فصل: إقبال الجند:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



الكتاب: فتوح الشام.
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي (المتوفى: 207هـ).

.إقبال الجند:

بسم الله الرحمن الرحيم.
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الواقدي رحمه الله تعالى آمين: حدثني أبو بكر بن الحسن بن سفيان بن نوفل بن محمد بن إبراهيم التيمي ومحمد بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد مولى هشام ومالك بن أبي الحسن وإسماعيل مولى الزبير ومازن بن عوف من بني النجار كل حدث عن فتوح الشام بما كان قالوا جميعا: إنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتل في خلافته مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وقاتل بني حنيفة وأهل الردة وأطاعته العرب فعزم أن يبعث جيشه إلى الشام وصرف وجهه لقتال الروم فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقام فيهم خطيبا فحمد الله عز وجل وقال: يا أيها الناس رحمكم الله تعالى اعلموا أن الله فضلكم بالإسلام وجعلكم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وزادكم إيمانا ويقينا ونصركم نصرا مبينا وقال فيكم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه واختار له ما لديه إلا وإني عازم أن اوجه ابطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته وقال: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» فما قولكم في ذلك فقالوا: يا خليفة رسول الله مرنا بأمرك ووجهنا حيث شئت فإن الله تعالى فرض علينا طاعتك فقال تعالى: {يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ منكم} [النساء: 59] ففرح أبو بكر رضي الله عليه ونزل عن المنبر وكتب الكتب إلى ملوك اليمن وأهل مكة وكانت الكتب فيها نسخة واحدة. وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليكم.
أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد عزمت أن أوجهكم إلى بلاد الشام لتأخذوها من أيدي الكفار والطغاة فمن عول منكم على الجهاد والصدام فليبادر إلى طاعة الملك العلام ثم كتب: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] الآية ثم بعث الكتب إليهم وأقام ينتظر جوابهم وقدومهم وكان الذي بعثه بالكتب إلى اليمن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما مرت الأيام حتى قدم أنس رضي الله عنه يبشره بقدوم أهل اليمن وقال: يا خليفة رسول الله وحقك على الله ما قرأت كتابك على أحد إلا وبادر إلى طاعة الله ورسوله وأجاب دعوتك وقد تجهزوا في العدد والعديد والزرد النضيد وقد أقبلت إليك يا خليفة رسول الله مبشرا بقدوم الرجال وأي رجال وقد أجابوك شعثا غبرا وهم أبطال اليمن وشجعانها وقد ساروا إليك بالذراري والأموال والنساء والأطفال وكأنك بهم وقد أشرفوا عليك ووصلوا إليك فتأهب إلى لقائهم قال فسر أبو بكر رضي الله عنه بقوله سرورا عظيما وأقام يومه ذلك حتى إذا كان من الغد اقبلوا إلى الصديق رضي الله عنه وقد لاحت غبرة القوم لأهل المدينة قال فاخبروه فركب المسلمون من أهل المدينة وغيرهم واظهروا زينتهم وعددهم ونشروا الأعلام الإسلامية ورفعوا الألوية المحمدية فما كان إلا قليل حتى أشرفت الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قوم في أثر قوم وقبيلة في أثر قبيلة فكان أول قبيلة ظهرت من قبائل اليمن حمير وهم بالدروع الداودية والبض العادية والسيوق الهندية وأمامهم ذو الكلاع الحميري رضي الله عنه فلما قرب من الصديق رضي الله عنه أحب أن يعرفه بمكانه وقومه وأشار بالسلام وجعل ينشد ويقول:
أتتك حمير بالأهلين والولد ** أهل السوابق والعالون بالرتب

أسد غطارفة شوس عمالقة ** يردوا الكماء غدا في الحرب بالقضب

الحرب عادتنا والضرب همتنا ** وذو الكلاع دعا في الأهل والنسب

دمشق لي دوت كل الناس اجمعهم ** وساكنيها سأهويهم إلى العطب

قال: فتبسم أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أبا الحسن أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أقبلت حمير ومعها نساؤها تحمل أولادها فأبشر بنصر الله على أهل الشرك أجمعين» فقال الإمام علي صدقت وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس رضي الله عنه وسارت حمير بكتائبها وأموالها وأقبلت من بعدها كتائب مذحج أهل الخير العتاق والرماح الدقاق وأمامهم سيدهم قيس بن هبيرة المرادي رضي الله عنه فلما وصل إلى الصديق رضي الله عنه جعل يقول: صلوا على طه الرسول:
أتتك كتائب منا سرعا ** ذوو التيجان أعني من مراد

فقدمنا أمامك كي ترانا ** نبيد القوم بالسيف النجادى

قال: فجزاه أبو بكر رضي الله عنه خيرا وتقدم بكتائبه ومواليه وتقدمت من بعده قبائل طيىء يقدمها حارث بن مسعد الطائي رضي الله عنه فلما وصل هم أن يترجل فأقسم عليه أبو بكر رضي الله عنه بالله تعالى أن لا تفعل فدنا منه فصافحه وسلم عليه وأقبلت الأزد في جموع كثيرة يقدمها جندب بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ثم جاءت من بعدهم بنو عبس يقدمهم الأمير ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه وأقبلت من بعدهم بنو كنانة يقدمهم غيثم بن اسلم الكناني وتتابعت قبائل اليمن يتلو بعضها بعضا ومعهم نساؤهم وأموالهم فلما نظر أبو بكر رضي الله عنه إلى نصرتهم سر بذلك وشكر الله تعالى وانزل القوم حول المدينة كل قبيلة متفرقة عن صاحبتها واستمروا فأضر بهم المقام من قلة الزاد وعلف الخيل وجدوبة الأرض فاجتمع أكابرهم عند الصديق رضي الله عنه وقالوا: يا خليفة رسول الله إنك أمرتنا بأمر فأسرعنا لله ولك رغبة في الجهاد وقد تكامل جيشنا وفرغنا من أهبتنا والمقام قد أضر بنا لأن بلدك ليست بلد جيش ولا حافر ولا عيش والعسكر نازل فإن كنت قد بدلت فيما عزمت عليه فأمرنا بالرجوع إلى بلدنا وأقبل الجميع وخاطبوه بذلك فلما فرغوا من كلامهم قال أبو بكر رضي الله عنه: يا أهل اليمن ومن حضر من غيرهم أما والله ما أريد لكم الأضرار وإنما أردنا تكاملكم قالوا: إنه لم يبق من ورائنا أحد فاعزم على بركة الله تعالى.

.وصية أبي بكر:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: لقد بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من الأصحاب منهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وخرجوا إلى ظاهر المدينة ووقع النداء في الناس وكبروا بأجمعهم فرحا لخروجهم وأجابتهم الجبال لدوي أصواتهم وعلا أبو بكر على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم قد ملئوا الأرض فتهلل وجهه وقال: اللهم انزل عليهم الصبر وأيدهم ولا تسلمهم إلى عدوهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] وكان أول من دعاه أبو بكر يزيد بن أبي سفيان وعقد له راية وأمره على ألف فارس من سائر الناس ودعا بعده رجلا من بني عامر بن لؤي يقال له ربيعة بن عامر وكان فارسا مشهورا في الحجاز فعقد له راية وأمره على ألف فارس ثم أقبل أبو بكر على يزيد بن أبي سفيان وقال له: هذا.
ربيعة بن عامر من ذوي العلا والفاخر قد علمت صولته وقد ضممته إليك وأمرتك عليه فاجعله في مقدمتك وشاوره في أمرك ولا تخالفه فقال يزيد حبا وكرامة وأسرعت الفرسان إلى لبس السلاح واجتمع الجند وركب يزيد بن أبي سفيان وربيعة بن عامر وأقبلا بقومهما إلى أبي بكر رضي الله عنه فأقبل يمشي مع القوم فقال يزيد: يا خليفة رسول الله الناجي من غضب الله من رضيت عنه لا نكون على ظهور خيولنا وأنت تمشي فأما أن تركب وأما أن ننزل فقال: ما أنا براكب وما أنتم بنازلين وسار إلى أن وصل إلى ثنية الوداع فوقف هناك فتقدم إليه يزيد فقال: يا خليفة رسول الله أوصنا فقال: إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على أصحابك في مسيرك ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك وشاورهم في الأمر واستعمل العدل وباعد عنك الظلم والجور فإنه لا افلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوهم: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولدا ولا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ولا تعقروا بهيمة المأكول ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا يزعمون إنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم وستجدون قوما آخرين من حزب الشيطان وعبدة الصلبان قد حلقوا أوساط رؤوسهم حتى كأنها مناحيض العظام فاعلوهم بسيوفكم حتى يرجعوا إلى الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد استودعتكم الله ثم عانقه وصافحه وصافح ربيعة بن عامر وقال: يا عامر اظهر شجاعتك على بني الأصفر بلغكم الله آمالكم وغفر لنا ولكم قال: وسار القوم ورجع أبو بكر رضي الله عنه بمن معه إلى المدينة قال فجد القوم في السير فقال ربيعة بن عامر ما هذا السير يا يزيد وقد أمرك أبو بكر أن ترفق بالناس في سيرك فقال يزيد: يا عامر أنا أبا بكر رضي الله عنه سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت أن اسبق الناس إلى الشام فلعلنا أن نفتح فتحا قبل تلاحق الناس بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال رضاء الله عز وجل ورضاء خليفتنا وغنيمة تأخذها فقال ربيعة فسر الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال فأخذ القوم في السير على وادي القرى ليخرجوا على تبوك ثم على الجابية إلى دمشق قال: واتصل الخبر للملك هرقل من قوم من عرب اليمن المنتصرة كانوا في المدينة فلما صح عند الملك ذلك جمع بطارقته في عسكره وقال لهم: يابني الأصفر أن دولتكم قد عزمت على الانهزام ولقد كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتقيمون الصلاة وتؤثرون الزكاة التي أمركم بها الآباء والأجداد والقسس والرهبان وتقيمون حدود الله التي أمركم بها في الإنجيل لا جرم إنكم ما قصدكم ملك من ملوك الوشاة ونازعكم على الشام إلا وقهرتموه ولقد قصدكم كسرى بجنود فارس فانكسروا على أعقابهم والان قد بدلتم.
وغيرتم فظلمتم وجرتم وقد بعث إليكم ربكم قوما لم يكن في الأمم أضعف منهم عندنا وقد رمتهم شدة الجوع إلينا وأتى بهم إلى بلادنا وبعثهم صاحب نبيهم ليأخذوا ملكنا من أيدينا ويخرجونا من بلادنا ثم إنه حدثهم بالذي سمعه من طرسيسه.
فقالوا: أيها الملك نردهم عن مرادهم ونصل إلى مدينتهم ونخرب كعبتهم قال فلما سمع مقالتهم وتبين اغتياظهم جرد منهم ثمانية آلاف من أشجع فرسانهم وأمر عليهم خمسة من بطارقتهم وهم البطاليق وأخوه جرجيس وصاحب شرطته ولوقا بن سمعان وصليب بن حنا صاحب غزة وكانت هذه الخمسة البطارقة يضرب بهم المثل في الشجاعة والبراعة ثم تدرعوا واظهروا زينتهم وصلت عليهم الأمية صلاة العصر فقالوا: اللهم انصر من كان منا على الحق وبخروهم ببخور الكنائس ثم رشوا عليهم من ماء العمودية وودعوا الملك وساروا وأمامهم العرب المنتصرة يدلونهم على الطريق قال حدثني رفاعة عن ياسر بن الحصين قال بلغني أن أول من وصل إلى تبوك كان يزيد بن سفيان وربيعة بن عامر ومن معهما من المسلمين قبل وصول الروم بثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع والمسلمون قد عموا بالرحيل إلى الشام إذ أقبل جيش الروم فلما رآه المسلمون أخذوا على أنفسهم وكمن ربيعة بأصحابه الألف وأقبل يزيد بأصحابه الألف ووعظهم وذكر الله تعالى وقال لهم:
اعلموا أن الله وعدكم بالنصر وأيديكم بالملائكة وقال الله تعالى في كتابه العزيز: كم من: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الجنة تحت ظلال السيوف» وأنتم أول جند دخل الشام وتوجه لقتال بني الأصفر فكأنكم بجنود الشام وإياكم أن تطمعوا تطعموا العدو فيكم وانصروا الله ينصركم فبينما يزيد يعظ الناس وإذا بطلائع الروم قد اقبلت وجيوشها قد ظهرت فلما رأوا قلة العرب طمعوا فيهم وظنوا إنه ليس ورائهم أحد فبربر بعضهم على بعض بالرومية وقالوا: دونكم من يريد أخذ بلادكم واستنصروا بالصليب فإنه ينصركم ثم حملوا وتلقاهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهمم عالية وقلوب غير دانية ودار القتال بينهم وتكاثرت الروم عليهم وظنوا إنهم في قبضتهم إذ خرج عليهم ربيعة بن عامر رضي الله عنه بالكمين وقد اعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحملوا على الروم حملة صادقة فلما عاينت الروم من خرج عليهم إنكسروا والقى الله الرعب في قلوبهم فتقهقروا إلى ورائهم ونظر ربيعة بن عامر إلى البطاليق وهو يحرض قومه على القتال فعلم إنه طاغية الروم فحمل عليه وطعنه طعنة صادقة فوقعت في خاصرته وطلعت من الناحية الأخرى فلما نظر الروم إلى ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار ونزل النصر على طائفة محمد المختار حدثنا سعد بن أوس عن السرية التي انفدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع يزيد بن.
أبي سفيان وربيعة بن عامر قال قد اجتمعا بعساكر الروم في ارض تبوك مع البطاليق وهزمهم الله تعالى على أيدينا وكان جملة من قتل منهم الفا ومائتين ومن قتل من المسلمين مائة وعشرين رجلا قال: وأن القوم لما انهزموا قال لهم جرجيس: وهو أخو المقتول: يا ويلكم بأي وجه ترجعون إلى الملك وقد عملوا فينا عملا ذريعا وملئوا الأرض من قتلانا ولا ارجع حتى أخذ بثأر أخي أو الحق به قال: واجتمع القوم وسمعوا منه ذلك ورجع بعضهم إلى بعض وعادوا إلى القتال فلما استقروا في خيامهم بعثوا رجلا من العرب المنتصرة اسمه القداح وقالوا له: امضي إلى بني عمك وقل لهم يبعثوا لنا رجلا من كبارهم وعقلائهم حتى ننظر ما يريدون منا قال فركب القداح جواده واقبل نحو جيش المسلمين فلما رأوه مقبلا إليهم استقبله رجال من الأوس وقالوا له: ماذا تريد قال لهم: أن البطارقة يريدون رجالا من عقلائكم ليخاطبوهم فيما يريد الله من صلاح شأن الجمعين قال فأخبروا يزيد بن ربيعة بما قال المتنصر فقال ربيعة بن عامر أنا أسير إلى القوم.
فقال يزيد: يا ربيعة أنا أخاف عليك من القوم لانك قد قتلت كبيرهم بالأمس فقال ربيعة {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51] وإني أوصيك والمسلمين أن تكون همتكم عندي فإذا رأيتم القوم غدروا بي فاحملوا عليهم ثم ركب جواده وسار حتى أتى جيش الروم وقرب من سرداق أميرهم فقال القداح عظم جيش الملك وانزل عن جوادك فقال ربيعة رضي الله عنه ما كنت بالذي انتقل من العز إلى الذل ولست أسلم جوادي لغيري وما أنا بنازل إلا على باب السرداق وإلا رجعت من حيث جئت لاننا ما بعثنا إليكم بل انتم بعثتم إلينا قال فأعلم القداح الروم بما تكلم به ربيعة بن عامر فقال بعضهم لبعض صدق العربي في قوله دعوه ينزل حيث أراد قال فنزل ربيعة على باب السرداق وجثا على ركبته وأمسك عنان جواده بيده وسلاحه فقال له جرجيس: يا أخا العرب لم تكن أمة أضعف منكم عندنا وما كنا نحدث أنفسنا إنكم تغزوننا وما الذي تريدون منا فقال ربيعة نريد منكم أن تدخلوا في ديننا وأن تقولوا بقولنا وأن أبيتم تعطونا الجزية عن يد وانتم صاغرون وإلا فالسيف بيننا وبينكم فقال جرجيس فما منعكم أن تقصدوا الفرس وتدعون الصداقة بيننا وبينكم فقال ربيعة بدأنا بكم لانكم اقرب إلينا من الفرس وأن الله تعالى أمرنا في كتابه بذلك قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] قال جرجيس فهل لك أن تعقد الصلح بيننا وبينكم وأن نعطي كل رجل منكم دينارا من ذهب وعشرة أوسق من الطعام وتكتبوا بيننا وبينكم كتاب الصلح لا تغزون إلينا ولا نغزوا إليكم قال ربيعة لا سبيل إلى ذلك وما بيننا وبينكم إلا السيف أو اداء الجزية أو الإسلام قال جرجيس أما ما ذكرت من دخولنا في دينكم فلا.
سبيل إلى ذلك ولو نهلك عن آخرنا لاننا لا نرى لديننا بدلا واما اعطاء الجزية فإن القتل عندنا أيسر من ذلك وما انتم بأشهى منا إلى القتال والحرب والنزال لأن فينا البطارقة وأولاد الملوك ورجال الحرب وارباب الطعن والضرب قال جرجيس لأصحابه علي بأنفس صقالبة حتى يناظروا هذا البدوي في كلامه قال: وكان الملك هرقل قد بعث معهم قسيسا عظيما عارفا بدينهم مجادلا عن شرعهم قال فأتى الحاجب به فلما استقر به الجلوس قال له جرجيس: يا أبانا استخبر من هذا الرجل عن شريعتهم وعن دينهم فقال القسيس يا اخي العربي أنا نجد في عملنا أن الله تعالى يبعث من الحجاز نبيا عربيا هاشميا قرشيا علامته أن الله تعالى يسري به إلى السماء أكان ذلك أم لا قال: نعم اسري به وقد ذكره ربنا في كتابه العزيز بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الاسراء: 1] قال القسيس أنا نجد في كتابنا أن ربنا يفرض على هذا النبي وأمته شهرا يصومونه يقال له: شهر رمضان قال ربيعة: نعم وقد قرأنا في القرآن العظيم شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فقال القسيس أنا وجدنا في كتابنا أن من أحسن حسنة تكتب بعشرة قال ربيعة: نعم قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] قال القسيس أنا نجد في كتابنا أن الله يأمر أمته بالصلاة عليه قال ربيعة: نعم وقد قال الله في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قال فعجب القسيس من كلامه وقال للبطارقة أن الحق مع هؤلاء القوم فقال بعض الحجاب أن هذا هو الذي قتل أخاك فلما سمع ذلك ازورت عيناه وغضب غضبا شديدا وهم أن يثب على ربيعة ففهم ربيعة ذلك منه فوثب من مكانه اسرع من البرق وضرب بيده إلى قائم سيفه وعاجل جرجيس بضربة فجندله صريعا قتيلا ووثب على فرسه فركبها فاسرعت البطارقة إليه وهو راكب فحمل فيهم ونظر يزيد بن أبي سفيان إلى ذلك فقال للمسلمين أن اعداء الله قد غدروا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدونكم وإياهم فحمل المسلمون على المشركين واختلط الجيش بالجيش وصبرت الروم لقتال العرب فبينما هم في القتال إذ أشرفت جيوش المسلمين مع شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر المسلمون إلى أخوانهم في القتال حملوا على القوم حملة صادقة وحكمت سيوفهم في قمم الروم.
قال الواقدي: لقد بلغني أن الثمانية آلاف المذكورة من الروم لم ينج منهم أحد لأن العرب التقطوهم بسبق الخيل وبعد الشام من تبوك ثم أن المسلمين أخذوا أموالهم وخيامهم ثم سلموا على شرحبيل ومن معه وجمعوا المال والغنائم فقالوا: نبعث.
الجميع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فرضوا بذلك وبعثوا الجميع إلا العدة والسلاح وبعثوا مع الغنائم والأموال شداد بن أوس رضي الله عنه في خمسمائة فارس ولما وصل بالمال إلى المدينة المنورة وعاين المسلمون أموال المشركين رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم وسمع الصديق بقدوم شداد بن أوس رضي الله عنه ومن معه من المسلمين ففرح بذلك فرحا شديدا ثم اقبلوا إلى الصديق واعلموه بالفتح بعد أن سلموا عليه فسجد لله عز وجل ثم كتب كتابا إلى أهل مكة يستدعيهم للجهاد مضمونه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أهل مكة وسائر المؤمنين فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فاني قد استنفرت المسلمين إلى الجهاد وفتح بلاد الشام وقد كتبت إليكم والى المسلمين أن تسرعوا إلى ما أمركم به ربكم تبارك الله وتعالى إذ يقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] وهذه الآية فيكم وانتم أحق بها وأهلها وأول من صدق وقام بحكمها من ينصر دين الله فالله ناصره ومن بخل استغنى الله عنه والله غني حميد فسارعوا إلى جنة عالية قطوفها دانية أعدها الله للمهاجرين والأنصار فمن اتبع سبيلهم كتب من الأولياء الأخيار وحسبنا الله ونعم الوكيل قال: وختم الكتاب ودفعه إلى عبد الله بن حذافة فأخذه وسار حتى وصل مكة وصرخ في أهلها فاجتمعوا إليه فدفع إليهم الكتاب فقرأوه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوه قال سهل ابن عمرو والحرث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وقالوا: اجبنا داعي الله وصدقنا قول نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فأما عكرمة فإنه قال إلى متى نبسط لأنفسنا وقد سبقنا القوم إلى المواطن وقد فاز من فاز بالصدق وأن كنا تأخرنا عن السبق فاللحاق بالسابقين يجعلنا من الفائزين ثم خرج عكرمة بن أبي جهل في بني مخزوم وخرج الحرث بن هشام معهم وتلاحق أهل مكة خمسمائة رجل وكتب أبو بكر للطائف فخرجوا في أربعمائة رجل.
قال الواقدي: خرج بهم سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص وكان غلاما نجيبا وذلك أن سعيد بن خالد أتى إلى الصديق رضي الله عنه فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك أردت أن تعقد لأبي خالد راية ويكون قائدا من قواد جيشك فتكلم فيه المتكلمون فعزلته حين رجع من بعثك وقد حبس نفسه في سبيل الله عز وجل ولم أزل مجيبا دعوتك في بعثك فهل لك أن تقدمني على هذا الجيش فوالله لا يراني الله وانيا ابدا ولا عاجزا عن الحرب قال: وكان سعيد بن خالد نجيبا انجب من ابيه وأفرس فعقد له أبو بكر راية ودفعها إليه وأمره على الفين من العرب قال فلما سمع عمر بن الخطاب.
كلام سعيد بن خالد وانه خير من أن يكون أميرا كره لك ذلك وأقبل على الصديق رضي الله عنه يا خليفة رسول الله عقدت هذه الراية لسعيد بن خالد على من هو خير منه ولقد سمعته يقول عندما عقدتها على رغم الأعادي والله لتعلم إنه ما يريد بالقول غيري والله ما تكلمت في أبيه.
قال الواقدي: فثقل ذلك على أبي بكر وكره أن لا يعقد له وكره ايضا أن يخالف عمر لمحبته له ونصحه ومنزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم ووثب قائما ودخل على عائشة رضي الله عنها واخبرها بخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما كان من كلامه فقالت عائشة: قد علمت أن عمر ينصر الدين ويريد النصر لرب العالمين وما في قلب عمر بغض للمسلمين قال فقبل قول عائشة رضي الله عنها ثم دعا بأزد الدوسي وقال له: امض إلى سعيد بن خالد وقل له رد علينا رأيتك قال فردها وقال: والله لاقتلن تحت راية أبي بكر حيث كان فاني قد حبست نفسي في سبيل الله.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن الصديق حال تفكره فيمن يقدم طليعة الجيش قال فتقدم إليه سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وهشام بن الحرث وقالوا: اشهدوا اننا قد حبسنا أنفسنا في سبيل الله فلا نرجع عن القتال ابدا فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون ثم أن أبا بكر دعا عمرو بن العاص فسلم إليه الرايه وقال قد وليتك على هذا الجيش يعني أهل مكة والطائف وهوران وبني كلاب فانصرف إلى ارض فلسطين وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك ولا تقطع أمرا إلا بمشورته أمض بارك الله فيك وفيهم قال فأقبل عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له: يا أبا حفص أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب فلو كلمت الخليفة أن يجعلني أميرا على أبي عبيدة وقد رأيت منزلتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الأعداء قال عمر رضي الله عنه ما كنت بالذي اكذبك وما كنت بالذي اكلمه في ذلك فإنه ليس على أبي عبيدة أمير ولأبي عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة منك والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه أبو عبيدة أمين الأمة قال عمرو ما ينقص من منزلته إذا كنت واليا عليه قال عمر بن الخطاب: ويلك يا عمرو إنك ما تطلب بقولك هذا إلا الرياسة والشرف فاتق الله ولا تطلب إلا شرف الاخرة ووجه الله تعالى فقال عمرو بن العاص أن الأمر كما ذكرت ثم أمر الناس بالمسير تحت رأيته فساروا وتقدم أهل مكة وتبعهم بنو كلاب وطيء وهوزان وثقيف وتخلف المهاجرون والأنصار ليسيروا مع أبي عبيدة بن الجراح.