. والضمير المنصوب في {سميتموها} راجع لأسماء وهو على ما قيل المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسا أشير إليه. وقيل: المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها. وقيل: المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين، وحمل الآية على ما ذكر أولًا في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي أسماء. وادعى آخرون جواز أن يكون فيه صنعة الاستخدام. واستدل بالآية من قال: إن الاسم عين المسمى ومن قال: إن اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الإنكار والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف.
{فانتظروا} نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم: {فأتنا بما تعدنا} [الأعراف: 70] لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد والجهالة {إنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} لنزوله بكم. والفاء في {فانتظروا} للترتيب على ما تقدم وفي قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (72):

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}
{فَأَنْجَيْنَاهُ} فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه {والذين مَعَهُ} أي متابعيه في الدين {برَحْمَة} عظيمة لا يقادر قدرها {منَّا} أي من جهتنا. والجار والمجرور متعلق حذوف وقع نعتًا لرحمة مؤكدًا لفخامتها على ما تقدم غير مرة {وَقَطَعْنَا دَابرَ الذين كَذَّبُوا بآيَاتنَا} كناية عن الاستئصال. والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم. {وَمَا كَانُوا مُؤْمنينَ} عطف على {كذبوا} داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلًا. وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم. وبيانه على ما قال الطيبي أنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان {الذين يحملون العرش} [غافر: 7] الآية، وقال بعضهم: فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا} [يونس: 13] فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم.
وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم. وقصتهم على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن عادًا قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي صداء وصمود وإلهاء فبعث الله تعالى إليهم هودًا عليه السلام نبيًا وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتوًا وتجبرًا {وقالوا من أشد منا قوة} [فصلت: 15] فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة يومئذٍ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلًا منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال ولقمان بن عاد الأصغر ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجًا من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال: هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا: قل شعرًا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يسقينا غماما

فتسقى أرض عاد إن عادا ** قد أمسوا ما يبينون الكلاما من

العطش الشديد فليس نرجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير ** فقد أمست نساؤهم عياما

وإن الوحش تأتيهم جهارا ** ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ** نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم ** ولا لقوا التحية والسلاما

فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال: مرثد بن سعد والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال:
عصت عاد رسولهم فأمسوا ** عطاشًا ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود ** يقابله صداء والهباء فبصرنا

الرسول سبيل رشد ** فأبصرنا الهدى وخلا العماء

وإن إله هود هو إلهي ** على الله التوكل والرجاء

فقالوا لمعاوية: أحبس عنا مرثدًا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول: اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال: اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم وقال القوم: اللهم أعط قيلًا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فناداه مناد اخترت رمادًا رمدًا لا تبقى من آل عاد أحدًا وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا: ما رأيت قالت: رأيت ريحًا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا فلم تدع منهم أحدًا إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ الأنفس، ثم إنه عليه السلام أتى هو ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم، وفيها كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قبور تسعة وسبعين نبيًا منهم أيضًا نوح وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام، وأخرج البخاري في تاريخه.
وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة، وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم {إن ربكم الله الذي خلق السموات} أي سموات الأرواح {والأرض} أي أرض الأبدان {في ستة أيام} وهي ستة آلاف سنة وإن يومًا عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية {ثم استوى على العرش} وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات. وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا «الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب». وتمام الكلام عليها في «شمس المعارف» للإمام البوني قدس سره {يغشي الليل} أي ليل البدن {النهار} أي نهار الروح {يطلبه} بالتهيء والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه {حثيثًا} أي سريعًا {والشمس} أي شمس الروح {والقمر} أي قمر القلب {والنجوم} أي نجوم الحواس {مسخرات بأمره} [الأعراف: 54] الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] {ادعوا ربكم} أي اعبدوه {تضرعًا وخفية} إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية {إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55] المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه {ولا تفسدوا في الأرض} أي أرض البدن {بعد إصلاحها} بالاستعداد {وادعوه خوفًا وطمعًا} [الأعراف: 56] لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال {وهو الذي يرسل الرياح} أي رياح العناية {بين يدي رحمته} أي تجلياته {حتى إذا أقلت حملت سحابا ثقالا} بأمطار المحبة {سقناه لبلد} قلب {ميت فأنزلنا به الماء} ماء المحبة {فأخرجنا به من كل الثمرات} من المشاهدات والمكاشفات {كذلك نخرج الموتى} القلوب الميتة من قبور الصدور {لعلكم تذكرون} [الأعراف: 57] أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس {والبلد الطيب} وهو ما طاب استعداده {يخرج نباته بإذن ربه} حسنًا غزيرًا نفعه {والذي خبث} وهو ما ساء استعداده {لا يخرج إلا نكدًا} [الأعراف: 58] لا خير فيه {لقد أرسلنا نوحًا} أي نوح الروح {إلى قومه} [الأعراف: 59] من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها {فكذبوه فأنجيناه والذين معه} كالقلب وأعوانه {في الفلك} وهو سفينة الأتباع {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} في بحار الدنيا ومياه الشهوات {إنهم كانوا قومًا عمين} [الأعراف: 64] عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى، وعلى هذا المنوال ينسح الكلام في باقي الآيات. ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى «الفصوص» يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.