فصل: ذكر فتوح ميافارقين وآمد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتح دارا وبيرحا وباعماء:

قال: ورحل عياض بن غنم من رأس العين ونزل على كفرتوتا واقبل إليه الغلام يرغون فرحب به وولاه على المدينه وعرض الإسلام على الجارية طاريون فأسلمت وزوجها بابن عمها وبنى البيعة جامعا وارتحل منها إلى دارا فنزل عليها وخرج إليه أهلها واعتقبوا لهم منه صلحا وكان جملة ما صالح عليه أهل دارا عشرين الف مثقال ذهبا وثلاثين ألف مثقال فضة وإن لا يبقوا سلاحا فاجابوا إلى ذلك وبنى كنيستهم جامعا وما أسلم منهم إلا القليل وأقرهم على أداء الجزية وارتحل عن دارا وقصد بيرحا فصالح أهلها على ربع ما صالح عليه أهل دارا ورحل عنها وكانت بنو اسرائيل تعظمها وتقصد اليها بالنذور وكان بانيها حزقيا بن تورخ بن بازيا أحد أنبياء بني اسرائيل فخرجوا إلى عياض وصالحهم على قدر ما صالح به أهل دارا غير أن مقدمهم قال انني لم أزل أملك البلد حتى يأتيني الموت ومن أراد أن يدخل في دينكم من أهل بلادنا فلا مانع يمنعه فقال له عياض: ما اسمك قال اسمي طرياطس فقال: يا طرياطس انا نحكمكم على العدل فما فتح الله علينا إلا باتباع الحق وسلوك طريق الصدق والعدل في الرعية وانا نتجنب البغي والظلم وما قصدنا قاصد إلا وجدنا وأنتم منذ خرجتم الينا ووردتم علينا فنحن نجيبكم إلى سؤالكم ونصالحكم على ما صالحنا عليه أهل دارا فقال طرياطس وتصالحون أهل معرين على ما صالحتم عليه أهل بيرحا فأجابهم عياض إلى ذلك ونزل على باعما ودير قال: وإنما أجابه عياض إلى ذلك وألان له العريكة حتى يبلغ الخير أهل ديار بكر فيجيبون طائعين ويسلمون له من غير منازعة.
وكان قد بلغه تحصن بلادهم وامتناع قلاعهم قال فدخل طرياطس وأخرج المال من خزائنه ولم يأخذ من أهل بلده شيئا ودفعه لعياض فقبله منه وكتب له كتاب الصلح وشرط عليهم الجزية كما فعل أهل دارا من العام القابل فلما تم ذلك دخل المسلمون إليه وبنوا جامعا فلما بلغ أهل نصيبين حسن سيرتهم وعدلهم وجودة أحكامهم أسلم أكثرهم وكان في جملة من أسلم أصحاب النذور وأخربوه وبنو جامعا وأقام عياض على نصيبين شهرا فلما أراد الرحيل جاءه طرياطس وقال قد زدتم في أعيننا بما رأينا من صلاتكم وعبادتكم فاسلم وحسن إسلامه ولم يزل ملكا حتى مات في خلافة عثمان ونزل في مسجد كندة اسامة بن عامر الكندي وعشرة من بني عمه وارتحل عياض ونزل تحت قلعة المرأة وفيها مارية وولدها عمودا فانزلوا له الاقامة والضيافة وسار إلى أن نزل على آمد لسبع خلون من شهر جمادى الاولى.

.ذكر فتوح ميافارقين وآمد:

وكان بآمد أخوان شديدا البأس اسم أحدهما بطرس والآخر يوحنا وكان بطرس في شرقي البلد ويوحنا في غربيها وكان ليوحنا بنت اسمها رغوة ولبطرس بنت اسمها صفورا وكل واحد مشغول بما هو فيه ويوحنا اراد أن يتزوج فارسل إلى صاحب دارا وهو مرطاوس فزوجه لبنته مريم وحملت من بلد ابيها إليه وكانت صاحبة حيلة ومكر فلما حصلت بآمد نظرت إلى المدينة وكثرة مالها ونعمها وتحصن أهلها وسورها وغزراة بساتينها فقال لدايتها في السر يا دايتي ما رأيت أحسن من هذه المدينة ولا أحصن منها ولا أمنع إلا ترين إلا الأعين المخترقة في وسطها والى الجبال التي قد دارت بها تعني سورها الاسود فمن بناها على الحقيقة قالت لها اعلمي أنه قد ملك بلاد الروم أجمع من أول بلاد اليونان إلى بلاد عمورية ملك يقال له طيماوس بن أرسالوس ابن ميهاط بن مكلاوكن بن الأصفر بن العيص بن إسحاق وكان أول من بنى بيت الحكمة في بلده رومية الكبرى ةوكان قد فتحت له المطالب ونشر في الأرض العجائب وإنه حدثته نفسه بملك الأرض لكثرة المال فانتهى إلى سويقة وكان له ولد اسمه اسطنبول فقال لأبيه طيماوس: أريد أن أبني لي ههنا مدينة أذكر بها قال: يا بني افعل وأمده بالمال والرجال فادار سورا على ستة فراسخ وسماها باسمه وعاش أربع سنين ومات وخلف ولدا اسمه قسطنطين فأتم بناءها فسميت باسمين اصطنبول باسم ابيه والقسطنطينية باسم ابنه وأما أبوه فإنه صار يفتح البلاد حتى وصل إلى ههنا فرأى هذه الأعين والدجلة فاستحسن المكان فطلب أرباب دولته وكانوا اثنين وسبعين ملكا وقال قد اخترت أن أبني ههنا مدينة لا يكون على وجه الأرض مثلها ولا أحسن منها ولا أمنع وأريد أن كل واحد منكم يبني لنفسه مدينة وبرجا فقالوا: جميعا نفعل أيها الملك فركبوا واختطوا المدينة وشرعوا في بنائها وأتوا بالصناع من أقصى البلاد واختص كل ملك بمدينة وبرج وحمام وكنيسة فلما أتموا بناءها مات الملك فسميت آمد لانقضاء أمده بها وما زال الملوك يتوارثونها إلى أن انتهت إلى هذه الأخوين بطرس ويوحنا قال فتعجبت مريم من قول رايتها وكتمت الأمر وكان لبطرس ولد اسمه لاون فطلب من أخيه ابنته صفورا لولده و قال له: زوج ابنتك لولدي حتى أزوج ابنتي لولدك فامتنع ووقع الشر بينهما حتى كان في وسط البلد سور وأبواب فاغلقت وصار كل واحد منهما مشغولا بناحيته فلما رأت مريم ذلك دخلت بينهم بالصلح وقالت هذا لا يجوز وأنتما أخوان ويطمع فيكما ملوك ديار بكر وركبت بنفسها وأصلحت بينهما وفتحت الأبواب التي داخل المدينة وصنعت وليمة عظيمة ودعت اليها بطرس وولده لاون وابنته صفورا فأكلوا وليمتها وقدمت لهم الخمر ممزوجا بالسم فلما تمكن منهم قتلوا عن آخرهم وكذلك فعلت بزوجها وولده وصارت ملكة وبنت بيعة لم ير ببلاد الروم مثلها وفرشت أرضها بالفصوص.
والرخام الملون وزخرفت الحيطان بالذهب والفضة وعلقت فيها ستور الديباج المذهب وطلبت كل عالم مشهور وأزالت عن أهل البلد جميع ما كان عليهم من الحيف وعدلت فيهم فأحبها أهل البلد وشكروا سيرتها واستخدمت الرجال وزادت في اكرامها وقصدها الناس من كل مكان لأجل عدلها وأقامت في ملك آمد اثنتي عشرة سنة وبعدها نزل عليها عياض بن غنم ومن معه وأحاط بالمدينة.
قال الواقدي: بلغني أن عياضا نزل على التل ونزل سعيد بن زيد على باب الروم ونزل معاذ على باب الجبل ونزل خالد على باب الماء فلما نظرت الملكة مريم إلى ذلك ورأت أن الصحابة قد عولوا على حصارها ركبت إلى كنيستها وجمعت أرباب دولتها وقالت اعلموا أن هؤلاء العرب قد حلوا بساحتكم ونزلوا على مدينتكم وقد طمعت أنفسهم في أخذها وأنتم تعلمون أن هذه قفل ديار بكر ومتى فتحوها فقد أخذوا ديار بكر عن بكرة أبيها وأضمحل دين المسيح ولا يبقى له ذكر في هذه البلاد وأنا أعلم أن الملوك ومن يشار إليهم من أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية كلهم ينتظرون ما يكون منا ويعلمون أن مدينتكم لو اقاموا عليها مائة سنة ما قدروا عليها فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم واصعدوا فوق الأسوار وقاتلوا هؤلاء العرب وطلبت القسوس والشمامسة والرهبان وأمرتهم أن يحلفوهم على أن يكونوا يدا واحدة ولا يخامروا عليها ففعلوا ذلك وصعدوا على الأسوار وشهروا السلاح وآلة الحرب واقاموا الصلبان والرايات والأعلام وتولت كل طائفة بحفظ برج من الأبراج قال فلما نظر عياض إلى ذلك وأنهم قد عولوا على القتال من أعلى الأسوار جمع أمراء جيشه إليه وقال لهم: أن هذه المدينة حصينة وهي عين ديار بكر ومتى فتحها الله علينا ملكنا ديار بكر فما الذي ترون من الرأي وكيف يكون قتالها وأعداء الله قد تحصنوا بهذا الحصن المنيع.
فقال خالد: أيها الأمير اعلم أننا ما ملكنا الله البلاد بقوة ولا بكثرة مدد ولا بعدد بل بتيسير الله لنا نرجو الله أن يفتحها ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم وبذلك وعد الله نبيه وإن هؤلاء القوم أن باطشونا على ظاهر مدينتهم بالقتال رجونا تسهيل الامر وإن أقاموا على ما هم عليه فالصبر فإن عاقبة الصبر النصر ولعل أن يأتي في العرضيات ما لم يكن في الحساب واكتب إلى هذه المرأة كتابا وخوفها ثم منها بكل جميل فلعل الله تعالى أن يلين قلبها للإيمان أو تسلم لنا صلحا فدعا عياض بدواة بياض وكتب اليها يقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد وآله من عياض بن غنم أمير جيوش المسلمين بأرض ربيعة وديار بكر إلى مريم الدارية أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى قد نصرنا وبجميع الكفار قد ظفرنا وعلى قبض ملوكها أيدنا وما نزلنا على بلد إلا ملكناه ولا قابلنا جيشا إلا هزمناه والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين وليس حصنك بأمنع من تدمر ولا حصن.
وهو الحصن المنبع الذي بناه سليمان بن داود وما هو إلا أن نزل عليه المسلمون حتى ملكوه وكذلك بعلبك وحلب وانطاكية دار الملك هرقل ولم يبق بين ايدينا صعب إلا سهلة الله علينا وبذلك وعدنا الله في كتابه العزيز فقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فإذا وصل اليك كتابي هذا فسلمي تسلمي وإياك أن تخالفي تندمي ومهما أردت بلغناك ولسنا نكرها على فراق دينك ولا أحدا من أهل بلدتك قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وإن تمسكت بالهوى فستعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا وسلام على عباده الذين اصطفى ثم طوى الكتاب وختمه وسلمه إلى رجل من المعاهدين و قال له: ادن من الحصن وناولهم الكتاب وقف حتى يردوا عليك الجواب قال فذهب ودنا من السور وناداهم بلغتهم وأشار إليهم بالكتاب فأدلوا له حبلا فرابطه لهم ووقف ينتظر الجواب قال فأوصلوا الكتاب إلى الملكة مريم فقرىء عليها فلما فهمت ما فيه قالت لارباب دولتها ما تقولون فيما كتب الينا أمير العرب قالوا: أيتها الملكة الرأي لك فمهما أمرتينا به امتثلناه فقالت يا قوم أنتم تعلمون أن النار ولا العار ومتى سلمنا لهؤلاء العرب عيرتنا الروم ويقولون كيف سلمتم مدينتكم وما حاصرتم سنة ولا عشرة ايام ومدينتكم أحصن بلاد الروم وإذا شئتم كان لكم موضع تزرعون فيه والمياه عندكم وكل ما تحتاجون إليه وقد وصلت الي الكتب من جميع ديار بكر ووعدوني أن يرسلوا عساكرهم لنصرتنا فقالوا: أيتها الملكة هذا هو الرأي الرشيد فاكتبي للقوم كتابا أن يقطعوا طمعهم منا فكتبت تقول أما بعد فقد وصلني كتابك وفهمت خطابك فأما ما ذكرت من نصر الله لكم أما علمت أن المسيح يمهلكم ولا يهملكم وإنما ذلك استدراج لكم ثم يأخذكم بعد ذلك وكأنكم بالملوك وأبناء الملوك وقد اقبلت عليكم بسواعد شداد وسيوف حداد وجيوش وأمداد فيأخذون منكم بالثار ويكشفون عن عباد المسيح العار وما كنا بالذي نسلم حصننا اليكم أبدا فإن شئتم المقام وإن شئتم الرحيل والسلام وربطوه بالحبل وأعطوه للمعاهد فأخذه وأتى به إلى عياض فلما قرأه وفهم ما فيه قال توكلنا على الله وفوضنا أمرنا إليه ثم قرأ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3].
قال: وعول عياض أن يقيم على آمد وخيله تغير على الهتاج وميافارقين وسائر تلك البلاد قال: وسمعوا ضرب الناقوس فقال عياض أتدرون ما يقول هذا الناقوس قالوا: وما يقول قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه علينا ومعه جماعة من المسلمين ليغيروا على أطراف تبوك فاجتازوا بدير الراهب وذلك الراهب يضرب بناقوسه فقال على لمن معه أتدرون ما يقول هذا الناقوس قالوا: الله ورسوله أعلم وأنت يا علي فقال يقول مهلا مهلا يا بني الدنيا مهلا مهلا أن الدنيا قد غوتنا واستغوتنا وشغلتنا غدا.
نرى ما نرى ما من يوم يمضي عنا إلا لنا أو علينا يا بني الدنيا جمعا جمعا يا بني الدنيا شرطا شرطا ما من يوم يمضي عنا إلا اثقل ظهرا منا ما من يوم يمضي عنا إلا صار منا جهلا قد ضيعنا دارا تبقى واستوطنا دارا تفنى قال عياض فقالوا: يا ابن عم رسول الله أو يعلم النصراني ذلك قال: لا يعلم ذلك لا نبي أو صديق.
قال: حدثنا الربيع ابو سليمان عن موسى بن عامر عن جده قراءة بالخضراء من عسقلان قال فأقام عياض على أمد أربعة أشهر قال فخرج من جيشه الحكم بن هشام واستأذن عياضا أن يشن الغارات على ميافارقين فاذن له فأخذ معه من الصحابة مائة من المهاجرين والانصار فخرجوا بعد ما صلوا الظهر وعبروا الدجلة وساروا والأرض تطوي لهم فما مضى قليل من الليل إلا وهم على ميافارقين فداروا بها إلى أن وصلوا إلى برج يعرف ببرج الشاة فقال الحكم بن هشام وددت من الله لو فتح لنا هذه المدينة بلا قتال قال فما استتم كلامه حتى انفتح لهم باب من حائط البرج فدخلوا وهم يخترقون الطرق إلى وسط المدينة إلى كنيستهم العظمى وتعرف ببيعة ماريا وكانت تلك الليلة عيدا عند النصارى فلما اقبلوا إلى الصلاة وجدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن اين جئتم قالوا: من عسكرنا قال: ومتى جئتم قالوا: بعدما صلينا الظهر قال: ومن فتح لكم مدينتنا قال له الحكم: فتح لنا من بيده مقاليد الامور قال اوما تفزعون منا فقال الحكم وكيف نفزع من مخلوق لا يضر ولا ينفع وهو تحت أحكام القهر وقد قال ربنا في كتابه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
فقال اسلاغورس أن دينكم دين محدث وديننا دين قديم والقديم أفضل من المحدث فقال له الحكم: إذا كان ما قلته حقا ففضل ابليس على آدم لأنه أقدم منه أعلمت أن طينة آدم مشكلة وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] اشرق نور قلبه في وقت تجليه واشتعل بالاتقاد فيه فنظر إليه ابليس وظن قميص عبوديته أبيض بالتوحيد وإذا هو أسود بالشرك فابان نعته القديم عن نعت وقته بقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] كان سائرا في أرض الشرك تحت ظل الجهل بالعواقب فما زال يقطع منازل العبادات بالعبادات وهو في عماية عن أبصار جمال المشاهدات فلما ظهرت أنوار مصباح الالهية من مشكاة الابدية استنار وجه صورة حاله فإذا هو قد فهم من جوابه وإن عليك لعنتي وأصل آدم لما طار من وكر بشريته بأجنحة همته في جو الطلب تعالى عن حطيطة انسانيته حتى دنا من نيران المحن فافترقت أنوار القسم بأجنحة اصطفائه وحصن قوادم ارتقائه فوقع في حبال وعصي آدم.
ربه فلما أتاه في أودية محبته هطلت عليه سحائب محنته ورمى بصواعق اهبطا فلما خرج إلى بيداء كرباته اشتملته مواكب آلائه مبشرة إياه باجتبائه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] قال: وإن اسلاغورس أمرهم أن يدخلوا البيعة فقال الحكم بن هشام وما الذي نصنع في بيعتكم قال تذكرون فيها ربكم قال: ما كنا ندعي إلى ذكر ربنا فنتأخر عنه قال فربطو خيلهم ودخلوا ما اراد اسلاغورس بذلك إلا أنه قد زخرفها وصور فيها بيت المقدس والصخرة وقبة السلسلة ومحراب داوب ومهد عيسى وصورته وأمه مريم فلما توسطها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الحكم بن هشام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ورفع بها صوته فقال: لا والله وإنما اقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله قال فوالله لقد ماجت بيعة القوم وتزلزلت وصفقت القناديل بعضها ببعض قال: وكان للبيعة شيخ عالم بالأديان والشرائع وكان اسمه عبد المسيح فلما نظر ما حل بالبيعة والقناديل صلب على وجهه وكذلك كل ما كان فيها وقالوا لملكهم: أنت ما أردت إلا هلاكنا إذ أدخلت هؤلاء العرب الينا أما ترى كيف غضب المسيح علينا فقال البطريق لا وحق المسيح ما هو إلا توحيدهم الله وذكر نبيهم أظهر لكم من معجزة نبيهم ما رأيتموه يا ويلكم إذا كان قد فتح لهم باب في السور ودخلوا منه علينا فكيف لا تعتز البيعة وتصفق القناديل لما دخلوها وأنا كنت في شك مما ذكرت والآن فيا طوبي لمن كان على دينهم.
قال الواقدي: وكان هذا خادم بترك بيت المقدس وكان في بيت المقدس يوم فتحت على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسمع من البترك في بيت المقدس وهو يقول هذا الذي يفتح الأرض في طولها والعرض ومحمد هو الذي بشر به المسيح بن مريم ولقد سأله رجل لما رأى المسلمين يعظمون الصخرة ويقبلون القدم الذي فيها فقال للبترك نرى المسلمين يقبلون قدم المسيح فقال له: يا بني نحن نقول أنه قدم المسيح وإنما هو قدم نبيهم محمد بن عبد الله لما عرج به إلى السماء قال أو عرج به فقال: نعم أسرى به من مكة إلى بيت المقدس وصلى بالنبيين وأسرى به.
قال الحكم وذلك لما استبشرت به النفوس وبلغ خبر رسالته وإنه زيد في كماله وأشرقت أنوار جماله وأراد الحق أن يشرفه على أهل الكونين باقترابه من قاب قوسين فنودي في عالم الملكوت تأهبوا ثم تأدبوا فهذه ليلة الدنو والاقتراب هذه ليلة عتق الرقاب هذه ليلة الحبور هذه ليلة السرور هذه ليلة الابتهاج هذه ليلة المعراج انصبوا سلم الارسال وافرشوا فرش الاظلال وقوموا على أقدام الاسترسال يا جبريل زخرف الجنان وزين الحور والولدان يا جبريل.انزل بالتهاني إلى بيت أم هاني أيقظ حبيب مملكتنا وأركبه على براق قدرتنا لنريه من آياتنا فأخذ جبريل مطية خلقها عجيب ونعتها غريب فألجمها بلجام القرب وأسرجها بموكب الحب وسار بها في ميدان الجلال وهو ينادي: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى} [الاسراء: 1] فلما وقف ببابه ورفع حجابه ونظر وإذا هو مدثر بعباءة تذلله متوسد بوسادة عمله قد أنحله الشوق وأذابه التوق فنشر عليه أنوار السعد وبشره بانجاز الوعد فقال له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] قم على قدم همتك وقم بوارد عزيمتك واركب إلى السماء وارق واصعد معراج الدنو والارتقاء فقام السيد واتشح وجسمه من الحياء قد رشح وقد باح باستسلامه وركب مركب تحيته وسلامه ورفع على رأسه سحابة الاحترام وأسرى به من البيت الحرام ذكره جليسه وفكره أنيسه وشوقه دليله وجبريل خليله فلما ولج دائرة بيت المقدس وحصل في فناء المسجد الأقصى فجليت عليه ارواح الأنبياء في حلل الأنوار والبهاء فبادروا إلى سلامة وتحيته واكرامه وجليت بين يديه وأثنوا بالصلاة عليه وأراد كل منهم أن يصف منزلته ويذكر فضيلته فقال آدم الحمد لله الذي خلقني بيده ونفخ في من روحه وأسجد لي ملائكته واسكنني دار كرامته وقال أدريس الحمد لله الذي رفعني مكانا عليا وبوأني مجلسا سنيا وقال نوح الحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين وجعلني أبا للمؤمنين.
وقال إبراهيم الحمد لله الذي اتخذني خليلا وجعل النار بردا علي وسلاما وأصلح لي زوجي بعد ما كانت عقيما وقال موسى الحمد لله الذي أعطاني تسع آيات بينات وكتب لي في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وأهلك عدوي فرعون ونجى قومي وفلق لي البحر وكلمني تكليما وقال لي: إلي أنا الله وقال سليمان بن داود الحمد لله الذي سخر لي الانس والجن والطير والريح وعلمني منطق الطير وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وقال عيسى الحمد لله الذي لم يخلقني من نطفة قذرة وأحيا لي الموتى وأبرأ لي الأكمة والابرص فلما افتخروا بجميع كراماتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي خلقني من أنوار البهاء ورفع قدري في الأرض والسماء وكتب اسمي على ساق عرشه وقرن اسمي باسمه ونزه ذكري في معالم قدسه وشرح لي صدري ويسر لي أمري ورفع قدري وغفرلي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأيدني على من كفر وبعثني بالرعب وأرسلني بالحنيفية ونصرني وجعل أمتي خير الأمم وفرض طاعتي على العرب والعجم وجعل لي الأرض مسجدا وترابها طهورا وشفعني يوم القيامة في أمتي ونسخ سائر الشرائع بشريعتي وأدخل سائر الامم في شفاعتي وجعل الكعبة قبلتي وأسمعني صلاة أمتي من بعدي لأشهد لهم يوم القيامة وجعلني شاهدا وأمتي شهودا على من جحد وظلم وكتب اسمي على الأفلاك وقال جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45].
قال الواقدي: فلما سمع بطريق ميافارقين هذا الكلام من الحكم بن هشام قال: والله ما في دينكم مراء وأنتم على الحق ولقد كنت أسلمت على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس ثم جئت إلى هذه المدينة وكان عليها وال فمات ووليت الأمر من بعده فرجعت إلى ديني الاول فإن أنا تبت إليه ورجعت إلى دينكم أيقبلني على ما ارتكبت من المعاصي فقال له الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوما لأصحابه: «بأي شيء يكون ابن آدم أشد فرحا» فقالوا: بالأهل فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون ابن آدم أشد فرحا منه إذا كان في مفازة ومعه راحلته عليها زاده وماؤه ومنافعه فإذا كان في بعض المفازة اشتد عليه الحر فاوى إلى ظل فنزل عن راحلته وتوسد ذراعه فنام ثم انتبه وقد ذهبت راحلته وعليها طعامه وشرابه وغذاؤه ومنافعه فانطلق في طلبها يمينا وشمالا فلم يجدها فرجع إلى موضعه ليموت فيه وقد أيقن بالهلاك فنام ثم انتبه فوجد راحلته كما هي فأخذ بخطامها» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من ذلك الرجل بتلك الراحلة».
قال فلما سمع اسلاغورس كلام الحكم بن هشام دمعت عيناه وأخذهم إلى دار ولايته وقال: والله لقد بان الحق وظهر الصدق فاسلم وحسن إسلامه وطلب جماعته فاسلموا بأجمعهم ثم إنه طلب أكابر البلد وأخبرهم بإسلامه وقال لهم: إني أريد منكم ما أريده لنفسي وإن دين هؤلاء يعلو ولا يعلى عليه فمن أسلم منكم أمن في الدنيا والآخرة وهم قد نزلوا على آمد ولا بد لهم من ديار بكر جميعها فمن خالفهم وعصى نهبوا بلده واستعبدوا أهله وولده فإن اسلمتم لهؤلاء القوم أمنتم على أنفسكم وبلادكم فقالوا: أيها الصاحب أمهلنا ثلاثة ايام حتى نرى ما لنا فيه الصلاح فتركهم وانصرفوا من عنده فلما كان الليل اجتمعوا وتحالفوا أن لا يسلموا للعرب أبدا ولو هلكوا عن آخرهم واصروا على القتال فبعد ثلاثة ايام طلبهم فلم يأته إلا القليل وأتت إليه العين الصافية وأخبرته بما عزم عليه أهل البلد ثم لبسوا سلاحهم وأتوا إليه يقاتلونه فخرج إليهم بجماعة ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا قتالا شديدا فلما جن الليل قال لهم: ارسلوا إلى أميركم ينجدنا فارسل واحدا منهم فما بعد عن البلد حتى سمع قرع حوافر الخيل فلما تبينهم إذا هم من عسكر الموحدين وإذا هم خمسمائة فارس وعليهم ضبة بن عدي وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره بقصة ميافارقين وما جرى لصاحبها من أهل بلده وأمره أن يرسل إليهم جيشا فاستيقظ من نومه وأرسل إليهم ضبة بن عدي ومعه خمسمائة فارس وأذن الله للأرض أن تطوي لهم.
فوصلوا إليهم في تلك الليلة فأتى بهم إلى باب السر وكانوا قد وكلوا به من يحفظه فنادى ففتحوا لهم وإذا بصاحب البلد قابلهم فأدخلهم فقالوا له: من أعلمكم بقدومنا فقال صاحب البلد أعلمني بكم النبي صلى الله عليه وسلم رأيته وقد نمت من ضيق صدري بقتال هؤلاء القوم أهل البلد فنمت فرايت شخصه الشريف فبشرني بقدومكم فلما حصلوا بأجمعهم خرج للقتال أهل البلد فصاح بهم المسلمون يا أعداء الله قد حل بكم البوار وأحاطت بكم الاقدار من أصحاب محمد المختار ووضعوا فيهم السيف فولوا إلى منازلهم ودورهم ليتحصنوا بها وقد علموا أنه قد نزل بهم مالا طاقة لهم به فنادوا الغوث فقال لهم: من أتى الينا فهو آمن فخرجوا فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمناكم على جميع مالكم إلا السلاح قال فأتوا بجميع ما عندهم من السلاح وسلموه للصحابة فلما رأوا منهم صدق القول أسلموا إلا قليلا منهم وعملوا البيعة الكبيرة جامعا وأقاموا ثلاثة ايام وتركوا عندهم الحكم بن هشام ومعه عشرة من أصحابه ليعلموهم شرائع الدين وأتى ضبة ومن معه إلى عياض وأخبره بما جرى ففرح بذلك وقال: وإن أهل آمد لم يفتحوا بابا ولا باشروا قتالا وضاق صدر عياض ومن معه من ذلك.
قال الواقدي: ومكثوا خمسة أشهر وكان خالد بن الوليد كما ذكرنا على باب الماء وكان في يوم يركب بجيش الزحف ويدور حول المدينة فإذا أتى الليل نزل في منزله وكان غلامه همام يخبز له في كل ليلة اقراص شعير ويتركها له في قبته فإذا صلى المغرب أكل تلك الأقراص عند الافطار وإنه استمر ثلاث ليال لم يجد شيئا يفطر عليه فقال لغلامه همام أنت يا ولدي ما عندك ما تفطرني عليه ولك بهذه الليلة ثلاث ليال لم تصنع لي شيئا فقال: والله يا مولاي انني في كل ليلة أصنعها وأضعها له ولم يكن عندي منها علم وما ظننت إلا إنك تأكلها فلما كانت الليلة الرابعة وضع همام الاقراص على عادته وأخفى نفسه وجلس لينظر من يأخذها فإذا هو بكلب قد أقبل من نحو المدينة ودخل القبة وأخذ الزاد وخرج فتبعه همام وإذا به قد دخل من مسرب الماء في جانب السور قال فتركه همام وعاد فلما أتى خالد من صلاته أقبل وطلب الفطور فقال له همام: يا مولاي كان من الامر ما هو كذا وكذا قال خالد: يا همام أرني الموضع فمضى همام أمام خالد وأراه الموضع الذي دخل منه الكلب فلما رآه قال: الله أكبر فتح الله ونصر وعاد وطلب أصحابه وأعلمهم بالقصة.
وقال لهم: قد عولت أن أدخل المدينة من مسرب الماء وأريد منكم مائة رجل يهبون نفوسهم لله تعالى وتعلمون أن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار وفاء لمن أخذ منها بحقها ودار رجاء لمن تزود منها ودار نجاة لمن فهم عنها الدنيا مهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أحبابه وأوليائه أتخذوها مزرعة فرحمنا الله وإياكم.
وكان لنا ولكم فمن أراد الزاد من هذه الدنيا الفانية إلى يوم حشره فليبادر إلى التجارة الرابحة ولا يغره طول الاجل فيطمئن إلى التقصير في العمل إلا وإني قد وهبت نفسي لله وقد أشترى ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] فمن باع فليبادر ولا يجزع مما يحاذر فالموعد بيننا في عرصات القيامة وموقف الحسرة والندامة فاتبعوا سلفكم الطاهر والدين الباهر فعولوا على بركة الله وعونه واختار من أصحابه مائة وأمرهم بلبس السلاح وركب عياض وأعلمه بما عزم عليه من دخوله المدينة من المسرب و قال له: كن على أهبة إذا سمعت التكبير والتهليل فقال علمت ذلك وأنا على أهبة بحمد الله امض أعانك الله ونصرك وسر على بركة الله وعونه قال فودعه خالد ورجع إلى أصحابه فوجدهم قد استعدوا فسار أمامهم وهم رجالة إلى أن أتى إلى باب المسرب وكان نصف الليل وأمر الله سلطان النوم فاستولى على من كان على السور والحرس لانه جل شأنه إذا أراد أمرا بلغه وهيأ أسبابه قال فأول من دخل من المسرب خالد رضي الله عنه وتبعه عامر بن الاحوص وحذيفة بن ثابت وعمران بن بشر وتمام المائة رضي الله عنهم وما منهم إلا من تسرب ودخل ومن كان جسيما لا يقدر على الدخول رجع وهو متأسف على الشهادة فحصل في المدينة ثمانون رجلا ولم يصحبهم إلا من دخل من المسرب ثم أن واحدا من الذين تأخروا عالج في حجر فقلعه فاتسع المكان ودخلوا بأجمعهم وأدركوا أصحابهم وقد توسطوا المدينة وارتحت بها الأصوات واستيقظ الراقد وارتعد القاعد وقصد خالد مطلع السور ومنع الناس من النزول وأخذتهم الأحجار وأرسل خالد عشرة من أصحابه إلى الباب فكسروا الاقفال وفتحوا الباب وكان عياض قد ركب وأيقظ الناس وقد تهيأ للحرب فلما كبر خالد ومن معه بادر عياض ومن معه إلى الباب فوجده مفتوحا فدخلوا وأقبل أهل المدينة يهربون إلى السور والليل قد غسق والظلام اتسق والقتام قد أطبق فما بقى أحد يقوم من مرقده إلا والسيف قد رمى رأسه عن جسده وهذا خرج من عند أولاده والسيف قد قطع في فؤاده وخالد ومن معه يكبرون وقد تقطعت بأهل آمد الاسباب واحاط بهم العذاب قال: ولم تزل الأبطال تبطح وتطرح وصدور المسلمين تشرح ولنحور الكفرة تذبح والعوائق تقطع والشجعان للرؤس تقرع والصوارم تقطع والانوف تجدع وقلب الذليل يفزع والجبان يجزع والعيون تدمع والصائح لا يسمع ولا شافع يشفع ولا مانع يمنع ولا دافع يدفع ولا قلب يخشع حتى إذا ولى الليل ونزع والصباح عول على أن يطلع وخالد يصيح ضياح السميذع حتى انطوى الليل بمطارف الدجى عند انتشار رايات الضيا فنظر أهل البلد إلى ما حل بهم ونزل عليهم فأقبلوا إلى دار الامارة يطلبون الملكة مريم فلم يجدوها قال: وكان السبب في ذلك أنها سمعت بأن الصحابة قد حصلوا في المدينة فعلمت أنها لا تخرج من أيديهم فأخفت.
نفسها ومن معها ونزلت في سرب في دار الامارة وأخذت ما تقدر على حمله وخرجت من ذيل الجبل وطلبت بلاد الروم.
قال الواقدي: فلما علم أهل المدينة أن ملكتهم هربت نادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السيف وجمعهم الأمير إليه فاجتمعوا في ميدان المدينة فقال لهم عياض: أما بعد فإن الله تعالى قد نصرنا عليكم وصبرنا وظفرنا بكم ولولا أن الله جعل نبينا نبي الرحمة واسكنها قلوب المؤمنين لأبدناكم بالسيف عن آخركم ولكن قد أمرنا ربنا في كتابه بكظم الغيظ والعفو فقال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ثم نظر فيهم فمن أسلم ومن لم يسلم ضرب يسلم الجزية عليه من عامه.
قال الواقدي: وكان شاهد الجمع في فتح آمد زيد بن حالوك اليهودي وكان علاما بدين اليهودية والنصرانية وكان يزعم أنه من أولاد داود عليه السلام وكان بنو اسرائيل يعظمون شأنه ويأتونه بالهدايا والتحف وإنه لما دخل عياض بن غنم رضي الله عنه إلى آمد وجمع أهلها في الميدان وتكلم المشايخ بما تكلموا به قام هو من وسط قومه وكان اسمه مليا بن حنيتا وعرف المسلمين بمكانه وإنه مقدم على بني اسرائيل وإنه من ذرية داود قال أنتم أصحاب نبي الرحمة وإن الله خلق الرحمة وأسكنها في قلوبكم وإن الله فضلكم على سائر الامم وقد أنزل في صحف إبراهيم وموسى يقول إني ابعث في آخر الزمان نبيا أميا وأجعل أمته أفضل الأمم وأسكن الرحمة في قلوبهم وبهم اباهى ملائكتي وابعثهم غرا محجلين من آثار الوضوء وإن داود عليه السلام لما اصاب الذنب ونفر عنه الوحش خرج إلى فلاة من الأرض وقال الهي بحق النبي العربي الذي تبعثه في آخر الزمان إلا غفرت لي فأجاب دعوته فقال عياض أن الله يحب العفو وقد عفونا عنكم فقال أهل المدينة فإذا عفوتم عنا نرجع إلى دينكم فاسلم أكثرهم وضربت الجزية علىمن لم يسلم في العام القابل على كل بالغ أربعة مثاقيل ذهبا وأخذوا سلاحهم وحملوا لهم شطر أموالهم فحملها وبنى البيعة المعروفة جامعا وأقام في آمد اثني عشر يوما وولى عليه صعصعة العبدي ومعه خمسمائة من بني عمه ومن العرب.