فصل: الباب الثاني: في حكم الوكالة الصحيحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الفصل الثالث: في التنازع:

وفيه ثلاث مسائل:
الأولى: إذا ادعى رجل على رجلين داراً، فكذبه أحدهما وصدقه الآخر فصالحه المصدق على مال، فأراد المكذب الأخذ بالشفعة فله ذلك.
الثانية: تنازعا جداراً حائلاً بين مليكهما، فصاحب اليد منهما من كان إليه وجه الجدار أو الطاقات ومعاقد القمط، أو كان له عليه جذوع دون صاحبه. فإن لم يكن إلى أحدهما شيء من ذلك، أو كان إليهما جميعاً فهو بينهما لأنه في أيديهما. وكذا راكب الدابة مع المتعلق بلجامها، الراكب مختص باليد. وكذا لو تنازع صاحب العلو وصاحب السفل في السقف لكانت اليد لصاحب السفل، لأنه على ملكه كالحمل على الدابة يدعيه مالكها وأجنبي، ولأن البيت إنما يكون بيتاً بسقفه، وأن الناس لا يسكنونه إلا مسقفاً.
الثالثة: سفل الدار بيد رجل وعلوها بيد آخر، وطريقه في ساحة السفل، فادعى كل واحد أن الدار له، فقال أشهب: الدار كلها لصاحب السفل إلا العلة وطريقه فهو لصاحب العلو، بعد أيمانهما أو نكولهما، فإن نكل أحدهما قضي للحالف منهما.

.كتاب الحوالة:

.ومعناها:

تحويل الدين من ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى، ما لم يكن غرور من عيب الثانية وتشتغل الثانية.
وهي معاملة صحيحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم»، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع. رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ورواه سفيان الثوري بالإسناد المذكور أيضاً.
وقال فيه: «وإذا أحيل أحدكم على غني فليحتل».

.والنظر في شرائطها وحكمها.

أما:

.الشرائط:

فثلاثة:
الأولى: رضى المستحق للدين والمستحق عليه، وهما المحيل والمحال. أما المحال عليه فلا يشترط رضاه، لأنه محل التصرف. ويشترط أن يكون على المحال عليه ديناً.
وقال ابن الماجشون: لا يشترط.
فتكون حقيقتها عنده تجويز الضمان بشرط براءة الأصل. ويلزمه على قوله هذا، أن يعتبر رضا المحال عليه في هذه الحوالة، بل لا يتصور إلا كذلك.
ويتفرع على خلافهما ما إذا أحاله على من ليس له عليه دين، فأعدم المحال عليه، فإنه يرجع على المحيل على قول ابن القاسم، ولا يرجع عليه على قول ابن الماجشون إلا أن يعلم أنه لا شيء له عليه، ويشترط عليه براءة من الدين فيلزمه، ولا رجوع له عليه على القولين جميعاً.
الشرط الثاني: أن يكون الدين المحال به حالاً.
ولا يشترط حلول الدين المحال عليه. وتصلح الحوالة على نجوم الكتابة إن كانت الكتابة حالة، ولم يشترط غير ابن القاسم حلولها، وكذلك الحوالة بالنجوم اشترط ابن القاسم حلولها أيضاً، ولم يشترطه غيره.
فرع:
لو أحال المكاتب سيده على مكاتبه، جاز بشرط بت السيد عتق الأعلى عند ابن القاسم.
وقال بعض المتأخرين: لا يحتاج إلى شرط التعجيل، ثم إن عجز الأسفل كان رقاً للسيد، لأن الحوالة كالبيع.
الشرط الثالث: أن يكون ما على المحال عليه مجانساً لما على المحيل قدراً ووصفاً. فإن كان بينهما تفاوت في أدائه عنه إلى المعاوضة أو إلى الرضا دون المعاوضة لم يجز، وإن لم يفتقر، بل كان مما يجبر على قبوله جاز، كأداء الجيد عن الرديء، فيتحول عن الأعلى إلى الأدنى. وكذلك إن تحول عن الأكثر إلى الأقل.
أما:

.حكمها:

فبراءة المحيل من دين المحال، وتحول الحق، إلى المحال عليه، وبراءة ذمة المحال عليه عن دين المحيل. فلو أفلس المحال عليه أو جحد لم يكن للمحال الرجوع على المحيل إذا حصلت البراءة مطلقة، إلا أن يكون الإفلاس مقترناً بالحوالة وهو جاهل به مع علم المحيل به.
ولو أحال البائع على المشتري بثمن مبيع ثم رد عليه المبيع بعيب أو استحق، ففي انفساخ الحوالة قولان مشهوران:
فأشهب يفسخها بناء، على أن الحوالة ليست كالبيع. وابن القاسم يمضيها، تقديراً لها كالبيع. والحوالة مترددة بين مشابهة المعروف والاعتياض.
التفريع: إن قلنا: لا تنفسخ، لم يسقط حق المحال وطلبه على المشتري إن كان لم يقبض منه ثمن السلعة الذي أحيل به عليه.
وإن قلنا بالفسخ، استرجع المحال عليه من المحال ما قبضه منه، ثم رجع المحال بالمسترجع منه على البائع.
قال الإمام أبو عبد الله: ومذهب أشهب هو اختيار محمد وغيره من الأشياخ المحققين.

.فرع في التنازع:

وفيه مسألتان:
الأولى: إذا جرى لفظ الحوالة وتنازعا، فقال أحدهما: أردنا به الحوالة، وقال الآخر: بل الوكالة. فقيل: القول قول مدعي الحوالة، نظراًَ إلى مقتضى اللفظ.
وقيل: قول مدعي الوكالة، نظراً إلى تصديق من يدعي إرادة نفسه ونيته، إذ هو أعلم بذلك.
وقال ابن الماجشون في المبسوط فيمن تحول بدين له على رجل آخر، فقال المحيل: ادفعه إلي، لأني إنما وكلتك في قبضه وتسليمه إلي، وقال المحال: بل كنت استحققته عليك ديناً قبل الحوالة، إن المدعي لكونه حوالة إذا ادعى من ذلك ما يشبه صدق، وإلا كان القول قول المحيل.
وقال ابن القاسم في العتبية فيمن أحال رجلاً بدين له على رجل آخر فقال المحيل: إنما أحلتك على دين لي ليكون ذلك سلفاً عندك ترده إلي وقال القابض: أخذته عوضاً عن دين كان لي عليك: إن القول قول المحيل مع أنه ادعى أن هذه الحوالة كانت على غير دين يستحقه المحال.
قال الإمام أبو عبد الله: إذا تقرر هذا فإن قضى القاضي بأن القول قول المحال: إنني قبضت ما استحق، فلا تفريع على هذا المذهب.
وإن حكم بأن القول قول المحيل فهل للمحال أن يرجع عليه؟ هذا مما اختلف فيه العلماء.
ثم حكى قولين في نفي الرجوع وإثباته، وعلل النفي بأنه معترف ببراءة ذمة المحيل بالحوالة وانتقال الاستحقاق إلى ذمة المحال عليه، وعلل إثبات الرجوع بأن غاية قول المحيل إقرار للمحال وهو يكذبه.
ثم قال الإمام: وعندي أن وجه هذا القول يلتفت إلى النظر فيمن كان له حق على رجل فجحده إياه، ثم عثر المجحود له الحق على مال للجاحد وصار في يده، هل له أن يأخذه قضاء عن حقه المجحود أم لا؟ فإن المحال يقول: إني، وإن اعترفت ببراءة ذمة المحيل من ديني فقد ظلمني في أخذ الدين الذي أبرأته بسببه، فإذا أقر لي بشيء أخذته عوضاً عما ظلمني فيه، وإن كنت أنا لا أستحق عليه ولكنني استحقه عوضاً عما غصبني إياه وجحدني فيه.
المسألة الثانية: إذا لم يجر لفظ الحوالة، ولكن أتى بلفظ يحتمل أن يراد به الحوالة، ويحتمل أن يراد به الوكالة، كما إذا قال من عليه الدين لمن هو له عليه: خذ الدين الذي لك علي من الدين الذي لي على فلان، ففلس فلان، فقال ابن القاسم: للمحال أن يرجع على المحيل، ويقول له: إنما طلبته نيابة عنك لا على أنها حوالة أبرأتك بها.

.كتاب الضمان:

وهو الحمالة.
ومعناها: شغل ذمة أخرى بالحق.
وفيه ثلاثة أبواب:

.الباب الأول: في أركانها:

وهي خمسة:

.الركن الأول: المضمون عنه:

ولا يشترط رضاه، لأنه يجوز لغيره أن يؤدي دينه بغير إذنه، ويصح الضمان عن الميت والمفلس.

.الركن الثاني: المضمون له.

ولا يشترط معرفته، بل لو مات من عليه ديون لا يدري لمن هي، وترك مالاً لا يدري كم هو، فتحمل بعض ورثته لجميع دينه إلى أجل على أن يخلى بينه وبين ماله على أنه مهما فضل كان بينه وبين سائر الورثة على فرائض الله تعالى، وما نقص فعليه، فذلك جائز لأنه منه على وجه المعروف، وطلب الخير للميت والورثة، كان الذي تحمل به عن الميت نقداً أو إلى أجل.
ثم إن طرأ غريم لم يعلم به الابن فعليه أن يغرم له، ولا ينفعه قوله: لم أعلم به، وإنما تحملت بما علمت.

.الركن الثالث: الضامن.

ويشترط فيه صحة العبارة وأهلية التبرع. ويصح ضمان الزوجة دون إذن الزوج في الثلث فدون. ولا يصح ضمان عبد، مأذون ولا غير مأذون، ولا مدبر، ولا مكاتب، ولا أم ولد، بغير إذن السيد، فإن أذن السيد جاز، إلا في المأذون إذا كان مدياناً قد أحاط الدين به.
وقيل في المكاتب: لا يجوز فيه، وإن أجازه لأن داعية إلى رقه. وما رده السيد من ذلك لم يلزمهم وإن اعتقوا، فإن لم يرد ذلك حتى عتقوا لزمهم.

.الركن الرابع: المضمون.

وشرطه أن يكون حقاً يمكن استيفاؤه من الضامن، أو ما يتضمن ذلك كالكفالة بالوجه لمن عليه مال، وأن يكون ثابتاً مستقراً، أو مآله إلى ذلك، فلا تصح الحمالة بالكتابة، لأنها ليست بدين ثابت مستقر، ولا تؤول إلى ذلك، ولأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة.
ولا يجوز ضمان الجعل في الجعالة إلا بعد العمل. ويجوز ضمان إبل الدية، كما يجوز الإبراء عنها.
وتجوز كفالة البدن، ممن وجب عليه الحق، وممن ادعى عليه، وإن لم تقم عليه البينة بالدين، إذ الحضور مستحق عليه.
ومعناها: التزام إحضاره وما اتبعت بعينه لم يجز أن تأخذ به كفيلاً، كان حاضراً أو غائباً، على صفة قريب الغيبة أو بعيدها، كما لا يجوز للبائع ضمان مثله أن هلك، ويخرج الكفيل عن العهدة في ضمان البدن بتسليمه في المكان الذي شرطه، وإن كان عديماً، أراده المستحق أو أباه، إلا أن يكون دونه يد غالبة مانعة، فلا يكون تسليماً، ويلزمه اتباعه في غيبته إن عرف مكانه، فإن هرب أو اختفى لزمه غرم المال، إلا أن يقول: لست من المال في شيء. وقيل: لا يلزمه شيء.
وإن مات المتكفل به لم يلزم الكفيل شيء، شرط أو لم يشرط.
وروي عن ابن القاسم في غير الكتاب: أنه يضمن إن مات الغريم، والحق حال، إذا مات غائباً بغير البلد.
وقال أشهب: لا يضمن شيئاً إذا مات الغريم، مات بالبلد أو بغيره.
قال ابن القاسم: وإن كانت حمالة مؤجلة فمات بغير البلد، فإن كان موته قبل الأجل بأيام كثيرة لو خرج وراءه لجاء به قبل الأجل، فلا حمالة له عليه، ولا شيء عليه. وإن كان لو طلب فخرج لم يأت به إلا بعد الأجل فهو ضامن.
ثم قال عنه عيسى: وإذا مات بعد الأجل ضمن، قربت الغيبة أو بعدت. قال ابن القاسم: وإن كنت قلت غير هذا فاطرحوه.
فروع: الأول: قال ابن وهب: وإذا غاب الغريم قضى على حميل الوجه بالغرم، ولا يضرب له أجل ليطلبه.
وقال أصبغ: يضرب له أجل خفيف في قريب الغيبة، كقول ابن القاسم.
الفرع الثاني:
إذا أخذ بالغرم، فلم يقض عليه به حتى أحضره برئ، ولو كان قد حكم عليه بالمال بعد التلوم للزمه.
وقال سحنون: إن لم يغرم حتى أحضره برئ.
الفرع الثالث:
إذا غرم بالحكم، ثم أصاب بينة بموت الغريم قبل الحكم رجع بما أدى على الطالب، وسقطت الحمالة. وإذا أخذ من الكفيل كفيل لزمه ما لزم الكفيل. قال غيره: وكذلك إن أخذ من كفيل بالوجه كفيل بوجهه.
ولو حضر المكفول بنفسه، وأشهد: إني قد دفعت نفسي إليك براءة للحميل، لم يبرأ بذلك الحميل، وإن كان بموضع تنفذ فيه الأحكام حتى يرفعه الحميل بنفسه أو وكيله إلى الطالب، أو يوكله الحميل بذلك، فإن لم يفعل الطالب أشهد عليه، وكان له ذلك براءة.
ولو دفعه إليه في السجن في دم أو دين أو غيره برئ، ويكفيه أن يقول: قد برئت إليك منه، وهو في السجن فشأنك به.
ولا يشترط كون الدين معلوماً ولا متقدم الوجوب، بل لو كان قال لرجل: داين فلاناً وأنا ضامن لما تعطيه جاز ذلك، ولزمه ضمان ما يداين به مثله: وذلك مبني على أصول ثلاثة:
جواز ضمان الحق قبل وجوبه، وجواز ضمان المجهول: وحمل الإطلاقة في ذلك على العادة دون ما يخرج عنها.

.الركن الخامس: الصيغة.

وهي قوله: تحملت أو تكلفت أو ضمنت، وكل ما ينبني على اللزوم كقوله: أنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي، فذلك كله حمالة لازمة، إن أراد الوجه لزمه أو المال لزمه ما شرط.
وشرط الأجل في ضمان المال الحال جائز، إن كان الغريم موسراً بجملة الحق أو معسراً به، إذا أخره إلى أجل يرى أنه يوسر إليه أو لا يوسر، وإن كان مما يرى أنه يوسر في مثله فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب.
وإن كان موسراً بالبعض، فدفع الحميل ليؤخره بالجميع لم يجز، ويجوز على أن يؤخره بما هو معسر به، ويقضيه ما هو موسر به. وكذلك إن كان بما هو موسر به خاصة ليؤخره به.
ولو ضمن المؤجل حالاً جاز إن كان الدين عيناً أو عرضاً من قرض، ولو كان من بيع لجاز أيضاً، إلا إذا قصد إسقاط الضمان. ولو علق الضمان بالموت لم يلزمه شيء إلا بعد الموت. ولو علقه بعدم الوفاء من الأصيل تلوم السلطان له، ثم ألزمه المال، إلا أن يكون حاضراً ملياً.
ولو تكفل بعضو من بدنه فقال بعينه أو بوجهه، فهي كفالة بالبدن. ولو قال: أنا حميل بطلبه، أو على أن أطلب، فليس عليه سوى ذلك، فإن أعجزه أو غاب عنه إلى موضع بعيد وليس من شأنه السفر إلى مثله لم يكن عليه شيء.
ولو قال: أنا حميل لك ولم يذكر وجهاً ولا مالاً جاز، فإن قال بعد ذلك: إنما أردت الكفالة بالوجه، كان القول قوله. وقيل: قول خصمه.

.الباب الثاني: في حكم الضمان الصحيح:

وله أحكام:

.(الحكم) الأول: تجدد مطالبة الكفيل.

وله أن يطالبه من غير انقطاع الطلبة عن المضمون عنه، وهو حاضر مليء فيتخير في طلب أيهما شاء، على الرواية الأولى. وأما على الرواية الأخيرة وهي رواية ابن القاسم في الكتاب فلا يؤخذ الحميل بالغرم إذا كان عليه الدين حاضراً ملياً. وإنما يغرم إذا غاب أو فلس، ورأى فيها الكفالة توثقه كالرهن.
ولو كان غائباً ملياً أو حاضراً مدياناً يخاف إن قام عليه المحاصة، قال غير ابن القاسم: أو ملداً ظالماً، فله اتباع الحميل، إلا أن يكون للغائب مال حاضر يعدي فيه، فلا يتبع الضامن.
وقال غيره: ما لم يكن في تثبيت ذلك بعد فيؤخذ من الحميل. ومهما أبرأ الأصيل برئ الكفيل، ولا يبرأ الأصيل بإبراء الكفيل.
فرع:
فإن كان الدين مؤجلاً، فمات الأصيل تعجل الطالب حقه من ماله. فإن لم يدع مالاً لم يطلب الكفيل به، حتى يحل الأجل. ولو مات ملياً والطالب وارثه، برئ الحميل، لأنه إن غرم للطالب شيئاً رجع بمثله عليه في تركة الميت وهي في يديه، فصارت كمقاصة. وإن مات معدماً ضمن الكفيل. وإن مات الكفيل قبل الأجل فللطالب تعجيل الدين من تركته، ثم لا رجوع لورثته على الغريم حتى يحل الأجل، أو يموت فيرجع في تركته، وله محاصة غرماء الحميل أيضاً.
وروى ابن وهب أنه يؤخذ من تركة الحميل ويوقف إلى الأجل، فإن كان الأصيل يومئذ ملياً رجع ذلك إلى ورثة الكفيل، وإن كان عديماً أخذ الغريم. قال يحيى: هذه رواية سوء.
وقالها عبد الملك.
وقال أشهب مثل قول ابن القاسم، وروايته.

.الحكم الثاني: أن للكفيل إجبار الأصيل على تخليصه إذا طولب:

وليس له ذلك قبل أن يطالب. ولا يلزم تسليم المال إليه ليؤديه، إذ لو هلك لكان من الأصيل.

.الحكم الثالث: الرجوع:

ومن أدى دين غيره رجع عليه، كان الأداء بإذنه أو بغير إذنه.
هذا إذا كان الدين لازماً للغير لا بد له من أدائه، وكان قصد الدافع بذلك فعل الخير والرجوع به، فإن فعل ذلك ليتسلط عليه أو ليحبسه لعداوة بينهما أو لغير ذلك من الأمور الشبيهة بهذا لم تكن له مطالبته ولم يمكن منه. ولو دفع عنه على وجه الحسبة لم يرجع عليه بشيء.
وحيث ادعى قصد الرجوع فالقول قوله، إلا أن يظهر خلاف ذلك، كما لو تحمل عن ميت مفلس يعتقد فلسه ثم ظهر له مال أو نحو ذلك.
فرع:
إذا صالح الكفيل رجع بالأقل من الدين أو قيمة ما صالح به، وكذلك لو سومح بحط قدر من الدين أو صفة لم يرجع إلا بما بذل. هذا كله إذا أشهد المصالح على الأداء عن الغريم، فإن قصر في الإشهاد ولم يصدق لم يرجع وإن صدقه المضمون عنه، ويرجع إن صدقة المضمون له، لأن إقراره أقوى من البينة مع إنكاره، فإن أشهد رجلاً وامرأتين رجع، وكذلك في شاهد واحد يحلف معه.
وبالجملة: فكل ما أثبت الوفاء أثبت الرجوع.

.الباب الثالث: في حمالة الجماعة بعضهم عن بعض وتراجعهم:

ومقصوده: بيان رجوع بعضهم على بعض.
وعقده: أن من غرم ثم لقي غيره أخذه بحصته من الدين، ثم أخذ منه شطر ما بقي على من بقي، إذ هو شريكه في الحمالة عنه، ثم إن لقي الثاني ثالثاً أخذه بما ينوبه مما بقي من الدين، ثم بنصف ما بقي بعد ذلك لشركته له في الحمالة عمن بقي، وحيث لقي أحدهم من ساواه في الغرم بالدين والحمالة لم يأخذ منه شيئاً، وإن كان أدى بالحمالة أكثر مما إذا رجع عليه بنصف الزائد. وهكذا أبداً حتى يستووا في الغرم.
ولنمثل بمسألة الكتاب وهي: إذا اشترى ستة نفر سلعة بستمائة درهم، على أن بعضهم حميل عن بعض، وشرط أن يأخذ منهم من شاء بجميع حقه، فلقي البائع أحد الستة فأخذه منه جميع المال، ثم لقي الغارم أحد الخمسة الباقين أخذه بنصيبه من الدين، وهو مائة، وبنصيبه من الحمالة بما بقي بعد حصتهما وهو أربعمائة، وذلك مائتان إذ هي بينهما، فإن لقي أحدهما ثالثاً أخذه بما أدى عنه، وهو ما يخصه من المائتين اللتين أداهما بالحمالة وذلك خمسون، ثم يأخذ بنصف المائة والخمسين الباقية لأنهما حميلان بها، ثم إن لقي الثالث رابعاً أخذه بالخمسة والعشرين التي أداها عنه بالحمالة، ثم بنصف الخمسين الباقية لأنهما حميلان بها، فإن لقي الرابع خامساً أخذه باثني عشر درهماً ونصف درهم، وهي التي أدى عنه بالحمالة، ثم يأخذ منه نصف ما بقي، وهو اثنا عشر درهماً ونصف لأنهما حميلان بها، فإن لقي الخامس السادس أخذه بستة وربع، وهي التي أدى عنه بالحمالة، فإن لقي الأول هذا السادس أخذه بخمسين وهي التي تنوبه، لأن الباقي له مائتان على أربعة، هذا أحدهم، ثم أخذه بنصف ما بقي على الثلاثة، إذ هو شريكه في الحمالة عنهم، ثم على هذا السبيل يجري الحكم في لقاء بعضهم لبعض.

.كتاب الشركة:

وفيه ثلاثة أبواب:

.الباب الأول: في أركانها:

وهي ثلاثة:

.الأول: العاقدان:

ولا يشترط فيهما إلا أهلية التوكيل والتوكل. فإن كل واحد متصرف لنفسه ولصاحبه بإذنه.

.الثاني: الصيغة:

الدالة على الإذن في التصرف، أو ما يقوم مقامها في الدلالة على ذلك، ويكفي قولهما: اشتركنا، إذا كان يفهم المقصود منه عرفاً.

.الثالث: المحل:

وهو المال أو الأعمال.
فأما المال فعقد الشركة فيه بيع من البيوع، لأن كل واحد منهما باع نصف متاعه بنصف متاع صاحبه، وهو بيع لا يقع فيه مناجزة لبقاء يد كل واحد منهما على ماله بسبب الشركة، لكن الإجماع منعقد على إجازة الشركة بالدنانير من كلا الجانبين، أو الدراهم من كليهما، وهو إجماع على غير قياس. وفي القياس عليه خلاف، وأجازه ابن القاسم.
وقال بجواز الشركة بالطعامين إذا اتفقا في الكيل والصفة قياساً على الدنانير. ومنع ذلك في الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، وفي الطعامين المختلفين.
وأما الشركة بالعرضين من صنف واحد فهي جائزة قولاً واحداً، ومنع مالك من الشركة بالطعامين من صنف واحد في إحدى الروايتين عنه، واختلف في تعليل ذلك، فقيل: إنه يؤدي إلى بيع الطعام قبل قبضه، وقيل: لبعد الاستواء في الكيل والقيمة جميعاً.
ويشترط في الذهبين، أن يكونا متفقي الصرف، وإن اختلفت سكتاهما. ولا يضر اختلاف العرضين، وفي الجنس ولا في القيمة، ورأس مال كل واحد منهما ما قوم به عرضه.
ولو وقعت الشركة بالعرضين فاسدة لكان رأس مال كل واحد منهما ما بيع به عرضه.
وتصح الشركة عند حضور المالين، وفي صحته مع غيبته أحدهما خلاف.
وكذلك الخلاف في الشركة بالعرض من جانب والعين من جانب على حسب قيمة العرض، لكن المشهور ها هنا الجواز.
ولا بد من خلط المالين مشاهدة أو حكماً، بأن يكونا في صندوق واحد أو خرج واحد، وأيديهما عليه، أو يجمعا تحت يد أحدهما أو يشتريا بهما.
أما الأعمال فتجوز الشركة فيها، بشرط اتحاد العمل والمكان. وقيل: لا يشترط اتحاد المكان. ومهما احتاجا إليه من أداة كانت بينهما بالنسبة، وإن كانت لأحدهما، فله على الآخر حصته من أجرتها، إلا أن يتطوع ربها بها، وتكون تافهة فيجوز.
وكذلك إن كان بعض الآلات من عند أحدهما وبعضها من عند الآخر، إذا تساويا في الأجرة.
ولا تصح شركة الوجوه، وهو في تفسير بعض أهل العلم: أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ليكون له بعضه.
وقال القاضي أبو محمد في تفسير شركة الوجوه: هي مثال أن يشتركا على الذمم بغير مال ولا صنعة، حتى إذا اشتريا شيئاً كان في ذمتهما، وإذا باعاه اقتسما ربحه، والشركتان على الصورتين باطلة.

.الباب الثاني: في أحكامها:

وهي خمسة:

.الحكم الأول: تسلط كل واحد منهما على التصرف:

إما بأن يكون العمل منهما جميعاً ولا يستبد أحدهما دون الآخر، وتسمى شركة العنان، وإما بإطلاق كل واحد منهما للآخر التصرف، غاب صاحبه أو حضر في البيع والشراء والضمان والكفالة والتوكيل والقراض، فما فعل أحدهما من ذلك لزم الآخر إذا كان عائداً إلى تجارتهما. ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما دون ما يتفرد به كل واحد من ماله. وسواء كانا شريكين في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما وتكون يد كل واحد منهما كيد صاحبه، وتصرفه كتصرفه، ما لم يتبرع فلا يلزم شريكه، إلا أن يكون شيئاً يسيراً يقصد به الاستيلاف، ويكون نظراً للتجارة، فيجوز عليهما، وتسمى شركة المفاوضة.

.الحكم الثاني: في توزيع الربح:

وهو في شركة الأموال تابع لها، فيقسم على قدر رؤوس الأموال من مساواة أو مفاضلة، وليكن العمل التابع للمال على نسبته.
فإن وقعت الشركة على التفاضل بين الأرباح وبين الأعمال ورؤوس الأموال سقط الشرط وفسد العقد، وكان الرابح والخسران على قدر رؤوس الأموال، ولزم التراد في العمل، فيرجع من قل رأس ماله على صاحبه بأجرة المثل في نصف الزيادة لأنه عقد جائز. فلو فضل أحدهما الآخر في قيمة ما يخرجه فإنما يسمح بذلك رجاء بقائه على الشركة معه، وذلك لا يلزم فيصير غرراً. وقيل: لأنه من باب الخطار والقمار.
فعلى تقدير وجود الربح يغبن صاحب المال القليل، وعلى تقدير عدمه بغبنه صاحب المال الكثير فيمنع لذلك.

.الحكم الثالث: تأمين كل واحد منهما:

فيكون القول قوله أيضاً فيما يدعيه من تلف أو خسران ما لم يظهر كذبه.
فإن اتهم استحلف، فلو قال: ابتعت سلعة وهلكت، صدق والقول قوله في ما اشترى، قصد به نفسه أو مال الشركة، فإن قال: كان هذا المال من مال الشركة فخلص لي بالقسمة، فالقول قول شريكه في إنكار القسمة.

.الحكم الرابع: إلغاء نفقتهما:

كانا في بلد أو في بلدين وإن اختلفت الأسعار فيهما.
وقيل: ذلك إذا كانا في غير أوطانهما، كانا ذوي عيال أو لا عيال لهما، فإن كان لأحدهما عيال وولد دون الآخر حسب كل واحد نفقته. وما ابتاع أحدهما مما يلغى من طعام أو كسوة له أو لعياله، فللبائع أن يتبع الثمن أيهما شاء، إلا ما لا يبتذل من الكسوة، كوشي أو قصبي ونحوه، فهذا لا يغلى.

.الحكم الخامس: انقطاع التصرف بموت أحدهما:

إلا بإذن وارثه لانقطاع الشركة بموته.

.الباب الثالث: في النزاع:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في النزاع بين الشريكين:

والأصل في المتفاوضين أن جميع ما بأيديهما على ما تشهد به البينة من الأجزاء، فإن لم تعين جزءاً حمل على النصف، حتى يثبت خلافه. فلو تنازعا شيئاً بيد أحدهما، فقال صاحب اليد: هو لي؛ وقال شريكه: بل هو للمال الشركة؛ كان القول قول مدعي الشركة فيه، حتى يقيم صاحب اليد بينة أنه له، بإرث أو هبة أو صدقة عليه، أو كان له قبل التفاوض ولم يفاوض عليه، فيكون له حينئذ خاصة؛ والمفاوضة في ما سواه قائمة.
ولو ابتاع أحدهما عبداً معيباً فكرهه الآخر لزمهما، وكذلك لو رد أحدهما عبداً معيباً ورضيه الآخر لزمهما جميعاً، كابتداء شراء عبد معيب.
ولو اشترى أحدهما من المال جارية لنفسه وأشهد على ذلك، خير شريكه بين أن يجيز له ذلك أو يردها في الشركة، ومن فعل ذلك منهما فهو كمقارض أو مبضع معه إذا تعدى في الشراء، لا كمودع.
ولو وطئ أحدهما جارية من مال الشركة، فقال ابن القاسم: يخير الشريك بين التقويم وبقائها بينهما.
وقال محمد: يتقاومان، إذا أراد الوطء.
فأما إذا وطئ أحدهما فقد لزمته القيمة إن شاء شريكه. وأما إن حملت فلا بد من القيمة، شاء شريكه أو أبى.
وليس لأحدهما الدخول مع الآخر فيما اشتراه لأهله من مؤونة أو كسوة وعليه دخلاً.
ولكل واحد منهما أن يبيع ويبتاع بالدين. ولا كلام للآخر في ذلك ما لم يحظر عليه.

.الفصل الثاني: في نزاعهما مع غيرهما:

ومهما قضى الغريم أحدهما برئ وإن كان غير الذي عامله، وكذلك إذا رد له ما أودعه شريكه من مال الشركة. وللبائع أن يتبع أيهما شاء بالثمن أو بالقيمة في فوت البيع الفاسد، وله ذلك وإن افترقا قبل حلول أجل دينه عليهما إذا حل يتبع أيهما شاء، من عامله أو غيره، وإن قضى أحدهما بعد الافتراق، وهو عالم به، لم يبرأ من حصة الآخر، ولو لم يكن عالماً لبرئ منهما جميعاً.
ولو ابتاع من أحدهما عبداً، فظهر على عيب قديم، فله الرد بالعيب على الآخر، إن كان الذي باع منه غائباً بعيد الغيبة، بعد البينة أنه ابتاع منه بيع الإسلام، وعهدته.
قال أبو بكر بن اللباد: وأنه نقده الثمن. وإن كانت غيبته قريبة لانتظر، لعل أن تكون له حجة. ولو أقر أحدهما بعد الافتراق بدين لزمهما في أموالهما، عند سحنون. ولزم المقر حصته عند ابن القاسم. ولو أقام الحي منهما بينة أن مائة من المال كانت بيد الميت فلم توجد، ولا علم مسقطها، فإن قرب موته قبضها بحيث لا يظن به إشغالها في المال فهي في صحته، وإن تطاول ما بين قبضه لها وموته فلا تلزمه.
قال محمد: ولو أشهد شاهدين على نفسه بأخذه المائة لم يبرأ منها إلا بشاهدين أنه ردها، طال ذلك أو قصر.
وأما إن كان إقراراً من غير قصد الإشهاد، فكما ذكر ابن القاسم من طول المدة وقصرها.

.كتاب الوكالة:

وفيه ثلاثة أبواب:

.الباب الأول: في أركانها:

وهي أربعة:

.الركن الأول: ما فيه التوكيل:

وله شرطان:
الشرط الأول: أن يكون قابلاً للنيابة، وهو ما لا يتعين لحكمه مباشرة، كأنواع البيع والحوالة والكفالة والشركة والوكالة والمضاربة والجعالة والمساقاة والنكاح والطلاق والخلع والصلح وسائر العقود والفسوخ.
ولا يجوز التوكيل في العبادات، إلا في المالية منها كأداء الزكاة، وفي الحج على خلاف فيه.
ولا يجوز في المعاصي كالسرقة والغصب والقتل والعدوان، لأنها باطل وظلم، بل أحكامها تلزم متعاطيها.
ويلتحق بفن العبادات الأيمان والشهادات. واللعان والإيلاء من الأيمان فلا تجوز الوكالة فيهما، وكذلك الظهار لا تجوز الوكالة فيه، لأنه منكر من القول وزور.
ويجوز التوكيل بقبض الحقوق واستيفاء الحدود والعقوبات.
ويجوز التوكيل بالخصومة في الإقرار والإنكار، يرضى الخصم وبغير رضاه، في حضور المستحق وفي غيبته.
فرع:
لو قال لوكيله: أقر عني لفلان بألف دينار، فهو بهذا القول كالمقر بالألف.
قاله الإمام أبو عبد الله، واستقرأ من نص بعض الأصحاب.
الشرط الثاني: أن يكون ما به التوكيل معلوماً في الجملة، ويستوي كونه منصوصاً عليه أو داخلاً تحت عموم اللفظ، أو معلوماً بالقرائن أو بالعادة. فلو قال: وكلتك، أو أنت وكيلي أو فلان لم يجز، حتى يفيد بالتفويض أو بالتصرف في بعض الأشياء.
ولو قال: وكلتك بما إلى من تطليق نسائي وعتق عبيدي وبيع أملاكي جاز.
ولو قال: وكلتك بما إلي من قليل وكثير جاز، واسترسلت يد الوكيل على جميع الأشياء، ومضى فعله فيها إذا كان نظراًَ، لأنه إذا فعل غير النظر فكأنه معزول عنه بالعادة، إلا أن يقول له: افعل ما شئت، كان نظراً أو غير نظر. وأما إن قيد بالتصرف في بعض الأشياء دون بعض فالرجوع في ذلك التقييد إلى مقتضى اللفظ والعادة.
ولو قال: اشتر لي عبداً، جاز: ولو قال: عبداً تركياً، بمائة فأولى بالجواز.
والتوكيل بالإبراء لا يستدعي علم الموكل بمبلغ الدين المبرأ عنه، ولا علم الوكيل، ولا علم من عليه الحق. ولو قال: بع بما باع به فلان فرسه، فالعلم بما باع فلان مشترك في حق الوكيل، لا في حق الموكل. ولو قال: وكلتك بمخاصمة خصمائي، جاز وإن لم يعين.

.الركن الثاني: الموكل:

وهو كل من جاز له التصرف لنفسه جاز له أن يستنيب عنه في ما يجوز النيابة فيه لأجل الحاجة إلى ذلك على الجملة.
وكذلك حكم الوكيل، وهو:

.الركن الثالث: (الوكيل):

فإنه من جاز له أن يتصرف لنفسه في الشيء جاز له أن ينوب فيه عن غيره إذا كان قابلاً للاستنابة. هذا هو الأصل، إلا أن يعرض ما يمنع من توكيل شخص فلا يوكل. وقد نص في الكتاب على منع توكيل الذمي على سلم أو بيع أو شراء، أو يستأجره على قضاء أو يبضع معه، وكرهه ولو كان عبداً له.
قال الإمام أبو عبد الله: وما ذاك إلا لأنه قد يغلظ على المسلمين الذين وكل عليهم في التقاضي، ويستعلي عليهم قصداً لإذلالهم، ولا يجوز للمسلم أن يعينه على ذلك.
قال الإمام: وأما البيع والشراء فلئلا يأتيه بالحرام.
ولهذا منع أن يعامل الذمي قراضاً لأنه يتخوف منه أن يعامل بالربا، وبما لا تحل المعاوضة به. وقد قال محمد: إن نزل هذا تصدق المسلم بالربح. قال الإمام: وهذا الذي قاله محمد إنما يخلص مما يتخوف من الحرام، بأن يكون ما فعله الذمي من الربا، فيتصدق بما زاد على رأس المال لقوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.
وأما ما لو وقع بيع الوكيل الذمي أو المقارض الذمي في المعاوضة بخمر أو خنزير، وأتى الموكل بأثمان ذلك فإنه يتصدق بجميع ما أتى به، لأن العوض كله من ثمن خمر أو خنزير، وذلك حرام كله، وفي الربا إنما الحرام الزيادة. ومن الموانع من التوكيل العداوة، فلا يوكل العدو على عدوه.

.الركن الرابع: الصيغة الدالة على معنى التوكيل:

أو ما يقوم مقامها في الدلالة عليه. ثم لا بد من القبول، فإن وقع على الفور فلا خفاء بصحة العقد، وإن تراخى بالزمن الطويل، فقال الإمام أبو عبد الله: قد يتخرج عندي على الروايتين في قول الرجل لزوجته: اختاري، أو قوله: أمرك بيدك، فقامت من المجلس ولم تختر، ثم قال: والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار المقصود والعوائد، هل المراد في هذه الألفاظ استدعاء الجواب بداراً، فإن تأخر سقط حكم الخطاب، أو المراد استدعاء الجواب معجلاً أو مؤجلاً.

.الباب الثاني: في حكم الوكالة الصحيحة:

ولها ثلاثة أحكام:
الأول: صحة ما وافق من التصرفات، وفساد ما خالف منها لفظاً أو عادة، مما يعود بنقص؛ فأما إن خالف بما يعود بزيادة فقولان بناهما الشيخ أبو الطاهر على شرط ما لا يفيد، هل يلزم الوفاء به أم لا؟ وتعرف الموافقة باللفظ تارة، وبالقرينة أو العادة أخرى. وبيان ذلك بصور سبع:
الأولى: إذا قال: بع مطلقاً، فلا يبيع بالعرض ولا بالنسيئة، ولا بما دون ثمن المثل إلا قدراً يتغابن الناس بمثله. ويجوز له أن يبيع ويشتري من أقاربه وغيرهم إذا لم يحاب، وليس له أن يبيع من نفسه أو ولده أو يتيمه، ولا أن يشتري. وقيل له ذلك. ثم حيث قلنا: إن ذلك له بمطلق الإذن، أو أذن له فيه، فإنه يتولى طرفي العقد إذا باع أو اشترى من نفسه أو ولده الصغير أو يتيمه، كما في تولي ابن العم طرفي النكاح، وتولي من عليه الدين استيفاءه من نفسه بالوكالة. ويطرد في الوكيل من الجانبين في عقد النكاح والبيع، كما إذا كان وكيلاً من جهة الموجب والقابل جميعاً. وإن أذن له في البيع إلى أجل مقدر جاز. وإن أطلق فالعرف يقيده بالمصلحة. ولو قال له: اشتر لي ثوباً أو خادماً، فاشترى ما يصلح للموكل لزمه.
وإن اشترى ما لا يليق به، فقال ابن القاسم: لا يلزمه.
وقال أشهب: يلزمه.
ثم هما أعلم أن الشراء للموكل فالملك ينتقل إلى الموكل، لا إلى الوكيل.
الثانية: أن الوكيل لا يسلم المبيع قبل توفية الثمن، فإن سلم ولم يشهد فجحد الثمن ضمنه، لتغريره به. ويملك المطالبة بالثمن وقبضه، لأنه من توابع البيع ومقاصده.
والوكيل بالشراء يملك قبض المبيع.
وأما مطالبتهما بالثمن والمثمن فيخرج على ما نفصله.
وذلك أن الوكيل إذا لم يبين أنه وكيل كان مطلوباً بتسليم الثمن أو المثمن، وكانت العهدة عليه. وإن بين أنه وكيل وصرح بأنه برئ من أداء الثمن أو المثمون لم يكن عليه أداء ولا عهدة.
وإن صرح بالالتزام فلا شك في إلزامه ما صرح به؛ وإن لم يصرح بأحد الأمرين فإن كان العقد على شراء بنقد أو بيع به فالمنصوص في المذهب معاملته بالثمن أو المثمون.
الثالثة: إن الوكيل بالشراء إذا اشترى معيباً بثمن مثله وجهل العيب وقع على الموكل، وكان للوكيل الرد بضمانه لمخالفة الصفة؛ وإن علم وقع عنه، ولم يكن له الرد إلا أن يكون عيباً يسيراً وشراؤها بذلك نظر، فيلزم الأمر. وإن كان بغبن فعلم لم يقع على الموكل، وإن جهل وقع عنه. ثم مهما جهل الوكيل فله الرد إلا إذا كان العبد معيباً من جهة الموكل فلا رد للوكيل.
وقال أشهب: الموكل مقدم في الرد وإن كانت السلعة غير معينة، وله استرجاع السلعة بعد رد الوكيل لها إذا لم يمض رده.
قال ابن القاسم: إلا أن يكون وكيلاً مفوضاً فله الرد، والقبول في جميع ما ذكرناه على الاجتهاد بغير محاباة. وحيث يكون الوكيل عالماً فلا رد له، ولا يلزم الموكل إلا أن يكون العيب يسيراً؛ فإن كان كثيراً ألزمها الموكل للوكيل إن شاء.
الرابعة: إن الوكيل بتصرف معين لا يوكل إذا كان ممن يلي ما وكل عليه بنفسه في العادة، إلا إذا أذن له فيه؛ ولو وكل بتصرفات كثيرة وأذن له في التوكيل وكل، وإن أطلق فله التوكيل أيضاً إن علم عجزه عن الانفراد بها أو علم مباشرة مثله لمثلها عادة، ثم لا يوكل إلا أمينا رعاية للمصلحة.
فرع:
إذا وكل بإذن الموكل ثم مات الوكيل الموكل فقال الإمام أبو عبد الله: الأظهر أن الثاني لا ينعزل بموت الأول، بخلاف انعزال الوكيل الأول بموت موكله، لأن توكيل الوكيل الأول كتوكيل موكله إذ تصرفه لازم له كتصرفه بنفسه. وذكر أن ابن القاسم وقع له ما يشير ظاهره إلى ذلك وهو إمضاء تصرف من أبضع معه أحد الشريكين بعد مفاصلتهما.
الخامسة: يتبع مخصصات الموكل، فلو قال: بع من زيد، لم يبع من غيره، ولو خصص زماناً تعين. وإن خصص سوقاً تتفاوت فيه الأغراض تخصص. ولو قال: بع بمائة، فله أن يبيع بما فوقها، وليس له أن يبيع بما دونها بحال.
فرع:
فإن باع بدون ما سمى له فرب السلعة بالخيار بين أن يمضي فعله أو يفسخه، فإن أمضاه أخذ الثمن، وإن فسخه، فإن كانت السلعة قائمة أخذها، وهل له أن يطالبه بما سمى من الثمن قولان. وإن كانت فائتة طالبه بالقيمة إن لم يسم ثمناً؛ فإن سمى فهل له مطالبته بما سمى أو بالقيمة؟ قولان، مبنيان على الخلاف فيمن أتلف سلعة وقفت على ثمن.
وهذا فيما عدا الربويات؛ فإن كان العقد على ربوي بربوي كعين بعين أو طعام بطعام؛ فهل له أن يرضى بفعله؟ قولان مبنيان على الخلاف في الخيار الحكمي هل هو كالشرطي أم لا؟
ولو قال الوكيل: أنا أتم ما نقصت، فهل له ذلك ويمضي البيع أم لا؟ قولان، أيضاً:
أحدهما: أن ذلك له، لأن مقصود الأمر قد حصل له؛
والثاني: أنه لا يلتفت إلى قوله، لأنه متعد في البيع، فيجب الرد.
ولو قال: اشتر بمائة، فله أن يشتري بما دونها، وليس له أن يشتري بما فوقها إلا باليسير الذي جرت العادة بزيادة مثله كالدينارين والثلاثة في المائة، وشبه ذلك.
ويقبل قول الوكيل في ذلك، إن ذكره قبل تسليم السلعة أو قرب التسليم، ولا يصدق في ذكره بعد الطول. فإن زاد كثيراً فالموكل بالخيار بين إمضاء فعله أو ترك المشتري له.
ولو قال: بع بمائة نسيئة، فباع بمائة نقداً، أو قال: اشتر بمائة نقداً، فاشترى بمائة نسيئة؛ صح ذلك ولزم الآمر. قاله الشيخ أبو محمد: قال: وخالفني فيها أبو بكر بن اللباد، فاحتججت عليه بأن المبتاع لو عجل الثمن المؤجل للوكيل للزمه قبوله.
ولو قال: بع الدنانير، فباع بالدراهم، أو بالعكس، ففي اللزوم قولان، مأخذهما أنهما كنوعي جنس واحد أو كجنسين.
ولو سلم له ديناراً يشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع إحداهما بدينار، ورد الدينار والشاة؛ صح عقد الشراء والبيع، ولزما بإجازة المالك. وقد فعل ذلك عروة البارقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له وشراء الشاة الأخرى.
وبيع إحداهما يخرج على إجازة المالك تصرف الغير في ملكه، إذ رضي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى.
ولو أمره أن يشتري له جارية على صفة بثمن معين، فاشترى جاريتين على الصفة المعينة بالثمن المحدود في الواحدة. فإن اشتراهما واحدة بعد أخرى، فالثانية له إن لم يجز الموكل عقده، ويسترجع منه حصتها من الثمن.
وإن اشتراهما معاً في صفقة واحدة، فقال أصبغ: يلزمان الموكل، ولم يقيد جوابه.
وقال ابن المواز: إن كان قادراً على الإفراد لم يلزم الأمر العقد، وإن كان غير قادر لزمه.
وقال غيرهما: يثبت الخيار للموكل.
ثم اختلف القائلون بذلك في محله؛ فقال ابن القاسم: محله الثانية فقط، فيتخير في ردها أو قبولها.
وقال ابن الماجشون: يتخير في قبولها أو ردها.
ولو قال له: بع بعشرة، فباع بالعشرة بغير اشتهار، ففي الإمضاء والرد قولان، مأخذها النظر إلى أن الموافقة قد حصلت أو إلى أن المقصود ألا ينقص من العشرة وتطلب الزيادة. قال بعض المتأخرين: ولو ثبت أحد القصدين لارتفع الخلاف.
السادسة: الوكيل بالخصومة لا يقر على موكله، كما لا يصالح ولا يبرئ، إلا أن يأذن له في ذلك كما تقدم. وليس للوكيل بالخصومة أن يشهد لموكله إلا إذا عزل نفسه قبل أن يخوض ثم يشهد، وإن كان قد خاصم لم يقبل، لأنه يتهم بتصديق نفسه. وإنما تكون الوكالة في الخصومة قبل الشروع فيها، فأما لو شرع فيها لم يكن له أن يوكل، إلا أن يخاف من خصمه استطالة بسبب ونحوه.
ثم حيث تجوز له وكالته، فليس له أن يعزله بعد الشروع في الخصومة وقال أصبغ: له أن يعزله ما لم يستوف حجته.
قال أبو الوليد بن رشد: وإذا لم يكن له عزله، لم يكن له هو أن يعزل نفسه.
وإذا وكل رجلين فلكل واحد منهما الاستبداد، إلا أن يقصره على موافقة صاحبه.
وكما لا يفتقر إلى حضور الخصم في عقد الوكالة لا يفتقر إلى حضوره في إثباتها عند الحاكم.
السابعة: إذا سلم إليه ألفاً، فقال اشتر شيئاً بعينه، فاشترى في الذمة ونقد الألف، صح. وإن قال: اشتر في الذمة، وسلم الألف، فاشترى بعينه، فكذلك وأولى بالصحة. ثم الوكيل مهما خالف في البيع، وقف تصرفه على إجازة الموكل ورده.
ومهما خالف في الشراء وقع على الوكيل إن لم يرضه الموكل.
الحكم الثاني: للوكالة ثبوت حكم الأمانة للوكيل، لأن يده أمانة في حق الموكل حتى لا يضمن ما تلف بغير تعد ولا تفريط، سواء كان وكيلاً يجعل أو بغير جعل؛ ثم إن سلم إليه الثمن فهو مطالب به مهما وكل بالشراء، وإن لم يسلم إليه الثمن وأنكر البائع كونه وكيلاً طالبه به، وإن اعترف بوكالته فليس له مطالبته ثم حيث طولب الوكيل رجع على الموكل.
ولو وكل بشراء عبد فاشتراه وقضه فتلف في يده وخرج مستحقاً، فالمستحق يطالب الموكل دون الوكيل. وكذلك الوكيل بالبيع إذا قبض الثمن وتلف في يده فخرج المبيع مستحقاً، فرجع المشتري بالثمن على الموكل دون الوكيل.
الحكم الثالث للوكالة: الجواز من الجانبين إذا كانت بغير أجرة، وهذا مقتضى قول القاضي أبو الحسن: إن للوكيل عزل نفسه الآن.
واللزوم في قول بعض المتأخرين من جانب الوكيل بناء على لزوم الهبة وإن لم تقبض.
وإن كانت الوكالة بأجرة على سبيل الإجارة فهي لازمة من الطرفين، ويجب حينئذ أن يكون العمل معلوماً كما في الإجارة.
وإن كانت على سبيل الجعالة، فحكى الشيخ أبو الطاهر فيها ثلاثة أقوال: اللزوم من الطرفين، وعكسه وهو الجاز منهما، والتفصيل بأن يكون اللزوم من جهة الجاعل دون المجعول له.
وإذا فرعنا على القول بالجواز فينعزل بعزل الموكل إياه في حضرته وغيبته، ما لم يتعلق بوكالته حق يمنع العزل، كما إذا نشب معه في الخصومة أو وكله في قضاء دين وجب عليه، ونحو ذلك. وهل ينعزل في الغيبة قبل بلوغ الخبر إليه أو بعده؟ في ذلك روايتان.
وينعزل بيع الموكل العبد الموكل في بيعه وبإعتاقه، وينعزل بعزله نفسه في حضور الموكل وغيبته على القول بالجواز. وقيل: ليس له ذلك مع الغيبة. وينعزل بموت الموكل.
وقال مطرف: إن كان مفوضاً إليه فهو على وكالته حتى يعزله الورثة.
وإذا فرعنا على القول الأول، فمتى يعتبر العزل في حق من عامله؟ في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: اعتبار حالة الموت.
والثاني: اعتبار حالة العلم، فمن علم انفسخت الوكالة في حقه دون من لم يعلم.
ونزل هذين القولين بعض المتأخرين على اختلاف الأصوليين في حكم النسخ، هل يكون من حين النزول أو من وقت البلاغ؟. قال: والموت ها هنا كالنزول.
الثالث: اعتبار علم الوكيل خاصة في حق من عامله، فتنفسخ في حقه بعلم الوكيل، ولا ينفسخ في حق الوكيل بعلم الذي عامله إذا لم يعلم الوكيل، ولكن من دفع إليه شيئاً بعد العلم بعزله ضمنه، لأنه دفع إلى من يعلم أنه ليس بوكيل.