فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (70):

{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
{ذلك} إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: {الفضل} صفة، وقوله تعالى: {مِنَ الله} خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره، وجوز أبو البقاء أن يكون {الفضل} هو الخبر، و{مِنَ الله} متعلق حذوف وقع حالًا منه؛ والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون خبرًا ثانيًا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنًا، أو كائن من الله تعالى لا أن أعمال العباد توجبه {وكفى بالله عَلِيمًا} بثواب من أطاعه وقادير الفضل واستحقاق أهله قتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. وقيل: وكفى به سبحانه عليمًا بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح.

.تفسير الآية رقم (71):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} أي عدتكم من السلاح قاله مقاتل وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل: الحذر مصدر كالحذر، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية، وليس الأخذ مجازًا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه: {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] إذ التجوز في الإيقاع، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم {فانفروا} بكسر الفاء، وقرئ بضمها أي: أخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة، ثم استعمل فيما ذكر {ثُبَاتٍ} جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، وقيل: فوق الاثنين، وقد تطلق على غير الرجال ومنه قول عمرو بن كلثوم:
فأما يوم خشيتنا عليهم ** فتصبح خيلنا عصبًا ثباتًا

ووزنها في الأصل فعلة كحطمة حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من ثبا يثبو، كعدى يعدو أي اجتمع، أو ياء من ثبيت على فلان عنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها؟ قولان، وثبة الحوض وسطه واوية، وهي من ثاب يثوب إذا رجع، وقد جمع جمع المؤنث، وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة، وفي لغة ينصب بالفتح، وقد جمع أيضًا جمع المذكر السالم فيقال: ثبون، وقد اطرد ذلك فيما حذف آخره وإن لم يستوف الشروط جبرًا له، وفي ثائه حينئذٍ لغتان: الضم والكسر، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة {أَوِ انفروا جَمِيعًا} أي مجتمعين جماعة واحدة، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلًا وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، أو من خمسة أنفس إلى ثلثمائة وأربعمائة، وما زاد على السرية منسر كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له: جيش إلى أربعة آلاف، فإن زاد يسمى جحفلًا ويسمى الجيش العظيم خميسًا وما افترق من السرية بعثًا وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)}
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} أي ليتثاقلنّ وليتأخرنّ عن الجهاد من بطأ عنى أبطأ كعتم عنى أعتم إذا أبطأ، والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم، وجوز أن يكون منقولًا لفظًا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل، فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبي ناسًا يوم أحد، والأنسب بما بعده، واللام الأولى: لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر، والثانية: جواب قسم، وقيل: زائدة، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب، وهو خبري فيه عائد، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطئ بل هو خلاف الظاهر. وجوز في مَنْ أن تكون موصوفة، والكلام في الصفة كالكلام في الصلة، وهذه الجملة قيل: عطف على {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] عطف القصة على القصة؛ وقيل: إنها معترضة إلى قوله سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ} [النساء: 74] وهو عطف على {خُذُواْ}، وقرئ {لَّيُبَطّئَنَّ} بالتخفيف.
{فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} من العدو كقتل وهزيمة {قَالَ} أي المبطئ فرحًا بما فعل وحامدًا لرأيه {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ} بالقعود {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيدًا} حاضرًا معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيدًا، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكمًا ولا يخفى بعده، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطئ وقوعه.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}
{وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ} كفتح وغنيمة {مِنَ الله} متعلق بأصابكم أو حذوف وقع صفة لفضل، وفي نسبة إصابة الفضل إلى جانب الله تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله تعالى وإن كانت المصيبة فضلًا في الحقيقة، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر {لَّيَقُولَنَّ} ندامة على تثبطه وتهالكًا على حطام الدنيا وحسرة على فواته، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول، وأتى به ماضيًا إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد، وقرأ الحسن {ليقولن} بضم اللام مراعاة لمعنى من وذلك شائع سائغ.
وقوله تعالى: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو. {ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسا يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم، وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن، أي ليقولن مشبهًا بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم، وقيل: هي من كلام المبطئ داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطئ لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون يا ليتني كنت معهم إلخ، وغرضه إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأكيدها، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال: قد أنعم إلخ أي قال: ذلك كأن لم يكن إلخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية ومثله مستقبح، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة ومعناها صريحًا متعلق بالأولى وضمنًا بهذه، و{كَانَ} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، وقيل: إنها لا تعمل إذا خففت.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب {تَكُنْ} بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والباقون يكن بالياء للفصل ولأنها عنى الودّ، والمنادى في {ياويلتا لَيْتَنِى} عند الجمهور محذوف أي يا قومي، وأبو علي يقول في نحو هذا: ليس في الكلام منادي محدوف بل تدخل يا خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه، ونصب أفوز على جواب التمني، وعن يزيد النحوي والحسن {فَأَفُوزَ} بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على خبر ليت فيكون داخلًا في التمني.

.تفسير الآية رقم (74):

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة} الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به، و{يَشْرُونَ} مضارع شرى، ويكون عنى باع واشترى من الأضداد، فإن كان عنى يشترون فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق والمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان عنى يبيعون فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا. {وَمَن يقاتل فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} ولا بدّ، وفي الالتفات مزيد التفات {أَجْرًا عَظِيمًا} لا يكاد يعلم كمية وكيفية؛ وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه، ولذا لم يقل: فيغلب، {أَو يَغْلِبْ} وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر، وفي الآية تكذيب للمبطئ بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ الله} [النساء: 72] إلخ.

.تفسير الآية رقم (75):

{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)}
{وَمَا لَكُمْ} خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام، و{مَا} مبتدأ و{لَكُمْ} خبره، وقوله تعالى: {لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله} في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل والاستفهام للإنكار والنفي أي أيّ شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة {والمستضعفين} إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو وهو المروي عن ابن شهاب واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لا سبيلهم، وفيه أنه وإن كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم؛ واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين مستضعف جدًا، وإما عطف على سبيل بحذف مضاف، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه بتقدير أعني أو أخص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم والسين للمبالغة.
{مِنَ الرجال والنساء والولدان} بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا كة لمنع المشركين لهم من الخروج، أو ضعفهم عن الهجرة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل، وإنما ذكر الولدان تكميلًا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال. ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلًا على صحة إسلام الصبي بناءًا على أنه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرًا لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء، وقيل: المراد بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول: جمع وليد ووليدة عنى صبي وصبية وقيل: إنه جمع ولد كورل وورلال، وعلى الثاني: كذلك أيضًا إلا أن الوليد والوليدة عنى العبد والجارية. وفي الصحاح: الوليد الصبي والعبد والجمع ولدان، والوليدة الصبية والأمة والجمع ولائد، فالتعبير بالولدان على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث.
{الذين} في محل جر على أنه صفة للمستضعفين، أو لما في حيز البيان، وجوز أن يكون نصبًا بإضمار فعل أي أعني أو أخص الذين. {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه، ولم ينسب الظلم إليها مجازًا كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] وقوله سبحانه: {ضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً} إلى قوله عز وجل: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} [النحل: 112] لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، فوُقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفًا لها شرفها الله تعالى.
{واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة، وكلا الجارين متعلق باجعل لاختلاف معنييهما. وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله، وتقديم اللام على {مِنْ} للمسارعة إلى إبراز كون المسؤول نافعًا لهم مرغوبًا فيه لديهم، وجوز أن يكون {مِن لَّدُنْكَ} متعلقًا حذوف وقع حالًا من {وَلِيًّا} وكذا الكلام في قوله تعالى: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا} أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المراد وَلّ علينا واليًا من المؤمنين يوالينا ويقوم صالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا، ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر، ففتح مكة على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أي تولّ، ونصرهم أيّ نصرة، ثم استعمل عليهم عتاب ابن أسيد وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وقيل: المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا. وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمانات إِلَى أَهْلِهَا} أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الآمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عز وجل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء {أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [النساء: 58] وهو الإفاضة حسب الاستعداد {بَصِيرًا ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله} بتطهير كعبة تجليه وهو القلب عن أصنام السوى {وَأَطِيعُواْ الرسول} بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم {وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ} وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحًا لكم وتهذيبًا لأخلاقكم. ورا يقال: إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة: فمن كان أهلًا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، ونحن أخدناه من الحي الذي لا يموت، فليطلع الله تعالى راده وليتمثل ما فهمه منه، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن فهم بيانه، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى، وليطعه فيما أمر ونهى، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد ذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء} أنتم والمشايخ، وذلك في مبادي السلوك حيث النفس قوية {فَرُدُّوهُ إِلَى الله} تعالى: {والرسول} [النساء: 59] فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن فيه بحار علوم الحقائق، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بما أُنزِلَ إِلَيْكَ} من علم التوحيد {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من علم المبدأ والمعاد {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} ويخالفوه إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي {وَيُرِيدُ الشيطان} وهو الطاغوت {أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيدًا} [النساء: 60] وهو الانحراف عن الحق {فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل {ا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك {ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بالله إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا} بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك {وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] أي جمعًا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك {أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تقبل عذرهم {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] مؤثرًا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} باشتغالهم بحظوظها {جَاءوكَ فاستغفروا الله} طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال {واستغفر لَهُمُ الرسول} بإمداده إياهم بأنوار صفاته {لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 64] مطهرًا لنفوسهم مفيضًا عليها الكمال اللائق بها. وقال ابن عطاء في هذه الآية: أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إليَّ {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا}
[النساء: 65] قال بعضهم: أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببًا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببًا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلى الله عليه وسلم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه، ألا ترى كيف قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد

وقال آخرون: سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلى الله عليه وسلم فمن لم يمش تحت قبابه فليس من الله تعالى في شيء، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلابد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ} بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة {أَوِ اخرجوا مِن دياركم} وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكل مثلًا {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} وهم أهل التوفيق والهمم العالية، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم: أدور في الصحاري وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال له: إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} لما فيه من الحياة الطيبة {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] بالاستقامة بالدين {وَإِذًا لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 67] وهو كشف الجمال {ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 68] وهو التوحيد {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} بما لا يدخل في حيطة الفكر {مّنَ النبيين} أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرًا فلا يدرك شأواهم {والصديقين} الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير دليل ولا توقف {والشهداء} أهل الحضور {والصالحين} [النساء: 69] أهل الاستقامة في الدين {عَلِيمًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم {فانفروا ثُبَاتٍ} أسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل {أَوِ انفروا جَمِيعًا} [النساء: 71] في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بأخلاقه {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} شدة في السير {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ} [النساء: 72] حيث لم أفعل كما فعلوا {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله} مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام {لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} أي حسدًا لكم {مَوَدَّةٌ ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} دونهم {فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] وأنال ذلك وحدي {وَمَن يقاتل} نفسه {فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ} بسيف الصدق {أَو يَغْلِبْ} عليها بالظفر لتسلم على يده {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] وهو الوصول إلينا {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين} خلاص {المستضعفين مِنَ الرجال} العقول: {والنساء} الأرواح {والولدان} القوى الروحانية {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية} وهي قرية البدن {الظالم أَهْلُهَا} وهي النفس الأمارة {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} يلي أمورنا ويرشدنا {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس، نسأل الله تعالى ذلك نه وكرمه.