فصل: ذكر فتوح مصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتوح مصر:

بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي قال زياد بن عامر قال شام بن عبد الله العنبري حدثنا سالم مولي عروة بن نعيم اليشكري قال لما فتح عمرو بن العاص قيسارية صلحا كان لعمر في الخلافة أربعة أعوام وستة اشهر وبلغ الخبر إلى أهل الرملة وعكاء وبلقاء وعسقلان وصيدا وغزة ونابلس وطبرية فأتي كبراؤهم إلى أبي عبيدة وأصلحوا أمرهم معه على مال لا يحصى وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وأنفذ ابو عبيدة لعمرو بن العاص أن يسير إلى مصر بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملك المسلمون اقاصي البلاد ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وكرم قال: وسكنها العرب وتفرقوا في البلاد والمدن ودانت لهم العباد وكل يوم يزدادون فلم يبق في الشام وأعمالها مركز من مراكز الروم إلا أخذ المسلمون وتوالدوا وتناسلوا وكثروا ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقال محمد بن إسحاق الأموي رحمه الله تعالى قال: حدثنا يونس بن عبد الاعلى قراءة عليه بالخضراء بمدينة عسقلان قال أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثنا نوفل بن عامر قال أخبرني يحيى بن ساكن المدني قراءة عليه يوم الجمعة ونحن عند منبر يونس بن متى قال لما فتح الله ساحل الشام على المسلمين في سنة تسع عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبوا بذلك إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمين الامة أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإن الله جل وعلا قد فتح ما كان قد بقي من الساحل وأخذنا قيسارية صلحا وهرب منها فلسطين بن هرقل بأمواله وعياله ونحن بها ننتظر أمرك والسلام وكتب أيضا يزيد بن أبي سفيان بما تم ليوقنا في صور وإن الله قد عضد الدين ووصل الكتابان إلى أبي عبيدة وقد رحل من حلب يريد طبرية فوصل إليه الخبر وهو نازل على الزراعة فلما قرأ الكتابين تهلل وجهه فرحا وضج المسلمون بالتهليل والتكبير وكتب من وقته وساعته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبشره بما فتح الله على المسلمين وبما فعله يوقنا ووجه الكتاب مع عرفجة بن مازن فركب ناقته وسار حتى وصل المدينة قال عرفجة بن مازن وعلي من ديباج الروم قباء فاخر وعلى رأسي مطرف خز مذهب قال فلما أتيت المدينة ودخلتها يوم الجمعة أول ليلة من شهر رمضان قبل مغيب الشمس وعمر رضي الله عنه قد أتى يريد المسجد فلما أبركت ناقتي وعقلتها وجئته لأسلم عليه نظر الي شزرا وقال من الرجل قلت عرفجة بن مازن فقال: يا ابن مازن أما كان لك برسول الله اسوة حسنة وإن هذه ثياب الجبارين ومن جعل الله لهم الدنيا جنة وهذا الديباج حرام على الرجال منا ولا يصلح إلا للنساء وهذا الذي عليك تصدق به على فقراء المدينة أما والله لقد دخلت يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمل بشريط وليس بين جلده وبين الشريط شيء وقد أثر الشريط في نعومة جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رايت ذلك بكيت.
فقال لي: «يا عمر ما الذي ابكاك» فقلت يا رسول الله أن كسرى وقيصر يعيشان في ملك الدنيا وأنت رسول الله بهذه المثابة.
فقال: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال عرفجة فسلمت إليه الكتاب فلما قرأه تهللت أسارير وجهه قال عرفجة ثم نزلت على خالتي عفراء بنت أبي أيوب الانصاري وبت عندها ليلتي فلما أصبحت لم اقدر أن أقابل عمر بذلك الزي فأعطيت الثوب والعمامة لخالتي فباعتهما وتصدقت بثمنهما على فقاء المدينة قال: وسرت إلى عمر وعلى ثوب من كرابيس الشام كان تحت ثيابي فلما رآني تبسم في وجهي وقال: يا ابن مازن ما فعلت بديباجتك قلت يا أمير المؤمنين باعتها خالتي وتصدقت بثمنها على المسلمين فقرأ عمر: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] ثم إنه كتب إلى أبي عبيدة يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر ابن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي علي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين وما وعدنا به رسول الله من كنوز قيصر وسيفتح علينا من كنوز كسرى والحمد لله على ذلك كثيرا وقد بلغني أن بادية الاعراب قد استلذوا الدنيا وزينتها وقد نصبت لهم شباك محبتها وقد تمسكوا بذيل غرورها ونسوا نعيم الجنة وقصورها ورفلوا في ثياب الديباج والخز وأكلوا الحلواء وخبز الحنطة لهاهم ذلك عن الآخرة وقد بلغني يا ابن الجراح أنهم قد تهاونوا بالصلاة ونسوا المفترضات فجرد عليهم عتاق الخيل ذوات الهمم وأغلظ عليهم ولا تكن لهم حاملا فيطمعوا فيك ومن أخل منهم بشيء مما فرض عليهم فأقم فيهم حدود الله وأعلم بأنك راع مسئول عن رعيته قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة» فأعط الامانة حقها ومن ترك صلاته فأضربه عليها ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه اشتغالا بالصلاة وبعظمة الله وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الله عز وجل يقول أن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها بالعبادة فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني فحق على المزور أن يكرم زائره وقال صلى الله عليه وسلم: «جميع المفترضات افترضها الله علي في الأرض إلا الصلاة فإن الله افترضها علي في السماء» وإذ قرأت كتابي هذا فأمر عمرو بن العاص أن يتوجه إلى مصر بعسكره ويقدمهم عامر بن ربيعة العامري ومشايخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي بهم عند مشورته وأنفذ من قدرت عليه إلى أرض ربيعة وديار الجد بن صالح والله أسأل أن يكون لكم عونا ومعينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وسلم الكتاب إلى عرفجة بن مازن وأمر له بنفقة من بيت المال.
قال عرفجة فأخذت الكتاب وسرت به على طريق تيماء فلقيت عند بيت لحم ركبا من أهل وادي القرى فسألتهم عن أبي عبيدة فأخبروني أنه على غباغب وهو طالب طبرية قال عرفجة أطلب الغور والجولان وأقصد طبرية قال فالتقيت بأبي عبيدة على الأردن فسلمت عليه وناولته كتاب عمر رضي الله عنه فما قرأه جمع المسلمين وقرأه عليهم فلما فرغ قال: ما من رجل ترك الصلاة أو أخل بشيء مما افترضه الله عليه إلا جلدته ومن الغد أتى خالد بن الوليد من طرابلس فقرأ عليه الكتاب وأنفذه إلى عمرو بن العاص أرسل يحثه على المسير إلى أرض مصر فلما وصل الكتاب إلى عمرو أخذ على نفسه بالمسير وسار معه يزيد بن أبي سفيان وعامر بن ربيعة العامري وجماعة من الصحابة وسار معه يوقنا في أربعة آلاف من أصحابه وقد وهبوا أنفسهم لله ورسوله فسار عمرو على البيداء من وراء العريش قال: وكانت أرض مصر وريفها عامرة بالديور والصوامع وكان دير الزجاج في مملكة القبط وكان ملكهم يومئذ المقوقس ابن راعيل وكان هذا الملك من أهل الرأي والتدبير والفضل والحكمة وكان تلميذ الحكيم أعاشادمون وهو الذي لما غلبت الحيات على أرض مصر واخربتها صنع لها جلجلا وكان أن حركه سمع صوته من مقدار ميل قال فتخرج الحيات من حجرتها فمن هربت نجت ومن وقعت هلكت وكان المقوقس من أعلم أهل زمانه وكانت القبط معه في عيشة مرضية وكان يتوقع ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان حكيم ذلك الزمان بمصر يقال له عطماوس: وهو الذي صنع دواليب الريح ورحى الهواء وكان عمر في الأجيال واطلع على مكنون الحكم والأسرار وعرف عمل صنعة الاكسير وعمل الذهب والفضة والجوهر والحركات المتحركة من نفسها بهبوب الريح وأجناس الأهوية في أجسامها وكان يجد في عمله أن الله يبعث نبيا من أرض تهامة ينشر دينه وتعلو كلمته وتملك أصحابه البلاد فعمل في أيام راعيل أبي المقوقس هيكلا عظيما على أعمدة من نحاس بمكان يعرف بعين شمس وجعل عليه أشخاصا مجوفة وجعل وجهها إلى جهة مصر وكتب عليها بالقبطية إذا دارت هذه الأشخاص إلى جهة الحجاز فقد قرب ملك العرب قال فبينما المقوقس راكب في بعض الأيام للصيد وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتهى سيره إلى عين شمس إذ هو سمع أصواتا من الأشخاص قد علت ثم إنها حولت وجهها نحو الحجاز فأيقن بتلف ملكه وزواله فعاد من ركوبه وهو قلق ودخل قصر الشمع وجلس على سريره وجمع القسوس والرهبان وكبراء القبط وقال لهم: يا أهل دين النصرانية اعلموا أن زمانكم قد مضى وهذا النبي المبعوث لا شك فيه وهو آخر الأنبياء ولا نبي بعده وقد بعث بالرعب ولا بد لرجل من أصحابه أن يملك ما تحت سريري هذا فانظروا إلى ملككم وأصلحوا ذات بينكم وارفقوا برعيتكم ولا تجوروا في حكمكم وأمنوا ضعفاءكم وإياكم واتباع الظلم فإن الظلم وبيل ومرتعه وخيم وأعطوا الحق من أنفسكم ولا يستطل قويكم على ضعيفكم وما دامت الدنيا لأحد من قبلكم حتى تدوم لكم وكما ملكتموها ممن كان قبلكم كذلك يأخذها منكم من كان بعدكم فاصلحوا نياتكم فيما بينكم وبين خالقكم فإن فعلتم ذلك رجوت لكم النصر على أعدائكم ومن يريدكم وإن اتبعتم أهواءكم تبين هلاككم.
قال: حدثنا ابن إسحاق عن عبد الملك عن أبيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد بن عوف عن موسى بن عمران عن حميد الطويل عن أبي إسحاق الراوي المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وبايعه الأوس والخزرج كتب إلى ملوك الأرض وفي الجملة كتابا إلى المقوقس ملك مصر وكان الذي كتب الكتاب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ونسخةى الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب مصر أما بعد فإن الله أرسلني رسولا وأنزل علي كتابا قرآنا مبينا وأمرني بالانذار والاعذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني ويدخل الناس فيه وقد دعوتك إلى الاقرار بوحدانية الله تعالى فإن أنت فعلت سعدت وإن أنت أبيت شقيت والسلام ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه قال أنس بن مالك فاستخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبعه وكان فصه عليه ثلاثة أسطر السطر الأول محمد السطر الثاني رسول السطر الثالث الله ولا نقش أحد على خاتمه كنقشه قال سمرة بن عوف قلت لحميد الطويل أكان لخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فص أم لا قال: لا أدري قال: وسأل رجل جابر بن عبد الله الأنصاري فقال له: في أي يد كان يتختم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يده اليمنى ويقول: «اليمنى أحق بالزينة من الشمال» وفص الخاتم في يمينه وقال عبد الله بن عباس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ثم حوله إلى يساره.
حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره وحدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا يتختمون في اليسار.
قال الراوي: فلما طبع الكتاب بخاتمه قال: «أيها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله» قال فوثب إليه حاطب بن أبي بلتعة القرشي وقال أنا يا رسول الله فقال له: «بارك الله فيك يا حاطب» قال فأخذت الكتاب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعته واصحابه وسرت إلى منزلي وشددت راحلتي وودعت أهلي واستقمت على الطريق إلى نحو مصر فلما بعدت عن المدينة بثلاثة ايام أشرفت على ماء لبني بدر فأردت أن أورد ناقتي الماء وإذا على الماء رجلان ومعهما ناقتان ومعهما رجل آخر راكب على جواد أدهم فلما رأيتهم وقفت وإذا بالفارس أتى الي وقال لي: من أين أقبلت وأين تريد فقلت يا هذا لا تسأل عما لا يعنيك فتقع فيما يحزنك ويخزيك أنا رجل عابر سبيل وسالك طريق فقال: ما إياك أردنا ولا نحوك قصدنا نحن قوم لنا دم وثأر عند محمد بن عبد الله وقد جئت أنا وهذان الرجلان وتحالفنا على أن ندهمه على غفلة فلعلنا نجد منه غرة فنقتله قال حاطب والله لقد أمكنني الله منهم فلأجعلن جهادي فيهم ولو بالخديعة فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحرب خدعة».
فبينما أنا أخاطب الفارس وإذا بالراكبين قد وصلا الي وقالا لي بغلظة وفظاظة ويحك لعلك من أصحاب محمد فقلت لهما لقد كاد أن يتبدل لكما الطريق عن سبيل التحقيق وإني رجل مثلكما أطلب ما تطلبون وأنا قاصد يثرب وقد عولت علي صحبتكم لأكون معكم ولكن سمعت في طريقي هذا ممن أثق به أن محمدا أنفذ رسولا من أصحابه إلى مصر بكتاب فلعله في هذا الوادي فإن وقعنا به قتلناه فقال صاحب الفرس أنا أسير معك ثم إنه تقدم أمامي وتركنا صاحبيه واقفين ينتظران قال حاطب فلما بعدت به عن أصحابه وغبنا عنهما قلت ما اسمك قال اسمي سلاب بن عاصم الهمداني قلت يا سلاب اعلم أنه لا يقدر أن يدخل على يثرب إلا من كان له جنان وقلب وغدر ومكر لأن بها سادات الأرض وأبطالها مثل عمر وعلي ولكن كيف سيفك قال سيفي ماض قلت أرني إياه فاستله من غمده وسلمه الي فأخذت السيف من يده وهززته وقلت سيف ماض ثم قلت:
سيوف حداد يالؤي بن غالب ** مواض ولكن أين للسيف ضارب

فقال: ما معنا هذا الكلام قلت يا ابن عاصم أن سيفك هذا من ضرب قوم عاد من ولد شداد وما ملكت العرب سيفا مثله ولا أمضى من هذا السيف ولكن وجب علي أكرامك وأريد التقرب اليك بحيلة أعلمك إياها تقتل بها عدوك فقال بذمة العرب افعل ذلك فقال حاطب إذا كنت في مقام حرب وقتال وخصمك بين يديك وتريد قتله فهز هذا السيف حتى يهتز هكذا وتلتئم مضاربه واضرب عدوك بحرفه فإنه أسرع للقتل والقطع وملت بالسيف على عنقه وإذا برأسه طائر عن بدنه فنزلت إليه وأمسكت الجواد لئلا ينفلت فينذر أصحابه وتركته مربوطا إلى شجرة وأسرعت إلى صاحبيه وإذا هما ينتظراننا فلما رأياني أقبل أحدهما الي فقال: ما وراءك وأين سلاب فقلت أبشر بأخذ الثأر وكشف العار واعلم بأننا وجدنا رجلين من أصحاب محمد وهما نائمان وقد وجهني سلاب بأن يمضي أحدكما حتى نتمكن منهما ويقف أحدكما ههنا فإن هذا الوادي ما خلا ساعة من اصحاب محمد فقال: نعم الرأي الذي قد اشرت به وسار معي فلما غيبته عن صاحبه قلت ما اسمك قال عبد اللات قلت كن رجلا وإياك والخوف فإنك إذا رأيتنا وقد هجمنا على الرجلين فاستيقظ فقال: لا بد أن أفعل ذلك فقلت له إني أرى غبرة ولا شك أن تحتها قوما ممن صبأ إلى دين محمد فجعل يتأمل كأنه الواله الحيران فعاجلته بضربة على غفلة فرميت رأسه عن بدنه وعدت إلى الثالث فلما رآني وحدي تيقن بالشر فقارعني وقارعته وصدمني وصدمته إلا أن الله أعانني عليه فقتلته وأخذت الراحلتين والفرس وأسلابهما ووضعت الجميع عند رجل من أصحابي وكان رفيقا لي من زمن الجاهلية وهو من عبد شمس ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها فلما وصلت إلى باب الملك قالوا: من اين جئت قلت أنا رسول إلى ملككم فقالوا: من عند من قلت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوصلوني إلى قصر الشمع بعد أن استأذنوا لي وأوقفوني على باب الملك فأمرهم باحضاري بين يديه فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس وإذا هو في قبة كثر الجوهر في حافتها ولمع الياقوت من أركانها والحجاب بين يديه فأومأت بتحية الإسلام فقال حاجبه يا أخا العرب أين رسالتك قال فأخرجت الكتاب فأخذه الملك من يدي بيده قال فباسه ووضعه على عينيه وقال مرحبا بكتاب النبي العربي ثم قرأه وزيره الباكلمين فقال له: اقرأه جهرا فإنه من عند رجل كريم فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره فقال الملك لخادمه الكبير هات السفط الذي عندك فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي: صف صاحبك حتى كأنني أراه قال حاطب ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بد من ذلك قال فوقفت بعدما كنت جالسا وقلت أن صاحبي وسيم قسيم معتدل القامة بعيد الهامة بين كتفيه شامة وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانه وعفة وصيانة صادق اللهجة واضح البهجة اشم العرنين واضح الجبين سهل الخدين رقيق الشفتين براق الثنايا بعينيه دعج وبحاجبيه زجج.
وصدره يترجرج وبطنه كطي الثوب المدبج له لسان فصيح ونسب صحيح وخلق مليح قال: والملك ينظر في النمط فلما فرغت قال: صدقت يا عربي هكذا صفته فبينما هو يخاطبني إذ نصبت الموائد وأحضروا الطعام فأمرني أن أتقدم فامتنعت فتبسم وقال قد علمت ما أحل لكم وحرم عليكم ولم أقدم لك إلا لحم الطير فقلت إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة فإن الله قد وعدنا بها في الجنة قال فبذلوا طعامي في صحاف فخار فاكلت فقال: أي طعام أحب إلى صاحبك فقلت الدباء يعني القرع فإذا كان عندنا شيء منه آثرناه على غيره فقال ففي أي شيء يشرب الماء فقلت في قعب من خشب قال: أيحب الهدية قلت نعم فإنه قال صلى الله عليه وسلم: «لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدى الي ذراع لقبلت» قال: أيأكل الصدقة قلت لا بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة وقد رأيته إذا أتى بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها فقال الملك ايكتحل قلت نعم في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين وقال من شاء اكتحل اكثر من ذلك أو أقل وكحله الأثمد وينظر في المرآة ويرجل شعره ويستاك فقال المقوقس إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه فقلت راية سوداء ولواء ابيض وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال إله كرسي يجلس عليه أو قبة قلت نعم له قبة حمراء تسع نحو الأربعين قال فما الذي يحب من الخيل قلت الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق وقد تركت عنده فرسا يقال لها المرعد قال فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا من أفخر خيول مصر الموصوفة وأمر به فأسرج وألجم فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون وأرسل معه حمارا ي قال له: عفير وبغلة يقال لها دلدل وجارية اسمها بريرة وكانت سوداء وجارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها مارية وغلام اسمه محبوب وطيب وعود وند ومسك وعمائم وقباطي وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه باسمك اللهم من المقوقس إلى محمد أما بعد فقد وصل الي كتابك وفهمته وأنت تقول أن الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا فكشفنا يا محمد خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق ولولا أنثى ملكت ملكا عظيما لكنت أول من آمن بك لعلمي إنك خاتم النبيين وامام المرسلين والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين قال: وسلم الكتاب والهدية الي وقبلني بين عيني وقال بالله عليك قبل بين عيني محمد عني هكذا ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب والى مأمني قال فوجدنا قافلة من بلاد الشام وهي تريد المدينة فصحبتها إلى أن وردت المدينة فأتيت المسجد وأنخت ناقتي ودخلت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول:
أنعم صباحا يا وسيلة أحمد ** نرجو النجاة غدا بيوم الموقف

إني مضيت إلى الذي أرسلتني ** أطوي المهامه كالمجد المعنف

حتى رأيت بمصر صاحب ملكهم ** فبدا إلي بمثل قول المنصف

فقرا كتابك حين فك ختامه ** فأطل يرعد كاهتزاز المرهف

قال البطارقة الذين تجمعوا ** ماذا يروعك من كتاب مشرف

قال اسكتوا يا ويلكم وتيقنوا ** هذا كتاب من نبي المصحف

قالوا: وهمت فقال لست بواهم ** إني قرأت بيان لفظ الأحرف

وبكل سطر من كتاب محمد ** خط يلوح لناظر متوقف

هذا الكتاب كتابه لك جامعا ** يا خير مأمول بحبك نكتفي

قال الراوي: ورجعنا إلى الفتوح قال: حدثني أحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمر السلمي عن محمد الزهري عن عبد الله بن زيد الهذلي عن أبي إسحاق الأموي وهو المعتمد عليه في فتوح مصر وأرض ربيعة والفرس.
حدثنا عمر بن حفص ولم ينفرد بهذه الرواية سواه وكان أصحاب السير قد اشتغلوا بوقائع العراق وفتوحه وما تجدد من سعد بن أبي وقاص وبني كسرى أنوشروان وتركوا فتوح الشام وأرض مصر فيما بعد وكان قد ارتحل عنهم فتركوه لأجل الزيادة والنقصان فيه وإنما انفرد ابن إسحاق لأنه انفرد عن مشايخ ثقات قد وثق بهم من آل مخزوم اجتمع بهم في الرملة بعد الفتوح أحدهم نوفل بن ساجع المخزومي وكان عمه خالد بن الوليد وكان من المعمرين شهد تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بعدها الحديبية وشهد يوم اليمامة ومسيلمة وكان مع عمرو بن العاص بأرض مصر في جميع فتوحها والثاني فهد بن عاصم بن عمرو بن سهل بن عمرو المخزومي وغيرهما من الثقات ممن شهد فتوح أرض مصر والوقائع كلها قالوا: جميعا ومنهم من قال أن عمرو بن العاص لما انفصل من ساحل الشام وكتب الله سلامة المسلمين وسار متوجها يريد أرض مصر فلما كان بمكان ي قال له: رفح قال له يوقنا: يا عمرو أنت تريد أن تدهم مصر على حين غفلة من أهلها وأنا ممن يمكني ذلك لأن ثواب الله أجل غنيمة فإن قلبي ملوث بحب الدنيا وإني كنت ممن أشرك بالله سواه وأنا أجتهد في الخلاص وأقاتل من كنت انصره على الكفر وعباده الصلبان والسجود للصور من دون الله وقد أخذت الإسلام بنية وقبول لأنه الحق وأريد أن أتقدم إلى أرض مصر فلعلي أجد لكم بالحيلة سبيلا فقال عمرو وفقك الله وأعانك وحفظك وصانك قال: فسار يوقنا ليلا من رفح يطلب الفرماء ولم يقرب من العريش ولا القاربا وكلها حصون عامرة وقد سكنها أقوام من العرب المختلطة وكانوا يؤدون المال إلى الملك المقوقس بن راعيل وسنذكر فتوحها فيما بعد إن شاء الله تعالى قال: وإن يوقنا اشرف على الفرماء وكان بها وال من قبل المقوقس اسمه الرندبان والفرماء على جانب بحيرة تنيس من الشرق فرأى يوقنا خياما منصوبة وقبابا مضروبة فلما رأوا يوقنا وقع الصائح فركب من كان هناك وكانت الأخبار ترد عليهم كل وقت بما صنع الصحابة فلما بلغهم أن قيسارية فتحت اغتموا لذلك لأنه كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس ارمانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفى فارس لحفظ ذلك المكان.