فصل: فصل الْكُنْيَةُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل الْكُنْيَةُ:

وَأَمّا الْكُنْيَةُ فَهِيَ نَوْعُ تَكْرِيمٍ لِلْمُكَنّى وَتَنْوِيهٍ بِهِ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ أَكْنِيهِ حِينَ أُنَادِيهِ لِأُكْرِمَه وَلَا أُلَقّبُهُ وَالسّوْأَةُ اللّقَبُ.
وَكَنّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبًا بِأَبِي يَحْيَى، وَكَنّى عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِأَبِي تُرَابٍ إلَى كُنْيَتِهِ بِأَبِي الْحَسَنِ وَكَانَتْ أَحَبّ كُنْيَتِهِ إلَيْهِ وَكَنّى أَخَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ بِأَبِي عُمَيْرٍ.

.حُكْمُ التّكَنّي بِأَبِي الْقَاسِمِ:

وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَكْنِيَةُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ وَمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى عَنْ كُنْيَةٍ إلّا الْكُنْيَةَ بِأَبِي الْقَاسِمِ فَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ تَسَمّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنّوْا بِكُنْيَتِي فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. سَوَاءٌ أَفْرَدَهَا عَنْ اسْمِهِ أَوْ قَرَنَهَا بِهِ وَسَوَاءٌ مَحْيَاهُ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَعُمْدَتُهُمْ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ الصّحِيحِ وَإِطْلَاقُهُ وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ ذَلِكَ عَنْ الشّافِعِيّ، قَالُوا: لِأَنّ النّهْيَ إنّمَا كَانَ لِأَنّ مَعْنَى هَذِهِ الْكُنْيَةِ وَالتّسْمِيَةِ مُخْتَصّةٌ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَاَللّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا، وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا، وَإِنّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذِهِ الصّفّةَ لَيْسَتْ عَلَى الْكَمَالِ لِغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي جِوَازِ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ بِقَاسِمٍ فَأَجَازَهُ طَائِفَةٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَالْمُجِيزُونَ نَظَرُوا إلَى أَنّ الْعِلّةَ عَدَمُ مُشَارَكَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا اخْتَصّ بِهِ مِنْ الْكُنْيَةِ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْمِ وَالْمَانِعُونَ نَظَرُوا إلَى أَنّ الْمَعْنَى الّذِي نَهَى عَنْهُ فِي الْكُنْيَةِ مَوْجُودٌ مِثْلُهُ هُنَا فِي الِاسْمِ سَوَاءٌ أَوْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ إنّمَا أَنَا قَاسِمٌ إشْعَارٌ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ. الْقَوْلُ الثّانِي: أَنّ النّهْيَ إنّمَا هُوَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَابٌ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ تَسَمّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنّ بِكُنْيَتِي، وَمَنْ تَكَنّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمّ بِاسْمِي وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيثٌ مُحَمّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَفْظُهُ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ وَيُسَمّي مُحَمّدًا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا مُقَيّدٌ مُفَسّرٌ لِمَا فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ التّكَنّي بِكُنْيَتِهِ قَالُوا: وَلِأَنّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالِاسْمِ وَالْكُنْيَةِ فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ زَالَ الِاخْتِصَاصُ. الْقَوْلُ الثّالِثُ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ الْحَنَفِيّةِ، عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمّيهِ بِاسْمِكَ وَأُكَنّيهِ بِكُنْيَتِك؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ التّرْمِذِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي وَلَدْتُ غُلَامًا فَسَمّيْتُهُ مُحَمّدًا وَكَنّيْته أَبَا الْقَاسِمِ فَذُكِرَ لِي أَنّك تَكْرَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَا الّذِي أَحَلّ اسْمِي وَحَرّمَ كُنْيَتِي أَوْ مَا الّذِي حَرّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلّ اسْمِي قَالَ هَؤُلَاءِ وَأَحَادِيثُ الْمَنْعِ مَنْسُوخَةٌ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. الْقَوْلُ الرّابِعُ إنّ التّكَنّي بِأَبِي الْقَاسِمِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي حَيَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَالُوا: وَسَبَبُ النّهْيِ إنّمَا كَانَ مُخْتَصّا بِحَيَاتِهِ فَإِنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ نَادَى رَجُل بِالْبَقِيعِ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي لَمْ أَعْنِكَ إنّمَا دَعَوْتُ فُلَانًا، فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسَمّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنّوْا بِكُنْيَتِي قَالُوا: وَحَدِيثُ عَلِيّ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إنْ وُلِدَ لِي مِنْ بَعْدِك وَلَدٌ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَمّنْ يُولَدُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَكِنْ قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَانَتْ رُخْصَةً لِي وَقَدْ شَذّ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لِقَوْلِهِ فَمَنَعَ التّسْمِيَةَ بِاسْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قِيَاسًا عَلَى النّهْيِ عَنْ التّكَنّي بِكُنْيَتِهِ وَالصّوَابُ أَنّ التّسَمّيَ بِاسْمِهِ جَائِزٌ وَالتّكَنّيَ بِكُنْيَتِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَالْمَنْعُ فِي حَيَاتِهِ أَشَدّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ غَرِيبٌ لَا يُعَارَضُ بِمِثْلِهِ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ وَحَدِيثُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي صِحّتِهِ نَظَرٌ وَالتّرْمِذِيّ فِيهِ نَوْعُ تَسَاهُلٍ فِي التّصْحِيحِ وَقَدْ قَالَ عَلِيّ: إنّهَا رُخْصَةٌ لَهُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى بَقَاءِ الْمَنْعِ لِمَنْ سِوَاهُ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل التّكَنّي بِأَبِي عِيسَى:

وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ الْكُنْيَةَ بِأَبِي عِيسَى، وَأَجَازَهَا آخَرُونَ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ضَرَبَ ابْنًا لَهُ يُكَنّى أَبَا عِيسَى، وَأَنّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ تَكَنّى بِأَبِي عِيسَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمَا يَكْفِيك أَنْ تُكَنّى بِأَبِي عَبْدِ اللّهِ؟ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَنّانِي، فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ وَإِنّا لَفِي جَلْجَتِنَا فَلَمْ يَزَلْ يُكَنّى بِأَبِي عَبْدِ اللّهِ حَتّى هَلَكَ.

.كُنَى أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:

وَقَدْ كَنّى عَائِشَةَ بِأُمّ عَبْدِ اللّه وَكَانَ لِنِسَائِهِ أَيْضًا كُنًى كَأُمّ حَبِيبَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ.

.فصل النّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا:

وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا وَقَالَ الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَهَذَا لِأَنّ هَذِهِ اللّفْظَةَ تَدُلّ عَلَى كَثْرَةِ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ فِي الْمُسَمّى بِهَا، وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ هُوَ الْمُسْتَحِقّ لِذَلِكَ دُونَ شَجَرَةِ الْعِنَبِ وَلَكِنْ هَلْ الْمُرَادُ النّهْيُ عَنْ تَخْصِيصِ شَجَرَةِ الْعِنَبِ بِهَذَا الِاسْمِ وَأَنّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَرْمِ كَمَا قَالَ فِي الْمِسْكِينِ والرّقُوبِ والْمُفْلِسِ أَوْ الْمُرَادُ أَنّ اتّخَاذِ الْخَمْرِ الْمُحَرّمِ مِنْهُ وَصْفٌ بِالْكَرْمِ وَالْخَيْرِ وَالْمَنَافِع لِأَصْلِ هَذَا الشّرَابِ الْخَبِيثِ الْمُحَرّمِ وَذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى مَدْحِ مَا حَرّمَ اللّهُ وَتَهْيِيجِ النّفُوسِ إلَيْهِ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُسَمّى شَجَرُ الْعِنَبِ كَرْمًا.

.فصل هَلْ تَجُوزُ تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ:

مُحَافَظَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الّتِي سَمّى اللّهُ بِهَا الْعِبَادَاتِ:
قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَغْلِبَنّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ أَلَا وَإِنّهَا الْعِشَاءُ وَإِنّهُمْ يُسَمّونَهَا الْعَتَمَةَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًاَ فَقِيلَ هَذَا نَاسِخٌ لِلْمَنْعِ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ وَالصّوَابُ خِلَافُ نَهَى عَنْ أَنْ يُجْهَرَ اسْمُ الْعِشَاءِ وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي سَمّاهَا اللّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَيَغْلِبَ عَلَيْهَا اسْمُ الْعَتَمَةِ فَإِذَا سُمّيَتْ الْعِشَاءَ وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا أَحْيَانًا الْعَتَمَةُ فَلَا بَأْسَ وَاللّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا مُحَافَظَةً مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الّتِي سَمّى اللّهُ بِهَا الْعِبَادَاتِ فَلَا تُهْجَرُ وَيُؤَثّرُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَأَخّرُونَ فِي هِجْرَانِ أَلْفَاظِ النّصُوصِ وَإِيثَارِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهَا، وَنَشَأَ بِسَبَبِ هَذَا مِنْ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ مَا اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ وَهَذَا كَمَا كَانَ يُحَافِظُ عَلَى تَقْدِيمِ مَا قَدّمَهُ اللّهُ وَتَأْخِيرِ مَا أَخّرَهُ كَمَا بَدَأَ بِالصّفَا، وَقَالَ أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللّهُ بِهَِ وَبَدَأَ فِي الْعِيدِ بِالصّلَاةِ ثُمّ جَعَلَ النّحْرَ بَعْدَهَا، وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا، فَلَا نُسُكَ لَه تَقْدِيمًا لِمَا بَدَأَ اللّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} وَبَدَأَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْوَجْهِ ثُمّ الْيَدَيْنِ ثُمّ الرّأْسِ ثُمّ الرّجْلَيْنِ تَقْدِيمًا لِمَا قَدّمَهُ اللّهُ وَتَأْخِيرًا لِمَا أَخّرَهُ وَتَوْسِيطًا لِمَا وَسّطَهُ وَقَدّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ تَقْدِيمًا لِمَا قَدّمَهُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى} [الْأَعْلَى: 13] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ:

كَانَ يَتَخَيّرُ فِي خِطَابِهِ وَيَخْتَارُ لِأُمّتِهِ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ وَأَجْمَلَهَا، وَأَلْطَفَهَا، وَأَبْعَدَهَا مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفُحْشِ فَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحّشًا وَلَا وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللّفْظُ الشّرِيفُ الْمَصُونُ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ اللّفْظُ الْمَهِينُ الْمَكْرُوهُ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.

.كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِ اللّفْظِ الشّرِيفِ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ:

فَمِنْ الْأَوّلِ مَنْعُهُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُنَافِقِ يَا سَيّدَنَا وَقَالَ فَإِنّهُ إنْ يَكُ سَيّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبّكُمْ عَزّ وَجَل وَمَنْعُهُ أَنْ تُسَمّى شَجَرَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا، وَمَنْعُهُ تَسْمِيَةَ أَبِي جَهْلٍ بِأَبِي الْحَكَمِ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُهُ لِاسْمِ أَبِي الْحَكَمِ مِنْ الصّحَابَةِ بِأَبِي شُرَيْحٍ وَقَالَ إنّ اللّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَقُولَ لِسَيّدِهِ أَوْ لِسَيّدَتِهِ رَبّي وَرَبّتِي، وَلِلسّيّدِ أَنْ يَقُولَ لِمَمْلُوكِهِ عَبْدِي، وَلَكِنْ يَقُولُ الْمَالِكُ فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَيَقُولُ الْمَمْلُوكُ سَيّدِي وَسَيّدَتِي، وَقَالَ لِمَنْ ادّعَى أَنّهُ طَبِيبٌ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُهَا الّذِي خَلَقَهَا وَالْجَاهِلُونَ يُسَمّونَ الْكَافِرَ الّذِي لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ الطّبِيعَةِ حَكِيمًا، وَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ الْخَلْقِ. قَالَ مَنْ يُطِعْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ مَا شَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ فَقَال: أَجَعَلْتَنِي لِلّهِ نِدّا؟ قُلْ مَا شَاءَ اللّهُ وَحْدَه وَفِي مَعْنَى هَذَا الشّرْكِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ قَوْلُ مَنْ لَا يَتَوَقّى الشّرْكَ أَنَا بِاَللّهِ وَبِكَ وَأَنَا فِي حَسْبِ اللّهِ وَحَسْبِكَ وَمَا لِي إلّا اللّهُ وَأَنْتَ وَأَنَا مُتَوَكّلٌ عَلَى اللّهِ وَعَلَيْك، وَهَذَا مِنْ اللّهِ وَمِنْك، وَاللّهُ لِي فِي السّمَاءِ وَأَنْت لِي فِي الْأَرْضِ وَوَاللّهِ وَحَيَاتِك، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي يَجْعَلُ فِيهَا قَائِلُهَا الْمَخْلُوقَ نِدّا لِلْخَالِقِ وَهِيَ أَشَدّ مَنْعًا وَقُبْحًا مِنْ قَوْلِهِ مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ. فَأَمّا إذَا قَالَ أَنَا بِاَللّهِ ثُمّ بِك، وَمَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شِئْت، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ الثّلَاثَةِ لَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إلّا بِاَللّهِ ثُمّ بِك وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ الْإِذْنُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شَاءَ فُلَانٌ.

.فصل كَرَاهَةُ إطْلَاقِ أَلْفَاظِ الذّمّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا:

وَأَمّا الْقِسْمُ الثّانِي وَهُوَ أَنْ تُطْلَقَ أَلْفَاظُ الذّمّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَمِثْل نَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ سَبّ الدّهْرِ وَقَالَ إنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ فَيَسُبّ الدّهْرَ وَأَنَا الدّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدّهْرِ فِي هَذَا ثَلَاثُ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٌ. إحْدَاهَا: سَبّهُ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَبّ فَإِنّ الدّهْرَ خَلْقٌ مُسَخّرٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ مُنْقَادٌ لِأَمْرِهِ مُذَلّلٌ لِتَسْخِيرِهِ فَسَابّهُ أَوْلَى بِالذّمّ وَالسّبّ مِنْهُ.
الثّانِيةُ أَنّ سَبّهُ مُتَضَمّنٌ لِلشّرْكِ فَإِنّهُ إنّمَا سَبّهُ لِظَنّهِ أَنّهُ يَضُرّ وَيَنْفَعُ وَأَنّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَالِمٌ قَدْ ضَرّ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الضّرَرَ وَأَعْطَى مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْعَطَاءَ وَرَفَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الرّفْعَةَ وَحَرَمَ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْحِرْمَانَ وَهُوَ عِنْدَ شَاتِمِيهِ مِنْ أَظْلَمِ الظّلَمَةِ وَأَشْعَارُ هَؤُلَاءِ الظّلَمَةِ الْخَوَنَةِ فِي سَبّهِ كَثِيرَةٌ جِدّا. وَكَثِيرٌ مِنْ الْجُهّالِ يُصَرّحُ بِلَعْنِهِ وَتَقْبِيحِهِ.
الثّالِثَةُ أَنّ السّبّ مِنْهُمْ إنّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الّتِي لَوْ اتّبَعَ الْحَقّ فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَإِذَا وَقَعَتْ أَهْوَاؤُهُمْ حَمِدُوا الدّهْرَ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ. وَفِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَرَبّ الدّهْرِ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الْخَافِضُ الرّافِعُ الْمُعِزّ الْمُذِلّ، وَالدّهْرُ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ فَمَسَبّتُهُمْ لِلدّهْرِ مَسَبّةٌ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً لِلرّبّ تَعَالَى، كَمَا فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وَأَنَا الدّهْرُ فَسَابّ الدّهْرِ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَابُدّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. إمّا سَبّهُ لِلّهِ أَوْ الشّرْكُ بِهِ فَإِنّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنّ الدّهْرَ فَاعِلٌ مَعَ اللّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنّ اللّهَ وَحْدَهُ هُوَ الّذِي فَعَلَ ذَلِك وَهُوَ يَسُبّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ سَبّ اللّهَ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ تَعِسَ الشّيْطَانُ فَإِنّهُ يَتَعَاظَمُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ فَيَقُولُ بِقُوّتِي صَرَعْتُهُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ فَإِنّهُ يَتَصَاغَرُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الذّبَابِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ إنّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ الشّيْطَانَ يَقُولُ: إنّكَ لَتَلْعَنُ مُلْعَنًا وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ أَخْزَى اللّهُ الشّيْطَانَ وَقَبّحَ اللّهُ الشّيْطَانَ فَإِنّ ذَلِكَ كُلّهُ يُفْرِحُهُ وَيَقُولُ عَلِمَ ابْنُ آدَمَ أَنّي قَدْ نِلْته بِقُوّتِي، وَذَلِك مِمّا يُعِينُهُ عَلَى إغْوَائِهِ وَلَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، فَأَرْشَدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ مَسّهُ شَيْءٌ مِنْ الشّيْطَانِ أَنْ يَذْكُرَ اللّهَ تَعَالَى، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ وَيَسْتَعِيذَ بِاَللّهِ مِنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَغْيَظُ لِلشّيْطَانِ.
فَصْلٌ:
مِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ أَيْ غَثّتْ نَفْسِي، وَسَاءَ خُلُقُهَا، فَكَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْخُبْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالشّنَاعَةِ وَأَرْشَدَهُمْ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ وَهِجْرَانِ الْقَبِيحِ وَإِبْدَالِ اللّفْظِ الْمَكْرُوهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.

.النّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ لَوْ أَنّي فَعَلْت كَذَا:

وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَمْرِ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ إنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَان وَأَرْشَدَهُ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدّرَ اللّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَذَلِكَ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، لَمْ يَفُتْنِي مَا فَاتَنِي، أَوْ لَمْ أَقَعْ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ كَلَامٌ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ فَائِدَةً الْبَتّةَ فَإِنّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِمَا اسْتَدْبَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَغَيْرُ مُسْتَقِيلٍ عَثْرَتَهُ بلَوْ وَفِي ضِمْنِ لَوْ ادّعَاءُ أَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَدّرَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ غَيْرَ مَا قَضَاهُ اللّهُ وَقَدّرَهُ وَشَاءَهُ فَإِنّ مَا وَقَعَ مِمّا يَتَمَنّى خِلَافَهُ إنّمَا وَقَعَ بِقَضَاءِ اللّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَإِذَا قَالَ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا، لَكَانَ خِلَافُ مَا وَقَعَ فَهُوَ مُحَالٌ إذْ خِلَافُ الْمُقَدّرِ الْمَقْضِيّ مُحَالٌ فَقَدْ تَضَمّنَ كَلَامُهُ كَذِبًا وَجَهْلًا وَمُحَالًا، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِقَوْلِهِ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا، لَدَفَعْتُ مَا قَدّرَ اللّهُ عَلَيّ. فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ فِي هَذَا رَدّ لِلْقَدَرِ وَلَا جَحْدٌ لَهُ إذْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ الّتِي تَمَنّاهَا أَيْضًا مِنْ الْقَدَرِ فَهُوَ يَقُولُ لَوْ وَقَفْتُ لِهَذَا الْقَدَرِ لَانْدَفَعَ بِهِ عَنّي ذَلِكَ الْقَدَرُ فَإِنّ الْقَدَرَ يُدْفَعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَمَا يُدْفَعُ قَدَرُ الْمَرَضِ بِالدّوَاءِ وَقَدَرُ الذّنُوبِ بِالتّوْبَةِ وَقَدَرُ الْعَدُوّ بِالْجِهَادِ فَكِلَاهُمَا مِنْ الْقَدَرِ. قِيلَ هَذَا حَقّ، وَلَكِنّ هَذَا يَنْفَعُ قَبْلَ وُقُوعِ الْقَدَرِ الْمَكْرُوهِ وَأَمّا إذَا وَقَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى دَفْعِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ بِقَدْرٍ آخَرَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ كُنْتُ فَعَلْته، بَلْ وَظِيفَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِعْلَهُ الّذِي يُدْفَعُ بِهِ أَوْ يُخَفّفُ أَثَرُ مَا وَقَعَ وَلَا يَتَمَنّى مَا لَا مَطْمَعَ فِي وُقُوعِهِ فَإِنّهُ عَجْزٌ مَحْضٌ وَاللّهُ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَيُحِبّ الْكَيْسَ وَيَأْمُرُ بِهِ وَالْكَيْسُ هُوَ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ الّتِي رَبَطَ اللّهُ بِهَا مُسَبّبَاتِهَا النّافِعَةَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ فَهَذِهِ تَفْتَحُ عَمَلَ الْخَيْرِ وَأَمّا الْعَجْزُ فَإِنّهُ يَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ إذَا عَجَزَ عَمّا يَنْفَعُهُ وَصَارَ إلَى الْأَمَانِيّ الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَوْ فَعَلْتُ كَذَا، يَفْتَحُ عَلَيْهِ عَمَلَ الشّيْطَانِ فَإِنّ بَابَهُ الْعَجْزُ وَالْكَسَلُ وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمَا، وَهُمَا مِفْتَاحُ كُلّ شَرّ وَيَصْدُرُ عَنْهُمَا الْهَمّ، وَالْحَزَنُ وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ وَضَلَعُ الدّيْنِ وَغَلَبَةُ الرّجَالِ فَمَصْدَرُهَا كُلّهَا عَنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَعُنْوَانُهَا لَوْ فَلِذَلِكَ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَان فَالْمُتَمَنّي مِنْ أَعْجَزِ النّاسِ وَأَفْلَسِهِمْ فَإِنّ التّمَنّيَ رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ وَالْعَجْزَ مِفْتَاحُ كُلّ شَرّ. وَأَصْلُ الْمَعَاصِي كُلّهَا الْعَجْزُ فَإِنّ الْعَبْدَ يَعْجِزُ عَنْ أَسْبَابِ أَعْمَالِ الطّاعَاتِ وَعَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تُبْعِدُهُ عَنْ الْمَعَاصِي، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَيَقَعُ فِي الْمَعَاصِي، فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ الشّرِيفُ فِي اسْتِعَاذَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُصُولَ الشّرّ وَفُرُوعَهُ وَمَبَادِيهِ وَغَايَاتِهِ وَمَوَارِدَهُ وَمَصَادِرَهُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَمَانِي خِصَالٍ كُلّ خَصْلَتَيْنِ مِنْهَا قَرِينَتَانِ فَقَالَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَن وَهُمَا قَرِينَانِ فَإِنّ الْمَكْرُوهَ الْوَارِدَ يَكُونَ سَبَبُهُ أَمْرًا مَاضِيًا، فَهُوَ يُحْدِثُ الْحُزْنَ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ تَوَقّعَ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فَهُوَ يُحْدِثُ الْهَمّ وَكِلَاهُمَا مِنْ الْعَجْزِ فَإِنّ مَا مَضَى لَا يُدْفَعُ بِالْحُزْنِ بَلْ بِالرّضَى، وَالْحَمْدِ وَالصّبْرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَقَوْلِ الْعَبْدِ قَدّرَ اللّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ. وَمَا يُسْتَقْبَلُ لَا يُدْفَعُ أَيْضًا بِالْهَمّ بَلْ إمّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَإِمّا أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ فَلَا يَجْزَعُ مِنْهُ وَيَلْبَسُ لَهُ لِبَاسَهُ وَيَأْخُذُ لَهُ عُدّتَهُ وَيَتَأَهّبُ لَهُ أُهْبَتَهُ اللّائِقَةَ بِهِ وَيَسْتَجِنّ بِجُنّةٍ حَصِينَةٍ مِنْ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْ الرّبّ تَعَالَى، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ وَالرّضَى بِهِ رَبّا فِي كُلّ شَيْءٍ وَلَا يَرْضَى بِهِ رَبّا فِيمَا يُحِبّ دُونَ مَا يَكْرَهُ فَإِذَا كَانَ هَكَذَا، لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَرْضَاهُ الرّبّ لَهُ عَبْدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَالْهَمّ وَالْحَزَنُ لَا يَنْفَعَانِ الْعَبْدَ الْبَتّةَ بَلْ مَضَرّتُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا، فَإِنّهُمَا يُضْعِفَانِ الْعَزْمَ وَيُوهِنَانِ الْقَلْبَ وَيَحُولَانِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيَقْطَعَانِ عَلَيْهِ طَرِيقَ السّيْرِ أَوْ يُنَكّسَانِهِ إلَى وَرَاءٍ أَوْ يَعُوقَانِهِ وَيَقِفَانِهِ أَوْ يَحْجُبَانِهِ عَنْ الْعِلْمِ الّذِي كُلّمَا رَآهُ شَمّرَ إلَيْهِ وَجَدّ فِي سَيْرِهِ فَهُمَا حِمْلٌ ثَقِيلٌ عَلَى ظَهْرِ السّائِرِ بَلْ إنْ عَاقَهُ الْهَمّ وَالْحُزْنُ عَنْ شَهَوَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ الّتِي تَضُرّهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ انْتَفَعَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَنْ سَلّطَ هَذَيْنِ الْجُنْدَيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ الْمُعْرِضَةِ عَنْهُ الْفَارِغَةِ مِنْ مَحَبّتِهِ أُرِيدَ بِهَا الْخَيْرُ كَانَ حَظّهَا مِنْ سِجْنِ الْجَحِيمِ فِي مَعَادِهَا، وَلَا تَزَالُ فِي هَذَا السّجْنِ حَتّى تَتَخَلّصَ إلَى فَضَاءِ التّوْحِيدِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَجَعْلِ مَحَبّتِهِ فِي مَحِلّ دَبِيبِ خَوَاطِرِ الْقَلْبِ وَوَسَاوِسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ تَعَالَى وَحُبّهُ وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَالْفَرَحُ بِهِ وَالِابْتِهَاجُ بِذِكْرِهِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الّذِي مَتَى فَقَدَهُ فَقَدَ قُوتَهُ الّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلّا بِهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى خَلَاصِ الْقَلْبِ مِنْ هَذِهِ الْآلَامِ الّتِي هِيَ أَعْظَمُ أَمْرَاضِهِ وَأَفْسَدُهَا لَهُ إلّا بِذَلِكَ وَلَا بَلَاغَ إلّا بِاَللّهِ وَحْدَهُ فَإِنّهُ لَا يُوصِلُ إلَيْهِ إلّا هُوَ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلّا هُوَ وَلَا يَصْرِفُ السّيّئَاتِ إلّا هُوَ وَلَا يَدُلّ عَلَيْهِ إلّا هُوَ وَإِذَا أَرَادَ عَبْدَهُ لِأَمْرٍ هَيّأَهُ لَهُ فَمِنْهُ الْإِيجَادُ وَمِنْهُ الْإِعْدَامُ وَمِنْهُ الْإِمْدَادُ وَإِذَا أَقَامَهُ فِي مَقَامِ أَيّ مَقَامٍ كَانَ فَبِحَمْدِهِ أَقَامَهُ فِيهِ وَبِحِكْمَتِهِ أَقَامَهُ فِيهِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ سِوَاهُ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللّهُ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَمْنَعُ عَبْدَهُ حَقّا هُوَ لِلْعَبْدِ فَيَكُونُ بِمَنْعِهِ ظَالِمًا لَهُ بَلْ إنّمَا مَنَعَهُ لِيَتَوَسّلَ إلَيْهِ بِمَحَابّهِ لِيَعْبُدَهُ وَلِيَتَضَرّعَ إلَيْهِ وَيَتَذَلّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتَمَلّقَهُ وَيُعْطِي فَقْرُهُ إلَيْهِ حَقّهُ بِحَيْثُ يَشْهَدُ فِي كُلّ ذَرّةٍ مِنْ ذَرّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ فَاقَةً تَامّةً إلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَنْفَاسِ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ الْعَبْدُ فَلَمْ يَمْنَعْ الرّبّ عَبْدَهُ مَا الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ بُخْلًا مِنْهُ وَلَا نَقْصًا مِنْ خَزَائِنِهِ وَلَا اسْتِئْثَارًا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حَقّ لِلْعَبْدِ بَلْ مَنَعَهُ لِيَرُدّهُ إلَيْهِ وَلِيُعِزّهُ بِالتّذَلّلِ لَهُ وَلِيُغْنِيَهُ بِالِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَلِيَجْبُرَهُ بِالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِيُذِيقَهُ بِمَرَارَةِ الْمَنْعِ حَلَاوَةَ الْخُضُوعِ لَهُ وَلَذّةَ الْفَقْرِ إلَيْهِ وَلِيُلْبِسَهُ خِلْعَةَ الْعُبُودِيّةِ وَيُوَلّيهِ بِعَزْلِهِ أَشْرَفَ الْوِلَايَاتِ وَلِيُشْهِدَهُ حِكْمَتَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتَهُ فِي عِزّتِهِ وَبِرّهُ وَلُطْفَهُ فِي قَهْرِهِ. وَأَنّ مَنْعَهُ عَطَاءٌ وَعَزْلَهُ تَوْلِيَةٌ. وَعُقُوبَتَهُ تَأْدِيبٌ وَامْتِحَانَهُ مَحَبّةٌ وَعَطِيّةٌ وَتَسْلِيطَ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ سَائِقٌ يَسُوقهُ بِهِ إلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ غَيْرُ مَا أُقِيمَ فِيهِ وَحِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ أَقَامَاهُ فِي مَقَامِهِ الّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَخَطّاهُ وَاللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ مَوَاقِعَ عَطَائِهِ وَفَضْلِهِ وَ{اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الْأَنْعَامُ 53] فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ الْفَضْلِ وَمَحَالّ التّخْصِيصِ وَمَحَالّ الْحِرْمَانِ فَبِحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ أَعْطَى، وَبِحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ حَرَمَ فَمَنْ رَدّهُ الْمَنْعُ إلَى الِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَالتّذَلّلِ لَهُ وَتَمَلّقِهِ انْقَلَبَ الْمَنْعُ فِي حَقّهِ عَطَاءً وَمَنْ شَغَلَهُ عَطَاؤُهُ وَقَطَعَهُ عَنْهُ انْقَلَبَ الْعَطَاءُ فِي حَقّهِ مَنْعًا، فَكُلّ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ عَنْ اللّهِ فَهُوَ مَشْئُومٌ عَلَيْهِ وَكُلّ مَا رَدّهُ إلَيْهِ فَهُوَ رَحْمَةٌ بِهِ وَالرّبّ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَقَعُ الْفِعْلُ حَتّى يُرِيدَ سُبْحَانَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنّا الِاسْتِقَامَةَ دَائِمًا، وَاِتّخَاذَ السّبِيلِ إلَيْهِ وَأَخْبَرَنَا أَنّ هَذَا الْمُرَادَ لَا يَقَع حَتّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ إعَانَتَنَا عَلَيْهَا وَمُشِيئَتَهُ لَنَا، فَهُمَا إرَادَتَانِ إرَادَةٌ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَإِرَادَةٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْفِعْلِ إلّا بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ وَلَا يَمْلِكُ مِنْهَا شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ} [التّكْوِيرُ 29] فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ رُوحٌ أُخْرَى، نِسْبَتُهَا إلَى رُوحِهِ كَنِسْبَةِ رُوحِهِ إلَى بَدَنِهِ يَسْتَدْعِي بِهَا إرَادَةَ اللّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ فَاعِلًا، وَإِلّا فَمَحَلّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَطَاءِ وَلَيْسَ مَعَهُ إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْعَطَاءُ فَمَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إنَاءٍ رَجَعَ بِالْحِرْمَانِ وَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعَاذَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ وَهُمَا قَرِينَانِ وَمِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَهُمَا قَرِينَانِ فَإِنْ تَخَلّفَ كَمَالُ الْعَبْدِ وَصَلَاحُهُ عَنْهُ إمّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ عَجْزٌ أَوْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَا يُرِيدُ فَهُوَ كَسَلٌ وَيَنْشَأُ عَنْ هَاتَيْنِ الصّفّتَيْنِ فَوَاتُ كُلّ خَيْرٍ وَحُصُولُ كُلّ شَرّ وَمِنْ ذَلِكَ الشّرّ تَعْطِيلُهُ عَنْ النّفْعِ بِبَدَنِهِ وَهُوَ الْجُبْنُ وَعَنْ النّفْعِ بِمَالِهِ وَهُوَ الْبُخْلُ ثُمّ يَنْشَأُ لَهُ بِذَلِكَ غَلَبَتَانِ. غَلَبَةٌ بِحَقّ وَهِيَ غَلَبَةُ الدّيْنِ وَغَلَبَةٌ بِبَاطِلٍ وَهِيَ غَلَبَةُ الرّجَالِ وَكُلّ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ثَمَرَةُ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ لِلرّجُلِ الّذِي قَضَى عَلَيْهِ فَقَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَقَال: إنّ اللّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَهَذَا قَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْكَيْسِ الّذِي لَوْ قَامَ بِهِ لَقُضِيَ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ فَلَوْ فَعَلَ الْأَسْبَابَ الّتِي يَكُونُ بِهَا كَيّسًا، ثُمّ غُلِبَ فَقَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ لَكَانَتْ الْكَلِمَةُ قَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، لَمّا فَعَلَ الْأَسْبَابَ الْمَأْمُورَ بِهَا، وَلَمْ يَعْجِزْ بِتَرْكِهَا، وَلَا بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا، ثُمّ غَلَبَهُ عَدُوّهُ وَأَلْقَوْهُ فِي النّارِ قَالَ فِي تِلْكَ الْحَالِ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَوَقَعَتْ الْكَلِمَةُ مَوْقِعَهَا، وَاسْتَقَرّتْ فِي مَظَانّهَا، فَأَثّرَتْ أَثَرَهَا، وَتَرَتّبَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا.