فصل: ذكر فتوح مدينة مريوط:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.نتائج المعركة:

قال ابن إسحاق: وكان من حسن تدبير الله تعالى لعباده المؤمنين انه كان للمقوقس أخ شقيق واسمه ارجانوس وكانا متحابين وكان المقومس لا يقطع أمرا دونه وكانا إذا ركبا لا يفترقان وإذا جلسا يجلسان معا على السرير وكان المقوقس قد دخل في خلوته التي ذكرنا وكان أخوه من محبته قد رتب هناك من يعرفه لما يخرج من خلوته فلما كان في هذه النوبة استبطأه فأتى إلى ابن أخيه فرآه على السرير فقال له: ما فعل الملك فقال: انه في خلوته إلى الآن وقد رأى أن طالعه ضعيف مع هؤلاء العرب وقد أمرني أن أكون مكانه حتى يرى ما يريد من قتالهم أو صلحهم قال فكتم ارجانوس الأمر في نفسه وعلم أن أخاه قد قتل وكان ارجانوس ممن يعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلم أن دعوته تطوف المشرق والمغرب وإن الملوك تضمحل في أيام أصحابه وسينزلون على البلاد فترك أرجانوس الأمر موقوفا ولم يبد ما في نفسه لآحد فلما خرج ابن أخيه مع العسكر جمع ارجانوس الذين تركهم ابن أخيه لحفظ البلد في قصر الشمع وقال لهم: اعلموا أن العقل هو عمدة قوى ابن آدم لأن الله قد خصه به دون سائر المخلوقات وإن أخي قد قتله ولده لا محالة وقد كان محبا لكم ومشفقا عليكم واعلموا أن هؤلاء العرب قد كان قدامهم من ملكه أعظم من ملككم وما ثبت بين ايديهم وليس بين دولتكم وبين أن تزول وتضمحل إلا أن يلتقي هذان الجيشان وإن ظفر بكم هؤلاء العرب قتلوكم ونهبوكم وسكنوا في مساكنكم وأيتموا أولادكم فقالوا: أيها الملك فما يكون عندك من الرأي وما تفعل قال إني أرى من الرأي أن تستيقظوا لأنفسكم وتغلقوا أبواب هذا القصر ولا تدعوا أحدا يدخل عليكم من جند الملك ولا هو نفسه فإنهم لا يقدرون أن يقاتلوكم والعرب من ورائهم وإنه يعدي إلى الجانب الغربي ويمضي الي اسكندرية ونعقد لنا صلحا مع هؤلاء العرب على أنفسنا وأولادنا وحريمنا ونسلم لهم بعد ذلك فمن أراد يتبعهم ومن أراد يعطيهم الجزية قال فاستصوبوا رأيه واعلموا أنه نطق بالحق كان أرجانوس له في سرايته ألف مملوك قال فاحتوى على قصر الملك وأخذ الخزائن والأموال وغلق أبواب قصر الشمع وفعل ما فعل وليس عند ابن أخيه خبر إلى أن ذهب من الليل نصفه أو أكثر فجاء إليه بعض خدمه وأخبره بما فعل عمه فأيقن بتلفه وخروج ملك مصر منه قال فبينما هو في حيرة في أمره إذ كبر خالد بن الوليد ومن معه في وسط عسكره فسمع عمرو وأصحابه التكبير فكبروا ووقعت الخذلة على الكفار وحملت فيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيوف فلما نظر أرسطوليس إلى ما نزل به والكبسة التي وقعت بعسكره لم يكن له دأب إلا أن ركب وأحدقت به مماليك أبيه وأرباب دولته وطلبوا الهزيمة وقصدوا البحر وعدوا الجانب الغربي وطلبوا اسكندرية فحازوا على مدينة مريوط وفيها الموبذان الساقي ومعه ثلاث آلاف من عسكره فلما صاح الصائح في مصر بأن الملك انهزم وما ثبت.
أحد من عسكر القبط وولوا والسيف يعمل فيهم وغرق منهم في البحر خلق كثير ونصر الله المسلمين وانهزموا.
قال ابن إسحاق: حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة ودخلوا مصر وملكوا دورها وأحاطوا بقصر الشمع فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس وقال لهم: يا فتيان العرب اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر وقد فعلت في حقكم كذا وكذا ولولا حيلتي على ابن اخي لما انهزم منكم وقد ظفرتم الآن ونحن نسلم اليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم فقال له معاذ بن جبل: قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصلح أعمالنا واتباعنا للحق وانا ما قلنا قولا إلا وفيناه ولا استعملنا الغدر ولا المكر وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم ومن بقي منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر وجمعوا أكابر مصر ومشايخها وقالوا: لهم أن الله قد نصرنا عليكم وقد انهزم ملككم منا وأنتم الآن في قبضتنا وقد صرتم مماليكنا ومن أسلم منكم قبلناه ومن أبي استعبدناه فقالوا: أيها الملك ما هكذا بلغنا عنكم قال: وما الذي بلغكم عنا قالوا: سمعنا عنكم أن الله قد أسكن الرحمة في قلوبكم وأنتم تعفون عمن ظلمكم وتحسنون إلى من أساء اليكم وأنت تعلم أننا قوم محكوم علينا ولو كان الأمر الينا لاتبعناكم فارفقوا بنا وانظروا في أحوالنا فقال عمرو لأصحابه وللأمراء ما ترون من الرأي في أمر هؤلاء القوم.
فقال شرحبيل ابن حسنة اصنع ما أمر الله به من العدل فيهم وأحسن إليهم وطيب خواطرهم فاننا إذا قصدنا غير هذه المدينة وسمع أيها الأمير عنك أهل المدينة الأخرى بما فعلته مع أهل مصر يسلمون بغير منازعة ولا حرب فقال معاذ بن جبل وخالد بن الوليد والمقداد وعمار ومالك وربيعة ويزيد القول الذي قاله كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعمول به فقال عمرو لأهل مصر قد أمناكم على أنفسكم وأولادكم وحريمكم منه منا عليكم وقد وضعت عنكم جزية هذه السنة وفي السنة الآتية نأخذ منكم الجزية من كل محتلم أربعة دنانير ومن أسلم منكم قبلناه قال فلما سمع أرجانوس ابن راعيل كلام عمرو قال لقد أنصفت وإن الله بهذا نصركم وقد وقفت الآن على صحة دينكم وأنا أشهد أن الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله واشهدوا على أن كل ما تركه أخي من الأموال والأصول والثياب والمتاع هو هبة مني اليكم بما فعلتم مع أهل بلدي.
قال: فلما نظر أهل مصر إلى أرجانوس وقد أسلم دخل أكثرهم في الإسلام وعمد عمرو إلى الكنيسة وعملها جامعا وهو المعروف به إلى يومنا هذا وجمع الأموال التي أخذها من وراء القبط المنهزمين ومن منازلهم وما كان في قصر الملك وأخرج الخمس وأعطى كل ذي حق حقه ثم كتب كتابا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عليه وبعث الخمس والكتاب مع علم بن سارية وسلم المال والكتاب له وسير معه مائة فارس وأمره بالمسير إلى المدينة فاستلم الخمس وسار حتى قدم المدينة وسلم المال والكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما قرأه سجد لله شكرا وأمر بالمال إلى بيت المال فقال علم بن سارية يا أمير المؤمنين أن عمرا يسلم عليك ويقول لك أن القبط كانوا استسنوا سنة في نيلهم في كل سنة وذلك أنهم كانوا إذا أبطأ عليهم الوفاء في النيل يأخذون جارية من أحسن الجواري ويزينونها بأحسن زينة ويرمونها في البحر فيأتي الماء ويفي النيل وقد قرب ميقات ذلك ولا يفعل عمرو شيئا إلا باذنك قال فكتب عمر بن الخطاب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت مخلوقا لا تملك ضرا ولا نفعا وأنت تجري من قبل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك وإن كنت تجري بحول الله وقوته فاجر كما كنت والسلام وأمره أن يدفعه لعمرو بن العاص يرميه فيه وقت الحاجة إليه ثم إنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فالسلام عليك وانى أحمد الله اليك وأصلي على نبيه وإذا وصل اليك كتابي فأطلب أعداء الله حيث كانوا وإياك أن تلين جانبك لهم وانظر في أحوال الرعية واعدل فيهم ما استطعت وأطلب العفو بالعفو عن الناس وأجر الناس على عوائدهم وقوانينهم وقرر لهم واجبا في دواوينهم وأعل رسوم العافية بالعدل فإنما هي أيام تمضي ومدة تنقضي فإما ذكر جميل واما خزي طويل ثم إنه سلم الكتاب إلى علم بن سارية فسار هو ومن معه إلى أن قدموا مصر وسلم الكتاب إلى عمرو فأما كتابه فقرأه على المسلمين وأما كتاب النيل فإنهم قد كانوا عدوا ليالي الوفاء وتوقف النيل عن الوفاء وقد يئس الناس من الوفاء في تلك السنة فمضى عمرو إلى النيل وخاطبه ورمى فيه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فلما رماه فيه هاج البحر وزاد فوق الحد ببركة عمر بن الخطاب وانقطعت عن أهل مصر تلك السنة السيئة ببركة عمر رضي الله عنه.
حدثنا محمد بن يحيى بن سالم عن عدي بن يحيى بن عوف قال لما بلغنا أن عمرو افتح مصر وأتى إلى الكنيسة المعظمة عندهم وجد في مذبحها بيتا مغلقا وإذا فيه صورة من الفضة وأمام الصورة شخص آخر وفي يده أعلام وهي على صفة الصورة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما فتح مكة فدعا عمرو بالقسوس وقال لهم: ما هذه الصورة قالوا له: هذه صورة إبراهيم وأبيه آزر فتبسم عمرو وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] فقال معاذ بن جبل لما قدمت من اليمن سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول آزر اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من هذا فيقول الله حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول له يا إبراهيم انظر إلى ما تحت قدميك فينظر إلى الريح وقد أخذت اباه فتلقيه في النار» قال ثم أمر عمرو بالصورتين فكسرتا وعبر عسكر المسلمون إلى الجانب الغربي وقد تقدم خالد فترجل إلى نحو الاسكندرية وتقدم على مقدمته عبد الله يوقنا وسار يوما وليلة هو وبنو عمه وهم بزي الروم.

.ذكر فتوح مدينة مريوط:

قال ابن إسحاق: وكان قد بلغ المربذان الذي مع الثلاثة آلاف وهم في مدينة مريوط وقد حصنها ما حصل فلما قدم عليه يوقنا قال له الموبذان: ما الذي أقدمك علينا فقال يوقنا أن المسلمين وجهوني اليك وهم يحرضونك على خلاص نفسك ويأمرونك بتسليم هذه المدينة إليهم ولك الأمان على نفسك وأهلك ومالك ومن أردت ولك الخيار في المقام تحت يد الإسلام أو الانفصال فإن اخترت المقام فلا مانع يمنعك وإن اردت المسير أوصلناك إلى أي موضع أردت فلما سمع الموبذان ذلك قهقه ضاحكا وقال: وحق ديني أن الغدر شعاركم والمكر دثاركم فلا فلح من آمن لكم وأما أنا فلا أخون الملك في بلده وأنا وهو في أرض واحدة وسوف أبعث إليه بأن أقدم إليه وأساعده عليكم جزاء بما عملتموه من الخديعة وستعلمون على من تدور الدائرة ومن يكون المغبون في الآخرة وأنت يا معشر الروم قد كفرتم بالمسيح وجحدتم السيدة أم النور وخرجتم من ملة الحواريين وأردتم هؤلاء العرب الجياع الاكباد العراة الاجساد ولن يغنوا عنكم شيئا ووحق المسيح لأبعثن بكم إلى الملك فيقتلكم على كفركم وكان يوقنا قد ترك جماعته ومضى في عشرين رجلا منهم لعله يعمل عليه حيلة فلما دخل عليه أنزله في دار الضيافة فوضعوا سلاحهم فلما أكلوا الطعام وتحادثوا وكان قد فطن بهم وأمر غلمانه أن يكونوا على حذر وإن يهجموا عليهم فيقبضوهم يريد بذلك أن يرسلهم إلى الملك إلى الاسكندرية ورماهم في بيت مظلم في دار امارته وأقام ينتظر غفلة من عسكره وكانوا قد أحاطوا بالبلد ووكل بهم جارية اسمها رينا وهي أخت مارية التي أرسلها المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت أختها شقيقتها وسلم اليها المفاتيح لمعزتها عنده وقال لها احفظي عليهم لأرى ما أنظر فيهم قال فلما جن الليل واشتغل عدو الله الموبدان بالشراب قال فصبرت.
رينا إلى أن غرق في سكره هو ومن معه وناموا وأمنت على نفسها فأتت إلى الباب وفتحت على يوقنا وأصحابه وقالت لهم أبشروا لا خوف عليكم فإن الله قد جعل رحمتكم في قلبي وأنا أخت مارية التي أهداها المقوقس لنبيكم وإني أريد منكم أن توصلوني عند أختي مارية فقال لها يوقنا أبشري بما يسرك ولكن أخاف عليك من عدو الله فما ترين فقالت والله ما جئتكم حتى سكر ونام فقال يوقنا فعرفينا الطريق التي نسلكها إلى قومنا قالت أن هذا المكان فيه سرب يخرج إلى ظاهر البلد وهو مبني من قديم الزمان وبابه الخارج مبني عليه قبة على أعمده وتحتها قبر بين المقابر فكل من رآه يظن أنه قبر وإن الذي بنى هذه المدينة امرأة يقال لها فمعمان بنت عاد وصنعت هذه المقابر التي وراء التل وهي كأنها قصور مشيدة وكان فيها أناس سكنوها فقال يوقنا افعلي بنا ما يقربك إلى الله تعالى ورسوله ولعلك أن تنزلينا من هذا السرب حتى نذهب إلى أصحابنا ونأتي بهم من هذا ما دام الموبذان سكران وهو نائم فقالت سأفعل ذلك أن شاء الله تعالى غير أني أريد أن افتح لكم باب السرب قبله حتى لا تتعوقوا.
قال الراوي: وقد مضت رينا أخت مارية وأشرفت على الموبذان فإذا هو ومن معه صرعى من الخمر فتركتهم وعادت إلى باب السرب لتفتحه وإذا هي تسمع وراءه حسا ففزعت ووقفت تسمع.
قال: حدثني عبد الرزاق بن يحيي عن سليمان بن عبد الحميد عن سفيان الأعمش عن أوس بن ماجد وكان ممن شهد فتوح مصر والاسكندرية قال لما نزل خالد بن الوليد على مريوط بجيشه تفقد يوقنا وقال لأصحابه: انه من وقت أن بعثته برسالتي إلى مريوط للموبذان ما عاد قالوا: أيها الأمير انه من وقت ما دخل إليه ما خرج ونحن في انتظاره فعلم خالد أن يوقنا مقبوض عليه فبات مهموما من أجله وكان خالد صاحب همة وعزيمة لا ينام من خوفه على المسلمين وكان معه جواسيس قد أخذهم معه من كل أقليم وقد اصطفاهم لنفسه وهو يحسن إليهم وأينما ذهب يكونوا معه ليأتوه بالأخبار فبينما هو في غم بسبب يوقنا وإذا هو بواحد منهم قد دخل عليه وأعلمه أن ولد الموبذان قد أتى من اسكندرية من عند أرسطوليس ومعه خلع وهدايا لأبيه ومعه خمسمائة فارس وقد بلغه أنكم محاصرون أباه فترك العسكر وما معه بالبعد وانفرد ومعه خادمان وأتى وما نعلم ما يريد قال فلما سمع خالد ذلك قام وأخذ معه غلامه هماما وأربعة ممن يعتد بهم وأبعد وقعد على سفح التل من نحو اسكندرية ونظروا إلى التل وإذا بولد المؤبذان ومعه الخادمان قصدوا إلى وراء التل عند تلك المقابر التي وصفتها رينا ليوقنا وقصدوا القبة فمشى خالد وراءهم وفرق جماعته من أربع جهات القبة وكبسهم وإذ هم قد فتحوا طبقا.
في وسط القبة فأخذهم خالد فلما رآه الموبذان ارتعدت فرائصه وخاف فقال خالد: إن صدقتموني أمنتكم وإن لم تصدقوني رميت رقابكم فقال الغلام: أنا أصدقك أنا ولد الموبذان وكنت عند الملك في اسكندرية وقد أنفذ معي خمسمائة فارس عونا لأبي وحفظا لهذه المدينة فنحن في الطريق وإذ قد جاءتني الجواسيس بأنكم نازلون على البلد فأوقفت العسكر وأتيت إلى هذه القبة فقال له خالد: وما الذي تريد من هذه القبة ألكم فيها سلاح أم مطلب فيه مال قال: لا قال فما تريد منها قال الغلام أن أمنتني قلت لك الحق.
فقال له خالد: قد أمنتك على نفسك فقبل يده وقال: يا مولاي أريد أمانا لأبي ومن يلوذ به فأعطاه فقال اعلم أن هذه القبة على سرب والسرب ينتهي إلى دار الامارة ودار الامارة في وسط المدينة قال فلما سمع خالد ذلك تهلل وجهه فرحا وسرورا وقبض على الغلام وعلى الخادمين وأمرهما مع واحد آخر ممن معه أن يفتحوا السرب ففتحوه فأرسل هماما إلى العسكر وأمره بأن يأتي بهم في السرب وإن يأتوا معهم بالنار والزيت والقناديل وإن يسرع بذلك وكان ذلك التل عاليا والذين في المدينة لا ينظرون ما وراءه فلما أقبل همام بما طلبه خالد أوقدوا المسارج ونزلوا في السرب وابن الموبذان أمامهم فوصلوا إلى الباب وإذا برينا عند الباب تريد فتحه ليوقنا ومن معه فلما سمعت حسهم قالت من أنتم فقال خالد لابن الموبذان: كلمها فقال أنا فلان بن الموبذان افتحي ولا تعلمي أبي قال: فلم يبق لها بد أن تفتح الباب ففتحت فصعد خالد ومن معه فقبضوا على رينا فقالت لهم يا قوم دعوني فإني أردت أن أخلص أصحابكم وجئت لأفتح لهم هذا الباب وأنذلهم اليكم وتملكوا هذه المدينة من ههنا وقد أتى بكم رب العالمين وأنا رينا أخت مارية زوجة نبيكم فلما سمع خالد فرح وقال لها وأين أصحابنا فأتت بهم عندهم فحلوا وثاقهم وأتوا إلى دار الامارة فوجدوا الموبذان لا يشعر بنفسه من الخمر فوكل به جماعة وأمر الباقي أن يملكوا السور وقبضوا على الحرس ونزلوا إلى الأبواب وكان لها بابان فكسروا أقفالهما وفتحوهما وأرسل إلى بقية العسكر فدخلوا المدينة والكل في حالك الليل فلما أصبح الصباح استيقظ الموبذان ومن معه وإذا بالمسلمين حولهم وكل من في المدينة قد أسر فقال له خالد: يا عبد الله لولا أني أعطيت ولدك الأمان كنت قتلتك شر قتلة ولكن خذ أهلك وانصرف فاننا قوم إذا قلنا قولا نعمل به وفهم الموبذان أن ولده قد دلهم على السرب فلما خرج الموبذان بأهله قال ولده لخالد: يا مولاي أن أنا مضيت معه قتلني ولست أريد بغيركم بدلا وأنا أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقال له خالد: أن قصر أبيك وما فيه لك وعرض خالد الإسلام على أهل مريوط فأسلم أكثرهم ثم أن خالدا قال ليوقنا رحمه الله أبشر من الله.
بالرضوان والغفران والثواب فبصبرك على الشدائد فتح الله علينا هذه المدينة فقال: والله ما فتحها إلا بفضله وببركة نبيه صلى الله عليه وسلم فكتب إلى عمرو بن العاص يبشره بفتح مريوط ونحن معولون على الدخول إلى اسكندرية وأرسل الكتاب إليه.
قال ابن إسحاق: وأقام خالد بمريوط لأجل ذي الكلاع الحميري لانه مرض معه وكان مرضه شديدا فجلسوا عنده شهرا ولم يفارقه خالد فقدر الله له بالوفاة فحزنوا عليه حزنا شديدا عظيما فكان ذو الكلاع ملك حمير وكان قبل دخوله في الإسلام يركب له اثنا عشر ألف مملوك سود سوى غيرهم قال أبو هريرة الدوسي رضي الله عليهم ولقد رأيته بعد تلك الحشمة يمشي في سوق المدينة وعلى كتفه جلد شاة لما قدم من اليمن إلى الجهاد في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما مات رثاه ولده تنوخ بما رثى به حمير أباه سبأ بن يشجب في الزمن المتقدم وهو:
عجبت ليومك ماذا فعل ** وسلطان عزك كيف انتقل

وسلمت ملكك ذا طائعا ** وسلمت للامر لما نزل

فيومك يوم رفيع النزال ** ودورك في الدهر دور رحل

فلا يبعدنك فكل امرىء ** سيدركه بالسنين الاجل

لئن صحبت نائبات الزمان ** وشت مع الدهر وجه الامل

لقد كنت بالملك ذا قوة ** لك الدهر بالعز عان وجل

بلغت من الملك أقصى المدى ** نقلت وعزك لم ينتقل

فطحطحت آفاقه والمدى ** وجئت من العرب حول الدول

حويت من الدهر اطلاقه ** ونلت من الملك ما لم ينل

وحملت عزمك ثقل الامور ** فقام بها حازم واستقل

صحبت الدهور فهنأتها ** وما مر عيشك فيما فعل

بنيت القصور كمثل الجبال ** ذهبت فلم يبق إلا الطلل

نعمنا بأيامك الصالحات ** ومشربنا بك وبل وطل

تؤمل في الدهر أقصى المنى ** ولم تدر بالامر حين نزل

فزالت لعزمك شم الجبال ** ولم يك حزمك فيها هبل