فصل: ذكر فتح قنسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر حديث سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه:

قال الواقدي: إن أبا عبيدة دعا بخالد وضم إليه أربعة آلاف فارس من لخم وجذام وطي ونبهان وكهلان وستس وخولان وقال: يا أبا سليمان شن الغارة بهذه الكتيبة واقصد بها المعرة واقرب من معرة حلب وشن بها الغارة على بلدة العواصم وارجع على أثرك ونفذ عيونك وانظر أن كان للقوم نجدة او ناصر من قومهم أم لا فاجابه خالد إلى ذلك وأخذ الراية و تقدم أمام الكتيبة وجعل ينشد يقول:
أخذتها والملك العظيم ** وانني بحملها زعيم

لانني كبش بني مخزوم ** وصاحب لاحمد الكريم

اسير مثل الاسد الغشوم ** يا رب فارزقني قتال الروم

قال الواقدي: وسار خالد بن الوليد إلى شيزر ونزل على النهر المقلوب ودعا بمصعب بن محارب اليشكري وضم إليه خمسمائة فارس وأمره أن يشن الغارة على العواصم وقنسرين وسار خالد بن الوليد إلى كفر طاب والمراه والى دير سمعان وجعلت خيل المسلمين تغير يمينا وشمالا على القرى والرساتيق ويأخذون الغنائم والاسارى فرجعوا إلى خالد بن الوليد بالاسارى فسار بهم إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر إلى خالد وما معه من الغنائم والأموال فرح فرحا شديدا وإذا خلف خالد سواد عظيم قد ارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على على المبشير النذير فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ما هؤلاء يا أبا سليمان.
فقال خالد: هذا مصعب بن محارب اليشكري وقد عقدت له راية على خمسمائة فارس من قومه ومن أهل اليمن وأنه اغار بهم على العواصم وقنسرين وقد أتى بالغنائم والسبي والأموال فالتفت الأمير أبو عبيدة فنظر إلى سرح عظيم من البقر والغنم وبراذين عليها رجال ونساء وصبيان ولهم دوي عظيم وبكاء شديد فقصدهم أبو عبيدة رضي الله عنه وإذا برجال مقرونين في الحبال وهم يبكون على عيالهم ونهب أموالهم وخراب ديارهم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لترجمانه قل لهم: ما بالكم تبكون ولم لا تدخلون في دين الإسلام وتطلبون الأمان والذمام لتأمنوا على أنفسكم وأموالكم فقال لهم الترجمان: ذلك فقالوا: أيها الأمير نحن كنا بالبعد منكم وكانت اخباركم تأتينا وما ظننا إنكم تبلغون إلينا فما شعرنا حتى اشرف علينا أصحابكم فنهبوا أموالنا واولادنا وساقونا في الحبال كما ترى.
قال الواقدي: وكانت الأعلاج زهاء من أربعمائة علج فقال لهم الأمير: أن مننا عليكم واطلقناكم من اسركم ورددنا عليكم أموالكم واهاليكم فهل تكونون في طاعتنا وتؤدون الجزية إلينا والخراج فقالوا: اوف لنا بذلك ونحن نفعل جميع ما شرطته علينا فعند ذلك اقبل أبو عبيدة رضي الله عنه إلى المسلمين وقال لهم: قد رأيت من الرأي أن اؤمن هؤلاء من القتل وارد عليهم أموالهم وعيالهم فيكونوا عبيدا لنا ويعمروا الأرض والبلاد ونأخذ خراجهم وجزيتهم فما انتم قائلون فما كنت بالذي اقطع امرا إلا بمشورتكم فقالوا: الرأي في ذلك أيها الأمير أن رأيت صلاحا للمسلمين.
قال الواقدي: ففرض على كل واحد أربعة دنانير وبذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعند ذلك رد عليهم أموالهم واولادهم واقرهم على بلادهم وكتب اسماءهم وامرهم بالرجوع إلى اوطانهم فلما استقروا في خيامهم اخبروا من كان بالقرب منهم بحسن سيرة العرب وما عاملوهم به من الجميل وقالوا: لقد ظننا إنهم يقتلوننا ويستعبدون اولادنا والآن قد رحمونا وأقرونا في بلادنا على اداء الجزية والخراج.
قال الواقدي: فسمعت الروم ذلك فأقبلوا إلى ابي عبيدة رضي الله عنه في طلب الأمان واداء الجزية والخراج.

.ذكر فتح قنسرين:

قال الواقدي: وبلغ الخبر إلى أهل قنسرين أن الأمير أبا عبيدة يعطي الأمان من.
قصده فأحبوا أن يأخذوا الأمان من أبي عبيدة رضي الله عنه واجمعوا رايهم على ذلك وأن ينفذوا رسولا من غير علم بطريقهم.
قال الواقدي: وكان على قنسرين والعواصم بطريق من بطارقة الملك من أهل الشدة والبأس وكان أهل قنسرين يخافون منه وكان اسمه لوقا وصاحب حلب عسكره مثل عسكره وسطوته مثل سطوته وكان الملك هرقل قد دعا بهما إليه فقالا له أيها الملك ما كنا نترك ملكنا من غير أن نقاتل قتالا شديدا فشكرهما الملك هرقل على ذلك ووعدهما أن يبعث إليهما جيشا عرمرميا وكانا منتظرين ذلك من وعد الملك لهما وكان مع كل واحد منهما عشرة آلاف فارس إلا انهما لا يجتمعان في موضع واحد قال فلما سمع صاحب قنسرين ما قد عزم عليه أهل قنسرين من الصلح مع ابي عبيدة غضب غضبا شديدا وعزم أن يمكر بهم فجمع أهل قنسرين إليه وقال لهم: يا بني الأصفر ما تريدون أن اصنع مع هؤلاء العرب وكأنكم بهم وقد اقبلوا إلينا يفتحون بلادنا كما فتحو أكثر بلاد الشام فقالوا: أيها السيد قد بلغنا إنهم أصحاب وفاء وذمة وقد فتحوا أكثر البلاد بالصلح والعدل ومن قاتلهم قاتلوه واستعبدوا اهله واولاده ومن دخل تحت طاعتهم اقروه في بلده وكان آمنا من سطوتهم والرأي عندنا أن نصالح القوم ونكون آمنين على أنفسهم وأموالنا فقال لهم البطريق: لقد اشرتم بالصواب والأمر الذي لا يعاب لأن هؤلاء العرب قوم منصورون على من قاتلهم وها أنا اعقد لكم الصلح معهم سنة كاملة إلى أن توافينا جيوش الملك هرقل ونعطف عليهم وهم آمنون فنبيدهم عن آخرهم فقالوا: افعلوا ما فيه الصلاح.
قال الواقدي: واتفق أهل قنسرين والبطريق على صلح المسلمين وفي قلوبهم الغدر قال وأن لوقا البطريق دعا برجل من أصحابه اسمه اصطخر وكان قسيسا عالما بدين النصرانية فصيح اللسان قوي الجنان يعرف العربية والرومية وقد عرف الدينين إليهودية والنصرانية فقال لوقا يا ابانا سر إلى العرب وقل لهم يصالحونا سنة كاملة حتى نبعد القوم بالحيلة والخداع ثم كتب الكتاب إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه فقال بعد كلمة كفره اما بعد يا معاشر العرب أن بلدنا منيع كثير العدد والرجال فما تأتونا من قبله ولو اقمتم علينا مائة سنة ما قدرتم علينا وأن الملك هرقل قد استنجد عليكم من حد الخليج إلى رومية الكبرى ونحن قد بعثنا إليكم نصالحكم سنة كاملة حتى نرى لمن تكون البلاد ونحن نريد منكم أن تجعلوا بيننا وبينكم علامة من حد أرض قنسرين والعواصم حتى إذا همت العرب بالغارة بدت العلامة تريكم حد ارضنا ونحن نصالحكم خفية من الملك هرقل لئلا يعلم فيقتلنا والسلام ثم خلع على اصطخر خلعة سنية واعطاه بغلة من مراكبه وعشرة غلمان وسار حتى وصل إلى حمص فرأى الأمير أبا عبيدة رضي.
الله عنه يصلي بالمسلمين صلاة العصر فوقف اصطخر ينظر ما يفعلون ويعجب من ذلك فلما فرغوا من صلاتهم ونظروا إلى القسيس وثبوا إليه وقالوا له: من أنت ومن اين اقبلت فقال أنا رسول ومعي كتاب فمثلوه بين يدي ابي عبيدة فهم القسيس بالسجود له فمنعه أبو عبيدة رضي الله عنه من ذلك وقال له: نحن عبيد الله عز وجل فمنا شقي ومنا سعيد: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 106, 107] فلما سمع اصطخر ذلك بهت وبقي لا يرد جوابا وهو متعجب مما تكلم به الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فناداه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال له: ما شأنك أيها الرجل ورسول من أنت فقال اصطخر اانت أمير القوم فقال خالد: لا بل هذا اميرنا واشار إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فقال اصطخر أنا رسول صاحب قنسرين والعواصم ثم اخرج الكتاب ودفعه إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فأخذه وقرأه على المسلمين فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ما في الكتاب من صفة مدينتهم وكثرة عددهم ورجالهم وتهديدهم بجيوش الملك هرقل حرك رأسه وقال لأبي عبيدة: وحق من ايدنا بالنصر وجعلنا من امة محمد صلى الله عليه وسلم الطاهر أن هذا الكتاب من عند رجل لا يريد الصلح بل يريد حربنا ثم قال لاصطخر: تريدون أن تخدعونا حتى إذا جاءت جنود صاحبكم ورأيتم القوم وقد جاءتكم نقضتم صلحنا وكنتم أول من يقاتلنا وأن رأيتم الغلبة لنا هربتم إلى طاغيتكم هرقل فإن أردتم ذلك فنواعدكم الحرب مواعدة من غير أن يكون صلحا سنة كاملة فإن لحق بكم جيش هذه السنة من الملك هرقل فلا بد من قتاله فمن اقام في المدينة ولم يقاتل مع الجيش فهو على صلحنا لا نتعرض له قال اصطخر قد اجبناكم إلى ذلك فاكتبوا لنا كتابا بذلك فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير اكتب لهم كتابا بمواعدة الحرب سنة كاملة اولها مستهل شهر ذي القعدة سنة أربع عشرة من الهجرة النبوية قال فكتب له أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك فلما فرغ من الكتاب قال له: اصطخر أيها الأمير حد بلادنا معروف وبازائنا صاحب حلب وبلاده بحد بلادنا ونريد أن تجعل لنا علامة فيما بيننا وبينكم حتى إذا طلب أصحابكم الغارة لا يتجاوزون ذلك.
قال الواقدي: فرضني أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك وقال أنا ابعث من يحدد لكم ذلك قال اصطخر أيها الأمير ما نريد معنا أحدا من أصحابك نحن نصنع عمودا وننصحه ويكون عليه صورة الملك هرقل فإذا رآه أصحابك لا يجاوزنه فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه افعل ذلك ثم دفع إليه الكتاب ونادى في عساكر المسلمين وأصحاب الغارات من نظر إلى عمود فلا يتعداه ولا يتجاوزه بل يشن الغارة على ارض حلب وحدها ولا يتجاوز العمود فليبلغ الشاهد الغائب.
قال الواقدي: ورجع اصطخر إلى بطريق قنسرين واعلمه بما جرى له مع خالد بن الوليد رضي الله عنه ودفع له الكتاب ففرح بذلك وقصد إلى عمود عظيم وصنع عليه صورة الملك هرقل كأنه جالس على كرسي مملكته.
قال الواقدي: وكانت خيل المسلمين تضرب غارتها إلى اقصى بلاد حلب والعمق وانطاكية ويحيدون عن حد قنسرين والعواصم إلا يقربون العمود قال عمر بن عبد الله الغبري عن سالم بن قيس عن ابيه سعد بن عبادة رضي الله عنه قال كان صلح المسلمين لاهل قنسرين والعواصم على أربعة آلاف دينار ملكية ومائة اوقية من الفضة والف ثوب من متاع حلب والف وسق من طعام.
قال الواقدي: حدثنا عامر قال كنا في بعض الغارات إذ نظرنا إلى العمود وعليه صورة الملك هرقل فجئنا عنده وجعلنا نجول حوله بخيولنا ونعلمها الكر والفر وكان بيد أبي جندلة قناة تامة فقرب به الجواد من الصورة وهو غير متعمد ذلك ففقأ عين الصورة وكان عندها قوم من الروم وهم غلمان صاحب قنسرين يحفظون العمود فرجعوا إلى البطريق وأعلموه بذلك فغضب غضبا شديدا ودفع صليبا من الذهب إلى بعض أصحابه وضم إليه ألف فارس من أعلاج الروم وعليهم الديباج الرومي وعليهم المناطق المجوفة وأمر اصطخر أن يسير معهم وقال له: ارجع إلى أمير العرب وقل له غدرتم بنا ولم توفوا بذمامكم ومن غدر جندل فأخذ اصطخر الصليب وسار مع ألف فارس من الروم حتى اشرف على ابي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر المسلمون إلى الصليب وهو مرفوع اسرعوا إليه ونكسوه فاستقبل أبو عبيدة القوم وقال من انتم قال اصطخر أنا رسول صاحب قنسرين إليك وهو يقول: لك غدرتم ونقضتم العهد الذي بيننا وبينكم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمت بذلك وسوف اسأل عنه ثم نادى يا معاشر الناس من فقأ عين التمثال فليخبرنا بذلك فقالوا: أيها الأمير أبو جندلة وسهل بن عمرو صنعا ذلك من غير أن يتعمداه فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لاصطخر أن صاحبنا فعل ذلك من غير أن يتعمد فما الذي يرضيك منا فقالت الأعلاج: لا نرضى حتى تفقأ عين ملككم يريدون بذلك أن يتطرقوا إلى رقاب المسلمين فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ها أنا فاصنعوا بي مثل ما صنع بصورتكم قالوا: لا نرضى بذلك إلا بعين ملككم الأكبر الذي يلي أمر العرب كلها فقال أن عين ملكنا تمنع من ذلك.
قال الواقدي: وغضب المسلمين حين ذكر الأعلاج عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهموا بقتل الأعلاج فنهاهم أبو عبيدة رضي الله عنه عن ذلك فقال المسلمون أيها الأمير نحن دون امامنا فنفديه بأنفسنا ونفقأ عيوننا دون عينه فقال اصطخر عندما نظر.
إلى المسلمين وقد هموا بقتله وقتل من معه من الأعلاج لا نفقا عين عمر ولا عيونكم ولكن نصور صورة اميركم على عمود ونصنع به مثل ما صنعتم بصورة ملكنا فقالت المسلمون أن صاحبنا فعل ذلك من غير تعمد وانتم تريدون العمد فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه مهلا يا قوم فإذا رضي القوم بصورتي فقد اجبتم إلى ذلك ولا يتحدث القوم عنا اننا عاهدنا وغدرنا فإن هؤلاء القوم لا عهد لهم ولا عقل ثم اجابهم إلى ذلك.
قال الواقدي: فصوروا ابي عبيدة رضي الله عنه على عمود وجعلوا له عينين من زجاج واقبل فارس منهم حنقا ففقأ عين الصورة ثم رجع اصطخر إلى صاحب قنسرين واخبره بذلك فقال لقومه بهذا نالهم ما يريدون قال واقام أبو عبيدة على حمص يغير يمينا وشمالا ينتظر خروج السنة لينظر ما بعد ذلك.
قال الواقدي: وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر بن الخطاب رضي الله ولم يرد عليه شيء من الكتب والفتح فأنكر عمر ذلك وظن به الظنون وحسب إنه قد داخله خبر وقد ركن إلى القعود عن الجهاد فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة ابي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وآمرك بتقوى الله عز وجل سرا وعلانية وأحذركم عن معصية الله عز وجل وأحذركم وانهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] الاية وصلى الله على خاتم النبيين وامام المرسلين والحمد لله رب العالمين فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين عمر يحرضهم على القتال وندم أبو عبيدة رضي الله عنه على صلح قنسرين ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا:
أيها الأمير ما يقعدك عن الجهاد فدع أهل شيزر وقنسرين واطلب بنا حلب وانطاكية فلعل الله أن يفتحهما على ايدينا وقد انقضى اجل الصلح وما بقي إلا القليل وما البقاء إلا للملك الجليل فعزم أبو عبيدة على المسير إلى حلب وعقد راية لسهل بن عمرو وعقد راية اخرى لمصعب بن محارب اليشكري وامر عياض بن غانم أن يسير على مقدمتهم واتبعه خالد بن الوليد وسار أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أن نزل على الرشين وصالح اهلها وسار الىحماة فخرج اهلها إليه ومعهم الإنجيل وقد رفعه الرهبان على اكفهم والقسس أمام القوم يطلبون منه الصلح والذمام فلما رآهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقف وقال لهم: ما الذي تريدون فقالوا: أيها الأمير نريد أن نكون في صلحكم وذمامكم فأنتم أحب إلينا.
قال الواقدي: فصالحهم أبو عبيدة وكتب لهم كتاب الصلح والذمام وخلف رجالا من المؤمنين وسار حتى نزل إلى شيزر فاستقبلوه فصالحهم وقال لهم: اسمعتم للطاغية هرقل خبرا فقالوا: ما سمعنا له خبرا غير إنه اتصل بنا الخبر أن بطريق قنسرين قد كتب إلى الملك هرقل يستنجد عليكم وقد بعث بجبلة بن الأيهم الغساني من بني غسان والعرب المنتصره ومعه بطريق عمورية في عشرة آلاف فارس وقد نزلوا على جسر الحديد فكن منهم على حذر أيها الأمير فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الواقدي: واقام الأمير أبو عبيدة على شيزر وبقي مرة يقول: اسير إلى حلب ومرة يقول: اسير إلى انطاكيه فجمع امراء المسلمين إليه وقال: أيها الناس قد بلغني أن بطريق قنسرين قد نقض العهد وارسل للملك هرقل والخبر كذا وكذا فما انتم قائلون فقالوا: أيها الأمير دع أهل قنسرين والعواصم وسر بنا إلى حلب وانطاكية فقال خذوا اهبتكم رحمكم الله.
قال الواقدي: وكان بقي من الصلح والعهد الذي بينهم وبين أهل قنسرين شهر او اقل من ذلك فأقام أبو عبيدة رضي الله عنه ينتظر انفصال العهد قال وكانت عبيد العرب يأتون بجراثيم الشجر من الزيتون والرمان وغير ذلك من الاشجار التي تطعم الثمار فعظم ذلك على الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه فدعا العبيد إليه وقال: ما هذا الفساد فقالوا: أيها الأمير أن الأحطاب متباعدة منا وهذه الاشجار قريبة فقال الأمير أبو عبيدة عزيمة مني على كل حر وعبد قطع شجرة لها طعم وثمر لاجازينه ولانكلن به فلما سمع العبيد ذلك النكال جعلوا يأتون بالأحطاب من اقصى الديار قال سعيد بن عامر وكان معي عبد نجيب وكان اسمه مهجعا وقد شهد معي الوقائع والحروب وكان جريء القلب في القتال وكان إذا خرج في غارة او في طلب حطب يتوغل ويبعد فخرج هو وجماعة من العبيد ممن شهد الوقائع في طلب الحطب فأبطأ خبره على سيده سعيد بن عامر فركب جواده وخرج في طلبه وجعل يقفو أثره وإذا لاح له شخص وقد سال دمه على وجهه وصبغ سائر جسده وما كاد يمشي خطوة واحدة إلا ويهوي على وجهه قال سعيد بن عامر فنزلت إليه وقلت له: ما وراءك من الأخبار فقال هلكة ودمار يا مولاي فقلت: عليك يا ابن الأسود حدثني بخبرك قال سعيد فلم يكد يقف حتى سقط على وجهه فنضحت على وجهه ماء فسكن ما به فقال: يا مولاي انج بنفسك وإلا ادركك القوم يصنعون بك مثل ما صنعوا بي فقلت: ما القوم الذين صنعوا بك ما أرى فقال خرجت يا مولاي أنا وجماعة من الموالي لنحطتب حطبا فتباعدنا كثيرا في البر وإذا نحن بكتيبة من الخيل زهاء عن ألف فارس كلهم عرب وفي اعناقهم صلبان الذهب والفضة وهم معتقلون بالذهب والفضة.
والرماح فلما نظروا إلينا اسرعوا نحونا وداروا بنا وعزموا على قتلنا فقلت لأصحابي: دونكم وإياهم.
فقالوا: ويحك ومن يقاتل وليس لنا طاقة بقتال هذه الكتيبة والخيل وما لنا إلا أن نلقي بأيدينا إلى الأسر فهو اهون من القتال فقلت: لا والله ما سلمت نفسي إليهم دون أن اقاتل قتالا شديدا فلما رأوا مني الجد فعلوا مثل فعلي فقاتلنا القوم وقاتلونا فقتلوا منا عشرة وأسروا عشرة وأما أنا فأثخنت بالجراح حتى سقطت على وجهي فرجعوا عني وبقيت كما ترى قال سعيد بن عامر الأنصاري فغمني والله ما نزل بالعبيد فأردفته ورائي ورجعت على أثري وإذا بالخيل قد طلعت من ورائي كأنها الريح الهبوب او الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب وإذا بخيل غسان أحدقت بالرماح الطوال وهم يقولون نحن بنو غسان من حزب الصليب والرهبان قال سعيد بن عامر فناديتهم أنا من أصحاب محمد المختار صلى الله عليه وسلم فأسرع بعضهم الي وهم أن يعلوني بالسيف فناديته يا ويلك أتقتل رجلا من قومك فقال من أي الناس أنت قلت: أنا من الخزرج الكرام فرد السيف وقال أنت طلبة سيدنا جبلة بن الأيهم وحق المسيح فقلت: ومن اين يعرفني جبلة حتى يطلبني فقال إنه يطلب رجلا من أهل اليمن من انصار محمد بن عبد الله ثم قال سر بنا طائعا وإلا سرت كرها قال سعيد بن عامر فسرت والجيش معي حتى اشرفنا على جيش عرمرم وعنده اعلام وصلبان قد رفعت فلم ازل مع القوم حتى أتوا بي إلى مضرب جبلة بن الأيهم وإذا به جالس على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت فلما وقفت بين يديه رفع رأسه الي وقال من أي عرب أنت قلت: أنا من اليمن قال اكرمت من أيها فقلت: أنا من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو وبن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عبد الله بن الأزور بن عوف بن مالك بن كهلان بن سبأ فقال جبلة من أي الملأ أنت نسبا فقلت: أنا من ولد الخزرج بن حارثة من انصار محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال جبلة وأنا من قومك من بني غسان فقلت: أنا من القبيلة التي نسبت إليها فقال أنا جبلة بن الأيهم الذي رجعت عن الإسلام فما رضي صاحبكم عمر بن الخطاب أن يكون مثلي لهذا الدين ناصرا حتى يأخذ مني القود لعبد حقير وأنا ملك اليمن وسيد غسان فقلت: يا جبلة أن حق الله اوجب من حقك وديننا لا يقوم إلا بالحق والنصفة وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يخاف ولا تأخذه في الله لومة لائم فقال لي ما اسمك فقلت: سعيد بن عامر الأنصاري فقال اوطيء يا سعيد قال فجلست فقال الك عهد بحسان بن ثابت الأنصاري فقلت: شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال فيه المصطفى أنت حسان ولسانك حسام فقال لي كم لك منذ فارقته فقلت: عهدي به قريب وقد دعاني إلى دعوة صنعها وامر مولاته أن تنشد بها شعرا فيك فانشدت:
لله در عصابة نادمتهم ** يوما بجلق في الزمان الأول

يغشون حتى ما تهر كلابهم ** لا يسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة انسابهم ** شم الأنوف من الطراز الأول

الملحقين فقيرهم بغنيهم ** المشفقين على اليتيم الأرمل

اولاد جفنة حول قبر ابيهم ** قبر ابن مارية الكريم المفضل

ثم خرجنا إلى الشام وهذا آخر عهدي به قال جبلة بن الأيهم اوحفظ لي هذه المكرمة قلت: نعم قال فأمر لي بثوب من الكتان الرومي وفيه شيء من الورق وقال أنا امرت لك بالكتان كي تلبسه ولا تحرمه ثم قال لي بحق ذمة العرب ما كنت تصنع في المكان الذي اسرت فيه فقلت: إن الصدق اوفى ما استعمله الرجل أنا من أصحاب الأمير ابي عبيدة بن الجراح وقد قصدنا نريد حلب وانطاكية فقال جبلة اعلم أن الملك قد بعثني أنا وهذا البطريق صاحب عمورية حتى ننصر صاحب قنسرين فإنه قد كادكم بصلحه لكم وأنا منتظر أن يلاقينا بهذا المكان ولكن ارجع إلى صاحبك ابي عبيدة وحذره من اسيافنا وقل له يرجع من حيث قدم ولا يتعرض لبلاد هرقل وسوف ينزع من ايديكم ما قد ملكتموه من الشام قال سعيد بن عامر فركبت واردفت غلامي وسرت حتى أتيت عسكر المسلمين فأسرع الناس الي وقالو ا اين كنت يا ابن عامر فأتيت خيمة الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وحدثته بقصتي مع جبلة بن الأيهم فقال لي لقد خلصك الله بذكرك لحسان بن ثابت الأنصاري ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشورة ثم قال: أيها الناس ما ترون من قصة هذا البطريق وقد وفينا له وكادنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن البغي مصرعة وأن كادنا كان الله من ورائه بالمرصاد وسوف نكيده اعظم مكيدة وأنا اسير إلى لقائه بعشرة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: أنت لها يا أبا سليمان ولكل كريهة فخذ من أحببت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اين عياض بن غانم الاشعري اين عمرو بن سعيد اين مصعب بن محارب اليشكري اين أبو جندلة بن سعيد المخزومي اين سهل بن عمرو العامري اين رافع بن عميرة الطائي اين المسيب بن نجية الفزازي اين سعيد بن عامر الأنصاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي اين عاصم بن عمر القيس اين عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه فاجابوه بالتلبية.
قال الواقدي: وكان ضرار بن الأزور رضي الله عنه رمد العينين لم يحضر هذه الوقعة فقال لهم خالد بن الوليد: هلموا فوجدوه قد تدرع بدرع مسيلمة الكذاب الذي.
استلبه منه يوم اليمامة واشتمل بلامة حربه وركب جواده وقال لعبده همام سر معي حتى ترى مني عجبا فسار معه وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه والعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو عبيدة يا سعيد أما اخبرك جبلة بن الأيهم من اين يأتي البطريق صاحب قنسرين إليه فقال: نعم يا أبا سليمان اخبرني فقال له: خذنا في الطريق إلى جبلة بن الأيهم رضي الله عنه يدعو لهم بالنصر فأقبل خالد على سعيد بن عامر الأنصاري وقال حتى نكمن له فيه فإذا أتى البطريق صاحب قنسرين كدناه كما كادنا ودمرناه ومن معه فسار سعيد أمام القوم يدلهم ويجد السر طالب عسكر جبلة بن الأيهم وكان مسيرهم ليلا فلما وصلوا إلى قرب النيران وسمعوا اصوات القوم عدل بهم سعيد بن عامر إلى صوب طريق البطريق وكمن بمن معه من الرجال إلى وقت الصباح فلم يأت أحد فصلى خالد بأصحابه صلاة الفجر وهم في المكمن فبينما هم في المكمن إذ اشرف عليهم جيش جبلة بن الأيهم والعرب المتنصرة وصاحب عمورية وهم طالبون ارض العواصم وقنسرين فقال المسلمون لخالد يا أبا سليمان أما ترى هذا الجيش الذي قد اشرف علينا في عدد الشوك والشجر فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: فما يكون من كثرتهم إذا كان النصر لنا والله معنا فاختلطوا بهم انتم وكونوا في جملتهم كأنكم من جيشهم إلى أن نلتقي بالبطريق صاحب قنسرين ويفعل الله تعالى ما يشاء ويختار فعند ذلك اختلطوا بهم وصاروا في جملتهم وهم لا يفترقون قال رافع بن عميرة الطائي فلما اشرفنا على حد صلحنا ولاح لنا بلد العواصم وقنسرين إذا ببطريقها قد استقبلنا وقد رفع امامه الصليب واخرج بين يديه القسوس والرهبان وهم يقرأون الإنجيل وقد ارتفعت اصواتهم بكلمة الكفر ودنا بعضهم من بعض.
وخرج البطريق أمام الصحابة ليأتي إلى جبلة بن الأيهم يسلم عليه فاستقبله خالد بن الوليد رضي الله عنه مواجها له وحوله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرب البطريق منهم قال سلمكم المسيح وأبقاكم الصليب فقال خالد: ويا ويلك ما نحن من عباد الصليب بل نحن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد الحبيب وكشف خالد بن الوليد رضي الله عنه وجهه ونادى لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله يا عدو الله أنا خالد بن الوليد أنا المخزومي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب بيده البطريق وقبض عليه واتنزعه من سرجه وبرز أصحاب رسول الله عليه وسلم وسلوا السيوف على أصحابه وارتفعت الضجة والجلبة وأعلن العدو بكلمة الكفر وضج المسلمون بكلمة التوحيد وسمع جبلة وصاحب عمورية اصوات المسلمين وقد ارتفعت بالتهليل والتبكير فانزعجوا لذلك ونظروا إلى السيوف وقد جردت والرماح وقد شرعت فبرزوا نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاطوا بهم من كل جانب ومكان فلما نظر خالد إلى ما دهمه ونزل بأصحابه الذين معه والبطريق صاحب قنسرين لا يفارقه وقد ملك قياده وهو خائف أن.
ينفلت من يديه أو تجري عليه حادثة قبل أن يقتله هم خالد أن يقتله ورفع السيف ليعلوه به فتبسم البطريق من فعاله وعجب خالد من ضحكه وقال ويلك مم ضحكك فقال البطريق لانك مقتول أنت ومن معك وتريد قتلي وأن أنت ابقيت علي فهو اصوب فتركه خالد ولم يقتله ثم صاح خالد بأصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كونوا حولي واحموا عني واصبروا على ما نزل بكم ولا يكثر عليكم من أحدق بكم فإن اشد ما تخافون منه القتل والموت منية خالد في سبيل الله وإني والله اهديت نفسي للقتل مرارا لعلي ارزق الشهادة واعلموا رحمكم الله أن حجتنا واضحة ومفوضة إلى الله عز وجل وكأني بكم وقد وصلتم إلى ربكم وسكنتم دارا لا يموت ساكنها ثم قرأ: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].