فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (2):

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل {ءانٍ} مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة.
وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالًا لفظيًا بل هو ابتداء كلام قصد به الاغراء على التوحيد على لسانه صلى الله عليه وسلم و{ءانٍ} وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضًا مفعولًا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون {ءانٍ} والفعل في موقع المفعول المطلق، وقد صرح بعض المقحقين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ضمير الغائب المجرور لله تعالى و{مِنْ} لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكن من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه أن لم تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون {مِنْ} صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضًا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وإما للكتاب على معنى إني لكن نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (3):

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
{وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} عطف على {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} [هود: 2] سواء كان نهيًا أو نفيًا وفي {ءانٍ} الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن {ءانٍ} المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة {إِنِّي لَكُمْ} [هود: 2] إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الانذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية لتتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وأرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل، وقوله سبحانه: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} عطف على {استغفروا} واختلف في توجيه توسيط {ثُمَّ} بينهما مع أن الاستغفار عنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة {ثُمَّ} على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن {ثُمَّ} عنى الواو كما في قوله:
كهز الرديني تحت العجاج ** جرى في الأنابيب ثم اضطرب

والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما عنى فثم للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازًا من إطلاق السبب على المسبب، و{ثُمَّ} على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلًا، لكن اشترط شرعًا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضًا استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة عنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتبيا وأن يكون زمانيًا كما لا يخفى {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} مجزوم بالطلب، ونصب {متاعا} على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] ويجوز أن يكون مفعولًا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الامثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقريب إليه حتى يعد المحنة منحة.
وتعذيبكم عذب لدى وجوركم ** علي بما يقضي الهوى لكم عدل

وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة {وَيُؤْتِ} أي يعط {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} أي زيادة في العمل الصالح {فَضْلِهِ} أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطى، وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الاعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل ورا يكون المفضول أكثر تمتيعًا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله أما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مراد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه باحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لفونشر فإن التمتيع مربت على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وايا مّا كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تستمروا على الاعراض عما القى إليكم من التوحيد والاستغفار والتبوة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوإ بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن {تَوَلَّوْاْ} ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهو خلاف الظاهر، وأخر الانذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو ون العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو، واليماني {تَوَلَّوْاْ} بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع ولى من قولهم: ولى هاربًا أي أدبر {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} قتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضًا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيا مّا كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له.

.تفسير الآية رقم (4):

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
{إلى الله مَرْجِعُكُمْ} مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعًا لا يتخلف منكم أحد {وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجوزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.

.تفسير الآية رقم (5):

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} كأنه جواب سؤال مقدر، وذلك أنه لما ألقى إليهم ما ألقى وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال هل قابلوه بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل: مصدرًا بكلمة التنبيه إشعارًا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه {أَلاَ إِنَّهُمْ} إلخ، فضمير {أَنَّهُمْ} للمشركين المخاطبين فيما تقدم و{يَثْنُونَ} بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه، ومنه على ما قيل الاثنان، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج، وأصله يثنيون فأعل الإعلال المعروف في نحو يرمون، وفي المراد منه احتمالات: منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه، أي أنهم يثنون صدورهم الحق ويتحرفون عنه، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} [هود: 3] إلخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي أنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه باق على حقيقته، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوه ظهورهم، والظاهر أن اللام متعلقة بيثنون على سائر الاحتمالات، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقًا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله، أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم، وجعله في قود المعنى إليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى: {اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي فضرب فانفلق، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس ثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفرق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره، وقيل: إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لابد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدًا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفي عليه صلى الله عليه وسلم، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} يقتضي عود الضمير إليه تعالى.
واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلًا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس جمع عليه لما سمعت عن أبي حيان.
وقيل: إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت، وأخرج ابن جرير، وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق، وقد يقال: إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} [الحجر: 90] إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا ما نحن فيه. نعم الثابت في صحيح البخاري. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وابن مردويه من طريق محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم، وليس في الروايات السابقة ما يكافئ هذه الرواية في الصحة، وأمر {يَثْنُونَ} عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحيا من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلًا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونًا بالجهل بصفاته عز وجل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله؛ وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسا تقدم فتدبر والله تعالى أعلم.
وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه. ومجاهد. وغيرهما {تثنوني} بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي، وهو مضارع اثنوني كاحلولي فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولي وهو لازم فصدورهم فاعله، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال: المعنى مثلًا تنحرف صدورهم انحرافًا بليغًا. وعن الحبر أيضًا. وعروة. وغيرهما أنهم قرأوا {تثنون} بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد:
يا أيها المفضل المعني ** إنك ريان فصمت عني

تكفي اللقوح أكلة من وثن

ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق و{تُخْفِى صُدُورُهُمْ} على هذه مرفوع أيضًا على الفاعلية، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال: ثناه فانثنى وائتوني كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال: وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ {تثنئن} كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة، ويقال في ماضيه اثنأن كاحمأر وابيأض، وقيل: أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضًا، وقرئ {تثنوي} كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضًا، وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال: ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان، وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله، وقرئ بغير ذلك، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون، ومن غريبها أنه قرئ {إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} بالضم.
واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال: أثنتيه عنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة، وقال أبو البقاء: لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال: معناه عرضوها للانثناء كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي يجعلونها أغشية، ومنه قول الخنساء:
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها ** وتارة أتغشى فضل اطماري

وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم، وهو وقت كثيرًا ما يقع فيه حديث النفس عادة، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء، وأيًا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل: المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب، ومن ذلك قولهم: الليل أخفى للويل، والظرف متعلق بقوله سبحانه: {يَعْلَمْ} أي ألا يعلم {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} حين يستغشون ثيابهم؛ ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم في غيره بالطريق الأولى، وجوز تعلقه حذوف وقدره السمين. وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون، و{مَا} في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولًا أوليًا، وخصه بعضهم به، وقدم هنا السر على العلن نعيًا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانًا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقًا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه.
وقرأ ابن عباس {على حِينِ يَسْتَغْشُونَ} قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة:
على حين عابت المشيب على الصبا

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل لما سبق وتقرير له، والمراد بذات الصدور الإسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور، وأيًا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم، أي أنه تعالى مبالغ في الإحاطة ضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالمًا بذلك، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا: إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف، وامتناعه من أجل البديهيات، والإنكار مكابرة أو جهل عنى التعلق بالمعدوم الصَّرف، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني، وهو ناشئ على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك.
وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئًا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو عنى أن ذلك الحصول ليس نحوًا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون لماهية واحدة كالشمس مثلًا وجودان، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا: لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها، فالحق أن الجمهور إنما أنكروا ما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ما هيأت الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح، وحينئذٍ يقال: علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم وهو محال، لأنا نقول لما كان الواجب تعالى موجبًا في علمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم: إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلومًا قبل تعلق العلم به وهو من الفساد كان، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو ثاله وشبحه، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلًا، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين.
وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه. وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام، ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها نه سبحانه، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي.