فصل: سورة التغابن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (9):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}
{يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله} أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء صالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكر الله عز وجل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة، والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها.
وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض، وقال الضحاك. وعطاء: الذكر هنا الصلاة المكتوبة، وقال الكلبي: الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن، والعموم أولى، ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا، وعبر بهما عنها لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] فإذا أريد بذكر الله العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين، والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهى المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية، وقد نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم إلخ، فالتجوز في الإسناد، وقيل: إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى: {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] أي لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم إلخ.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي اللهو بها وهو الشغل، وهذا أبلغ مما لو قيل: ومن تلهه تلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة، وكأنه لما نهى المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} إلخ تمهيدًا وتوطئة للأمر بالانفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (10):

{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)}
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم} أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارًا للآخرة {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى: {رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى} أي أمهلتني {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمد قصير {فَأَصَّدَّقَ} أي فأتصدق، وبذلك قرأ أبي. وعبد الله. وابن جبير، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه: {وَأَكُن مّنَ الصالحين} بالعطف على موضع {فَأَصَّدَّقَ} كأنه قيل: إن أخرتني أصدّق وأكن، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي. والزجاج، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح، والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود، واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي علي. والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير.
وقرأ الحسن. وابن جبير. وأبو رجاء. وابن أبي إسحق. ومالك بن دينار. والأعمش. وابن محيصن. وعبد الله بن الحسن العنبري. وأبو عمرو {وأكون} بالنصب وهو ظاهر، وقرأ عبيد بن عمير {وأكون} بالرفع على الاستئناف، والنحويون. وأهل المعاني قدروا المبتدا في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة، فيقال هنا: أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه، وقيل: وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى، وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعًا بالعطف على أصدّق على نحو القولين السابقين في الجزم، هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} يعني الزكاة والنفقة في الحج، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر: {فَأَصَّدَّقَ} أزكى {وَأَكُن مّنَ الصالحين} أحج، وأخرج الترمذي. وابن جرير. والطبراني. وغيرهم عنه أيضًا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزجاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت».
فقال له رجل: يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنًا {يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله} [المنافقون: 9] إلى آخر السورة كذا في الدر المنثور.
وفي أحكام القرآن رواية الترمذي عنه ذلك موقوفًا عليه، وحكى عنه في البحر. وغيره أنه قال: إن الآية نزلت في مانع الزكاة، ووالله لو رأى خيرًا لما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة؟ا فأجاب بنحو ما ذكر، ولا يخفى أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك، وإذا كان قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِى} إلخ سؤالًا للرجعة عنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفًا.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بما تَعْمَلُونَ (11)}
{وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْسًا} أي ولن يمهلها {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} أي آخر عمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجل به {والله خَبِيرٌ بما تَعْمَلُونَ} فمجاز عليه، وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفسًا لكونها نكرة في سياق النفي في معنى الجمع، واستدل الكيا بقوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ} [المنافقون: 10] إلخ على وجوب إخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها، ونسب للزمخشري أنه قال: ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت، وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات: منها قوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ} [المنافقون: 10]، ومنها أنه إن كان قبل حضور الموت لم يقدر على الانفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل، ومنها قوله تعالى: مؤيسًا له في الجواب: {وَلَن يُؤَخّرَ الله} ولولا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموت حين التمني، وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه، والتمني وهو متمسك الفريق لا يصح الاستدلال به، والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان، والله تعالى أعلم.

.سورة التغابن:

مدنية في قول الأكثرين وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم إلخ.
وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف.
ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر وأيضا في آخر تلك {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم} وفي هذه: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} وهذه الجملة على ما قيل: كالتعليل لتلك وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل واستنبط بعضهم عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
بسم الله الرحمن الرَّحيم {يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحًا مستمرًا، وذلك بدلالتها على كمال عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولي لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم {لَهُ الملك} لأنه كالدليل لما بعده {وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورًا دون بعض، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (2):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ} إلخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في {خَلَقَكُمْ} من الإجمال لأن كون بعضهم. أو بعض منهم كافرًا، وكون بعضهم. أو بعض منهم مؤمنًا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ} [النور: 45] إلخ فيكون الكفر والايمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الأخبار الصحيحة كخبر البخاري. ومسلم. والترمذي. وأبي داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات: يكتب رزقه. وأجله. وعمله. وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث» وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق».
وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير} [التغابن: 3] والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبًا من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب.
واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقًا بديعًا حاويًا لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعًا أن تكونوا مختارين للايمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبًا وتفرقتم فرقًا، وهو الذي ذهب إليه الزمشخري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له. والمؤمن بالآتي بالايمان والفاعل له لأنه الأوفق ذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وهي كالفاء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} [الحديد: 26] ولم يجعلها للتفصيل كما قيل.
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدًا له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعيًا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارًا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقًا كغيره على أن خلق الكفر أيضًا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الأنعام بالايمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرًا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى: {فَمِنكُمْ} إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في {خَلَقَكُمْ} تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: {كَافِرٍ} دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والايمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: {حَنِيفًا فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» والانصاف أن الآية تحتمل كلا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولًا. والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصًا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: {والله بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والايمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بك تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} بالخلق وهم الدهرية {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} به، وعن الحسن أن في الكلام حذفًا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة على ما استطهر بعض الأفاضل معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يظير فيغضب زيد الذباب، أو يقال: فيها رابط بالتأويل أي فمنكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} به {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} به، ويقدر الحذف تذريجًا، وجوز أن يكون العطف على جملة {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ}.