فصل: الأركان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الفصل الثاني: في الضمان:

ويد المستأجر يد أمانة على المعروف من المذهب. وحكي في التضمين قول بعيد.
أما يد الأجير على السلعة التي أسلمت إليه ليؤثر فيها بصناعة، كالثوب يسلم للخياط أو الصباغ أو القصار وشبه ذلك، فيد كل واحد منهم يد ضمان إذا انتصب للصنعة، سواء عمل في حانوته أو بيته، عمل ذلك بأجر أو بغير أجر، تلف بصنعه أو بغير صنعة.
فإن لم ينتصب فيده يد أمانة. وكذلك لو دعي إلى بيت رب السلعة يعمل له فيه، وكذلك لو لازمه صاحبه. وعلى هذا يختلف حاله بالإضافة إلى أرباب السلع، فيضمن لبعض ولا يضمن لبعض.
والتضمين حيث قلنا به منقول عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم.
ثم الواجب بالضمان القيمة يوم دفع الثوب إلى الصانع وإن كان قد عمله ثم ادعى ضياعه إلا أن تقوم له بينة. فإن قامت بينة بهلاكه من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه، وإن ثبت بالبينة هلاكه بعد عمله فلا شيء عليه من الضمان.
قال ابن القاسم: ولا شيء له من الأجرة، إذ لم يسلم الصنعة إلى رب المتاع.
وقال ابن المواز: تكون له الأجرة. فرأى وضع الصنعة في سلعة المالك كوضعها في يده.
وقال أشهب: لا يسقط الضمان بقيام البينة: لأن أصل القبض على الضمان.
ولو شرط نفي الضمان لن ينفعه الشرط في قول ابن القاسم وروايته.وروى أشهب: أنه ينفعه ويسقط الضمان عنه.
فرع:
لو كان للأجير المشترك أجراء أو صناع تحت يده، فتلف أو ضاع في أيديهم شيء من الأمتعة من غير تعد ولا تفريط لم يضمنوا، لأن كلا منهم أجبر خاص للأجير المشترك، لكن يضمنه الأجير المشترك لربه.
ولا ضمان على الأجير على الحمل إن عثر، أو سقط ما حمله، أو انقطعت أحبله، وهو مصدق فيما يدعيه من ذلك، ما لم يغر من عثار أو ضعف أحبل أو شبهه؛ أو يكون منه تعد أو تفريط إلا في الطام والإدام فإنه ضامن على كل حال،وإن لم يكن منه غرور ولا تفريط إذا لم تقم له بينة على تلفه. وإنما اختص الطعام بذلك لمسيس حاجة الناس إليه وضرورتهم، ولو لم يضمنوا لتسرعوا إلى أخذه إذ لا بدل عليهم فيه، فيؤدي ذلك إلى امتناع الناس من الحمل معهم، وتدخل المرة على الفريقين، فضمنوا دفعًا لها. وبتضمينهم قال ربيعة والفقهاء السبعة.
فروع أربعة:
الفرع الأول: في ضمان الصانع ما لا صنعة له فيه، إذا كان مما لا يستغني عن حضوره عند الصانع، مثل الكتاب المنتسخ منه، والمثال الذي يعمل عليه،وجفن السيف الذي يصاغ على نصله إذا كان بحيث لو سلم للصانع بغير جفن فسد، ومثل ظرف القمح والعجين. فقال محمد: يضمنه الصانع.
وقال سحنون: لا ضمان عليه.
إذا غسل ثوب غيره، أو حلق رأسه، أو دلكه من غير استدعاء.
وبالجملة فكل من عمل لغيره عملاً أو أوصل إليه نفعًا، من مال أو غيره، بأمره أو بغير أمره، فعليه رد مثل ذلك المال، وأجرة المثل في ذلك العمل، إن كان من الأعمال التي لابد له من الاستئجار عليها، أو من المال الذي لابد من إنفاقه. فأما إن كان ذلك من الأعمال التي كان يليها بيده أو يليها عبده، أو كان المال من المال الذي يسقط مثله عنه، فلا شيء عليه منه. والقول قول العامل والمنفق: إنه لم يتبرع.
وكذلك من دخل الحمام لزمته الأجرة، بل هو ألوى. ولا ضمان على صاحب الحمام إذا ضاعت الثياب بغير تقصير.
الفرع الثالث:
إذا استأجر دابة ليحمل عليها عشرة أصوع فحمل أكثر من ذلك، فعطبت الدابة، فإن كان زاد ما تعطب في مثله، خير ربها بين أخذه بقيمة كراء ما زاد على الدابة ما بلغ مع الكراء الأول أو قيمة الدابة يوم التعدي ولا كراء له.
قال الشيخ أبو محمد: هذا إن زاد في أول حمله. وإن كانت الزيادة مما لا تعطب في مثله، فله كراء الزيادة مع الكراء الأول، ولا خيار له في غير ذلك.
الفرع الرابع:
في اختلاف الصانع والمصنوع له، وفيه مسائل:
الأولى: أن يقول رب المتاع للصانع: لم أسلمه لك بل سرق مني، ويقول الصانع: بلى استصنعتني فيه، فقال ابن القاسم: يتحالفان، ثم يقال لربه: ادفع له قيمة عمله وخذه؛ فإن أبي، قيل للعامل: ادفع إليه قيمة متاعه بغير عمل، فإن أبيا كانا شريكين، هذا بقيمة متاعه، وهذا بقيمة عمله.
وقال غيره: العامل مدع، ولا يكونان شريكين.
الثانية: إذا قال رب المتاع فيما عمل الصانع فيه صنعة: إنه أودعه إياه، وقال الصانع: بل استعملتني فيه، فقال ابن القاسم: الصانع مصدق، لا،هم لا يشهدون في هذا، ولو جاز هذا لذهبت أعمالهم.
وقال غيره: بل الصانع مدع.
الثالثة: إذا ادعى أنه عمله باطلاً، وقال الصانع: بأجر’ كذا، فقال ابن القاسم: يصدق الصانع، فيما يشبه من الأجر،وإلا رد إلى أجرة مثله.
وقال غيره: يحلف ويأخذ الأقل مما ادعاه أو من أجر مثله.
الرابعة: إذا صاغ الصائغ سوارين، فقال ربهما: أمرتك بخلخالين، فالصانع مصدق. قال سحنون: لأن أرباب المتاع يدعون تضمينهم. فالقول قول الصناع مع أيمانهم، ولهم أجر عملهم، إلا أن يزيد على ما سموا فلا يزاد.
الخامسة: إذا قال الصانع: عملت هذا الخلخال بخمسة، وقال ربه: بثلاثة. أو قال الخياط: خطت لك القميص بأربعة،وقال ربه: بدرهمين، فالقول قول الصانع ها هنا. بخلاف البناء يقول: بنيت هذا البناء بدينار، ويقول ربه: بنصف دينار، فالقول قول ربه مع يمينه، لأنه حائز لذلك، إلا أن يدعي ما لا يشبه.وكل من الصائغ والخياط ومن أشبهنهما حائز لعمله.
السادسة: إذا ادعى على صانع أنه دفع له متاعًا للعمل فأنكره، أحلفه أو أقام البينة عليه، فإن أقر الصانع بقبضه،وقال: عملته ورددته إليك، كلف البينة،وإلا ضمنه.
وعلى جميع الصناع البينة أنهم ردوا المتاع، عملوه بأجر أو بغير أجر، أخذوه ببينة أو بغير بينة، إذا أقروا به.
وقال ابن الماجشون: القول قول الصناع في رد المتاع، إلا أن يدفع إليهم ببينة فلا يبرأ إلا ببينة.

.الباب الثالث: في الطوارئ الموجبة للفسخ:

وهي ثلاثة أقسام:
الأول: ما ينقص المنفعة نقصًا يتضرر المكتري بالمقام معه، ويأبى الآجر إصلاحه، أو يكون على المستأجر، في الصبر للإصلاح، ضرر لطول مدة، أو ما لا يمكن البقاء معه من الضرر، فهو سبب للخيار في فسخ العقد قبل القبض وبعده.
أما لو ظهر للعاقد عذر، بأن تخلف عن السفر بعد استئجار الدابة، أو تغيرت حرفته بعد استئجار الحانوت، أو مرض، لكان العقد لازمًا له، إذ لا خلل في المعقود عليه.
وكذلك لو استأجر أرضًا للزراعة فزرعها، ففسد زرعها بجائحة أصابته في نفس الزرع، كالطير والجراد والجليد والبرد، وغيره مما عد في جوائح الثمار فلا يحط لشيء من ذلك شيء من الأجرة.
وأما إن فسد الزرع من جهة فساد الأرض، قال أبو الحسن اللخمي: فإن كانت كثيرة الدود والفأر فكان ذلك سبب فساده، فإن الكراء يسقط عنه، كان هلاكه في الإبان أو بعده. وكذلك إن كان سبب هلاكه العطش. وأما إن كان من الغرق فتختلف الحال فيه، فإن كان في الإبان بحيث لو انحسر الماء عن الأرض لأمكن زرعها سقط الكراء عنه، وإن كان الغرق بعد الإبان فلا يسقط عنه شيء من الكراء.
القسم الثاني: فوات المنفعة بالكلية، كموت الدابة والأجير المعينين، وانهدام الدار، وهو مقتض للفسخ، وكذلك انقطاع شرب الأرض.
فأما موت أحد المتعاقدين أو كليهما فلا فسخ العقد، بل يقوم وارث كل عاقد مقامه. وأما الصبي المرتضع أو المتعلم فتفسخ الإجارة بموته.
ولو هلك الثوب المستأجر على خياطته كان له أن يبدله بغيره، على الظاهر من المذهب.
قال القاضي أبو محمد؛ الظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وأنه إن عين فذلك كالوصف لا ينفسخ العقد بتلفه، بخلاف العين المستأجر.
وإذا غصبت الدار المستأجرة حتى انقضت المدة انفسخ الكراء، وسواء في ذلك غصب الرقبة أو المنفعة خاصة. وكذلك أمر السلطان بغلق الحوانيت.
ولو أقر المكتري للغاصب بالرقبة قبل إقراره في الرقبة. ولا يفوت حق المنفعة تبعاً على المستأجر، بل له مخاصمة الغاصب لأجل حقه في المنفعة. ومهما حبس المكتري الدابة حتى مضت المدة المعينة استقرت الأجرة.
ول لم تكن مدة الكراء معينة فحبسها ولم يستعملها، فعليه كراء المثل لمدة حبسها، والكراء الأول قائم بينهما، ولو استعملها في غير ما استأجرها له، فعليه كراء ما استعملها فيه، والكراء الأول باق بحاله.
وإذا أخلفه الكري حتى فاته تلقي رجل أو غيره فلا يفسخ الكراء بذلك، إلا في الحج فقط، لأن أيام الحج معينة، فإذا فاتت يفسخ. وكذلك مكري أيامًا بأعيانها،ولا يتمادى إن رضيا.
القسم الثالث: ما يمنع من استيفاء المنفعة شرعاً، وهو يوجب الفسخ أيضًا، كما لو سكن ألم السن المستأجر على قلعه، أو عفي عن القصاص المستأجر على استيفائه.
فروع:
أحدها: إذا مات البطن الأول من أرباب الوقف بعد الإجارة وقبل تقضي مدتها انفسخت الإجارة في باقي المدة، لأنه تناول بالإجارة ما لا حق له فيه. وقيل: إذا أكرى مدة يجوز الكراء إليها لزم باقيها.
الثاني: إذا أجر الولي الصبي مدة، فبلغ ورشد قبل انقضائها، انفسخت الإجارة عنه، ولم تلزمه باقي المدة، إلا أن يكون أجرة مدة لا يظن به البلوغ فيها فبلغ على خلاف الظن ويكون الباقي من المدة كالشهر ويسير الأيام فيلزمه ذلك. وأما أن أكرى ربعه أو دابته أو رقيقه سنين، فاحتلم بعد مضي سنة، فإن كان يظن بمثله إلا يحتلم في تلك المدة، فعجل عليه الاحتلام وأنس منه الرشد، فلا فسخ له، ويلزمه باقيها. وقيل: لا يلزمه إلا فيما قل.
وأما إن عقد عليه أمدًا يعلم أنه يبلغ قبله فلا يلزمه في نفسه، ولا فيما يملك من ربع وغيره.
وأما السفيه البالغ يؤاجر عليه وليه أو السلطان ربعه أو رقيقه سنتين أو ثلاثًا، ثم تنتقل حاله قبل انقضاء مدة الإجارة إلى الرشد فتلزمه الإجارة. وقيل: إنما يجوز أن يكري على هذا مثل السنة ونحوها لأنه جل كراء الناس، ويرجى تغير حاله كل يوم. وأما ما كثر فله فسخه.
الثالث: لا تنفسخ إجارة العبد بعتقه، بل الإجارة أملك به، وهو حر بتمامها، ولا يلحقه دين، وأحكامه أحكام العبد. قال ابن حبيب: فإن اختلفا في إجارته، لمن هي؟، فقال يسأل سيده، فإن قال: أردت أن يكون حرًا بعد تمام مدة الإجارة صدق وكانت الإجارة له قبضها أو لم يقبضها.
الرابع: لو ظهر من مستأجر الدار فسوق أو دعارة أو شرب خمر، أو تبين أنه سارق ويخشى على أبوابها أو غير ذلك منه، لم تنفسخ الإجارة بذلك، ولكن السلطان يكف أذاه عن رب الدار وعن الجيران، وإن رأى أن يخرجه يؤاجرها عليه فعل. ثم لا يقف إخراجه على حضور من يكتريها، بل يخرج ويؤدي الأجرة وينتظر حضور الراغب.
قال في كتاب ابن حبيب في الفاسق يكون بين أظهر القوم في دار نفسه: إن السلطان يعاقبه ويمنعه، فإن لم ينته، وكان يتردد لأذى الجيران ويقول: إنما آتي لداري، وما أشبه ذلك، فإنها تباع عليه.
الخامس: من آجر أمته فله أن يطأها، فإن حملت وجبت المحاسبة، ولا يمنع الوطء، كما لا يمنعه من استؤجر مع زوجته، إلا في الظئر على ما تقدم.
السادس: إذا بيعت الدار المستأجرة من المستأجر صح البيع ولم تنفسخ الإجارة، واستوفى المبتاع المنفعة بحكم الإجارة. ولو باعها من غيره لصح أيضًا واستمرت الإجارة إلى آخر المدة.
وروي تخصيص الصحة في ذلك بالمدة السيرة كالسنتين والثلاث، وما قارب ذلك،والكراهية في المدة الطويلة.
وكذلك يصح بيع الرقبة واستثناء المنفعة مدة لا يتغير المبيع فيها، وتصح من المستأجر إجارة الدار للمالك، كما تصح للأجنبي.

.خاتمة الكتاب: بذكر فرعين في أحكام السفر:

.الفرع الأول:

اختلف أصحابنا في كراء ما تحمله السفن إذا عطبت في البحر قبل وصولها أو عرض لها عارض منعها من البلوغ فذهب ابن القاسم إلى أن كراء السفن إنما هو على البلاغ ولا شيء لربها إلا أن تبلغ الموضع، ولو غرقت بالساحل لم يكن له من الأجرة شيء.
وذهب ابن نافع إلى حكمها حكم البر، ما سارت ولربها بحساب ذلك. وفرق أصبغ، فقال: إن لم يزل ملتجًّا حتى عطبت لم يدرك مكانًا يمكنه النزول فيه عامرًا لا يخاف على نفسه ولا على إحماله شيئا، ويمكنه منه التقدم إلى الموضع الذي أكري إليه آمناً ولم يحاذه، فلا شيء له من الكراء، وإن أدركه أو حاذاه فله من الأجرة بحسابه.

.الفرع الثاني:

في ما يطرح من السفن:
وإذا خيف على السفينة الغرق جاز طرح بعض ما فيها من المتاع إذا رجي بذلك نجاتها، ولكون المطروح بينهم على قدر أموالهم، أذن أرباب الأموال في طرحه أو لم يأذنوا.
ويتصدى النظر في صفته ما يطرح، وفي حين تقويمه وفي محل توزيع القيمة، أما ما يطرح فهو جنس الأموال سوى الآدمي، ويبدأ منها بما ثقل جسمه أو عظ جرمه دون ما خف وزنه وكثر ثمنه.
وأما حين اعتبار تقويمه، فقيل: حين التلف في موضعه كسائر المتلفات، وقيل: بل في أقرب المواضع التي تتقوم فيه، إذ لا قيمة له حين التلف بموضعه. وقيل: قيمته في المكان الذي يحمل إليه، وقيل: المعتبر الثمن الذي اشترى به.
وأما محل التوزيع فهو مال التجارة، أعني كل ما حمل في السفينة للتجارة كان مما يطرح أو مما لا يطرح.

.كتاب الجعالة:

والنظر في أركانها وأحكامها.
أما:

.الأركان:

فأربعة:

.الركن الأول والثاني: المتعاقدان.

ولا يشترط فيهما إلا أهلية الاستئجار والعمل. ولا يشترط في المجعول له التعيين لمصلحة العقد. بل لو قال الجاعل: من رد عبدي الآبق، أو جملي الشارد، فله كذا. فمن أحضر ذلك، بعد أن جعل ربه فيه ما جعل، فله الجعل، علم بما جعل فيه أو لم يعلم، تكلف طلب هذه الأشياء أو لم يتكلفها.
وأما إن أحضره قبل أن يجعل ربه فيه شيئا، فإن كان ممن شأنه وعادته طلب الآبق، ويعلم أنهم ممن يتكسب به، فله أجر مثله في قدر تعبه وسفره وتكلف طلبه. وإن لم يكن ممن نصب لذلك نفسه، فليس له إلا نفقته. وكذلك قال ابن الماجشون وأصبغ.
وقال ابن الماجشون أيضًا في كتابه: إن كان ليس من شأنه طلب الآبق، فلا جعل له، ولا نفقة، قولاً مجملاً.
وفي العتبية، فيمن جعل جعلاً في آبق، فأتى به، وقد أنفق عليه، فالنفقة من الذي جاء به، وله جعله فقط. ومن أخذ آبقاً ثم أرسله بعدما أخذه تعمدًا، ضمن قيمته.
قال عيسى: قال ابن القاسم: ومن جعل في آبق خمسة دنانير، فذهب رجل، فأتى به من إفريقية، فلما صار في بعض الطريق أفلت منه، فأخذه آخر، فجاء به، قال مالك: إذا أفلت قريبًا فالجعل بينهما بقدر شخوص كل واحد. قال عبد الله بن عبد الحكم: وإن جاء به من يطلق الإباق، فقطع في سرعة، فإن كان ربه جعل فيه جعلاً، فهو لازم، وإن لم يجعل فيه جعلاً، وكان لهب العبد حاجة أخذه وأدى الجعل، وإن شاء تركه ولا شيء عليه.
وفي كتاب محمد: إذا استحق بعد أن وجده وقبل وصوله إلى ربه، فالجعل على الجاعل، ولا شيء على المستحق. قال ابن القاسم في العتبية: وكذلك إن استحق بحرية.
وقال أصبغ: إن استحق بحرية من الأصل، فلا جعل له على أحد.

.الركن الثالث: العمل.

وهو كل عمر يجوز الاستئجار عليه، ولكن لا يشترط كونه معلومًا، فإن مسافة رد العبد لا تعرف. واحترزنا بالعمل الذي يجوز الاستئجار عليه عمن وجد آبقًا أو ضالاً من غير عمل، فليس له أخذ الجعل على رده، ولا على أن يدل ربه على مكانه، بل ذلك واجب عليه، ويشترط فيه أن لا تحصل للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه.
قال القاضي أبو محمد: ولا يجوز في الشيء الكثير، لما فيه من الغرر بذهاب العمل الكثير باطلاً.
وقال أبو الوليد بن رشد: ولا يشترط ذلك ولا يجوز إلا في غير المقدر من الأعمال بزمن، فمتى قدر لم يكن جعلاً، وصار إجارة.

.الركن الرابع: الجعل.

وشرطه أن يكون معلومًا مقدرًا كالأجرة، فلو قال: من رد عبدي الآبق، فله نصفه لم يصح، وكذلك في الجمل الشارد ونحو ذلك. فإن أحضره، فله جعل مثله.
ولو قال: من رده فله دينار، فاشترك في رده اثنان، فهو لهما. وإن عين واحدًا، فعاونه غير لقصده معاونة العامل، فالكل للعامل. وإن قصد طلب الأجرة، فهي بينهما.
أما:

.أحكام الجعالة:

فخمسة:

.الأول: الجواز من الجانبين:

ما لم يشرع في العمل كالقراض، فإن شرع، لزم من جانب الجاعل خاصة. وحكى أبو الحسن اللخمي قولين آخرين:
أحدهما: أنها تلزم بالقول في حق الجاعل خاصة دون المجعول له.
والآخر: أنها كالإجارة، تنعقد لازمة بالقول لهما جميعًا.

.الثاني: جواز الزيادة والنقصان في الجعل قبل فراغ العمل.

.الثالث: وقوف استحقاق الأجرة على تمام العمل:

حتى لا يستحق بعضها ببعضه. بل لو مات العبد، أو هرب قبل التسليم لم يكن له شيء، إلا على ما فضل متقدمًا.

.الرابع: في النزاع بينهما:

وإذا أنكر المالك سعي العامل في الرد فالقول قول المالك.
وإن تنازعا في مقدار الجعل، تحالفا، ورجعا إلى جعل المثل.
الخامس: حكم فساد الجعالة وقد اختلف فيه:
فقيل: ترد إلى حكم الإجارة، فيكون له إجارة مثله أتم العمل أو لم يتمه.
وقيل: ترد إلى حكم نفسها في مسائل،وإلى حكم الإجارة في مسائل. قال أبو الوليد بن رشيد: وقيل غير هذا. ثم قال: وهذا هو الصحيح فيها.

.فروع مترددة بين الجعل والإجارة:

الفرع الأول:
مشارطة الطبيب على برء العليل.
الفرع الثاني:
مشارطة المعلم على تعليم القرآن.
الفرع الثالث:
المعاقدة على استخراج المياه من الآبار والعيون على صفة معلومة من شدة الأرض ولينها، وقرب الماء وبعده.
الفرع الرابع:
المغارسة، وهي أن يعطي الرجل أرضه لمن يغرس فيها عددًا من الأشجار، فإذا بلغت كذا وكذا سعفة كانت الأرض والشجر بينهما. وكل هذه الفروع مختلف فيها.
وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين المذكورين.
وقد ألحق بها، أيضًا، كراء السفينة، وعليه الخلاف المتقدم في سقوط أجرتها إذا غرقت، على قول مالك وابن القاسم، وهو إنزال له منزلة الجعل المحقق. وقول ابن نافع: له قدر ما بلغ من المسافة. تنزيل له منزلة الإجارة المحضة. وقول أصبغ في التفرقة راجع إلى افتراق الحالين عنده، فأعطى أحدهما حكم الإجارة، وأعطى الآخر حكم الجعل.

.كتاب إحياء الموات:

وفيه ثلاثة أبواب:

.الباب الأول: في ملك الأرض بالإحياء:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: فيما يملك من الأراضي بالإحياء.

وهي الموات، قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ والموات: هي الأرض المنفكة عن الاختصاص والاختصاص أنواع:
النوع الأول: العمارة.
فلا يمتلك بالإحياء معمور،وإن اندرست العمارة إلا أن تكون عمارة إحياء ثم اندرست، حتى عادت إلى ما كانت عليه قبل الإحياء، فإنها تملك بالإحياء ثانيًا.
وقال سحنون: لا تتملك بالإحياء، بل هي كغيرها من المعمور.
النوع الثاني: أن يكون حريم عمارة.
فيختص به صاحب العمارة، ولا يملك بالإحياء.
فإن قيل: وما حد الحريم؟، قلنا: أما البلدة، فكل ما كان قريبًا منها، تلحقه مواشيها بالرعي في غدوها ورواحها، وهو لهم مسرح ومحتطب، فهو حريمها، وليس لأحد إحياؤه.
وأما الدار، فحريمها إذا كانت محفوفة بالموات مرافقها الجاري بها العادة، كمطرح التراث ومصب الميزاب، وموضع الاستطراق منها وإليها..
وإن كانت محفوفة بالأملاك، فما بينها وبين سائر الأملاك لا يختص به واحد من الملاك، بل لكل واحد الانتفاع به على ما جرت به العادة، ولكل منهم أن ينتفع في ملكه بما شاء مما لا يتضرر به جاره.
وقال ابن القاسم: فأما ما يحدثه الرجل في عرصته مما يضر بجيرانه من بناء حمام، أو فرن للخبز، أو لتسييل الذهب والفضة، أو كير لعلم الحديد أو رحى تضر بالجدار، فلهم منعه. قاله مالك في غير شيء ممن ذلك، وفي الدخان، وأرى التنور خفيفًا.
وقال أشهب: ما احتفره الرجل في ملكه مما يضر بجاره، فليس له ذلك إن كان يجد من ذلك بداً ولم يضطر إليه، فأما إن كان به إلى ذلك ضرورة ولم يجد عنه مندوحة، فله أن يحفره في حقه وإن أضر بجاره، لأنه يضر به منعه، كما أضر بجاره حفره، فهو أولى أن يمنع جاره أن يضر به في منعه له من الحفر في حقه لأنه ماله، وكذلك قال لي فيه مالك.
وأما البئر فليس لها حريم محدود، لاختلاف الأرض بالرخاوة والصلابة، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها وهو مقدار ما لا يضر بمائها ولا يضيق مناخ إبلها ولا مرابض مواشيها عند الورد. ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر أن يبني بئرًا في ذلك الحريم.
النوع الثالث: التحجير وفيه خلاف:
قال ابن الماجشون ومطرف: إذا تحجر أرضًا، بحيث يجوز الإحياء من موات الأرض، فلا يحجر ما يضعف عنه، قالا: فإن رأى الإمام بمن حجر قوة على عمارة ما حجر إلى عامين أو ثلاثة خلاه، وإلا أقطعه بغيره.
وقال أشهب: قد روي عن عمر رضي الله عنه أن ينتظر به ثلاث سنين قال: وأنا أراه حسنًا.
وقال أيضًا: لا يكون أولى لأجل التحجير إلا أن يعلم أنه حجره ليعلمه إلى أيام يسيره، وليس يقطعه على الناس ويعمله يومًا ما، إلا أن يكون قصده العمارة بعد زوال مانع من يبس الأرض، أو غلاء الأجراء، أو غيره من الأعذار، وهو أحق به.
وإن حجر ما لا يقوى على عمله، كان له ما عمل، وشرع الناس فيما لم يعمل إذا لم يقو على الباقي.
قال ابن القاسم: ولا يعرف مالك التحجير إحياء، ولا ما قيل: من حجر أرضًا ترك ثلاث سنين، فإن أحياها، وإلا فهي لمن أحياها.
النوع الرابع: الإقطاع:
وإذا أقطع الإمام رجلاً أرضًا كانت ملكًا له، وإن لم يعمرها، ولا عمل فيها شيئا، يبيع ويهب ويتصرف، وتورث عنه، وليس هو من الإحياء بسبيل، وإنما هو تمليك مجرد.
قال الأستاذ أبو بكر: هكذا روي يحيي بن يحيي عن ابن القاسم، سواء كانت في المهامة والفيافي، أو قريبة من العمران، ولا يطالبه الإمام بعمارتها، بخلاف الإحياء.
النوع الخامس: الحمى:
وقد روى ابن وهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المهاجرين، وهو قدر ميل في ثمانية أميال، ثم زاد الولاة فيه بعد ذلك. وحمى أبو بكر رضي الله عنه الربذة لما يحمل عليه في سبيل الله، وهي خمسة أميال في مثلها، وحمى ذلك عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة، يحمل عليها في سبيل الله. وحمى أيضًا الشرف وهو نحو حمى الربذة.
وللإمام أن يحمي إذا احتاج إلى الحمى. قال سحنون: والأحمية أيضًا إنما تكون في بلاد الأعراب العفاء التي لا عمارة فيها بغرس ولا بناء، وإنما تكون الأحمية منها في الأطراف، حيث لا يضيق على ساكن، وكذلك الأودية العفاء التي لا ساكن بها إلا ما فضل عن منافع أهلها من المسارح والمراعي. وفي ذلك تكون القطائع أيضًا لمن رأى الإمام أن يقطعه. وكذلك ما كان من الموات في أرض الصلح، أو أرض العنوة لم يعتمل ولا حيز بعمارة، ولا جرى فيه ملك لأحد ولا ميراث.
ثم الموات قسمان: قريب،وبعيد.
فأما القريب: فيفتقر في إحيائه إلى إذن الإمام لوقوع التشاح فيه ولخشية الخصومة.
وقال أصبغ وسحنون: لا يفتقر إلى إذن الإمام في إحياء ما قرب ولا ما وبعد، ورواه ابن عبدوس عن أشهب.
وإذا فرعنا على المشهور، فإن أحيي بغير إذن الإمام نظر فيه، فإن رأى إبقاءه على من أحياه، وإلا أزاله أو جعله للمسلمين، أو أقطعه غيره. ويكون للأول إذا نزع من يده قيمة بنيانه مقلوعًا.
وقال أشهب: من أحيى مواتًا فهو له على ما جاء في الحديث، قرب من العمران أو بعد، واستحب له فيما قرب أن يستأذنه، فيأذن له ما لم يكن فيه على أحد ضرر.
وقال أصبغ إن أحيى بغير إذن الإمام أمضيته ولم أتعقبه.
وأما البعيد: فلا يفتقر إلى إذن الإمام فيه، وهو ما كان خارجًا عما يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، مما العادة أن الرعاء يصلون إليه، ثم يعودون إلى منزلهم يبيتون بها،ويحتطب المحتطب، ثم يعود إلى منزله.
وقال ابن نافع: يفتقر إلى الإذن فيه كالقريب.
وقال سحنون في كتاب ابنه: ما كان من العمارة على يوم، وما لا تدركه المواشي في غدوها ورواحها، فأراه من البعيد. وأما ما تدركه في غدوها ورواحها، أو أبعد من ذلك قليلاً، مما فيه المرفق لأهل العمارة فهو القريب، يدخله نظر السلطان، فلا يحيي إلا بإذنه.

.الفصل الثاني: في كيفية الإحياء:

والمرجوع في حده إلى العرف بأن يفعل في الأرض ما تقضي العادة بكونه إحياء لمثلها. قال مالك في المجموعة وكتاب ابن سحنون: إحياء الأرض أن يحفر فيها بئرًا، أو يجري فيها عينًا،ومن الإحياء غرس الشجر والبنيان والحرث.
وقاله ابن القاسم وأشهب.
وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إن إحياء حفر الآبار،وشق العيون وغرس الشجر، وبناء البنيان، وتسييل ماء الزراعة من الأرض، وقطع الغياض والفحص على الأرض بما تعظم مؤونته، وتبقى منفعته حتى يصير ما لا يعتد به.
ولا شك في مسلك المسلم لما أحيى على الشرائط المتقدمة. فإن أحيى الذمي فقال ابن القاسم: يملك كالمسلم لعموم الخبر. إلا أن يحيي في جزيرة العرب، فإنه يعطي قيمة ما عمر ويخرج عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب».
وقال القاضي أبو الحسن: ليس للذمي إحياء الموات في دار المسلمين.
وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إن عمر فيما بعد من العمران فذلك له، وأما ما قرب من العمران، ولو أنه بإذن الإمام، فإنه يعطي قيمة ما عمر وينزع منه، لأن ما قرب من العمران بمنزلة الفيئ،ولا حق للذمي فيه.

.الباب الثاني: في المنافع المشتركة في البقاع، كالشوارع والمساجد:

فأما الشوارع فللاستطراق وهو مستحق لكافة الخلق،وينتفع بها أيضًا للمجلس والمرابض والمصاطب، وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة في الأفنية. وليس بأن تحاز بالبنيان والتحظير.
قال ابن حبيب: وقد مر عمر رضي الله عنه بكير حداد في السوق، فأمر به فهدم، وقال: تضيقون على الناس، ثم حيث قلنا بجواز الانتفاع بالجلوس في الطرق، فمن سبق إلى مكان مباح له الجلوس فيه، فهو أحق به، ولا يزعج منه لغيره.
وأما المساجد فينتفع بها للصلاة والجلوس بها، لها ومن سبق إلى مكان منها لم يزعج منه، بل هو أحق به من غيره، ويجلس فيها للذكر وقراءة القرآن والاشتغال بالعلوم الشرعية والاعتكاف وما أشبه ذلك من الطاعات المشروعة فيها. وخفف في القايلة والنوم فيها نهارًا للمقيم والمسافر، وفي المبيت فيها للمار والمنتاب إلى أن يرتاد.
ولا ينبغي أن يتخذ المسجد مسكنًا، إلا رجل قد تجرد للعبادة فيه لقيام الليل وإحيائه، فلا بأس أن يكون ذلك منه فيه دائمًا دهره إن قوي على ذلك.
قال ابن حبيب: وأرخص مالك أن يطعم الضيق في مساجد البادية، وقال: ذلك شأن تلك المساجد. وكره أن يقوده فيها ناراً.
وأجاز للرجل يكون له سفل وعلو، أن يجعل العلو مسجداً، ويسكن السفل.ولم يجز له أن يجعل السفل مسجدًا ويسكن العلوم، قال: لأنه إذا جعل السفل مسجدًا، قد صار لما فوقه حرمة المسجد.
وروى مالك أنعمر بن عبد العزيز، كان إذ كان بالمدنية أميرًا، ربما بات على ظهر المسجد، فلا تقربه فيه امرأة.
وكان أبو هريرة وغيره من الصحابة والتابعين يصلون على ظهر المسجد بصلاة الإمام في سفله. قال ابن حبيب: وإنما أرخص في مرور الرجل بالمسجد مجتازًا للمرة بعد المرة وما أشبه ذلك،وفي الخاص من الأمر ينوب،وليس على أن يتخذ طريقًا. وكره مالك أن يدخل المسجد بالخيل والبغال والحمير لما ينقل عليها إليه.وكان لا يرى بأساً بالإبل لكون أبوالها طاهرة. قال: وكره أن يبصق في المسجد على الحصر، أو على التراب، ثم يحكه. وكره أن يتخذ الرجل فراشًا في المسجد يجلس عليه،أو وساداً يتكئ عليه، قال: ليس ذلك من متاع المسجد.
وكان يرخص في الخمر والنخاخ والمصليات. قال: ولا يعلم فيه الصبيان، ولا يمكنون من دخوله، إلا أن يدخل صبي للصلاة، ثم يخرج. قال: ويكره البيع فيه والشراء، وسل السيف،ورفع الصوت، وإنشاد الضالة، والهتف بالجنائز،وكل ما يرفع فيه الصوت حتى بالعمل. فقد كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه، إذا استعلى كلامه وكلام أهل المسجد في العلم، فيقول: يا أبا مروان، اخفض من صوتك، وأمر جلساءك يخفضون أصواتهم.
قال ابن حبيب: وحدثني الخزامي عن يحي بن سليم عن مكحول عن وائلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم، وبيعكم وشراءكم، وسل سيوفكم، ورفع أصواتكم وإقامة حقوقكم، وجمروها أيام جمعتكم، واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم».
قال: وحدثني معاذ بن الحكم عن مقاتل عن نافع بن جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المساجد: «لا يمر فيها بلحم، ولا ينقر فيها النبل، ولا تتخذ طريقًا ولا تمنع فيها القائلة، ولا تبني بالتصاوير، ولا تزين بالقوارير». قال ابن حبب: يعني بتنقير النبل إدارتها على الظفر ليعلم مستقيمها من معوجها ويعني بالقوارير الزجاج.
قال ابن حبيب: إنا لنكره الفوارة التي اتخذت في مسجدنا بقرطبة كراهية شديدة، وإنما كان الصواب فيها أن تتخذ خارجًا في رحاب المسجد وعلى أبوابه.
قال: وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم».
قال: وأقبح من ذلك ما فعله الناس عندنا بقرطبة من فتح أبواب المياضي في المساجد، قال: وإنما الصواب أن تفتح أبوابها خارجًا على حدة.

.الباب الثالث: في الأعيان المستفادة من الأرض كالمعادن والمياه:

أما المعادن فقسمان:
القسم الأول: ما فيه الزكاة، كمعادن الذهب والفضة. فما ظهر منها في ملك إنسان معين، فقال مالك: هو له.
وقال ابن القاسم: الأمر فيه إلى الإمام، يقطعه لمن يراه. وما ظهر فيما هو لجماعة المسلمين، كالبراري والموات والفيافي من أرض العرب وأرض العنوة، فالإمام يقطعه لمن يشاء. ومعنى إقطاعه إياها أن يجعل لمن يقطعه إياها الانتفاع بها مدة محدودة أو غير محدودة لا يملكه رقبتها، كما لا يقطع أرض العنوة تمليكًا، لكن قطيعة إمتاع، والأصل للمسلمين. وأما ما ظهر منها في أرض الصلح فقال ابن حبيب: يقطعها الإمام لمن يرى،وذكر ذلك عمن لقي من أصحاب مالك.
وقال ابن القاسم وابن نافع: لا حق للغمام فيها، وهي لأهل الصلح.
القسم الثاني: ما لا زكاة فيه، كمعادن النحاس والرصاص والقصدير والكحل والزرنيخ والجوهر، ونحو ذلك، فقال ابن القاسم: هي مثل معادن الذهب والفضة، والسلطان يقطعها لمن يعمل فيها.
وقال سحنون وابن نافع: إنما كان السلطان يلي معادن الذهب والفضة لينظر في زكاتها ويحوطها، فأما هذه فليس فيها زكاة، ولو كان يلي هذه لكان له أن ينظر فيما يخرج من البحر من العنبر واللؤلؤ.
وأما المياه فثلاثة أقسام:
القسم الأول: خاص، وهو ما كان محرزًا في الأواني، أو في بئره التي احتفرها في ملكه، فهو كسائر الأملاك، يصح بيعه ومنعه.
والقسم الثاني: عام منفك عن الاختصاص، لا يملك أصله، وهو ضربان:
الأول: أن يكون طريقه في أرض مباحة، مثل ما يسيل من شعاب الجبال وبطون الأودية ونحوهما، فهذا حكمه أن يسقي به الأعلى فالأعلى.
واختلف في كيفية ذلك، فروى ابن حبيب عن ابن وهب ومطرف وابن الماجشون: أن صاحب الحائط الأعلى يرسل جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء في الحائط إلى كعب من يقوم فيه أغلق مدخل الماء.
وقال ابن كنانة: بلغنا أنه إذا أسقى بالسيل الزرع أمسك حتى يبلغ النعل، وإذا سقي النخل والشجر وما له أصل أمسك حتى يبلغ الكعبين، وأحب إلينا أن يمسك في الزرع والنخل وما له أصل حتى يبلغ الكعبين لأنه أبلغ في الري.
وفي المدينة من رواية عيسى عن ابن وهب: أن الأول يسقي حتى يروي حائطه ثم يمسك بعد ري حائطه ما كان من الكعبين إلى أسفل، ثم يرسل.
وروى زياد بن عبد الرحمن عن مالك: يجري الأول الماء في ساقيته إلى حائطه قدر ما يكون الماء في الساقية إلى الكعبين حتى يروي حائطه أو بفني الماء، فإذا روي حائطه أرسله كله.
قال سحنون: فإن كان الحائط مختلفًا بالارتفاع والانخفاض أمر صاحبه بتسويته، فإن تعذرت عليه التسوية سقى كل مكان مستو على حدة.
فرعان:
الفرع الأول: أن هذا هو الحكم إذا لم يكن إحياء الأسفل قبل الأعلى، فلو أحيى الأسفل ثم أراد غيره إحياء ما فوقه، وأن ينفرد بالماء ويسقي به قبل الأسفل السابق بالإحياء، وذلك يبطل عمله ويتلف غرسه، لمنع.
قال سحنون: إذا كان بعض الأجنة أقدم من بعض، فالقديم أحق بالماء، وهذا لأن فعل المتأخر يمنع المتقدم مما سبق إلى استحقاقه قبله، وليس له ذلك.
الفرع الثاني:
إذا كان الحائطان متقابلين فقال سحنون في كتاب ابنه: يقسم الماء بينهما، وذلك لتساويهما في الاستحقاق. فإن كان الأسفل مقابلاً لبعض الأعلى، حكم لما كان أعلى بحكم الأعلى، ولما كان مقابلاً بحكم المقابل.
الضرب الثاني: أن يكون جري الماء في أرض مملوكة، فهذا لمن صار في أرضه أن يمنعه ويحبسه في أرضه قل أو كثر، ولا يرسل منه شيئا إلى من تحته إلا أن يشاء، وهذا لأنه بدخوله في أره صار به أحق من غيره.
فإن كان المالكون جماعة مثل النهر يجتمع القوم على إخراج ماء منه، فيحملونه في أرضهم أو في أرض بور ملكوها بشق ساقيتهم فيها إذ ذلك نوع من الإحياء، فهم فيه سواء لا يقوم الأعلى على الأسفل، بل هو بينهم، كالماء الذي يملك أصله يقتسمون على قدر أملاكهم بالقلد، ولا يقدم أحد على أحد، بل يأخذ كل واحد ماءه يصنع به ما شاء.
فإن قيل: وما صفة القلد الذي يقسم به قلنا: من صفته أن تؤخذ قدر فتخرق في أسفلها وتملأ بالماء، ويكون قدر أقلهم نصيبًا مقدار ما يجري ماؤه على ذلك الخرق فتملأ، ولا يزال صاحب الحصة من الماء يأخذ ماء العين كله ويصرفه فيما شاء إلى أن يفني ماء القدر، ثم تملأ للذي يليه مرة أو مرتين أو أكثر بقدر حصته.
ومن صفة القلد أيضًا: أن تؤخذ قدر فخار أو غيره، فيثقب في أسفلها بمثقب ثم يرفع المثقب، ثم تعلق القدر التي خرقت من أسفلها، وتجعل تحتها قصرية، ويعد ماء فلي جرار، فإذا انصدع الفجر صب الماء في القدر فيسيل الماء من الثقب، فكلما هم الماء أن ينضب صب حتى يكون جري الماء من الثقب معتدلاً النهار كله والليل كله، إلى أن يتصدع الفجر، ثم تنحى القدر ويقسم ما اجتمع من الماء على أقلهم سهمًا بينهم كيلاً أو وزنًا، ثم يجعل لكل واحد منهم قد تحمل سهمه من الماء، وتثقب كل قدر منها بالمثقب الذي ثقب به القدر الأول، فإذا أراد أحد منهم السقي علق قدره بمائه، وصرف النهر كله إلى أرضه. فإن تشاحوا في التبدية استهموا عليها.
ومن صفته أيضًا: أن تنصب خشبة وتجعل فيها خروق متساوية يجري منها الماء، ثم يأخذ كل واحد منهما بقسطه هذا ونحوه مما يتوصل به إلى استيفاء كل واحد حقه.
والعوائد في ذلك مختلفة، وكلها تفيد مقصودًا واحدًا، فيعتمد الإشراك على ما اتفقوا عليه منها.
القسم الثالث: متردد بين الاختصاص والعموم:
وهو ماء البئر التي احتفرت في الفيافي والبوادي للماشية، فلا تباع ولا تورث،ولكن حافرها أحق بقدر كفايته من مائها هو أو ورثته من بعده.
قال ابن الماجشون: ولاحظ فيها لزوجة ولا زوج من بطن على بطن ثم ما فضل عن ذلك فليس لهم منعه، لأن العادة إنما جرت بأن تحفر لشرب ماشيته ويتصدق بما فضل من مائها ويبيحه للناس، إلا أن يختص المسافرون بضرورة، فيكونوا أحق بالشرق من المقيمين بالماء.
وقد روي أن عمر رضي الله عنه جراحات أهل الماء وأغرمهم جراحات أبناء السبيل حين اقتتلوا عليه، وقال: أبناء السبيل أولى بالماء من الباقي عليه حتى يرووا.
وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقطع طريق، ولا يمنع فضل الماء. ولابن السبيل عارية الدلو والرشاء والحوض، وإن لم تكن له أداة تعينه، ويخلى بينه وبين الركية فيستقي.
قال القاضي أبو الوليد: واتفق مالك وأصحابه على أنه لا يمنع من فضل عن من مائها، حملاً لفعله على الغالب. قال: فإن بين وأشهد أنه يريد التملك فلم أر فيه نصًا. قال: والظاهر عندي أنه يكون على شرطه، ويكون بمنزلة من أحيى في القرب أو البعد.
فرع في حكم توابع الأرض والماء:
وهي الكلأ النابت في الأرض، والصيد الحاصل في الماء. ويختلف حكمها باختلاف محالهما.
فحيث كان الأصل غير مملوك، فلا يمنع من يصيد، ولا من يحتش، وهذا كالأودية والأنهار والأراضي التي ليست بمملوكة.
فأما ما كان من ذلك في مملوك لمعين، فقال ابن القاسم: سألت مالكًا عن بحيرات تكون عندنا بمصر لأهل قرى أرادوا بيع سمكها ممن يصيد فيها سنة؟ فقال مالك: لا يعجبني أن تباع، لأنها تقل وتكثر، ولا يدري كيف تكون، ولا أحب لأحد من أهل تلك البحيرات والبرك أن يمنع أحدًا يصيد فيها ممن ليس له فيها حق.
وقال سحنون: له منعها.
وقال أشهب: إن طرحوها فتوالدت فلهم منعها، وإن كان الغيث أجراها لم تمنع.
وكذلك الخصب يكوني ملك لمعين تختلف فيه أيضًا، فقال أشهب: لا يجوز بيع الكلأ بحال وإن كان في أرضه ومروجه وحماه، وإنما هو كالماء الذي يجريه الله عز وجل على وجه الأرض، فلا يملك ولا يباع، وهو لمن أنتبه الله في أرضه ينتفع به، ويحميه في رعيه خاصة، فإذا استغنى عنه لم يجز له بيعه ولا يمنعه ممن يحتاج إليه، إلا أن يكون يجزه، ويحمله كما يفعل الناس فيبيعونه. وأما ما كان قائمًا فلا.
وفي العتبية قال عيسى بن دينار: سألت ابن القاسم عن قول مالك، وكذلك قال ابن حبيب: سألت مطرفًا عن قول مالك في هاتين المسألتين فقلت له: أي خصب يبيع، وأي خصب يبيحه للناس إذا استغنى عنه؟ فقال: أما الخصب الذي يبيعه ويمنع الناس منه وإن لم يحتد إليه فما في مروجه وحماه ما يملك من الأرضين، وأما الذي لا يجوز بيعه ولا سمع الناس منه إلا أن يحتاج إليه فما سوى المروج والحمى من خصب فدادينه وفحوص أرضه البور والعفا، فإنه لا يجوز بيعه، ولا يمنعه إذا لم يحتج إلى رعية، قالا: وهذا يجبر على إباحته للناس إن استغنى عنه، إلا أن يكون عليه في توصل الناس إليه بمواشيهم ودوابهم ضرر، مثل فدان فيه خصب وحواليه زرع، فلا يصل إليه إلا بضرر زرعه، فله منعهم بالضرر، وإن لم يحتج إلى ذلك الخصب.
قال ابن حبيب: وسألت ابن الماجشون عن ذلك، فساوى بين الوجهين قال: هو أحق بخصب أرضه البيضاء كلها التي يزرعها، وإن لم تكن حمى ولا مروجًا، وإن شاء باع أو منع أو رعى، وإنما الذي لا يحل له بيعه ولا منعه إن لم يحتج إلى رعايته خصب العفاء من منزله.

.كتاب الوقف:

وفيه بابان:

.الباب الأول: في أركانه ومصححاته:

وهي أربعة:

.الركن الأول: الموقوف:

ولا شك في صحة وقف العقار: الأراضي وما يتعلق بها كالديار والحوانيت والحوائط والمساجد والمصانع والآبار والقناطر والطرق ونحو ذلك. ويصح منها في الشائع والمفروز.
فأما وقف المنقول كالحيوان والعروض، فمهب الكتاب صحته أيضًا. وحكى القاضيان أبو الحسن وأبو محمد في ذلك روايتين. ثم قال القاضي أبو محمد: ومن أصحابنا من يقول: إن حبس الخيل جائز وإنما الخلاف في تحبيس غيرها.
وقال ابن القاسم في كتاب محمد: استثقل مالك حبس الحيوان، وقال في رجل حبس غلامًا على رجل وعقبه: أكرهه لأنه ضيق على العبد.
قال أبو الحسن اللخمي: يريد لما كان يرجى له من العتق.وظاهر هذا أنه يكره في العبيد والإماء، دون غيرهم.
التفريع: إن قلنا بجواز حبس الحيوان وقع لازماً. وإن قلنا بالكراهة ففي الجواز واللزوم روايتان حكاهما القاضي أبو الوليد.
ويجوز وقف الأشجار لثمارها، والحيوان لمنافعها: ألبانها وأصوافها واستعمالها، والأراضي لمنافعها.
ولا يجوز وقف الدار المستأجرة، ولا يجوز وقف الطعام، فإن منفعته في استهلاكه.