فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (47):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)}
{وَلِكُلّ أُمَّةٍ} يوم القيامة {رَّسُولٍ} تنسب إليه وتدعى به {فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ} الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان {قُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي بعد أن يشهد {بالقسط} بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أصلًا والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له.
وقيل: في موضع الحال أي مستمرًا عدم ظلمهم، ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه: {وجيء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُم} [الزمر: 69] أو لكل أمة من الأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة اقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضى بينهم أي بين كل أمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير. وغيره عن مجاهد، والاستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما احتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)}
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} بناءً على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشد إله ما بعد. واستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن الله تعالى لم يهمل أمة من الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولًا بأن أهل الفترة ليس فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} [يس: 6] وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضرًا مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولًا إلى ذلك البعض كمالا يمنع تقدم رسولنا صلى الله عليه وسلم من كونه مبعوثًا إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في الباب أن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤديًا إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام انتهى وهو كما ترى. وقد يقال: إن المراد من كل أمة كل جماعة أراد الله تعالى تكليفها حسا سبق به علمه أو أراد سبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقًا فلا إشكال أصلًا فتدبر. ثم إن هذا القول من المكذبين استعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيل استبعاد الموعود وإنه مما لا يكون وقد يراد بالاستفهام الاستبعاد ابتداءً إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون ابتداء بأين وأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيه والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمؤمنن الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة لذلك، وجواب {ءانٍ} محذوف اعتمادًا على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة، ولكونه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون المؤمنين أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (49):

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)}
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا} أي لا أقدر على شيء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم إظهارًا لكمال العجز، وقيل: إنه استطرادي لئلا يتوهم اختصاص ذلك بالضر والأول أولى، وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه، والمعنى لا أملك شيئًا من شؤوني ردًا وإيرادًا مع إن ذلك أقرب حصولًا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسا تريدون {إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء الله تعالى كائن، وقيل: متصل على معنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه، وتعقب بأنه يأباه مقام التبرئ عن أن يكون له صلى الله عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاة والسلام: والمعتزلة قالوا باتصال الاستثناء واستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي، وأنت تعلم أن ذلك راحل عن إثبات مدعاهم. نعم استدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلًا كما يقوله الجبرية، ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء الله تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال: المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلا ما شاء الله تعالى أن أقدر عليه منهما فإني أقدر عليه شيئته سبحانه، وقال بعضهم: إذا كان الملك عنى الاستطاعة يكون الاستثناء متصلًا وإذا أبقى على ظاهره تعين الانقطاع، ولا يخفى أن الأصل الاتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف، وأيًا ما كان فظاهر كلامهم أن الاستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الانقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلًا فلا تدافع في كلام من حكم بالانقطاع وقال في بيان المعنى أي ولكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن مشيرًا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منه المقتضى للاتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه.
ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل {لا أَمْلِكُ} وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء يفعله شيئته {لِكُلّ أُمَّةٍ} من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم {أَجَلٌ} لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير، والإضافة لإفادة كمال التعين، وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة، ووجه إظهار الأجل مضافًا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عمومًا يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها، ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجيء عليه ظاهر وا امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذٍ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عنه {سَاعَةِ} أي شيئًا قليلًا من الزمان {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} عليه، والاستفعال عند جمع على أصله، ونفى طلب التأخر والتقدم أبلغ، وقال آخرون: إنه عنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون، والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجيء الأجل فلا فائدة في نفيه، وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه، قيل: وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي أنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب.
ودفع بعضهم ذلك بأن {جَاء} عنى قارب المجيء نحو قولك: إذا جاء الشتاء فتأهب له. وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة، وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي:
وقف الهوى بى حيث أنت فليس لي ** متقدم عنه ولا متأخر

فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها؛ ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانًا باستقلالها فيه. قال العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه: إن الجواب بقوله سبحانه: {قُل لاَّ أَمْلِكُ} الخوارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكمًا وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود: وإذا كنت مقرًا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا كيف أدعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلى الله عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال: {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} إلخ، وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا، ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} وزيادتها في {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} على عكس آية الأعراف حيث أتى بها أولًا ولم يؤت بها ثانيًا، وذلك أنه لما سيقت الآية جوابًا عن استعجالهم العذاب الموعود حسا علمت آنفًا اعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتى بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوي لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال، ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام، وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرًا منجزًا غير متوقف على شيء غير مجيء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه إنكار المدخلية في الجواب، ولعل الغرض يتم جرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضًا، وقد يقال: إن إسقاط الفاء أولًا لتكون الجملة في موضع الصفة لأجل تهويلًا لأمره وتنويهًا بشأنه حسا يقتضيه المقام، أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة، والإظهار في موضع ازضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفًا وليس بذاك، ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرًا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلمًا للعربية مبينًا لقواعدها وشارحًا لما يجوز فيها وما لا يجوز، بل نزل معجزًا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقوامًا كل منهم في ذلك الشأن الجذيل المحكك والعذيب المرجب.
وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفًا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [يونس: 48] ولتلقينه صلى الله عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السباق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر الشرطية وجيء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة، وآية الأعراف سيقت وعيدًا لأهل مكة، ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية، لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجيء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدًا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى. ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

.تفسير الآية رقم (50):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
{قُلْ} لهم بعد ما بينت لهم كيفية حالك وجريان سنة الله تعالى فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلوم إيذانًا بكمال دنوه وتنزيلًا له منزلة إتيانه حقيقة {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ} الذي تستعجلون به ولعل استعمال {ءانٍ} من باب المجاراة {بَيَاتًا} أي وقت بيات {أَوْ نَهَارًا} أي عند اشتغالكم شاغلكم وإنما لم يقل ليلًا ونهارًا ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم والغفلة والبيات متكفل بذلك لأنه الوقت الذي يبيت فيه العدو ويوقع فيه ويغتنم فرصة غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، وقد يقال: النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان اشتغال عاش أو زمان قلولة بخلاف الليل فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر، والبيات جاء عنى البيتوتة وعنى التبييت كالسلام عنى التسليم والمعنى المراد هنا مبني على هذا {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} أي أي شيء يستعجلون من العذاب وليس شيء منه يوجب الاستعجال لما أن كله مكروه مر المذاق موجب للنفار، فمن للتبعيض والضمير للعذاب والتنكير في شيء للفردية، وجوز أن يكون المعنى على التعجب وهو مستفاد من المقام كأنه قيل: أي هول شديد يستعجلون منه، فمن بيانية وتجريدية بناءً على عد الزمخشري لها منها، وقيل: الضمير لله تعالى، وعليه فالمعنى على الثاني ولكن تزول فائدة الإبهام والتفسير وما فيه من التفخيم.
وما قيل: إنه أبلغ على معنى هل تعرفون ما العذاب المعذب به هو الله سبحانه فهو مشترك على التقديرين ألا ترى إلى قوله تعالى: {عَذَابَهُ}، و{مَاذَا} عنى أي شيء منصوب المحل مفعولًا مقدمًا وهو أولى من جعله مبتدأ، ومن فعل قدر العائد، ومن قال: إن ضمير {مِنْهُ} هو الرابط مع تفسيره بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأن عموم الخبر في الاسم الظاهر يكون رابطًا على المشهور ففي الضمير أولى. وزعم أبو البقاء أن الضمير عائد إلى المبتدأ وهو الرابط وجعل ذلك نظير قولك: زيد أخذت منه درهمًا وليس بشيء كما لا يخفى، والمراد من المجرمون المخاطبون، وعدل عن الضمير إليه للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من إتيان العذاب فضلًا عن أن يستعجلوه، وقيل: النكتة في ذلك إظهاره تحقيرهم وذمهم بهذه الصفة الفظيعة، والجملة متعلقة بأرأيتم على أنها استئناف بياني أو في محل نصب على المفعولية وعلق عنها الفعل للاستفهام، وهو في الأصل استفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ثم استعمل عنى أخبروني لما بين الرؤية والإخبار من السببية والمسببية في الجملة فهو مجاز فيما ذكر وإليه ذهب الكثير، وذهب أبو حيان إلى أن ذلك بطريق التضمين ولم يستعمل إلا في الأمر العجيب، وجواب الشرط محذوف أي إن أتاكم عذابه في أحد ذينك الوقتين تندموا أو تعرفوا الخطأ أو فاخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون.
وزعم أبو حيان تعين الأخير لأن الجواب إنما يقدر مما تقدمه لفظًا أو تقديرًا ولم يدر أن تقديره من غير جنس المذكور إذا قامت قرينة عليه ليس بعزيز، ولئن سلم صحة الحصر الذي ادعاه فما ذكر غير خارج عنه بناء على أن المقصود من {أَرَءيْتُمْ} {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} إلخ تنديمهم أو تجهيلهم كما نص عليه بعض المحققين.
وفي الكشف تقريرًا لأحد الأوجه المذكورة في الكشاف أن {مَاذَا} إلخ متعلق الاستخبار والشرط مع جوابه المحذوف مقرر لمضمون الاستخبار ولهذا وسط بينهما، ولما كان في الاستفهام تجهيل وتنديم قدر الجواب تندموا أو تعرفوا الخطأ، ولا مانع من تقديرهما معًا أو ما يفيد المعنيين ولهذا حذف الجواب ووسط تأكيدًا على تأكيد انتهى.
وجوز كون {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ} جوابًا للشرط كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني والمجموع بتمامه متعلق {بأرأيتم} ورد بأن جواب الشرط إذا كان استفهامًا فلابد فيه من الفاء تقول إن زارنا فلان فأي رجل هو ولا تحذف إلا ضرورة، وقد صرح في المفصل بأن الجملة إذا كانت إنشائية لابد من الفاء معها، والاستفهام وإن لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية، والمثال مصنوع فلا يعول عليه.
وأجيب بأن الرضي صرح بأن وقوع الجملة الاستفهامية جوابًا بدون الفاء ثابت في كثير من الكلام الفصيح، ولو سلم ما ذكر فيقدر القول وحذفه كثير مطرد بلا خلاف، وأورد أيضًا على هذا الوجه أن استعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبًا عليه وجزاء له، وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون، ويشهد لهذا التصريح بكنتم فيما بعد والقرآن يفسر بعضه بعضً، وأنت تعلم أن مجرد ذلك لا يجوز كونه جوابًا لأن الاستعجال الماضي لا يترتب على إتيان العذاب فلابد من تقدير نحو تعلموا أي تعلموا ماذا إلخ، وقيل: إن أتاكم عنى إن قارب إتيانه إياكم أو المراد إن أتاكم أمارات عذابه، وقيل: حيث أن المراد إنكار الاستعجال عنى نفيه رأسًا صح كونه جوابًا، واعترض على جعل مجموع الشرطية متعلقًا {بأرأيتم} بأنه لا يصح أن يكون مفعولًا به له بناءً على أنه عنى أخبروني وهو متعد بعن ولا تدخل الجملة إلا أنها إذا اقترنت بالاستفهام وقلنا بجواز تعليقها وفيه كلام في العربية جاز، ودفع بأن مراد القائل بالتعلق التعلق اللغوي لأن المعنى أخبروني عن صنيعكم أن أتاكم إلخ والمراد بقوله سبحانه: