فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (10):

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي أديت وفرغ منها {فانتشروا فِي الأرض} لإقامة مصالحكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي الربح على ما قيل، وقال مكحول. والحسن. وابن المسيب: المأمور بابتغائه هو العلم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعًا، والأمر للإباحة على الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك. ومجاهد.
وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب، وأخرج أبو عبيد. وابن المنذر. والطبراني. وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} إلخ.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فأخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيرًا} أي ذكرًا كثيرًا ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقًا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة؟ وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعًا، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضًا يعلمون الزوال كالمؤذن بل را يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن، واستدل بقوله تعالى:

{إِذَا نُودِىَ} [الجمعة: 9] إلخ من قال: إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر. وأبو هريرة. ويونس. والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري. وابن المنكدر.
وقال مالك. والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء؛ وعن ابن عمر. وابن المسيب. والزهري. وأحمد. وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشيًا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء أقامها سلطان. أو نائبه. أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقًا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} أخرج الإمام أحمد. والبخاري. ومسلم. والترمذي. وجماعة عن جابر بن عبد الله قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائمًا إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلًا أنا فيهم. وأبو بكر. وعمر فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة} إلى آخر السورة»، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس:«أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلًا وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارًا» وفي رواية عن قتادة «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب الوادي عليكم نارًا» وقيل: لم يبق إلا أحد عشر رجلًا، وهم على ما قال أبو بكر: غالب بن عطية العشرة المبشرة. وعمار في رواية. وابن مسعود في أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضًا منهم. وعدوا بلالا. وجابرًا لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابرًا وذكر بلالًا. وابن مسعود. ومنهم من ذكر عمارًا بدل ابن مسعود، وقيل: لم يبق إلا ثمانية، وقيل: بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى تحمل طعامًا، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر.
وأخرج أبو داود في مرسيله عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ} إلخ فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مقدمًا خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحدًا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا: إن {إِذَا} فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله:
وندمان تزيد الكاس طيبا ** سقيت ذا تغورت النجوم

ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذمومًا فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ا وقيل: الضمير للرؤية المفهومة من {رَأَوْاْ} وهو خلاف الظاهر المتبادر، وقيل: في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن {أَوْ} في {أَوْ لَهْوًا} مثلها في قوله:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أو أنت في العين أملح

فقال الجوهري: يريد بل أنت فالضمير في {إِلَيْهَا} راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهوًا، وتعدّ فضلًا إن لم تشغله كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] انتهى وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي عبلة إليه بضمير اللهو، وقرئ إليهما بضمير الاثنين كما في قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة عنى الواو كما فيل به في الآية التي ذكرناها {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أي على المنبر.
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه، وأخرج ابن ماجه. وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ فقال: أما تقرأ {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}؟ وكذا سئل ابن سيرين. وأبو عبيدة، وأجابا بذلك، وأول من خطب جالسًا معاوية.
ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري. ومسلم والترمذي. والنسائي. وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس حقق بل هو متوهم، ونفع التجارة ليس خلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم، وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الروية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب مما ذكرنا.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرًا وكرر الجار لإرادة الاطلاق في كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادت يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاططياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصًا من ربقة الرق، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك {والله خَيْرُ الرزقين} فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق.
واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في حماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءًا على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك وإن كان دالًا على صحتها باثني عشر رجلًا بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلًا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه معي فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداءًا فلابد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلابد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها.
وقال جمهور الشافعي: إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرًا لنحو ما قال زفر، وفي قول: لا يضر إن بقي إثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله.
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لاسيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارًا منهم، وفيه إن كبار الصحابة كأبي بكر. وعمر. وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارًا إن أريد بها رواية البيهفي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأني بذلك؟ا وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر.
هذا ومن باب الإشارة: على ما قيل في الآيات: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الاميين رَسُولًا مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} [الجمعة: 2] إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن يكون أميًا كالشيخ معروف الكرخي على ما قال ابن الجوزي وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام: قد يكون الإنسان عالمًا بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لادراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعًا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو. والمعاني. والبيان. وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدلا إلا فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغرى إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على ذلك، وخبر:«لا يتخذ الله وليًا جاهلًا ولو اتخذه لعلمه» ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا.
وذكر بعضهم أن قوله تعالى: {وَيُزَكّيهِمْ} بعد قوله سبحانه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلًا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلًا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين: التوجه. والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضًا لا أدعى الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو يقال: يكفي للعمل ثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله تعالى: {وَءاخَرِينَ} [الجمعة: 3] إلخ بناءًا على عطفه على الضمير المنصوب قيل: إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلى الله عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة؛ وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضًا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء: وفي قوله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} [الجمعة: 5] إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى: {قُلْ ياأهل أَيُّهَا الذين هَادُواْ} [الجمعة: 6] الآية إشارة إلى جواز امتحان مدعى الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات، «ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم».