فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (75):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)}
{ثُمَّ بَعَثْنَا} عطف على {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ} [يونس: 74] عطف قصة على قصة {مّن بَعْدِهِمْ} أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام {موسى وهارون} أوثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذانًا بخطر شأن القصة وعظم وقعها {إلى فِرْعَوْنَ} أي أشراف قومه الذين يحتمعون على رأي فيملأون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء، وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات، وقيل: المراد بهن هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام {جَاءهُم بئاياتنا} أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الاعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها {فاستكبروا} أي تكبروا وأعجبوا بأنفسهم وتعظموا عن الاتباع، والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا، وأشير بهذا الاستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول اللعين لموسى عليه السلام: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] وغير ذلك {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} جملة معترضة تذييلية وجوز فيها الحالية بتقدير قد، وعلى الوجهين تفيد اعتيادهم الاجرام وهو فعل الذنب العظيم، أي وكانوا قومًا شأنهم ودأبهم ذلك.
وقد يؤخذ مما ذكر تعليل استكبارهم، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم.

.تفسير الآية رقم (76):

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)}
{فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} الفاء فصيحة أيضًا معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل: قال موسى: قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هي بَيْضَاء للناظرين} [الأعراف: 107- 108] فلما جاءهم الحق {قَالُواْ} من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهر كونه سحرا أو واضح في بابه فائق فيما بين أضرابه فمبين من أبان عنى ظهر واتضح لا عنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه، والإشارة إلى الحق الذي جاءهم، والمراد به كما قال غير واحد الآيات، وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد، ونسبة المجيء إليه على سبيل الاستعارة تشير أيضًا إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة، ومن هنا قيل في المعنى: فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا إلخ، فالاعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم من موضع آخر كقوله سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت، وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الاعتراف وتناهى العجز عليها، وقرئ {لساحر} وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم.

.تفسير الآية رقم (77):

{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)}
{قَالَ موسى} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهما موسى عليه السلام؟ فقيل: قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيحي: {أَتقُولُونَ لِلْحَقّ} الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت {لَمَّا جَاءكُمْ} أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفًا، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل، وإياما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانًا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين؟ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل: {أَسِحْرٌ هذا} على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفي ضعفه، وأن يكون القول عنى العيب والطعن من قولهم: فلأن يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه، ونظيره الذكر في قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} [الأنبياء: 60] وحينئذ يستغني عن المفعول، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي أتعيبونه وتطعنون فيه، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قول سبحانه: {أَسِحْرٌ هذا} إنكارًا مستأنفًا من جهة موسى عليه السلام لكونه سحرًا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل، أما على الوجه المتقدم فظاهر، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحرًا على إنكار كونه معيبًا بأن يقال: أفيه عيب؟ حسا يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على امتناع كونه سحرًا، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة، وقوله سبحانه: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، وقد استلزم القول بكونه سحرًا القول بكون من أتى به ساحرًا، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله:
جاء الشتاء ولست أملك عدة

وقولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر طلوب ولا ينجو من مكروه وأنه قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة، وجملة {أَسِحْرٌ هذا} معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرًا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب، وقيل: يجوز أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضًا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلًا، أما أولًا فون ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله؛ وكون ذلك اعراضًا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز.
وأما ثانيًا فلأن التعرض لعدم افلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرًا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقًا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش، وأما ثالثًا فلأن قوله عز وجل:

.تفسير الآية رقم (78):

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا ؤْمِنِينَ (78)}
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا} إلخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الاتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلًا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الدي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابًا عما قبله من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريقة {قَالَ موسى} [يونس: 77] كما أشير إليه كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عن المحاجة: أجئتنا {لِتَلْفِتَنَا} أي لتصرفنا، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبًا من الآخر كما قال الأزهري {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} أي من عبادة غير الله تعالى، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيًا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليًا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم: {أَجِئْتَنَا} إلخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابًا عنه، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} أي الملك كما ريو عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل: أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم. وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر. وزيد عن يعقوب {يَكُونَ} بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
{فِى الأرض} أي أرض مصر، وقيل: أريد الجنس، والجار متعلق بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبرًا أو حذوف وقع حالًا من {الكبرياء} أو من الضمير في {لَّكُمَا} لتحمله إياه {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا ؤْمِنِينَ} أي صدقين فيما جئتما به أصلًا، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافه لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيمًا لأمر ما هو أحد سبى الأعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد أفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر، وأما اللفت والمجيء له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر.

.تفسير الآية رقم (79):

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)}
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ} [يونس: 78] لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادي الالزام بالفعل بعد اليأس عن الالزام بالقول: {ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} بفنون السحر حاذق ماهر فيه. وقرأ حمزة. والكسائي {ساحر}.

.تفسير الآية رقم (80):

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)}
{فَلَمَّا جَاء السحرة} عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانًا بسرعة امتقالهم لومر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي فأتوا به فلما جاؤوا {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنًا ما كان من أصنف السحر، وأصل الالقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف أسمًا لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكى عنهم في السور الأخر من قولهم: {إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115] ونحو ذلك ولم يكن في إبتداء مجيئهم، و{مَا} موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والاشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به.