فصل: تفسير الآية رقم (84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (84):

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}
{فَقُتِلَ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} يشهد له وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا. ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين: أحدهما: أنها متصلة بقوله تعالى: {وَمَن يقاتل فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل، ونقل عن الزجاج، وثانيهما: أنها متصلة بقوله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 75] والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك، وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} [النساء: 76] ومعنى {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلى الله عليه وسلم للقتال وحده، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلى الله عليه وسلم ولا يؤاخذ به، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل، بل في ثبوته فقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورًا بأن يقاتل وحده أولًا، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة: أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل قاتل أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك، وقرئ {لاَ تُكَلَّفُ} بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدًا الخروج إلا نفسك، وقيل: هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد، و{لا نكلف} بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدًا إلا نفسك، وقيل: لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدًا هذا التكليف إلا نفسك. والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده.
{وَحَرّضِ المؤمنين} أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به، فالتفعيل للسلب والإزالة كقذيته، وجلدته ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره.
{عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ} نكاية {الذين كَفَرُواْ} ومنهم قريش وعسى من الله تعالى كما قال الحسن وغيره تحقيق، وقد فعل سبحانه ما وعد به، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعد صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، ولم يكن قتال يومئذٍ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه سالمين {والله أَشَدُّ بَأْسًا} من الذين كفروا {وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} أي تعذيبًا، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (85):

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)}
{مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ} أي حظ وافر {مِنْهَا} أي من ثوابها، جملة مستأنفة سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظًا موفورًا من الثواب، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي. وقال علي بن عيسى: إنه سبحانه لما قال: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] مشيرًا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضًا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك، وليس بشيء كما لا يخفى، والشفاعة هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرًا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية، أو خلاصه عن مضرة مّا كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترًا فجعله الشفيع شفعًا، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه، والحسنة منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاءًا لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى، روى مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك: ولك مثل ذلك»، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنًا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بل لا أكاد أسوغه، وإن كانت فيه منفعة له صلى الله عليه وسلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.
وتفسيرها بالدعاء كما نقل عن الجبائي أو بالصلح بين إثنين كما روي الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعله من باب التمثيل لا التخصيص، وكون التحريض الذي فعله صلى الله عليه وسلم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة؛ وربحوا أموالًا جسيمة بسبب ذلك، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرًا ولم ير بها أحدًا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرًا كثيرًا، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية، والحسنة منها ما كان في طاعة، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.
{وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً} وهي ما كانت بخلاف الحسنة، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ففي الخبر: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع» واستثني من الحدود القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} أي نصيب من وزرها، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختيار النصيب أولًا لأن جزاء الحسنة يضاعف؛ والكفل ثانيًا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده، وقال بعضهم: إن الكفل وإن كان عنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربًا من التكرار {وَكَانَ الله على كُلّ شَيْء مُّقِيتًا} أي مقتدرًا كما قاله ابن عباس حين سأله عنه نافع بن الأزرق واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري:
وذي ضغن كففت النفس عنه ** وكنت على مساءته مقيتًا

وروي ذلك عن جماعة من التابعين، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت، فإنه يقوي البدن ويحفظه، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات، وأصله مقوت فَأُعِلَّ كمقيم؛ والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا 86}
{وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ} ترغيب كما قال شيخ الإسلام: في فرد شائع من أفراد الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عز وجل، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي: إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب وقد تقدم ذكر القتال عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام، والتحية مصدر حيي أصلها تحيية كتتمية، وتزكية وأصل الأصل تحيي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب: الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضًا تقول: حياك الله تعالى، ثم استعملها الشرع في السلام، وهو تحية الإسلام قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} [الأحزاب: 44] وقال سبحانه: {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} [النور: 61]، وفيه على ما قالوا: مزية على قولهم: حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات، ورا تستلزم طول الحياة، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك، ورب حياة الموت خير منها.
ألا موت يباع فأشتريه ** فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حر ** تصدق بالممات على أخيه

وقال آخر:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا ** كاسفًا باله قليل الرجاء

ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين كما قال الحسن وعطاء، أو مطلقًا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في «الأدب» وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
{فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أي بتحية أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير أن رجلًا سلم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة: ما ترك لنا فضلًا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعًا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار، ونيل المنافع ودوامها ونمائها، وقيل: يزيد المحيي إذا جمع المحيي الثلاثة له، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال: كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت: السلام عليكم فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى، ثم أتيته مرة أخرى فقلت: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته، ولا يتعين ما ذكر للزيادة، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته، فما في «الدر» من أن المراد لا يزيد على وبركاته غير مجمع عليه.
{أَوْ رُدُّوهَا} أي حيوا ثلها؛ و{أَوْ} للتخيير بين الزيادة وتركها، والظاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل، فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة» وورد في معناه غير ما خبر. وقد نصوا على أن جواب السلام المسنون واجب، ووجوبه على الكفاية، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم لحقه لأن الحق لله تعالى، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه:يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يردّ أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبًا أثيبوا ثواب الواجب. وفي المبتغى يسقط عن الباقين برد صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته، وقيل: لا، وظاهر النهاية ترجيحه وعليه الشافعية قالوا: ولو رد صبي أو من لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثم الدعاء، وهو منه أقرب للإجابة، وهنا الأمن، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزئ تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة ويسقط بردّ العجوز. وفي رد الشابة قولان عندنا، وعند الشافعية لو ردّت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك، وفي تحفتهم ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى، ويلزمها في هذه الصورة ردّ سلام الرجل، أما مشتهاة ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها ردّ سلام أجنبي، ومثله ابتداءُه، ويكره له رد سلامها ومثله ابتداءُه أيضًا، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده؛ والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا، ولو سلم على جمع نسوة وجب ردّ إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذٍ، ومن ثَمَّ حلت الخلوة بامرأتين، والظاهر أن الأمرد هنا كالرجل ابتداءًا وردًّا، وفي الدر المختار لو قال: السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره، ولو قال: يا فلان أو أشار لمعين سقط، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدًا جميعهم، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار، ولابد في الابتداء والردّ من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع، نعم إن مرّ عليه سريعًا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير، والمروي عن الإمام رضي الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه، واستظهر أنه لابد من سماع جميع الصيغة ابتداءًا وردًا، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله: وعليك كما في الخانية، وروي ذلك مرفوعًا في الصحيح، ولا يسلم ابتداءًا على كافر لقوله عليه الصلاة والسلام:
«لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» رواه البخاري؛ وأوجب بعض الشافعية ردّ سلام الذمي بعليك فقط، وهو الذي يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي: إنه يسن ولا يجب، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا يقل رحمة الله تعالى فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك فقيل له فيه فقال: أليس في رحمة الله تعالى يعيش. وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية: إن حيوا بأحسن منها للمسلمين أو ردوها لأهل الكتاب، وورد مثله عن قتادة، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذٍ بالسلام، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد كما قال الله تعالى عليك أي هو عدوك، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة عنى البقاء حيًا ليسلم أو يعطي الجزية ذليلًا، وفي الأشباه النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء، بقي الخلاف في الاتيان بالواو عند الردّ له، وعامة المحدثين كما قال الخطابي بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه، والدخول فيما قال، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي الله تعالى عنه، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة، أو الغضب، وعليكم ما قلتم، ولا يخفى خفاء ذلك، وإن أيده بما ظنه شيئًا فالأولى ما في الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء.
ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام: «السام عليك، بل عليكم السام واللعنة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تكوني فاحشة، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ا قال: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» ويجب في الردّ على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم، بل العلم هو المدار، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما، وتكفي إشارة الأخرس ابتداءًا وردًا ويجب ردّ جواب كتاب التحية كردّ السلام. وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها إن لم يرد لفظًا الفور فيما يظهر، ويحتمل خلافه، ولو قال لآخر: أقرئ فلانًا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة ويجب أداؤهما، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا، وكذا إن سكت أخذًا من قولهم: لا ينسب لساكت قول، ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه، وإذا قلنا بالوجوب، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصي له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفًا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل: قل له فلان يقول: السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي، والظاهر عدم الفرق وفاقًا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الردّ على المبلغ والبداءة فيقول: وعليك وعليه السلام للخبر المشهور فيه.
وأوجبوا ردّ سلام صبي أو مجنون مميز، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره، وقول «المجموع»: لا يجب ردّ سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي، ولا يجب ردّ سلام فاسق أو مبتدع زجرًا له أو لغيره، وإن شرع سلامه، وكذا لا يجب ردّ سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطى، ولا ردّ سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل وإن لم يرد، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدًا فسلم على جماعة هو فيهم، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره، وصرح في «الضياء» بعدم وجوب الردّ لو قال المسلم: السلام عليكم بجزم الميم، وكأنه على ما في «تحفتنا» لمخالفة السنة، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضًا.
وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداءًا وجوابًا عليك السلام وعكسه، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين، وأنه يجزئ سلامًا عليكم، وكذا سلام الله تعالى، بل وسلامي عليك وعكسه، واستظهر إجزاء سلمت عليك، وأنا مسلم عليك، ونحو ذلك أخذًا مما ذكروه أنه يجزئ في التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونحوهما، ولا بأس فيما قالوه عندي، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ، وقال بعض الجماعة: السلام معرفة تحية الأحياء ونكرة تحية الموتى، ورووا في ذلك خبرًا والشيعة ينكرون مطلقًا وينكرون.
وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضًا فافهم، والأفضل في الرد واو قبله، ويجزئ بدونه على الصحيح، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة، وإن نوى إضمار الآخر، وفي الكشف ما يؤيده، والخبر الذي فيه الاكتفاء بو عليك في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة، بل المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أجاب ثل ما سلم به عليه، ولم يزد كما يشعر به آخره، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام» والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك، ويسن السلام عينًا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداءًا عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن «إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم السلام، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل كإبراء المعسر أفضل من إنظاره ويؤخذ من قولهم: ابتداءًا أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به، نعم يحتمل في تكلم سهوًا أو جهلًا، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام، ويسن إظهار البشر عنده، فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه» وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرًا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرًا لمن معه من الملائكة، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم، ولو دخل بيتًا ولم ير أحدًا يقول: السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين، فإن السكنة تردّ عليه، وفي «الآكام» إن في كل بيت سكنة من الجن، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير، وماش على واقف أو مضطجع، وراكب عليهم، وراكب فرس على راكب حمار، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقًا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابًا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده كما قيل وإلا لزم كلا الرد، وكره أصحابنا السلام في مواضع، وفي النهر عن صدر الدين الغزي:
سلامك مكروه على من ستسمع ** ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع

مصل وتال ذاكر ومحدث ** خطيب ومن يصغى إليهم ويسمع

مكرر فقه جالس لقضائه ** ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا

مؤذن أيضًا مع مقيم مدرس ** كذا الأجنبيات الفتيات أمنع

ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم ** ومن هو مع أهل له يتمتع

ودع كافرًا أيضًا ومكشوف عورة ** ومن هو في حال التغوط أشنع

ودع آكلًا إلا إذا كنت جائعا ** وتعلم منه أنه ليس يمنع

كذلك أستاذ مغن مطير ** فهذا ختام والزيادة تنفع

فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح، وكرهوه لقاضي الحاجة ونحوه كالمجامع، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذٍ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ. ورجحوا أنه يسلم على من سلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع، وإن اشتغل ساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر، وأوجب الرد عليه، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداءًا، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن نزلة غير المميز، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك، وصرحوا أيضًا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة، وعلى ملب وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر، وقال كثيرون: حرام للحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وعن التزام الغير وتقبيله، وأمر صافحته ما لم يكن ذميًا، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.
وأفتى البعض أيضًا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لاسيما لنحو غني لحديث: «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي الله تعالى عنهما، ولا يعدّ نحو صبحك الله تعالى بالخير، أو قواك الله تعالى تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابًا، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبًا مثل ذلك في ذلك، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال الراد: عليك السلام فقط أجزأه لكنه خلاف الأولى، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن والجواب بالمثل، وليس ما ذكر شيئًا منهما، وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين، وقيل: المراد بها الهدية والعطية، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب وهو قول قديم للشافعي ونسب أيضًا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعلل ذلك بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي:
قفى تغرم الأولى من اللحظ مقلتي ** بثانية والمتلف الشيء غارمه

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية: أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافِه، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه، ولعل مراده رحمه الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدى إلى الشخص مما تطيب به حياته {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْء حَسِيبًا} فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم؛ ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولًا أوليًا.
هذا ومن باب الإشارة في هذه الآيات: {الذين ءامَنُواْ يقاتلون} أنفسهم {فِى سَبِيلِ الله} فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه: {والذين كَفَرُواْ يقاتلون} عقولهم وينازعونها {فِى سَبِيلِ} طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها.
{إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] فوليه ضعيف عاذ بقرملة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ} أي قال لهم المرصدون {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} عن خاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات {وَإِذْ أَخَذْنَا} والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية {وَإِذْ أَخَذْنَا} والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} حين أداء ما أمروا بأدائه {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ} لضعف استعدادهم {يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فلا يستطيعون هجرهم، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم، أو إعراضهم عنهم، {وَقَالُواْ} بلسان الحال: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال} الآن {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الموت الاضطراري، فالمنية ولا الدنية، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقه مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفًا من الملامة، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا ولبئس ما كانوا يصنعون {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه {والاخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى} فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} وتفارقون ولابد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} أي أجساد قوية:
فمن يك ذا عظم صليب رجابه ** ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره

{وَإِن تُصِبْهُمْ} أي المحجوبين {حَسَنَةٌ} أي شيء يلائم طباعهم {يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} فيضيفونها إلى الله تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي شيء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك في نفس الأمر {يَقُولُواْ} لضيق أنفسهم {هذه مِنْ عِندِكَ} فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الإيمان الحقيقي في قلوبهم {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} وهذا دعاء لهم إلى توحيد الأفعال، ونفي التأثير عن الأغيار، والإقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر {فَمَالِ هَؤُلاء القوم} المحجوبين {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] لاحتجابهم بصفات النفوس وارتياج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي، ثم زاد سبحانه في البيان بقوله عز وجل: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} صغرت أو عظمت {فَمِنَ الله} تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلي {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} حقرت أو جلت {فَمِن نَّفْسِكَ} أي من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب، لا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولًا} فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم {وكفى بالله شَهِيدًا} [النساء: 79] على ذلك {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] لأنه صلى الله عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه للخلق، وقال بعض العارفين: إن باطن الآية إشارة إلى عين الجمع {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} ليرشدهم إلى أنك رسول الله تعالى، وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث إنه مشتمل على الفرق والجمع، وقيل: ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره، أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن الله جل شأنه تجلى لهم فيه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82] أي لوجدوا الكثير منه مختلفًا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته، أو القول بأنه لا يصلح أن يكون مجلى لله تعالى، {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} إخبار عمن في مبادي السلوك أي إذا ورد عليهم شيء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي عرضوه {إِلَى الرسول} إلى ما علم من أحواله، وما كان عليه {وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ} وهم الراشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية {لَعَلِمَهُ} أي لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لا يذاع {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} ويتلقونه منهم أي من جهتهم وواسطة فيوضاتهم، والمراد بالموصول الرادون أنفسهم، وحاصل ذلك أنه لا ينبغي للمريد إذا عرض له في أثناء سيره وسلوكه شيء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لأحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فإن في إفشائه قبل ذلك ضررًا كثيرًا {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} أيها الناس بالواسطة العظمى رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرَحْمَتُهُ} بالمرشدين الوارثين {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه {إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83] وهم السالكون بواسطة نور إلهي أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة، قيل: وهم على قدم الخليل عليه الصلاة والسلام {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي قاتل من يخالفك وحدك {وَحَرّضِ المؤمنين} على أن يقاتلوا من يحول بينهم وبين ربهم {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} أي ستروا أوصاف الربوبية {والله أَشَدُّ} منهم {بَأْسًا} أي نكاية {وَأَشَدَّ} منهم {تَنكِيلًا} [النساء: 84] أي تعذيبًا {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً} أي من يرافق نفسه على الطاعات {يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} أي حظ وافر من ثوابها {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً} أي من يرافق نفسه على معصية {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} أي مثل مساو من عقابها {وَكَانَ الله على كُلّ شَيْء مُّقِيتًا} [النساء: 85] فيوصل الثواب والعقاب إلى مستحقيهما {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] تعليم لنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وقيل: المعنى إذا منّ الله تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه إلى الله تعالى على يد المستحقين، والله تعالى خير الموفقين.