فصل: معركة حمص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.معركة حمص:

قال الواقدي: فلم يكن يوم حمص أشد حربا ولا اقوى جلدا من بني مخزوم غير أن عكرمة بن ابي جهل كان أشدهم بأسا واقداما وهو يقصد الاسنة بنفسه فقيل له اتق الله وارفق بنفسك فقال: يا قوم أنا كنت اقاتل عن الأصنام فكيف اليوم وأنا أقاتل في طاعة الملك العلام وإني أرى الحور متشوقات الي ولو بدت واحدة منهن لاهل الدنيا لاغنتهم عن الشمس والقمر ولقد صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدنا ثم سل سيفه وغاص في الروم ولم يزدد إلا اقداما وقد عجبت الروم من حسن صبره وقتاله فبينما هو كذلك إذ حمل عليه البطريق هربيس صاحب حمص وبيده حربة عظيمة تضيء وتلتهب وهزها في كفه وضربه بها فوقعت في قلبه ومرقت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله تعالى بروحه إلى الجنة فلما نظر خالد بن الوليد إلى ابن عمه وقد وقع صريعا اقبل حتى وقف عليه وبكى وقال: يا ليت عمر بن الخطاب نظر إلى ابن عمي صريعا حتى يعلم أنا إذا لاقينا العدو ركبنا الاسنة ركوبا قال ولم يزالوا في الأهوال الشديدة حتى هجم الليل عليهم وتراجعت الروم إلى مدينتهم وغلقوا الأبواب وطلعوا على الاسوار ورجعت المسلمون إلى رحالهم وخيامهم وباتوا ليلتهم يتحارسون فلما اصبح الصباح قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر المسلمين ما بالكم قد صدكم هؤلاء القوم وبعد الطمع فيهم ما بالكم هزمتم وجزعتم منهم والله ألبسكم عافية مجللة وسلامة سابغة وأظفركم على بطارقة الروم وفتح لكم الحصون والقلاع فما هذا التقصير والله تعالى مطلع عليكم.
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: هؤلاء فرسان الروم اشد الرجال ليس فيهم سوقة ولا جبان وقد تعلم إنهم يكونون اشد في الحرب لانهم يمنعون عن الذراري والنسوان فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه فما الرأي عندك يا أبا سليمان يرحمك الله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير قد رأيت من الرأي اننا ننكشف للقوم غدا وندع لهم سوائمنا وابلنا فإذا تباعدنا عن مدينتهم وتبعتنا خيلهم وتباعدوا عن مدينتهم وصاروا معنا عطفنا عليهم ومزقناهم بالاسنة ونقطع ظهورهم لبعدهم عن مدينتهم فقال أبو عبيدة: نعم الرأي ما رأيت يا أبا سليمان ولقد اشرت واحسنت قال وتواعد المسلمون على أن ينكشفوا بين أيدي الروم وأن يتركوا لهم سوائمهم فلما اصبح الصباح فتحت أبواب حمص وخرجت الروم من جميع الأبواب وزحفوا يريدون القتال فسألهم العرب كفوا القتال واروهم التقصير والخوف واطمعوهم في أنفسهم وجعلوا ينحرفون عن قتالهم حتى تضاحى النهار وانبسطت الشمس وطاب الحرب وطمعت الروم في المسلمين لما بان لهم من تقصيرهم فشد الروم بالحملة عليهم فانهزمت العرب من بين أيديهم وتركوا سوائمها.
قال نوفل بن عامر حدثنا عرفجة بن ماجد النميمي عن سراقة النخعي وكان ممن حضر يوم حمص قال لما انهزمت العرب أمام الروم وتبعنا هربيس البطريق في خمسة آلاف اشهب وكانوا اشد الروم قال سراقة بن عامر وانهزمنا أمام القوم كاننا نطلب الزراعة وجوسية وأدركتنا البطارقة وبعضهم مال إلى السواد طمعا في الزاد والطعام.
قال الواقدي: وكان بحمص قسيس كبير السن عظيم القدر عند الروم قد حنكته التجارب وعرف أبواب الحيل والخداع وكان عالما من علماء الروم وقد قرأ التوراة والإنجيل والزبور والمزأمير وصحف شيث وإبراهيم وأدرك حواري عيسى ابن مريم عليه السلام فلما أشرف ذلك القسيس ونظر إلى العرب وقد ملك الروم سوادهم جعل يصيح ويقول وهو ينادي: وحق المسيح أن هذه خديعة ومكر ومكيدة من مكايد العرب وأن العرب لا تسلم اولادها وابلها ولو قتلوا عن آخرهم قال وجعل القسيس يصيح وأهل حمص قد وقعوا في النهب وليس يغنيهم سوى الزاد والطعام والبطريق هربيس قد الح في طلب المسلمين في خمسة آلاف فارس فلما أبعدوا عن المدينة صاح الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه برفيع صوته اعطفوا على الروم كالسباع الضارية والعقبان الكاسرة فردوا عليهم كردوسا واحدا حتى أحاطوا بالبطريق وأصحابه من كل جانب وداروا بهم مثل الحلقة المستديرة واحدقوا بهم كاحداق البياض بسواد العين وبقيت الروم في اوساطهم كالشامة السوداء في الثور الأبيض فعند ذلك نصبت العلوج نشابها على العرب والمسلمون يكرون عليهم مثل الأسود الضارية ويحومون عليهم كما تحوم النسور ويضربونهم بالسيوف ويصرعونهم يمينا وشمالا حتى إنكسر أكثرهم.
قال عطية بن فهر الزبيدي فلما نظرت الروم إلى فعلنا بهم تكالبت علينا فلما حميت الحرب ابتدر خالد بن الوليد رضي الله عنه من وسط العسكر وهو على جواد اشقر وعليه جوشن مذهب كان لصاحب بعلبك اهداه له يوم فتح بعلبك وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد عمم نفسه بعمامة حمراء وكانت تلك العمامة عمامته في الحرب وجعل يهدر كالاسد الحردان وقد انتضى سيفه من غمده وهزه حتى طار منه الشرر ونادى برفيع صوته رحم الله رجلا جرد سيفه وقوى عزمه وقاتل أعداءه فعندها انتضب المسلمون سيوفهم وصدموا الروم صدمة عظيمة ونادى الأمير أبو عبيدة يا بني العرب قاتلوا عن حريمكم ودينكم واموالكم فإن الله مطلع عليكم وناصركم على عدوكم قال وكان معاذ بن جبل قد انفرد في خمسمائة فارس إلى السواد والأموال وانقض على الروم فما شعرت الروح والعلوج ممن انغمس في الغارة وحمل الزاد والرحال والأمتعة إلا والطعن قد أخذهم بأسنة الرماح من كل جانب كأنها ألسنة النار المضرمة ونادى مناد يا فتيان العرب اطلبوا الباب لئلا ينجوا أحد من الروم برحالنا وأولادنا فجعل المسلمون يطلبون الأبواب وكانت علوج الروم قد غرقت في رحال المسلمين فلما نظروا إلى معاذ وقد حمل عليهم في رحاله عادت وقد رمت الرحال وطلبت الهرب فانفلت منهم ما انفلت وقتل من قتل قال صهيب بن سيف الفزاري فوالله ما انفلت من الخمسة آلاف الذين كانوا مع هربيس صاحب حمص إلا ما ينوف عن مائة فارس قال واتبعنا القوم إلى الأبواب فكان اعظم المصيبة قتلنا إياهم على الأبواب لأن أكثر الرجال من العواصم وغيرهم كانوا في المدينة قال سعيد بن زيد شهدت يوم حمص وكنت ممن أولع بعدد القتلى فعددت خمسة آلاف وستة غير أسير وجريح فدنوت من الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقلت البشارة: أيها الأمير فاني عددت خمسة آلاف وستة غير اسير وجريح فقال الأمير أبو عبيدة بشرت بخير يا سعيد يا ابن زيد فهل ترى قتل بطريقهم هربيس فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إذا كان قتل بطريقهم هربيس فما قتله غيري فقال الأمير أبو عبيدة وكيف علمت إنه قتيلك يا سعيد فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إني رأيت فارسا عظيم الخلقة طويلا ضخما أحمر اللون وبيده سيف وعليه لامة حربه صفتهما كذا وكذا وهو في وسط الروم كأنه البعير الهائج فحملت عليه وقلت في حملتي: اللهم إني اقدم قدرتك على قدرتي وغلبتك على غلبتي اللهم اجعل قتله على يدي وارزقني اجره فقال له أبو عبيدة: إما أخذت سلبه يا سعيد قال: لا ولكن علامتي فيه نبلة من كنانتي أثبتها في قلبه فخر يهوي عن جواده ونفرت عنه أصحابه فلحقته فضربته بسيفي ضربة فصرمت حقوته ونبلتي في قلبه قال أبو عبيدة رضي الله عنه: أدركوه رحمكم الله وسلموا سلبه إلى سعيد ففعلوا ذلك.
قال الواقدي: فلما أخذت الحرب اوزارها أخذ المسلمون الإسلاب والدروع والشهابي ومثلوا الجميع أمام الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فأخرج منها الخمس لبيت مال المسلمين وقسم الباقي على المجاهدين قال ووقع الصياح والبكاء في حمص على من قتل منهم من فرسان الكفار ورجالهم قال واجتمع مشايخ حمص ورؤساؤهم إلى بيعتهم وتحدثوا مع القسوس والرهبان على أن يسلموا حمص إلى المسلمين وخرج علماء دينهم ورؤساؤهم إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وصالحوه على تسليم المدينة إليه وأن يكونوا تحت ذمامه وأمانة فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لست أدخل مدينتكم حتى نرى ما يكون بيننا وبين الملك هرقل وأراد أهل حمص أن يكرموا المسلمين بالإقامة والعلوقة فنهاهم الأمير أبو عبيدة عن ذلك ولم يدخل أحد من المسلمين إلى حمص إلا بعد وقعة اليرموك كل ذلك ليتقرب المسلمون إلى الروم بالعدل وحسن الصحبة.
قال جرير بن عوف حدثنا حميد الطويل قال حدثني سنان بن راشد اليربوعي قال حدثنا سملة بن جريج قال حدثنا النجار وكان ممن يعرف فتوح الشام قال لما صالحنا أهل حمص بعد قتل هربيس خرج أهل حمص ودفنوا قتلاهم فافتقدنا القتلى الذين استشهدوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا من استشهد من المسلمين مائتين وخمسة وثلاثين فارسا كلهم من حمير وهمدان إلا ثلاثين رجلا من أهل مكة وهم عكرمة بن أبي جهل وصابر بن جرىء والريس بن عقيل ومروان بن عامر والمنهال بن عامر السلمي ابن عم العباس رضي الله عنه وجمح بن قادم وجابر بن خويلد الربعي فهؤلاء من المسلمين الذين استشهدوا يوم حمص والباقون من اليمن وهمدان ومن اخلاط الناس.

.ذكر وقعة اليرموك:

قال الواقدي: واتصلت الأخبار إلى الملك هرقل أن المسلمين قد فتحوا حمص والرستن وشيزر وقد أخذوا الهدية التي بعثها إلى هربيس البطريق فبلغ ذلك منه دون النفس وأقام ينتظر الجيوش والعساكر من أقصى بلاد الروم لانه قد كان كاتب كل من يحمل الصليب فما مضى عليه إلا أيام قلائل حتى صار أول جيوشه عنده بانطاكية وآخرها في رومية الكبرى وانه بعث جيشا إلى قيسارية ساحل الشام يكون حفظه على عكاء وطبرية وبعث بجيش آخر إلى بيت المقدس وأقام ينتظر قوم ماهان الأرمني ملك الأرمن وقد جمع من الأرمن ما لا يجمعه أحد من أهالي الملك هرقل وبعد أيام قدم على الملك هرقل للقائه في أرباب دولته فلما قرب منه ترجل ماهان وجنوده وكفروا بين يديه ورفعا اصواتهم بالبكاء والنحيب مما وصل إليهم من فتح المسلمين بلادهم فنهاهم عن ذلك وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد حذرتكم وخوفتكم من هؤلاء العرب ولم تقبلوا مني فوحق المسيح والإنجيل الصحيح والقربان ومذبحنا المعمدان لا بد لهؤلاء العرب أن يملكوا ما تحت سريري هذا والآن البكاء لا يصلح إلا للنساء وقد اجتمع لكم من العساكر ما لم يقدر عليه ملك من ملوك الدنيا وقد بذلت مالي ورجالي كل ذلك لاذب عنكم وعن دينكم وعن حريمكم فتوبوا للمسيح من ذنوبكم وانووا للرعية خيرا ولا تظملوا وعليكم بالصبر في القتال ولا يخامر بعضكم بعضا وإياكم والعجب والحسد فانهما ما نزلا بقوم إلا ونزل عليهم الخذلان وإني أريد أن أسألكم وأريد منكم الجواب عما أسألكم عنه فقالت العظماء من الروم والملوك: اسأل أيها الملك عما شئت.
قال إنكم اليوم أكثر عددا وأغزر مددا من العرب وأكثر جمعا وأكثر خياما وأعظم قوة فمن أين لكم هذا الخذلان وكانت الفرس والترك والجرامقة تهاب سطوتكم وتفزع من حربكم وشدتكم وقد قصدوا إليكم مرارا ورجعوا منكسرين والآن قد علا عليكم العرب وهم أضعف الخلق عراة الأجساد جياع الاكباد ولا عدد ولا سلاح وقد غلبوكم على بصرى وحوران وأجنادين ودمشق وبعلبك وحمص قال فسكت الملوك عن جوابه فعندها قام قسيس كبير عالم بدين النصرانية وقال: أيها الملك أما تعلم لم نصرت العرب علينا قال: لا وحق المسيح فقال القسيس أيها الملك لأن قومنا بدلوا دينهم وغيروا ملتهم وجحدوا باجابة المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه وظلموا بعضهم وليس فيهم من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وليس فيهم عدل ولا احسان ولا يفعلون الطاعات وضيعوا أوقات الصلوات وأكلوا الربا وارتكبوا الزنا وفشت فيهم المعاصي والفواحش وهؤلاء العرب طائعون لربهم متبعون دينهم رهبان بالليل صوام بالنهار ولا يفترون عن ذكر ربهم ولا عن الصلاة على نبيهم وليس فيهم ظلم ولا عدوان ولا يتكبر بعضهم على بعض شعارهم الصدق ودثارهم العبادة وأن حملوا علينا لا يرجعون وأن جملنا عليهم فلا يولون وقد علموا أن الدنيا دار الفناء وأن الآخرة هي دار البقاء.
قال الواقدي: فلما سمع القوم والملك هرقل ما قاله القسيس قالوا: وحق المسيح لقد صدقت بهذا نصرت العرب علينا لا محالة وإذا كان فعل قومنا ما ذكرت فلا حاجة لي في نصرتهم وإني قد عولت أن أصرف هذه الجيوش والعساكر إلى بلادها وآخذ أهلي ومالي وأنزل من أرض سورية وأرحل إلى أسبوك يعني القسطنطينية فأكون هناك آمنا من العرب قال فلما سمع القوم ذلك من الملك صفوا بين يديه وقالوا: أيها الملك لا تفعل ولا تخذل دين المسيح فيطالبك بذلك يوم القيامة وتعيرك الملوك بذلك ويستضعفون رأيك وأيضا تشمت بنا أعداؤنا إذا أنت خرجت من جنة الشام وسكن بعدنا فيها العرب وقد اجتمع لنا مثل هذا الجيش الذي ما اجتمع لملك من ملوك الدنيا ونحن نلقى العرب ونصبر على قتالهم ولعل المسيح أن ينصرنا عليهم فاعزم وقدم من شئت واتركنا ننهض إلى قتال العرب.
قال ففرح الملك هرقل بقولهم ونشاطهم وعول على أن يبعث الجيش مع خمسة ملوك من الروم فأول ما عقد لواء من الديباج المنسوج بالذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الجوهر وسلمه إلى قناطير ملك الروسية وضم إليه مائة ألف فارس من الصقالبة وغيرهم وخلع عليه وتوجه ومنطقه وسوره ثم عقد لواء آخر من الديباج الأبيض فيه شمس من الذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الزبرجد الأخضر وسلمه إلى جرجير وهو ملك عمورية وملورية وخلع عليه وسوره ومنطقه وضم إليه مائة ألف فارس من الروم والفردانة ومن سائر الأجناس الرومية ثم عقد لواء ثالثا من الدستري الملون عليه صليب من الذهب الأحمر وسلمه إلى الديرجان صاحب القسطنطينية وضم إليه مائة ألف فارس من المغليط والإفرنج والقلن وخلع عليه ومنطقه وسوره.
ثم عقد لواء رابعا مرصعا بالدر والجوهر عليه قبضة من الذهب وعليه صليب من الياقوت الأحمر وسلمه إلى ماهان ملك الأرمن وكان يحبه محبة عظيمة لانه كان من أهل الشجاعة والتدبير وقد قاتل عساكر الفرس والترك وهزمهم مرارا فلما عقد له لواء خلع عليه الثياب التي كانت عليه وتوجه وسوره ومنطقه وقلده بالقلائد التي لا يتقلد بها إلا الملوك الاكابر وقال له: يا ماهان قد وليتك على هذا الجيش كله ولا أمر على أمرك ولا حكم على حكمك ثم قال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين وهم ملوك الجيش اعلموا أن صلبانكم تحت صليب ماهان وأمركم إليه فلا تصنعوا أمرا إلا بمشورته ورأيه واطلبوا العرب حيث كانوا ولا تفشلوا وقاتلوا عن دينكم القديم وشرعكم المستقيم وافترقوا على أربع طرق فانكم أن أخذتم على طريق واحدة لم تسعكم وتهلكوا الأرض ومن عليها ثم خلع على جبلة بن الأيهم الغساني وضم إليه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وقال لهم: كونوا في المقدمة فإن هلاك كل شيء بجنسه والحديد لا يقطعه إلا الحديد ثم أمر القسوس أن يغمسوهم في ماء المعمودية ويقرءوا عليهم ويصلوا عليهم صلاة الموتى.
قال: حدثنا نوفل بن عدي عن سراقة عن خالد قال: أخبرنا قاسم مولى هشام بن عمرو ابن عتبة وكان ممن حضر فتوح الشام كله قال فكانت جملة من بعث الملك هرقل إلى اليرموك من العساكر ستمائة ألف فارس من سائر طوائف أهل الكفر ممن يعتقد الصليب.
قال: وحدثنا جرير بن عبد الله عن يونس بن عبد الأعلى أن جملة من بعث الملك هرقل سوى جيش انطاكية إلى اليرموك سبعمائة ألف فارس قال راشد بن سعيد الحميري كنت أحضر اليرموك من أوله إلى آخره فلما اشرفت علينا عساكر الروم باليرموك نحونا صعدت على محل من الأرض مرتفع واقبلت الروم بالرايات والصلبان فعددت عشرين راية فلما استقرت الروم باليرموك بعث الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه روماس صاحب بصرى ليحزر عدد القوم قال فتنكر روماس وغاب عنا يوما وليلة ثم عاد إلينا فلما رأيناه اجتمعنا عنده وسأل أبو عبيدة روماس عن ذلك فقال: أيها الأمير سمعت القوم يذكرون أن عددهم ألف ألف فلا أدري أهم يتحدثون بذلك ليسمع جواسيسنا ويحدثوا بذلك أم لا فقال أبو عبيدة: يا روماس كم عهدك بهم وكم يكون تحت كل راية من عساكر الروم فقال: أيها الأمير أما ما عهدت في عساكر الروم فتحت كل راية خمسون ألف فارس فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال الله أكبر أبشروا بالنصر على الأعداء ثم قرأ الآية: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
قال الواقدي: ثم أن الملك هرقل لما قلد أمر جيوشه ماهان ملك الأرمن وأمره بالنهوض إلى قتال المسلمين ركب الملك هرقل وركب الروم وضربوا بوق الرحيل وخرج الملك هرقل ليتبع عساكره على باب فارس وسار معهم يوصيهم وقال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين ليأخذ كل رجل منكم طريقا وأمر كل واحد منكم نافذ على جيشه فإذا لقيتم العرب فالأمر فيكم لماهان ولا يد على يده واعلموا إنه ليس بينكم وبين هؤلاء إلا هذه الوقعة فإن غلبوكم فلا يقنعوا ببلادكم بل يطلبونكم حيث سلكتم ولا يقنعون بالمال دون النفس ويتخذون حريمكم واولادكم عبيدا فاصبروا على القتال وانصروا دينكم وشرعكم.
قال الواقدي: ثم وجه قناطير بجيشه على طريق جبلة واللاذقية وبعث جرجير على طريق الجادة العظمى وهي أرض العراق وسومين وبعث قورين على طريق حلب وحماة وبعث الديرجان على أرض العواصم وسار ماهان في أثر القوم بحيوشه والرجال أمامه ينحتون له الأرض ويزيلون من طريقهم الحجارة وكانوا لا يمرون على بلد ولا مدينة إلا اضروا بأهلها ويطالبونهم بالعلوفة والاقامات ولا قدرة لهم بذلك فيدعون عليهم ويقولون لاردكم الله سالمين قال وجبلة بن الأيهم في مقدمة ماهان ومعه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام.
قال الواقدي: حدثني من أثق به أن الطاغية هرقل لما بعث جيوشه إلى قتال المسلمين وكان للأمير أبي عبيدة في جيوش الروم عيون وجواسيس من المعاهدين يتعرفون له الأخبار فلما وصل جيش الروم إلى شيزر فارقتهم عيون أبي عبيدة وساروا طالبين عسكر المسلمين فلم يجدوهم على حمص فسألوهم عنهم فأخبروهم إنهم رحلوا لأن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما فتح حمص ترك عندهم من يأخذ الخراج والذي تركه عندهم رجال من أهل حمص من كبرائهم ورؤسائهم وجعل الجواسيس يسيرون حتى وصلوا إلى الجابية وحضروا بين يدي الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه واخبروه بما رأوه من عظم الجيوش والعساكر فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبات قلقا لم تغمض له عين خوفا على المسلمين فلما طلع الفجر أذن فصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته أقسم على المسلمين أن لا يبرحوا حتى يسمعوا ما يقول: ثم قام فيهم خطيبا وحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ودعا للمسلمين بالنصر وقال: يا معاشر المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الله ابتلاكم ببلاء حسن لينظر كيف تعملون وذلك عندما صدقكم الوعد وأيدكم بالنصر في مواطن كثيرة واعلموا أن عيوني أخبروني أن عدو الله هرقل استنجد علينا من كبار بلاد الشرك وقد سيرهم إليكم وأثقلهم بالزاد والسلاح: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] واعلموا إنهم قد ساروا إليكم في طرق مختلفة ووعدهم طاغيتهم أن يجتمعوا بازائكم على قتالكم واعلموا أن الله معكم وليس بكثير من يخذله الله تعالى وليس بقليل من يكون الله تعالى معه فما عندكم من الرأي رحمكم الله تعالى ثم قال لبعض عيونه قم وأخبر المسلمين بما رأيت فقام الرجل وأخبر الناس بما رأى من الجيوش الثقيلة وعددها وعديدها فعظم ذلك على المسلمين وداخل قلوب رجال منهم الهيبة والجزع وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ولم يرد أحد منهم جوابا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ما هذا السكوت عن جوابي رحمكم الله فاشيروا على أيديكم فإن الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].
قال الواقدي: فتكلم رجل من أهل السبق وقال: أيها الأمير أنت رجل لك رفعة ومكان وقد نزلت فيك آية من القرآن وانت الذي جعلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة فقال عليه السلام: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه عامر بن الجراح» أشر أنت علينا بما يكون فيه الصلاح للمسلمين فقال الأمين أبو عبيدة رضي الله عنه انما أنا رجل منكم تقولون وأقول وتشيرون وأشير والله الموفق في ذلك فقام إليه رجل من أهل اليمن وقال: أيها الأمير الذي نشير به عليك أن تسير من مكانك وتنزل في فرجة من وادي القرى فيكون المسلمون قريبا من المدينة والنجدة تصل إلينا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا طلب القوم أثرنا وأقبلوا إلينا كنا عليهم ظاهرين فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه اجسلوا رحمكم الله فقد أشرتم بما عندكم من الرأي وإني أن برحت من موضعي هذا كره لي عمر بن الخطاب ذلك وأخذ يعنفني ويقول: تركت مدائن فتحها الله على يديك ونزحت عنها وكان ذلك هزيمة منك ثم قال: أشيروا علي برأيكم رحمكم الله تعالى.
فقام إليه قيس بن هبيرة المرادي وقال: يا أمير المؤمنين لاردنا الله إلى أهلنا سالمين أن خرجنا من الشام وكيف ندع هذه الأنهار المتفجرة والزروع والأعناب والذهب والفضة والديباج ونرجع إلى قحط الحجاز وجد به وأكل خبز الشعير ولباس الصوف ونحن في مثل هذا العيش الرغد فإن قتلنا فالجنة وعدنا ونكون في نعيم لا يشبه نعيم الدنيا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه صدق والله قيس بن هبيرة وبالحق نطق ثم قال: يا معاشر المسلميي أترجعون إلى بلاد الحجاز والمدينة وتدعون لهؤلاء الأعلاج قصورا وحصونا وبساتين وأنهارا وطعاما وشرابا وذهبا وفضة ما لكم مع ما لكم عند الله عز وجل في دار البقاء من حسن الطعام ولقد صدق قيس بن هبيرة في قوله لنا ولسنا ببارحين منزلنا هذا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال فوثب قيس بن هبيرة وقال صدق الله قولك أيها الأمير وأعانك على ولايتك ولا تبرح من مكانك وتوكل على الله وقاتل أعداء الله فإن فاتنا فتح عاجل فما يفوتنا ثواب آجل فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه شكر الله فضلك وغفر لنا ولك والرأي رأيك وتتابع قول المسلمين بحسن رأيهم إلا خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه ساكت لا يقول شيئا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يا أبا سليمان أنت الرجل الجريء والفارس الشهم ومعك رأي وعزم فما تقول فيما قال قيس بن هبيرة فقال خالد رضي الله عنه: نعم ماأشار به قيس إلا أن الرأي عندي غير رأيه ولكن لا اخالف المسلمين فقال أن كان عندك رأي فيه صلاح فائت به وكلنا لرأيك تبع فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اعلم أيها الأمير إنك أن أقمت في مكانك هذا فانك تعين على نفسك لأن هذه الجابية قريبة من قيسارية وفيها قسطنطين ابن الملك هرقل في أربعين ألف فارس وأهل الأردن قد اجتمعوا إليه خوفا منكم والذي أشير به عليكم أن ترحلوا من منزلكم هذا وتجعلوا أذرعات خلف ظهوركم حتى ينزلوا اليرموك ويكون المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قريبا منكم متلاحقا بكم وأنتم على فتح لقتال عدوكم وهي أرض واسعة لمجال الخيل قال فلما نطق خالد بن الوليد بهذا الكلام قال المسلمون: نعم ما أشار به خالد وقال أبو سفيان بن حرب أيها الأمير افعل برأي خالد بن الوليد رضي الله عنه وابعثه إلى ما يلي الرمادة فيكون بين عساكرنا وعساكر الروم المقيمة بالأردن لئلا ندهي منهم عند رحيلنا فإنه سيكون لرحيلنا ورحيل عسكرنا بين هذه الاشجار ضجة عظيمة وجلبة هائلة فيداخل عدوكم فيكم الطمع فإن اقبلوا يريدون غارة ومكيدة لقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بمن معه فقال خالد بن الوليد: والله يا ابن حرب لقد نطقت عن ضميري وهكذا الرأي عندي.
فعند ذلك أمر أبو عبيدة الناس بالرحيل من الجابية فرحلوا ودعا أبو عبيدة بجيش خالد بن الوليد الذي أقبل به من أرض العراق وهو جيش الزحف وهو يومئذ أربعة آلاف فارس وأمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يسير بهم ويكون على طلائع المسلمين وحرسهم من وراء ظهورهم قال ووقعت الضجة للمسلمين عند رحيلهم حتى سمع ضجيجهم من مسيرة فرسخين وطلبوا اليرموك وسمع الروم المجتمعة بالأردن ضجة المسلمين عند رحيلهم فظنوا إنهم هاربون إلى الحجاز لما بلغهم من جيش هرقل فطمعوا فيهم وهموا بالغارة على أطرافهم فلقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فصاح في رجاله وقال دونكم والقوم فهذه علامة النصر قال فانتضى المسلمون السيوف ومدوا الرماح وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه وحمل ضرار بن الأزور رضي الله عنه والمرقال وطلحة بن نوفل العامري وزاهد بن الأسد وعامر بن الطفيل وابن أكال الدم وغير هؤلاء من الفرسان المعدودين للبراز فلم يكن للروم طاقة بهم فولوا منهزمين والمسلمون يقتلون ويأسرون حتى وصلوا إلى الأردن فغرق منهم خلق كثير ورجع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأما الأمير أبو عبيدة فإنه نزل باليرموك وجعل أذرعات من خلفه وكان هناك تل عظيم فعمد أبو عبيدة رضي الله عنه إلى نساء المسلمين وأولادهم فأصعدهم على ذلك التل وأقام الحراس والطلائع على سائر الطرقات فلما وصل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالأسارى والغنائم فرح أبو عبيدة رضي الله عنه فرحا شديدا وقال أبشروا رحمكم الله تعالى هذه علامة النصر والظفر وأقام المسلمون باليرموك وهم مستعدون لقتال عدوهم كأنهم ينتظرون وعدا وعدوا به وبلغ الخبر إلى قسطنطين ابن الملك هرقل بأن المسلمين قد نزلوا باليرموك وأن ملوك الروم سائرون لقتالهم فبعث رسولا إلى الملوك يستضعف رأيهم في ابطاء أمرهم ويحثهم على قتال المسلمين فلما ورد رسوله إلى ماهان دعا بالملوك والبطارقة وقرأ عليهم كتاب قسطنطين ابن الملك هرقل وأمرهم بالمسير فسارت جيوش الروم يتلو بعضها بعضا لا يمرون ببلد من مدائن الشام التي فتحها المسلمون إلا ويعنفون أهلها ويقولون لهم يا ويلكم تركتم أهل دينكم وملتكم وملتم إلى العرب فيقولون لهم أنتم أحق بالملامة منا لانكم هربتم منهم وتركتمونا للبلاء فصالحنا عن أنفسنا فيعرفون الحق فيسكتون ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى اليرموك فنزلوا بدير يقال له دير الجبل وهو بالقرب من الرمادة والجولان وجعلوا بينهم وبين عسكر المسلمين ثلاثة فراسخ طولا وعرضا فلما تكاملت الجيوش باليرموك أشرفت سوابق الخيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جبلة بن الأيهم في المقدمة في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وهم على مقدمة ماهان فلما نظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كثرة جيوش الروم قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال عطية بن عامر فوالله ما شبهت عساكر اليرموك إلا كالجراد المنتشر إذا سد بكثرته الوادي قال ونظرت إلى المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأبو عبيدة رضي الله عنه يقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] قال وأخذ المسلمون أهبتهم ودعا الأمير أبو عبيدة بجواسيسه من المعاهدين وأمرهم أن يدخلوا عساكر الروم يجسون له خبر القوم وعددهم وعديدهم وسلاحهم وقال أبو عبيدة رضي الله عنه: أنا أرجو من الله تعالى أن يجعلهم غنيمة لنا.
قال الواقدي: فلما نزل ماهان بعساكره بإزاء المسلمين على نهر اليرموك اقام اياما لا يقاتل ولا يثير حربا.