فصل: جبلة بن الأيهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.جبلة بن الأيهم:

قال الواقدي: وكان تأخير ماهان لامر وذلك أن رسولا ورد عليه من الملك هرقل يقول له: لا تنجز الحرب بينك وبين المسلمين حتى نبعث إليهم رسولا ونعدهم منا كل سنة بمال كثير وهدايا لصاحبهم عمر بن الخطاب ولكل أمير منهم ويكون لهم من الجابية إلى الحجاز فلما وصل الرسول إلى ماهان قال هيهات هيهات أن كانوا يجيبون إلى ذلك أبدا فقال له جرجير وهو من بعض ملوك الجيش وما عليك وما عليك في هذا الذي ذكره الملك هرقل من المشقة فقال ماهان: اخرج أنت إليهم وادع منهم رجلا عاقلا وخاطبه بالذي سمعت واجتهد في ذلك قال فلبس جرجير ثياب الديباج وتعصب بعصابة من الجوهر وركب شهباء عالية بسرج من الذهب الأحمر المرصع بالدر والجوهر وخرج معه ألف فارس من المدبجة وسار حتى أشرف على عساكر المسلمين أوقف جرجير أصحابه وقرب من المسلمين ووقف بازائهم وقال: يا معاشر العرب أنا رسول من الملك ماهان فليخرج الي أميركم والمقدم عليكم حتى نعرض عليه مقالنا ولعلنا نصطلح ولا نسفك دم بعضنا قال فسمعه المسلمون فأعلموا الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فخرج بنفسه إليه وعليه ثوب من كرابيس العراق وعلى رأسه عمامة سوداء وهو متقلد بسيفه وسار إلى أن وصل إلى جرجير ورفس فرسه حين التقت عنق فرسيهما والناس ينظرون إليهما فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يا أخا الكفر قل: ما أنت قائل واسأل عما تريد فقال جرجير: يا معاشر العرب لا يغرنكم أن تقولوا هزمنا عساكر الروم في مواطن كثيرة وفتحنا بلادهم وعلونا أكثر أرضهم فانظروا الآن ما قد أتاكم من العساكر فإن معنا من سائر الأجناس المختلفة وقد تحالف الروم أن لا يفروا ولا ينهزموا وأن يموتوا عن آخرهم وليس لكم على ما ترون من طاقة فانصرفوا إلى بلادكم وقد نلتم ما نلتم من بلاد الملك هرقل وقد عول الملك أن يتعود الأحسان إليكم وهو يهب لكم ما أخذتم من بلادهم منذ ثلاث سنين وقد أخذتم السلاح والذهب والفضة وقد كنتم من الهالكين فقال الأمير أبو عبيدة أما ما ذكرت من عساكر الروم وإنهم لا يفرون ولا ينهزمون فلو رأت الروم شفار سيوفنا هربت ناكصة على أعقابها وأما تهويلك لنا بكثرة عددكم فقد رأيت قلتنا وضعف أجسامنا وكيف لقينا جموعكم وكثرتها وعظم عددها وسلاحها وأحب الاشياء إلينا يوم مشاجرتكم بالحرب والقتال حتى يعرف من الذي يثبت للحرب فلما سمع جرجير كلام الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه التفت إلى رجل من أصحابه يقال له بهيل فقال: يا بهيل:
الملك هرقل كأنه أعرف بهؤلاء العرب منا ثم لوى رأس جواده ورجع إلى ماهان واخبره بما قال أبو عبيدة: فقال له ماهان: دعوتهم إلى الموعد فقال: لا.
وحق المسيح إني لم أفاتحه في شيء من ذلك لكن أبعث لهم بعض العرب المتنصرة فإن العرب يميل بعضهم إلى بعض قال فعندها دعا ماهان بجبلة بن الأيهم الغساني وقال: يا جبلة اخرج إلى هؤلاء وخوفهم من كثرتنا وتواتر عددنا وألق في قلوبهم الرعب وأحط بهم مكرك قال فخرج جبلة بن الأيهم وسار حتى قرب من عساكر المسلمين ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب ليخرج الي رجل من ولد عمرو بن عامر لاخاطبه بما أرسلت به.
فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه كلام جبلة بن الأيهم قال قد بعث إليكم القوم بأبناء جنسكم يريدون الخديعة بصلة الرحم والقرابة فابعثوا إليه رجلا من الأنصار من ولد عمرو بن عامر فأسرع إليه بالخروج عبادة بن الصامت الخزرجي رضي الله عنه وقال لأبي عبيدة: أيها الأمير أن أخرج إليه وأنظر ماذا يقول: فأجيب عنه ثم خرج عبادة نحوه بجواده إلى أن وقف أمام جبلة بن الأيهم فنظر جبلة إلى رجل أسمر طويل شديد السمرة كأنه من رجال شنوءة فهابه ودخل الرعب في قلبه من عظم خلقته وكان عبادة بن الصامت من الخطاط رضي الله عنه فقال له جبلة: يا فتى من أي الناس أنت فقال عبادة أنا من من ولد عمرو بن عامر فقال جبلة حييت فمن أنت فقال عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأل عما تريد فقال جبلة يا ابن العم انما خرجت إليكم لاني أعلم أن أكثركم من الرحم والقرابة فخرجت إليكم ناصحا ومشيرا واعلم أن هؤلاء القوم الذين قد نزلوا بازائكم معهم جنود لا قبل لكم بها وخلفهم عساكر وحصون وقلاع وأموال ولا تقولوا كسرنا وهزمنا عساكر الروم وأعلم أن الحرب دول وسجال وأن هزمكم هؤلاء القوم لا يكون لكم ملجأ غير الموت وهؤلاء القوم أن انهزموا يرجعون إلى بلادهم وعساكرهم والخزائن والحصون وما قد نلتم نيلا فخذوه وامضوا إلى بلادكم سالمين.
قال عبادة بن الصامت: يا جبلة أما علمت ما لقينا من جموعكم المتقدمة باجنادين وغيرها وكيف نصرنا الله عليكم وهرب طاغيتكم ونحن نعلم من بقي من جموعكم قد تيسر علينا أمره ونحن لا نخاف ممن يقدم علينا من جموعكم وقد ولغنا في الدماء فلم نجد أحلى من دماء الروم وأنا يا جبلة أدعوك إلى دين الإسلام وأن تدخل مع قومك في ديننا وتكون على شرفك في الدنيا والآخرة ولا تكون تابع علج من علوج الروم تفديه بنفسك من المهالك وأنت رجل من سادات العرب وملوكهم وأن ديننا ظهر أوله وآخره يظهر كما ظهر أوله فاتبع سبيل من أناب إلى الحق وصدق به فقل لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل عليه وعلى إله وصحبه وسلم.
قال الواقدي: فغضب جبلة بن الأيهم من كلام عبادة بن الصامت وقال لست مفارقا ديني فقال عبادة بن الصامت فإن أبيت إلا ما أنت عليه من الكفر فإياك أن تلقاني في الموعد الأول فإن لنا وقعة عظيمة فإن أخذتك شفار سيوفنا فلا تخلص من شفارها ودعنا وعساكر الروم فهم أهون علينا فإن أبيت إلا ما أنت عليه حل بك مثل ما حل بهم.
قال الواقدي: فغضب جبلة بن الأيهم وقال لماذا تخوفني من سيوفكم أما نحن عرب مثلكم رجل لرجل فقال عبادة بن الصامت قد علمنا إنك أنما خرجت إلينا مخادعا ومعينا ولسنا كأنتم يا ويلكم نحن على قلتنا نوحد ربنا ونتبع سنة نبينا محمد وأن ورائنا عسكرا يعلوا الأقطار ويسد القفار فقال جبلة لست أعرف وراءكم جيشا غير هذا الجيش ولا من ينصركم غيرهم فقال عبادة بن الصامت كذبت والله يا أبن الأيهم في قولك وأن وراءنا رجالا انجادا وأبطالا شدادا يرون الموت مغنما والحياة مغرما كل واحد بنفسه يلقي جيشا حافلا يا ويلك أنسيت عليا وسطوته وعمر وشدته وعثمان وبراعته والعباس وطلعته والزبير مع ما يجتمع إليهم من فرسان المسلمين من مكة والطائف واليمن وغير ذلك قال فلما سمع جبلة ذلك من كلام عباة بن الصامت قال: يا أبن العم أنا ما خرجت إلا أريد النصحية لكم فإن أبيتم ذلك فاسال قومك يجيبونا إلى الصلح فقال عبادة بن الصامت لا صلح بيننا إلا باداء الجزية أو الإسلام أو السيف وهو حكم بيننا وبينكم والله لولا أن الغدر يقبح بنا لعلوتك بسيفي هذا فلما سمع جبلة كلام عبادة وانه قد حاف عليه في الكلام لم يرد عليه جوابا غير إنه ثنى رأس جواده وأتى إلى ماهان فزعا مرعوبا وقد امتلأ قلبه رعبا من كلام عبادة بن الصامت فلما وقف بين يدي ماهان تبين في وجهه الجزع والفزع فقال لجبلة ما وراءك فقال: أيها الملك إني خوفت وأرعبت ومنيت فكان ذلك كله عندهم بالسواء وقالوا: ما بيننا إلا الحرب والقتال فقال له ماهان: فما هذا الفزع الذي أراه في وجهك وهم عرب مثلكم وأنتم عرب مثلهم وقد بلغني إنهم ثلاثون ألف فارس وأنتم ستون ألف فارس أما يقاتل الرجلان منكم الرجل الواحد منهم دونك يا جبلة فسر أنت وابناء عمك من العرب المتنصرة إلى قتالهم وأنا وراءكم فإن ظفرتم بهم كان الملك مشتركا بيننا وبينكم وتكون أقرب الناس إلينا ويسلم إليكم ما فتحه العرب من بلاد الشام.
قال الواقدي: وجعل ماهان يرغب جبلة في العطاء ويلينه ويحرضه على القتال في المسلميي حتى أجابه إلى ذلك وأخبر قومه وبني عمه من بني غسان ولخم وجذام وغيرهم من العرب المتنصرة وأمرهم بأخذ الأهبة للحرب والقتال ففعل القوم ذلك وركبوا في سابغ الحديد والزرد النضيد وهم ستون ألف فارس ما يخالطهم من غير العرب أحد يقدمهم جبلة بن الأيهم وعليه درع من الذهب الأحمر متقلد بسيف من عمل التبابعة وعلى رأسه الراية التي عقدها له الملك هرقل فسار جبلة نحو الصحابة في ستين ألف فارس حتى أشرف على عساكر المسلمين وأبو عبيدة يتحدث مع عبادة بن الصامت بما جرى بينه وبين جبلة بن الأيهم إذ أشرفت عليهم العرب المتنصرة فلما رآهم المسلمون صاح بعضهم على بعض يا معاشر المسلمين قد أقبلت عليكم العرب المتنصرة لقتالكم فما أنتم قائلون.
قالوا: نقاتلهم ونرجو من الله تعالى الظهور عليهم والمعونة وعلى غيرهم وهموا بالحملة فصاح عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال اصبروا رحمكم الله ولا تعجلوا حتى اكيدهم بمكيدة يهلكون بها وقال لابي عبيدة رضي الله عنه: أيها الأمير أن القوم قد استعانوا علينا بالعرب المتنصرة وهم اضعاف عددنا وأن نحن نقاتلهم بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا وضعفا وأريد أن أبعث لهم رسولا من بني عمهم يكلمهم في شأن ردهم عنا فإن فعلوا كان ذلك كسرا لهم وللمشركين ووهنا عظيما وأن أبوا إلا الحرب والقتال خرج منا نفر يسير يردونهم على أعقابهم بعزة الله عز وجل قال فتعجب أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: يا أبا سليمان افعل ما تريد.
فعند ذلك دعا خالد بن الوليد بقيس بن سعد وعبادة بن الصامت الخزرجي وجابر بن عبد الله وأبي أيوب بن خالد بن يزيد رضي الله عليهم أجمعين فلما وقفوا بين يديه قال لهم: يا أنصار الله تعالى ورسوله هؤلاء العرب المتنصرة يريدون قتالكم وهم غسان ولخم وجذام وهم بنو عمكم في النسب فاخرجوا إليهم وخاطبوهم واجتهدوا في ردهم عن حربكم وقتالكم فإن فعلوا ذلك وإلا أخذهم السيف منا ومنكم وكنا لقتالهم كفؤا.
قال الواقدي: فخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب المتنصرة فوجدوا جبلة بن الأيهم قد نزل بإزاء المسلمين يريد حربهم وقتالهم فلما قربوا من بني غسان نادى جابر ابن عبد الله وقال: يا معاشر العرب من لخم وغسان وجذام اننا بنو عمكم ونريد الدنو إليكم قال فأذن لهم جبلة بالدنو إليه فدخلوا عليه فإذا هو في مضرب من الديباج وقد فرش بالحرير الأصفر وهو جالس وحوله ملوكه وملوك جفنة فحيوه بتحية ملوك العرب فرفع جبلة أقدارهم وأدنى مزارهم وقال: يا بني العم أنتم من الرحم ومن القرابة وإني خرجت إليكم من جهة هذا الجيش الذي يرهقكم فخرج الي رجل منكم فأفرط علي في المقال فما الذي أتى بكم الي فكان أول من كلمه جابر بن عبد الله وقال: يا ابن العم لا تؤاخذنا فيما تكلم به صاحبنا فإن ديننا لا يقوم إلا بالحق والنصيحة وأن النصيحة لك منا واجبة لانك ذو قرابة ورحم وقد أتينا إليك ندعوك إلى دين الإسلام وتكون من أهل ملتنا ويكون لك ما لنا وعليك ما علينا فإن ديننا شريف ونبينا ظريف فقال وما أحب ذلك ولا غيره انني ضنين بديني وأنتم يا معاشر الأوس والخزرج رضيتم لأنفسكم أمرا ونحن رضينا لأنفسنا أمرا لكم دينكم ولنا ديننا فقال له الأنصاري: إن كنت لا تحب أن تفارق دينك الذي أنت عليه فاعتزل عن قتالنا لتنظر من تكون العاقبة والغلبة فإن كانت لنا وأردت الدخول في ديننا قبلناك وكنت منا وأخانا وأن أقمت على دينك قنعنا منك بالجزية وأقررناك على بلدك وعلى مواطن كثيرة لآبائك وأجدادك.
فقال جبلة أخشى أن تركت حربكم وقتالكم وكانت الدائرة للقوم لا آمن أن يتقووا على بلدي لأن الروم لا ترضى مني إلا أن أكون مقاتلا لكم وقد رأسوني على جميع العرب وأنا لو دخلت دينكم كنت دنيئا ولا اتبع فقال الأنصاري فإن أبيت ما عرضناه عليك فإن ظفرنا بك قتلناك فاعتزل عنا وعن سيوفنا فإنها تفلق الهام وتبري العظام فتكون الوقعة بغيرك أحب إلينا من الوقعة بك وبمن معك قال وكانت الأنصار يريدون بهذا الكلام تخويفه وترغيبه كي ينصرف عنهم وجبلة يأبى ذلك فقال وحق المسيح والصليب لا بد أن أقاتل عن الروم ولو كان لجميع الأهل والقرابة فقال له قيس بن سعد: يا جبلة أبيت إلا أن يحتوي الشيطان على قلبك فيهوى بك في النار فتكون من الهالكين وإنما أتينا لندعوك إلى دين الإسلام لأن رحمك متصلة برحمنا فإن أبيت فستعاين منا حربا شديدا يشيب فيه الطفل الصغير ثم وثب قيس بن سعد وقال لقومه انهضوا على بركة الله تعالى وعونه وحسن طاعته فبعدا له وسحقا فقام جبلة فاستعد للقتال بعدته قال فركب الأنصار خيولهم ورجعوا إلى الأمير أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنه وأعلموهما بمقالة جبلة وأنه ما يريد إلا القتال فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أبعده الله تعالى فوعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين لينظرن منا جبلة ما ينظر.
ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اعلموا معاشر المسلمين أن القوم في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة وهم حزب الشيطان ونحن ثلاثون ألف فارس من حزب الرحمن ونريد أن نلقي هذا الجمع الكبير فإن قاتلنا جبلة بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا ولكن ينتدب منا أبطال ورجال إلى قتال هؤلاء العرب المتنصرة فقال أبو سفيان صخر بن حرب لله درك يا أبا سليمان فلقد أصبت الرأي فاصنع ما تريد وخذ من الجيش ما أحببت فقال إني قد رأيت من الرأي أن نندب من جيشنا ثلاثين فارسا فيلقى كل واحد ألفي فارس من العرب المتنصرة.
قال الواقدي: فلم يبق أحد من المسلمين إلا عجب من مقالة خالد بن الوليد رضي الله عنه وظنوا إنه يمزح بمقالته وكان أول من خاطبه في ذلك أبو سفيان صخر بن حرب وقال: يا ابن الوليد هذا كلام منك جد أو هزل فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت إلا جدا فقال أبو سفيان فتكون مخالفا لامر الله تعالى ظالما لنفسك وما أظن أن لك في هذه المقالة مساعدا ولو قاتل الرجل منا مائتين كان ذلك أسهل من قولك يقاتل الرجل منا ألفين وأن الله عز وجل رحيم بعباده فرض رجلا منا تلقى الستين ألف فارس فما يجيبك أحد إلى ذلك وأن أجابك رجل لما قلته فإنه ظالم لنفسه معين على قتله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا أبا سفيان كنت شجاعا في الجاهلية فلا تكن جبانا في الإسلام وانظر لمن أنتخب من رجال المسلمين وأبطال الموحدين فإنك إذا رأيتهم علمت إنهم رجال قد وهبوا أنفسهم لله عز وجل وما يريدون بقتالهم غير الله تعالى ومن علم الله عز وجل ذلك من ضميره كان حقا على الله أن ينصره ولو سلك مفظعات النيران فقال أبو سفيان يا أبا سليمان الأمر كما ذكرت وما أردت بقولي إلا شفقة على المسلمين فإذا قد صح عزمك على ذلك فاجعل القوم ستين رجلا ليقاتل الرجل منهم ألف فارس من العرب المتنصرة.
فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: نعم ما أشار به أبو سفيان يا أبا سليمان فقال خالد بن الوليد رضي الله عن والله: يا أيها الأمير ما أردت بفعلي هذا إلا مكيدة لعدونا لانهم إذا رجعوا إلى أصحابهم منهزمين بقوة الله عز وجل ويقولون لهم من لقيكم فيقولون لقينا ثلاثون رجلا يداخلهم الرعب منا ويعلم ماهان أن جيشنا كفء له فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه أن الأمر كما ذكرت إلا إنه إذا كان ستون رجلا منا يكونون عصبة ومعينا بعضهم بعضا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا أنتدب من المسلمين رجالا أعرف صبرهم وقرارهم واقدامهم في الحرب وأعرض عليهم هذه المقالة فإن أحبوا لقاء الله ورغبوا في ثواب الله عز وجل فإنهم يستتجيبون إلى ذلك وأن أحبوا الحياة الدنيا والبقاء فيها ولم يكن فيهم من تطيب نفسه للموت فما بخالد إلا أن يبذل مهجته لله عز وجل والله الموفق لما يحبه ويرضاه.
قال أبو عبد الله حدثنا عمرو بن سالم عن جده برعي بن عدي قال كنت بين يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه فدعا بستين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما دعا خالد بن الوليد قال: أين عمر التميمي اين شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم أين خالد أبن سعيد بن العاص أين يزيد بن أبي سفيان الأموي أين صفوان بن أمية الجمحي أين سهل ابن عمرو العامري أين ضرار بن الأزور الكندي أين رافع بن عميرة الطائي أين زيد الخيل أبيض الركابين أين حذيفة بن اليمان أين قيس بن سعد أين كعب بن مالك الأنصاري أين سويد بن عمرو الغنوي أين عبادة بن الصامت أين جابر بن عبد الله أين أبو أيوب الأنصاري أين عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين أين عبد الله ابن عمرو بن الخطاب العدوي أين رافع بن سهل أين يزيد بن عامر أين عبيد بن أوس أين مالك بن نصر أين نصر بن الحرث أين عبد الله بن ظفر أين أبو لبابة بن المنذر أين عوف أين عابس بن قيس أين عبادة بن عبد الله الأنصاري أين رافع بن عجرة أين عبيد بن عبد الله أين معقب بن قيس أين هلال أين الصابرون يوم أحد وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] أين أسيد الساعدي أين كلال بن الحرث المازني أين حمزة بن عمر الاسلمي أين يزيد بن عامر.
قال الواقدي: وقد سمى خالد بن الوليد رضي الله عنه الرجال الذين دعاهم لقتال جبلة بن الأيهم إلا إني اختصرت في ذكرهم وقدمت ذكر الأنصار رضي الله عنه لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه انتخب أكثر الرجال من الأنصار فلما كثر النداء فيهم قالت الأنصار: إن خالدا اليوم يقدم ذكر الأنصار ويؤخر المهاجرين من ولد المغيرة بن قصي ويوشك إنه يختبرهم أو يقدمهم للمهالك ويشفق على ولد المغيرة.
قال الواقدي: فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك من قولهم أقبل يخطو بجواده حتى توسط جميع الأنصار وقال لهم: والله يا أولاد عامر ما دعوتكم إلا لما ارتضيته منكم وحسن يقيني بكم وبايمانكم فأنتم ممن رسخ الإيمان في قلبه فقالوا: إنك صادق في قولك يا أبا سليمان ثم صافحه القوم.
قال الواقدي: فلما انتخب خالد بن الوليد من فرسان المسلمين ستين رجلا كل واحد منهم يلقى جيشا بنفسه قال لهم خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا أنصار الله ما تقولون في الحملة معي على هذا الجيش الذي قد أتى يريد حربكم وقتالكم فإن كان لكم صبر وأيدكم الله بنصره مع صبركم وهزمتم هؤلاء العرب المتنصرة فاعلموا إنكم لجيش الروم غالبون فإذا هزمتم هؤلاء العرب وقع الرعب في قلوبهم فينقلبون خاسرين فقالوا: يا أبا سليمان افعل بنا ما تريد والق ما تشاء فوالله لنقاتلن أعداءنا قتال من ينصر دين الله ونتوكل على الله تعالى وقوته ونبذل في طلب الآخرة مهجنا فجزاهم خالد بن الوليد رضي الله عنه خيرا وكذلك الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لهم: تأهبوا رحمكم الله وخذوا أسلحتكم وعدتكم وليكن قتالكم بالسيف ولا يأخذ أحد منكم رمحا فإن الرمح خوان ربما زاغ عن الطعن ولا تأخذوا السهام فإنها منايا منها المخطىء ومنها المصيب والسيف والحجف عليهما تدور دوائر الحرب واركبوا خيولكم السبق النواجي ولا يركب الرجل منكم إلا جواده الذي يصبر به وتواعدوا أن الملتقى عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم قال فقدموا على أهاليهم وودعوهم فأما ضرار بن الأزور فإنه عمد إلى خيمته ليستعد بما يريد ويسلم على أخته خولة رضي الله عنها بنت الأزور فلما لبس لأمة حربه قالت له أخته خولة: يا أخي مالي أراك تودعني وداع من أيقن بالفراق اخبرني ماذا عزمت عليه فأخبرها ضرار بما قد عزم عليه وانه يريد أن يلقى العدو مع خالد بن الوليد رضي الله عنه فبكت خولة وقالت: يا أخي افعل ما تريد أن تفعل والق عدوك وانت موقن بالله تبارك وتعالى فإنه لكم ناصر وأن عدوك لا يقرب إليك أجلا بعيدا ولا يبعد عنك أجلا قريبا فإن حدث عليك حدث أو لحقك من عدوك نائبة فوالله العظيم شأنه لا هدأت خولة على الأرض أو تأخذ بثأرك فبكى ضرار بن الأزور لبكائها واعد آلة الحرب وكذلك الستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يناموا طول ليلتهم حتى ودعوا أولادهم وأهاليهم وباتوا في بكاء وتضرع وهم يسألون الله تعالى النصر على الأعداء إلى أن أصبح الصباح فصلى بهم الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه صلاة الفجر فلما فرغ من صلاته كان أول من أسرع إلى الخرج خالد بن الوليد رضي الله عنه وحرض أصحابه على الخروج وهو ينشد ويقول:
هبوا جميع اخوتي أرواحا ** نحو العدو نبتغي الكفاحا

نرجو بذاك الفوز والنجاحا ** إذا بذلنا دونه أرواحا

ويرزق الله لنا صلاحا ** في نصرنا الغدو والرواحا

قال الواقدي: وأنشد بيتا آخر لم أدر ما هو وخرج أمام المسلمين وأصحابه يقدمون إليه واحدا بعد واحد حتى اجتمع إليه الستون رجلا الذين انتخبهم وكان آخر من أقبل عليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ومعه زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وهي سائرة إلى جانب أيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي تدعو لهم بالسلامة والنصر وتقول لاخيها يا أخي لا تفارق ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقت الحملة اصنع كما يصنع ولا تأخذكم في الله لومة لائم قال وودع المسلمون الستين أصحابهم وساروا بأجمعهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه في أوساطهم كأنه أسد قد احتوشته الأسود ولم يزالوا حتى وقفوا بازاء العرب المتنصرة.
قال الواقدي: ونظرت العرب المتنصرة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبلوا نحوهم وهم نفر يسير فظنوا إنهم رسل يطلبون الصلح والمواعدة فصاح جبلة بالعرب المتنصرة وحرضهم ليرهب المسلمين ونادى يا آل غسان أسرعوا إلى نصرة الصليب وقاتلوا من كفر به فبادروا بالإجابة وأخذوا الأهبة للحرب ورفعوا الصليب واصطفوا للقتال وقد طلعت الشمس على لأمة الحرب فلمع شعاعها على الحديد والزرد والبيض كأنها شعل نار ووقفوا يبصرون ما يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قاربوا صلبان العرب المتنصرة ونادى خالد بن الوليد رضي الله عنه يا عبدة الصلبان ويا أعداء الرحمن هلموا إلى الحرب والطعان فلما سمع جبلة كلام خالد رضي الله عنه علم إنهم ما خرجوا رسلا وإنما خرجوا للقتال فخرج جبلة من بين أصحابه وقد اشتمل بلامة حربه وهو يقول:
أنا لمن عبدوا الصليب ومن به ** نسطو على من عابنا بفعالنا

ولقد علونا بالمسيح وأمه ** والحرب تعلم إنها ميراثنا

أنا خرجنا والصليب أمامنا ** حتى تبددكم سيوف رجالنا

ثم قال جبلة من الصائح بنا والمستنهض لنا في قتالنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا فاخرج إلى حومة الحرب فقال جبلة نحن قد رتبنا أمورنا لحربكم وقتالكم وأنتم تتربصون عن قتالنا فوحق المسيح لا أجبناكم إلى الصلح أبدا فارجعوا إلى قومكم وأخبروهم اننا ما نريد إلا القتال قال فأظهر خالد التعجب من قوله وقال له: يا جبلة أتظن أننا خرجنا رسلا إليك فقال جبلة أجل فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا تظن ذلك أبدا فوالله ما خرجنا إلا لحربكم وقتالكم فإن قلتم اننا شرذمة فإن الله ينصرنا عليكم فقال جبلة يا فتى قد غررت بنفسك وبقومك إذ خرجت إلى قتالنا ونحن سادات غسان ولخم وجذام فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا تظن ذلك واننا قليلون فقتالكم رجل منا لالف منكم وتخلف منا رجال أشهى إليهم الحرب من العطشان إلى الماء البارد فقال جبلة يا أخا بني مخزوم لقد كنت أفضلك في عقلك وأروم بك مرام الأبطال حتى سمعت منك هذا الكلام إنك أنت والستين رجلا ترومون قتالنا ونحن سادات غسان وأبطال الزمان ها أنا أ حمل بهذه الستين ألف فارس فلا يبقى منكم أحد ثم صاح جبلة بقومه يا آل غسان الحملة.
فلما سمعوا كلام سيدهم حملت الستون ألف فارس في وجه خالد بن الوليد والستين رجلا فثبت لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتبك الحرب بينهم فما كنت تسمع إلا زئير الرجال وزمجرة الأبطال ووقع السيف على البيض الصقال حتى ما ظن أحد من المسلمين ولا من المشركين أن خالدا ومن معه ينجو منهم أحد فبكى المسلمون وأخذهم القلق على أخوانهم وجعل بعضهم يقول: لقد غرر خالد بن الوليد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلكهم والروم تقول أن جبلة أهلك هؤلاء القوم فهلاك العرب حاصل بأيدينا لا محالة ولم يزل القوم في الحرب والقتال حتى قامت الشمس في كبد السماء قال عبادة بن الصامت فلله در خالد بن الوليد رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والفضل بن العباس وضرار بن الأزور وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم اجمعين لقد رأيت هؤلاء الستة قد قرنوا مناكبهم في الحرب وقام بعضهم بجنب بعض وهم لا يفترقون وزادت الحرب اشتعالا وخرقت الأسنة صدور الليوث حتى بلغت إلى خزائن القلوب لانقطاع الآجال ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه من مزيد قال عبادة بن الصامت فحملت معهم وكنت في جملتهم وقلت: يصيبني ما يصيبهم ونادى خالد بن الوليد وقال: يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا المحشر وقد أعطى خالد القلب مناه فلما حمى بينهم القتال حمل خالد بن الوليد وهاشم والمرقال وتكاثرت عليهم الرجال فلله در الزبير ابن العوام والفضل بن العباس وهم ينادون أفرجوا يا معاشر الكلاب وتباعدوا عن الأصحاب نحن الفرسان هذا الزبير بن العوام وأنا الفضل بن العباس أنا أبن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه فوحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أحصيت للفضل بن العباس عشرين حملة يحملها عن خالد بن الوليد حتى أزال عنه الرجال والأبطال وحملوا على المشركين حملة عظيمة ولم يزالوا في القتال يومهم إلى أن جنحت الشمس إلى الغروب والمسلمون قد جهدهم القلق على اخوانهم أما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فإنه صاح بالمسلمين وقال: يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك خالد بن الوليد ومن معه لا محالة وذهبت فرسان المسلمن فاحملوا بارك الله فيكم لننظر ما كان من أر اخواننا فكل اجاب إلى قوله واشارته إلا أبا سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه فإنه قال للأمير أبي عبيدة رضي الله عنه لا تفعل أيها الأمير فإنه لا بد للقوم أن يتخلصوا ونرى ما يكون من أمرهم قال فلم يلتفت أبو عبيدة رضي الله عنه إلى كلامه وهم أن يحمل وقد أخذه القلق فبينما هو كذلك وإذا جيش العرب المتنصرة منهزمون وأصوات الصحابة رضي الله عنهم قد ارتفعت بالتهليل والتكبير كل ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والعرب المتنصرة منهزمة على أعقابهم كأنما صاح بهم صائح من السماء فبدد شملهم وأقبل خالد بن الوليد من وسط المعمعة يلتهب بما لحقه من التعب وكذا أصحابه الذين كانوا معه.
قال وأن خالد بن الوليد افتقد أصحابه الستين رجلا فلم يجد منهم إلا عشرين فجعل يلطم على وجهه وهو يقول: أهلكت المسلمين يا ابن الوليد فما عذرك غدا عند الرحمن وعند الأمير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبينما هو متحير في ذلك إذ أقبل عليه الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وفرسان المسلمين وأبطال الموحدين فنظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وما يصنع بنفسه وقد اشتغل عن متابعة المشركين فقال أبو عبيدة: يا أبا سليمان الحمد لله على نصر المسلمين ودمار المشركين فقال خالد بن الوليد: اعلم أيها الأمير أن الله قد هزم الجيش ولكن أعقبتك الفرحة ترحة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه وكيف ذلك فقال خالد: أيها الأمير فقدت أربعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم الفضل بن العباس وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه يسمي فرسان المسلمين واحدا بعد واحد حتى سمى أربعين رجلا فاسترجع أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال لخالد لا بد لعجبك يهلك المسلمون فقال سلامة بن الأحوص السلمي أيها الأمير دونك والمعركة فاطلب فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رأيتموهم وإلا فالقوم أسرى أو قد تبعوا المشركين فأمر أبو عبيدة فأتوا بهوادى النيران وكان الظلام قد اعتكر فافتقدوا المعركة بين القتلى فإذا قتل من العرب المتنصرة خمسة آلاف فارس وسيدان من ساداتهم وهما رفاعة بن مطعم الغساني والآخر شداد بن الأوس ووجدوا من قتل المسلمين عشرة رجال منهم اثنان من الأنصار أحدهما عامر الأوسي والآخر سلمة الخزرجي فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يوشك أن بعض الصحابة قد تبع المشركين فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه اللهم ائتنا بالفرج القريب ولا تفجعنا بابن عمة نبيك الزبير بن العوام ولا بابن عمه الفضل ابن العباس ثم قال أبو عبيدة: معاشر المسلمين من يقفو لنا أثر القوم ويتعرف خبر الصحابة واجره على الله عز وجل فكان أول من أجابه خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال له الأمير أبو عبيدة: لا تفعل يا أبا سليمان لانك تعبت من شدة الحرب فقال خالد: والله لا يمضي في طلبهم غيري ثم غير جواده بفرس من خيول المسلمين وهو فرس حازم بن جبير بن عدي من بني النجار فركبه خالد ابن الوليد رضي الله عنه وطلب آثار القوم وتبعه جماعة من المسلمين فما سار خالد بعيدا حتى سمع خالد التهليل والتكبير فأجابهم بمثله فأقبل القوم وفي أوائلهم الزبير بن العوام والفضل ابن العباس وهاشم والمرقال فلما نظر خالد إليهم فرح فرحا شديدا ورحب بهم وسلم عليهم وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه للفضل بن العباس: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أمركم.
فقال: يا أبا سليمان هزم الله المشركين وردهم على أدبارهم خائبين فتبعنا آثارهم وأن رجالا منا أسروا فرجونا خلاصهم فلم نرهم ولا شك إنهم قتلوا فقال خالد رضي الله عنه: أن القوم في الأسر لا محالة فقال الزبير بن العوام من أين علمت ذلك يا أبا سليمان فقال خالد رضي الله عنه: أنا لم نجد في المعركة غير عشرة رجال ونحن عشرون وأنتم خمسة وعشرون وقد أسر خمسة رجال لا محالة وكان الأسرى رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان فعظم ذلك على المسلمين ورجعوا إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر إلى الفضل بن العباس والى الزبير بن العوام والمرقال بن هاشم وقد رجعوا سالمين فرحين بما نصرهم الله على الكافرين سجد على قربوس سرجه شكرا لله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: معاشر المسلمين لقد بذلت مهجتي أن أقتل في سبيل الله تعالى فلم أرزق الشهادة فمن قتل من المسلمين كان أجله قد حضر ومن أسر كان خلاصه على يدي إن شاء الله تعالى قال وباتت الفرسان في فرح وسرور وبات الروم في نوح عظيم حين كسرت حامية عسكرهم.
قال الواقدي: حدثني من أثق به أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى عساكر الروم معولة على قتاله كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أبي عبيدة عامر بن الجراح عامله سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين أن كلب الروم هرقل قد استفز علينا كل من يحمل الصليب وقد سار القوم إلينا كالجراد المنتشر وقد نزلنا باليرموك بالقرب من أرض الرماة والخولان والعدو في ثمانمائة ألف مقاتل غير التبع وفي مقدمتهم ستون ألف من العرب المنتصرة من غسان ولخم وجذام فأول من لقينا جبلة بن الأيهم في ستين ألف فارس وأخرجنا إليه ستين رجلا فهزم الله تعالى المشركين على أيديهم {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} وقتل من أصحابنا عشرة رجال وهم راعلة وجعفر بن المسيب ونوفل بن ورقة وقيس بن عامر وسلمة بن سلامة الخزرجي وأسر منهم خمسة رجال وهم رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان ونحن على نية الحرب والقتال فلا تغفل عن المسلمين وأمدنا برجال من الموحدين ونحن نسأل الله تعالى أن ينصرنا وينصر الإسلام وأهله والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط الأزدي وأمره أن يتوجه إلى مدينة يثرب قال عبد الله بن قرط فركبت من اليرموك يوم الجمعة في الساعة العاشرة بعد العصر وقد مضى من شهر ذي الحجة اثنا عشر يوما والقمر زائد النور فوصلت يوم الجمعة في الساعة الخامسة والمسجد مملوء بالناس فأنخت ناقتي على باب جبريل عليه السلام وأتيت الروضة وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وصليت فيها ركعتين ونشرت الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فضجت المسلمون عند رؤيته وتطاولت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبلت يديه وسلمت عليه فلما فتح عمر الكتاب انتقع لونه وتزعزع كونه وقال أنا لله وأنا إليه راجعون فقال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من الصحابة يا أمير المؤمنين أطلعنا على ما في هذا الكتاب من أمر اخواننا المسلمين فقام عمر رضي الله عنه ورقى المنبر خطيبا وقرأ الكتاب على الناس فلما سمعوا ما فيه ضجوا بالبكاء شوقا إلى اخوانهم وشفقة عليهم وكان أكثر الناس بكاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين ابعث بنا إليهم ولو قدمت أنت إلى الشام لشدت بك ظهور المسلمين فوالله ما أملك إلا نفسي ومالي وما ابخل بهما على المسلمين قال: فلما سمع عمر بن الخطاب كلام عبد الرحمن بن عوف ونظر إلى اشفاق المسلمين وجزعهم على إخوانهم أقبل على عبد الله وقال: يا بن قرط من المقدم على عساكر الروم فقلت: خمسة بطارقة أحدهم ابن أخت الملك هرقل وهو قورين والديرجان وقناطير وجيرجير وصلبانهم تحت صليب ماهان الأرمني وهو الملك على الجميع وجبلة بن الأيهم الغساني مقدم على ستين ألف فارس من العرب المتنصرة فاسترجع عمر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ عمر: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
ثم قال: ما تشيرون به علي رحمكم الله تعالى فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ابشروا رحمكم الله تعالى فإن هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات الله تعالى يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم فمن صبر واحتسب كان عند الله من الصابرين واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله صلى الله ليه وسلم التي يبقى ذكرها إلى الأبد هذه الدائرة المهلكة فقال العباس علي من هي يا أبن اخي فقال: يا عماه علي من كفر بالله واتخذ معه ولدا فثقوا بنصر الله عز وجل ثم قال لعمر يا أمير المؤمنين اكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتابا وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا فيوشك إنه في أمر عظيم فقام عمر ورقى المنبر وخطب خطبة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وذكر فضل الجهاد ثم نزل وصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته كتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح ومن معه من المهاجرين والأنصار سلام عليكم فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن نصر الله خير لكم من معونتنا واعلموا إنه ليس بالجمع الكثير يهزم الجمع القليل وإنما يهزم الجمع القليل وإنما يهزم بما أنزل الله من النصر وأن الله عز وجل يقول: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] وربما ينصر الله العصابة القليل عددها على العصابة الكثيرة وما النصر إلا من عند الله وقد قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] رالآية يا طوبى للشهداء ويا طوبى لمن يتكل على الله فالق العدو بمن معك من المسلمين ولا تيأس بمن صرح من المسلمين فقد رأيت من صرع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عجزوا عن عدوهم في مواطن كثيرة حتى قتلوا في سبيل الله ولم يهابوا لقاء الموت في جنب الله تعالى بل جاهدوا في سبيل الله حق جهاده: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ*فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148].
فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقرأه على المسلمين وأمرهم أن يقاتلوا العدو في سبيل الله عز وجل واقرأ عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] والسلام عليك.
ورحمة الله وبركاته ثم طوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط وقال له: يا ابن قرط إذا اشرفت على المسلمين وقد استوت الصفوف فسر بين صفوف الموحدين وقف على أصحاب الرايات منهم وخبرهم إنك رسولي إليهم وقل لهم أن عمر بن الخطاب يسلم عليكم ويقول لكم: يا أهل الإيمان أصدقوهم الحرب عند اللقاء وشدوا عليهم شد الليوث وأضربوا هاماتهم بالسيوف وليكونوا عليكم أهون من الذباب فانكم المنصورون عليهم أن شاء الله تعالى ثم اقرأ عليهم: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المائدة: 56] قال عبد الله بن قرط قلت له: يا أمير المؤمنين ادع الله تعالى لي بالسلامة والسرعة في السير.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم احمه وسلمه واطو له البعيد إنك على كل شيء قدير قال عبد الله بن قرط وخرجت من المسجد من باب الحبشة فقلت في نفسي: لقد أخطأت في الرأي إذ لم أسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أدري أراه بعد اليوم أم لا قال عبد الله فقصدت حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها جالسة عند قبره وعلى بن ابي طالب كرم الله وجهه والعباس جالسان عند القبر والحسين في حجر علي والحسن في حجر العباس رضي الله عنه وهم يتلون سورة الأنعام وعلي رضي الله عنه يتلو سورة هود فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي رضي الله عنه يا ابن قرط عولت على المسير إلى الشام فقلت: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أظن أن أصل إليهم إلا والجيش قد التقى والحرب دائرة وإذا أشرفت عليهم لا يرون معي مدادا ولا نجدة خشيت عليهم أن يهنوا ويجزعوا وكنت أحب أن أصل إليهم قبل التقائهم بعدوهم حتى أعظهم وأصبرهم فقال علي رضي الله عنه فما منعك أن تسأل عمر بن الخطاب أن يدعو لك أما علمت يا أبن قرط أن دعاءه لا يرد ولا يحجب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «لو كان نبي ثان بعدي لكان عمر بن الخطاب» أليس هو الذي يوافق حكمه حكم الكتاب حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب» أما علمت أن الله تعالى انزل فيه آيات بينات أما هو الزاهد التقى أما هو العابد أما هو المشبه بنوح النبي فإن كان هو قد دعا لك فقد قرن دعاؤه بالإجابة فقال عبد الله بن قرط ما ذكرت شيئا إلا وأنا عارف به من فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكني أردت الزيادة من دعائك ودعاء العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما عند قبر الرسول المعظم المكرم قال فرفع العباس رضي الله عنه عند يديه وعلي رضي الله عنه كذلك وقالا: اللهم أنا نتوسل بهذا النبي المصطفى والرسول المجتبى الذي توسل به آدم فأجبت دعوته وغفرت خطيئته إلا سهلت على عبد الله طريقه وطويت له البعيد وأيدت أصحاب نبيك بالنصر إنك سميع الدعاء ثم قال: سر يا عبد الله بن قرط فالله تعالى اكرم من أن يرد دعاء عمر وعباس وعلي.
والحسن والحسين وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توسلوا إليه بأكرم الخلق عليه قال عبد الله بن قرط فخرجت من الحجرة وأنا فرح مستبشر واستويت على كور المطية وركبت الفلاة وأنا فرح بدعاء علي والعباس وعمر رضي الله عنهم أجمعين قال عبد الله خرجت من المدينة بعد العصر من يومي ذلك الذي دخلت فيه المدينة وأنا أرقب الطريق فلما اختلط الظلام وأسبل الليل سجفه أرخيت زمام المطية فحسبت إنها تطير بي ولم أزل سائرا ثلاثة أيام فلما كانت صلاة العصر من اليوم الثالث أشرفت على اليرموك وسمعت ضجيج أذان المسلمين قال عبد الله فقصدت خيمة الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وأنخت ناقتي وسلمت عليه وكان لي منذ فارقته عشرة أيام فأخبرته بدعاء عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال أبو عبيدة: صدقت يا أبن قرط وإنهم لكرام على الله عز وجل وأن دعاءهم لا يرد ثم قرأ الكتاب على المسلمين فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أيها الأمير ما منا إلا من يطلب الشهادة فالله تعالى يبلغنا إياها.
قال الواقدي: حدثني عمرو بن العلاء قال حدثنا ماجد عن الثقات قال لما سار عبد الله ابن قرط من المدينة يوم الجمعة فلما كان يوم السبت وقد صلينا الصبح خلف عمر بن الخطاب ونحن نقرأ من القرآن ما تيسر إذ سمعنا ضجة عظيمة وجلبة هائلة ففزعت قلوبنا فخرجنا مبادرين وإذا نحن بقوم من اليمن من صدوان وأرض سبأ وحضرموت واجتمعوا للجهاد وهم ستة آلاف يقدمهم جابر بن خول الربعي فترجلت ساداتهم وسلموا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرهم بالنزول فلما أقل الظلام جاء ألف فارس من مكة والطائف ووادي نخلة وثقيف يقدمهم سعيد بن عامر وسلموا على عمر ونزلوا بأزاء أهل اليمن فلما كان يوم الأحد حمل عمر ضعيفهم وزودهم وعقد راية حمراء على قناة تامة وسلمها إلى سعيد بن عامر قال سعيد بن عامر فهممت بالمسير فقال عمر على رسلك يا ابن عامر حتى أوصيك ثم أقبل عمر بن الخطاب يمشي راجلا ومعه عثمان بن عفان والعباس وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف فلما قربوا من الجيش وقف عمر والناس حوله وقال لسعيد بن عامر يا سعيد إني وليتك على هذا الجيش ولست بخير رجل منهم إلا أن تتقي الله فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المفاوز واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: اسمع وصية أمامك أمير المؤمنين الذي ختم الله تعالى به الأربعين وسميت به الأمة مؤمنين وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن تطيعوه تهتدوا وترشدوا» فسر يا سعيد وإذا وصلت إلى أبي عبيدة والتقى بكم الجيش الذي لا تلقون مثله وصعب عليكم.
أمره فاكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر حتى يوجهني إليكم حتى أقلب أرض الشام على من فيها من المشركين أن شاء الله تعالى قال فسار بن عامر وهو يقول:
نسير بجيش من رجال أعزة ** على كل عجعاج من الخيل يصبر

إلى شبل جراح وصحب نبينا ** لننصره والله للدين ينصر

على كل كفار لعين معاند ** تراه على الصلبان بالله يكفر

قال وسار يجد السير قال سعيد بن عامر وكنت عارفا ببلاد الشام وطرقه وكنت أسير إليه في السنة مرة أو مرتين عسفا من غير جادة طريق اسير على الكواكب فلما سرت من المدينة وأنا بين يدي المسلمين سلكت بهم على طريق بصرى فضللت عن الطريق وعدلت عن الجادة وأنا محترز من العدو وخائف على المسلمين فجعلت أحيد عن العمارات وأسلك الفلاة توفيقا من الله واكراما ولطفا بعباده المؤمنين فلما ضللت أشكل علي الطريق كأني ما سلكته يوما قط فوقفت حائرا حتى تلاحق بي المسلمون فلم أعلمهم بأمري ولا إني ضللت عن الطريق وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فسرت يومين وليلتين وأنا أتيه بالناس والمسلمون يسألونني عن ذلك وأنا أقول لهم إني على طريق فلما كان في اليوم العاشر من مسيرنا من المدينة لاح لي جبل عظيم فنظرت إليه وحققته فلم أعرفه فقلت: غررت والله بالمسلمين وأنا أقول في نفسي أترى هذا جبل بعلبك وقد سهل علينا الطريق وكان الجبل قد لاح لنا من بعيد من أول النهار وما أدركناه إلا والليل قد أقبل فلما صرنا بقربه اعترضنا واد عظيم فيه شجرة عظيمة كبيرة قال فلما تاملت الشجرة عرفتها وقلت لأصحابي: أبشروا فقد وصلنا إلى بلاد الشام وفتح المسلمين ودخلنا الوادي وإذا به وعر ليس فيه جادة ولا طريق فلحق المسلمين من هوله تعب عظيم قال سعيد بن عامر وكان أكثر المسلمين رجالة وإنما كان يحمل بعضهم بعضا ويتعقبون على ظهور الخيل والإبل.
فلما نظرت المسلمون إلى وحشة ذلك الوادي ووعورة مسلكه قالوا: يا سعيد أنا نظنك إنك قد أخطأت الطريق وسلكت بنا غير طريقنا فأرحنا في هذا الوادي قليلا فقد اضر بنا المسير قال فأجبتهم إلى ذلك وكان في الوادي عين ماء غزيرة فنزل المسلمون عليها فشربوا وسقوا خيلهم وابلهم ورعت الخيل والجمال ورق الشجر ونام أكثر الناس وبعضهم يصلي على محمد قال سعيد بن عامر وكنت جلست في آخر الناس أحرسهم وأنا أتلوا القرآن العظيم وأدعو الله لنا بالسلامة إذ غلبتني عيني فنمت فرأيت في منامي كأني في جنة خضراء كثيرة الاشجار والثمار وكأني آكل من ثمرها وأشرب من أنهارها وأجني من ثمرها وأنأول أصحابي وهم يأكلون وأنا فرح مسرور فبينما أنا كذلك إذ خرج من بين تلك الشجر أسد عظيم فزأر في وجهي وهم أن يفترسني. وأنا من ذلك فزع مرعوب إذ خرج على الأسد أسدان عظيمان فصرعاه في موضعه فسمعت له خوارا عظيما فانتبهت من نومي وحلاوة ذلك الثمر في فمي الأسود تتمثل بين يدي قال سعيد بن عامر ففسرتها إنها غنيمة يأخذها المسلمون ويمنعنا منها مانع ونظفر به فقلت في نفسي الجنة هي الشهادة قال سعيد بن عامر ولم أزل جالسا أتلو القرآن وأنا قلق إذ سمعت هاتفا يهتف بي عن يمين الوادي وهو يقول:
يا عصبة الهادي إلى الرشاد ** لا تفزعوا من وعر هذا الوادي

ما فيه من جن ولا معادي ** ستعلمون معشر العباد

لطف الذي يرفق بالأولاد ** ويطرح الرحمة في الاكباد

سيصنع الله بكم رشاد ** وتغنموا المال مع الأولاد

قال سعيد بن عامر فلما سمعت شعر الهاتف وما يشير به من الغنيمة سجدت لله تعالى شكرا واستيقظ المسلمون لصوت الهاتف قال سعيد بن عامر وكنت قد حفظت من الهاتف بيتا وحفظ سماح ثلاثة أبيات وأنشدني إياها وفرح المسلمون بما سمعوا من الهاتف وطابت قلوبهم بالغنيمة وأقام المسلمون في الوادي حتى أصبح الصباح وصلى بهم سعيد بن عامر صلاة الفجر فلما طلعت الشمس خرج المسلمون من الوادي وحققت تلك الأرض والجبل وإذا به جبل الرقيم فلما رأيته عرفته فرفعت صوتي بالتكبير وقلت: الله أكبر وكبرت المسلمون لتكبيري وقالوا: ما الذي رأيت يا ابن عامر فقلت: وصلنا إلى بلاد الشام وهذا جبل الرقيم قال سعيد وأكثر من معي طماعو العرب قالوا: يا سعيد وما الرقيم أما تعرفه فحدثتهم بحديث الرقيم قال سعيد فعجبوا من ذلك ثم أقبلت بهم إلى الغار فصلوا فيه ثم سرنا حتى أشرفنا على بلاد عمان قال سعيد بن عامر فعدلت إلى قرية هناك يقال لها الجنان فنظرت إلى دهاقين القرية وهم خارجون منها ومعهم الأهل والأولاد فلما رآهم المسلمون حملوا عليهم من غير اذن لهم وأخذوا بعضهم أسارى فرجع القوم إلى القرية وكان فيها حصن منيع فتحصنوا فيها منا قال سعيد بن عامر فقربت من الحصن وصحت بهم وقلت: يا ويلكم ما بالكم كنتم خارجين من قريتكم فرجعتم فأشرف علي واحد منهم وقال لي يا معاشر العرب أعلموا أننا كنا خارجين من المدينة ففزعنا منكم وذلك أن صاحب عمان بعث إلينا وأمرنا بالمسير إلى عمان لنكون من تحت كنفه في عمان والآن يا معاشر العرب هل لكم أن نكون في ذمامكم وأمانكم قال سعيد: نعم فوقع الصلح بيننا على عشرة آلاف دينار وكتبت لهم كتاب الصلح فلما هممت بالمسير قالوا: يا معاشر العرب قد صالحناكم ونحن خائفون من قومنا وأعلموا أن نقيطاس صاحب عمان لا بد أن نلقى منه شدة عظيمة فلو ظفرتم به لكان خيرا لنا ولكم فقلت: فكيف نظفر به فقالوا: إن الملك ماهان.
مقدم العساكر قد بعث بذلك إليه وأن أنتم ظفرتم بصاحب عمان ملكتم غنيمة جسيمة فقال سعيد بن عامر رضي الله عنه وفي كم يكون جيش عمان فقالوا: في خمسة آلاف فارس ولكن قد وقع خوفكم في قلوبهم فلن يفلحوا إذا أبدا فقال سعيد بن عامر يا معاشر المسلمين ما تقولون في لقاء هذا البطريق صاحب عمان وأخذ غنيمته فقالوا: افعل ما تريد فإن قتله الله على أيدينا كان ذلك صلاحا للمسلمين ووهنا على المشركين فقال سعيد بن عامر لاهل القرية على أي طريق يأتي القوم فقالوا: على هذا الطريق.
قال فدلونا على طريق عمورية فسرنا إلى واد عظيم وكمنا فيه يوما وليلة فلم يأتنا أحد فلما أصبح الصباح قال سعيد يا معاشر المسلمين أن الذي وجهنا إليه عمر بن الخطاب من نجدة أبي عبيدة والمسلمين أفضل من مقامنا هنا فاخرجوا رحمكم الله فانا إذا أشرفنا على المسلمين في سبعة آلاف فارس كان ذلك وهنا على المشركين وذلة للكافرين فقال المسلمون يا ابن عامر أن قلوبنا توقن بالغنيمة فلا تحرمنا ذلك قال فبينما هم في المحاورة إذا أشرف عليهم جماعة من القسوس والرهبان وعليهم ثياب الشعر وفي أيديهم الصلبان وقد حلقوا أوساط رؤوسهم فابتدر المسلمون إليهم وأخذوهم وأوقفوهم بين يدي سعيد بن عامر فقال لهم: من أنتم وكان فيهم قس كبير فكلم سعيدا وقال نحن رهبان هذه الأديرة والصوامع ونريد أن نصل إلى قسطنطين ولد الملك هرقل حتى ندعو للعساكر بالنصر قال سعيد فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فما وراءكم من الأخبار قالوا: وراءنا صاحب عمان في خمسة آلاف فارس من فرسان النصرانية وعباد الصليب فقال سعيد اللهم اجعلهم غنيمة لنا ثم قال سعيد للقسيس الذي خاطبه أسمع أيها الشيخ أن نبينا أمرنا أن لا نتعرض لراهب حبس نفسه في صومعة ولولا إنكم تنذرون العدو لخلينا سبيلكم ثم أمر المسلمين أن يؤثقوهم كتافا فأوثقوهم بزنانيرهم التي في أوساطهم فبينما نحن كذلك إذ أشرف علينا جيش عمان والرجالة أمامهم يعزلون لهم الحجر من الدروب فلما أشرفوا علم المسلمين حمل عليهم المسلمون من غير أهبة ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكيبير ووضعوا فيهم السيف فقتلوا الرجالة عن آخرهم فأخبر صاحب عمان بذلك فلما نظر إلى صنع المسلمين أمر أصحابه بالحملة فحملوا عليهم حملة عظيمة واقتتلوا قتالا شديدا قال سعيد بن عامر ونظرت إلى المسلمين وهم يقتلون الروم قتلا ذريعا ويضجون بالتهليل والتكبير فلما نظر البطريق صاحب عمان ما صنع المسلمون بأصحابه ولى منهزما طالب عمان وتبعه قومه وتبعهم المسلمون وبعضهم مال إلى الغنيمة والبطريق نقيطاس صاحب عمان في الهرب وكان قد سبق فوقف حتى تلاحق به المنهزمون من قومه قال فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم خيل من ورائهم تسرع بركابها وقد اطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وهم زهاء من ألف.
فارس يقدمهم فارسان كأنهما أسدان أحدهما الزبير بن العوام والآخر الفضل بن العباس فحملوا على الروم فقتلوهم قتلا ذريعا وحمل الزبير بن العوام على نقيطاس بطريق عمان وهو واقف تحت الصليب فطعنه الزبير فقلبه عن جواده وعجل الله بروحه إلى النار وأقبل الفضل بن العباس يجندل الفرسان وينكس الأبطال قال وأشرف سعيد بن عامر على الموضع فرأى الحرب قائمة فظن إنه وقع بينهم الخلف فلما قربوا منهم سمعوا التهليل والتكبير فقالوا: هذه دعوة الحق لمن قالها فاقتحم سعيد ابن عامر المعركة فسمع الفضل بن العباس وهو ينتمي باسمه ويقول: أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد بن عامر فوالله ما أنفلت من القوم أحد فقلت له: لله درك يا ابن العباس ومن معك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معي الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعيد بن عامر فوالله ما انفلت من القوم أحد إلا بين أسير وقتيل وغنم المسلمون غنيمة عظيمة وسلم بعضهم على بعض وأقبل الزبير على سعيد بن عامر وقال: يا ابن عامر ما الذي حبسك عن المسير جهتنا وقد جاءنا سالم بن نوفل العدوي وأخبرنا بمسيرك إلينا وقد ساءت بك ظنوننا فأرسلنا أبو عبيدة لنغير على عمان والحمد لله على سلامة المسلمين ودمار المشركين ثم أمر الزبير برؤوس القتلى فسلخت وحملتها العرب على أسنة الرماح فكانت الرؤوس أربعة آلاف رأس والأسرى ألف أسير قال وأطلق سعيد بن عامر الرهبان وسار المسلمون حتى اشرفوا على أبي عبيدة رضي الله عنه ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير واجابهم حيش المسلمين بمثل ذلك فانزعجت قلوب الروم لذلك ونظروا إلى ثمانية آلاف فارس والرؤوس معهم على الأسنة فبهتوا لذلك وحدث سعيد بن عامر أبا عبيدة بالنصر وغنيمتهم من الروم فسجد شكرا لله عز وجل وأمر بالألف أسير فضربت أعناقهم والروم ينظرون إليهم قال قطبة بن سويد واخبرت الروم إنه لم ينج أحد من جيش عمان.
قال الواقدي: لما أسر الخمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتم لفقدهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكثرهم غما أبو عبيدة بن الجراح وأقبل على البكاء والتضرع يدعو لمن أسر بالخلاص وأما الخمسة فانهم مثلو بين يدي ماهان لعنه الله تعالى وغضب عليه فلما نظر إليهم استحقر شأنهم وقال لجبلة بن الأيهم من هؤلاء قال: أيها الملك هؤلاء قوم من جيش المسلمين وقد كانوا ستين رجلا فقتلت أكثرهم وأسرت هؤلاء وما بقي في عسكرهم من تخاف غائلته الأرجل واحد وهو الذي يثبتهم ويرمي بهم كل المرامي وهو الذي فتح أركة وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وهو الذي كسر عساكر أجنادين وتبع توما وهربيس وقتلهم في مرج الديباج وأسر ابنة الملك هرقل وهو خالد بن الوليد قال فلما سمع ماهان ذلك قال: لا بد لي أن أحتال على هذا الرجل.
حتى أحصله عندي وأقتله مع هؤلاء الخمسة الأسرى ثم دعا ماهان برجل من الروم اسمه جرجة وكان حكيما فاضلا عند الروم فصيحا بلسان العرب فقال: يا جرجة أريد أن تمضي إلى هؤلاء العرب وتقول لهم يبعثوا لنا رسولا وليكن هذا الرسول الرجل المسمى بخالد قال فركب جرجة وسار نحو عساكر المسلمين فالتقى بخالد بن الوليد فقال له: ما الذي تريد فقال أن الملك ماهان قد بعثني إليكم حتى تبعثوا رجلا منكم فلعل الله أن يحقن دماءنا ودماءكم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا أكون الرسول إليه وأوقف رسول الروم بين يديه ويدي أبي عبيدة رضي الله عنه وأخبره إنه يريد المسير إلى ماهان فقال أبو عبيدة: امض يا أبا سليمان سلمك الله تعالى فلعل الله تعالى أن يهديهم أو يدعونا للصلح واداء الجزية فتحقن الدماء على يدك فحقن دم رجل واحد أحب إلى الله تعالى من أهل الشرك جميعا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا أطلب من الله تعالى العون.
ثم وثب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى خيمته ولبس خفين حجازيين وتعمم بعمامة سوداء وشد وسطه بمنطقة من الأديم وتقلد سيفه الذي استلبه من مسيلمة الكذاب يوم اليمامة وأمر عبده عمان أن يأخذ قبته الحمراء وكانت من الأديم الطائفي وفيها شمعات من الذهب الأحمر وحليتها من الفضة البيضاء وكان خالد قد أشتراها من أمرأة ميسرة بن مسروق العبسي بثلثمائة دينار فحملها على بغل وركب خالد جواده فلما هم بالمسير قال له أبو عبيدة: يا أبا سليمان خذ معك رجالا من المسلمين يكونون لك عونا فقال خالد: أيها الأمير أحب ذلك ولكن لا اكراه في الدين وليس لي عليهم طاعة فأمر من شئت فلما سمع المسلمون كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه قال معاذ بن جبل يا أبا سليمان إنك من أهل الفضل ولو أمرتنا بأمر امتثلناه لانك سائر في طاعة الله تعالى ورسوله.
قال الواقدي: فاستركب معه مائة فارس من المهاجرين والأنصار منهم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي وميسرة بن مسروق العبسي وقيس بن هبيرة المرادي وسهل بن عمرو العامري وجرير بن عبد الله البجلي والقعقاع بن عمرو التميمي وجابر بن عبد الله الأنصاري وعبادة بن الصامت الخزرجي والأسود بن سويد المازني وذو الكلاع الحميري والمقداد بن الأسود الكندي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنهم أجمعين ولم يزل خالد ينتخب مثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم حتى كمل منهم مائة فارس كل فارس منهم يرد جيشا وحده فاخذوا زينتهم واشتملوا بلباس الحرب وتوشحوا بالأبراد وتعمموا بالعمائم وتمنطقوا بالخناجر وتقلدوا بالسيوف وركبوا الخيل العتاق وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وعن يمينه معاذ بن جبل وعن شماله المقداد بن الأسود الكندي والمائة فارس محدقون به قال معاذ بن جبل رضي الله عنه وسرنا ونحن نعلن بالتهليل والتكبير قال نصر بن سالم المازني فنظرت إلى أبي عبيدة رضي الله عنه حين سار خالد بمن معه يقرأ آية من القرآن ودموعه جارية على خده فقلت: أيها الأمير ما يبكيك فقال: يا بن سالم هؤلاء والله أنصار الدين فإن أصيب رجل منهم في امارة أبي عبيدة فما يكون عذري عند رب العالمين وعند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الواقدي: فلما اشرف خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه على عساكر الروم نظر المسلمون إلى عساكر الروم وهم خمسة فراسخ في العرض وعن نوفل بن دحية أن خالد بن الوليد لما ترجل عن جواده وترجل المائة جعلوا يتبخترون في مسيرهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الحجاب والبطارقة ولا يهابون أحدا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفراش والديباج ولاح لهم ماهان وهو جالس على سريره فلما نظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ظهر من زينته وملكه عظموا الله تعالى وكبروه وطرحت لهم الكراسي فلم يجلسوا عليها بل رفع كل واحد منهم ما تحته وجلسوا على الأرض فلما نظر ماهان إلى فعلهم تبسم وقال: يا معاشر العرب لم تأبون كرامتنا ولم أزلتم ما تحتكم من الكراسي وجلستم على الأرض ولم تستعملوا الأدب معنا ودستم على فراشنا قال فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن الأدب مع الله تعالى افضل من الأدب معكم وبساط الله اطهر من فرشكم لأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ثم قرأ قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].
قال حدثني عاصم بن رواح الزبيدي قال حدثنا بن عبد الله الشيباني قال حدثنا طرفة بن شيبة الخولاني عن عمه جرير وكان محالفا لخالد بن الوليد رضي الله عنه قال لم يكن بين خالد وماهان ترجمان يبلغ عنهما بل كانا يتحدثان كلاهما فقال خالد: يا ماهان إني اكره أن أبداك بالكلام فتكلم أنت بما تريد فاني لست ابالي بما تتكلم ولكل كلام جواب فإن شئت فتكلم وأن شئت بدأتك قال ماهان أنا أبدؤكم الحمد لله الذي جعل سيدنا الروح المسيح كلمته وملكنا أفضل الملوك وأمتنا خير الأمم قال فعظم ذلك على خالد بن الوليد وقطع خالد كلامه فقال الترجمان لا تقطع كلام الملك يا أخا العرب واستعمل حسن الأدب فأبى خالد أن يسكت بل قال خالد: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الانبياء وجعل أميرنا الذي وليناه أمورنا كبعضنا لو زعم إنه يملك علينا لعزلناه فلسنا نرى أن له فضلا علينا إلا أن يكون أتقى لله عز وجل منا وقد جعل الله أمتنا تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله تعالى وحده لا شريك له قال فاصفر وجه ماهان وسكت قليلا.
ثم قال الحمد لله الذي أبلانا وأحسن البلاء إلينا وعافانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا ومنعنا من الضيم ولسنا فيما خولنا الله فيه من نعيم الدنيا بطرين ولا باغين على الناس وقد كان يا معاشر العرب طائفة منكم يغشوننا ويلتمسون نائلنا ورفدنا وجوائزنا ونحن نحسن إليهم ونكرمهم ونكرم ضعيفهم ونعظم قدرهم ونتفضل عليهم ونفي لهم بالوعد وكنا نظن أن العرب كلها تعرف لنا ذلك من جميع القبائل وتشكرنا عليه لما أسدينا من عطايانا الجميلة لهم فما شعرنا حتى جئتمونا بالخيل والرجل وظننا إنكم تطلبون منا طلب اخوانكم فإذا انتم على خلاف رأي أولئك جئتم تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون الأموال وتهدمون الأطلال وتطلبون أن تخرجونا من أرضنا وتغلبونا على بلادنا وقد طلب منا ذلك من كان قبلكم ممن هو أكثر منكم عددا واكثر أموالا وسلاحا وظهرا فرددناهم خائفين وجلين خائبين بين قتيل وجريح وطريد وطريح فأول ما فعلنا ذلك بملك فارس فرده الله على عقبيه بالخيبة والذل وكذلك فعلنا بملك الترك وملك الجرامقة وغيرهم وانتم لم يكن في أمة من الأمم أصغر منكم مكانا ولا أحقر شانا لانكم أهل الشعر والوبر والبؤس والشقاء وإنكم مع ذلك تظلمون في بلادكم وبلادنا وحوالينا أمة كثيرة العدد وشوكتنا شديدة وعصبتنا عظيمة وإنما قبلتم علينا لانكم خرجتم من جدوبة الأرض وقحط المطر فانجليتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وركبتم مراكب ليست كمراكبكم ولبستم ثيابا ليست كثيابكم وتمتعتم ببنات الروم البيض الأوانس فجعلتموهن خدما لكم واكلتم طعاما ليس كطعامكم وملئت أيديكم من الذهب والفضة والمتاع الفاخر ولقد لقيناكم الآن ومعكم أموالنا وما غنمتموه من قومنا وأهل ديننا وقد تركناه لكم لا نطالبكم به ولا ننازعكم فيه ولا نعتب عليكم فيما تقدم من فعالكم والآن فاخرجوا من بلادنا فإن أبيتم الانصراف عنا عزمنا عليكم عزمة فنترككم كأمس الدابر وأن جنحتم للصلح نأمر لكل واحد من عسكركم بمائة دينار وثوب ولاميركم أبي عبيدة بألف دينار ولخليفتكم عمر بن الخطاب بعشرة آلاف دينار وعلى إنكم تحلفون لنا أن لا تعودوا إلى حربنا.
قال الواقدي: وماهان يرغب تارة ويرهب اخرى وخالد مطرق لا يتكلم حتى فرغ ماهان من كلامه فقال خالد: أن الملك قد تكلم فأحسن وسمعنا كلامه ونتكلم ويسمع كلامنا ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما سمع ماهان ذلك مد يده إلى السماء وقال: نعم ما قلت: يا عربي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وسلم فقال ماهان ما أدري أمحمد رسول الله أم لا ولعله كما تقول وتزعم وتذكر فقال خالد رضي الله عنه: حسب الرجل دينه ثم قال أفضل الساعات وخيرها الساعات التي يطلع فيها الله رب العالمين فالتفت ماهان إلى قومه وقال بلسانه إنه رجل عاقل يتكلم بالحكمة فقال خالد: ما الذي قلت لقومك: فأخبره بمقالته فقال خالد: أن كنت أوتيت العقل فالله تعالى المحمود على ذلك وقد سمعنا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: «لما خلق الله تعالى العقل وصوره وقدره قال أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فادبر فقال الله تعالى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب الي منك بك تنال طاعتي وتدخل جنتي» فقال ماهان اذا كنت بهذا العقل والفهم فلم جئت بهؤلاء معك قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: جئت بهم لاشاورهم قال ماهان وأنت مع جودة عقلك وحسن رأيك وبصيرتك تحتاج إلى مشورة غيرك قال خالد: نعم بهذا أمر الله عز وجل نبينا محمدا صلى الله عنه فقال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ضاع امرؤ عرف قدره ولا ضاع مسلم استشار» فأنا وأن كنت ذا رأي وعقل كما تزعم وكما بلغك فاني لا استغني عن رأي ذي رأي ومشورة أصحابي قال ماهان وهل في عسكركم من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال: نعم أن في عسكرنا أكثر من ألف فارس لا يستغني عن رأيهم ولا عن مشورتهم فقال له ماهان: ما كنا نظن ذلك فيكم وإنما كان يبلغنا عنكم إنكم طماعون جهال لا عقول لكم بغير بعضكم على بعض وينهب بعضكم أموال بعض فقال له خالد رضي الله عنه: ذلك كان شأن أكثرنا حتى بعث الله عز وجل فينا نبينا محمدا صلى لاله عليه وسلم فهدانا لرشدنا وعرفنا سبيلنا وفهمنا الخير من الشر والهدى من الضلال فقال ماهان يا خالد إنك قد أعجبتني بما أراه من رأيك وبصيرتك وقد أحببت أن اؤاخيك فتكون أخي وخليلي فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: وافرحاه أن تمم الله مقالتك فتكون إذا سعيدا ولا نفترق فقال ماهان وكيف ذلك قال خالد: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله الذي بشر به عيسى ابن مريم فإذا فعلت ذلك كنت أخي وكنت أخاك وتكون خليلي وأكون خليلك ولا نفترق إلا لامر يحدث فقال ماهان أما ما دعوتني إليه من الترك لديني والدخول في دينكم فمالي إلى ذلك من سبيل فقال خالد بن الوليد: وكذلك أيضا لا سبيل إلى مؤاخاتي لك وأنت مقيم على دينك دين الضلال قال ماهان أريد أن ألقى الحشمة بيني وبينك وأكلمك كلام الأخ لاخيه فأجبني عن كلامي الذي دعوتك إليه حتى أسمع ما تقول.
قال خالد: أما بعد فانك تعلم أن الذي ذكرته مما فيه قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن عارفون به وكل ما ذكرته من انعامكم على جيرانكم من العرب فقد عرفنا ولكن انما فعلتم ذلك ابقاء لنعمتكم ونظرا منكم لأنفسكم وذراريكم وزيادة لكم في مالكم وعزا لكم فتستكثرون جموعكم وتلقون الشوكة على من أرادكم وأما ما ذكرته من فقرنا ورعينا الإبل والشاة فما منا من لم يرع وأكثرنا رعاة ومن رعى منا كان له الفضل على من لم يرع وأما قولك بأننا أهل فقر.
وفاقة وبؤس وشقاء فنحن لا ننكر ذلك وإنما ذلك من أجل أنا معاشر العرب أنزلنا الله تعالى منزلا ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا زرع إلا قليل وكنا أهل جاهلية جهلاء لا يملك الرجل منا إلا فرسه وسيفه وأباعره وشياهه ويأكل قوينا ضعيفنا ولا يأمن بعضنا بعضا إلا في الأربع الاشهر الحرم نعبد دون الله الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ونحن عليها مكبون ولها حاملون فبينما نحن كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وصار إلى النار ومن بقى منا كان كافرا بربه قاطعا لرحمه حتى بعث الله لنا نبيا نعرف حسبه ونسبه هاديا مهديا رسولا نبيا واماما تقيا اظهر الإسلام بدعوته ودحض المشركين بكلمته جاءنا بقرآن مبين وصراط مستقيم ختم الله تعالى به النبيين وأمرنا بعباده رب العالمين نعبده ولا نشرك به شيئا ولا نتخذ من دونه وليا ولا نجعل لربنا صاحبة ولا ولدا لا شريك له ولا ضد ولا ند له ولا نسجد للشمس ولا للقمر ولا للنور ولا للنار ولا للصليب ولا للقربان ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إله وصحبه انزل الله عليه كلامه الذي هدانا به مولانا فاستجبنا له واطعنا أمره فكان مما أمرنا به أن نجاهد من لا يدين بديننا ولا يقول: بقولنا ممن كفر بالله واتخذ معه شريكا جل ربنا وتعالى عن ذلك لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان اخانا وصار له ما لنا وعليه ما علينا ومن ابى الإسلام كانت عليه الجزية يؤديها إلينا عن يد وهو صاغر فإذا اداها حقن بها ماله ودمه وولده ومن أبى الإسلام وأن يؤدي الجزية فالسيف حكم بيننا وبينه حتى يقضي الله جل جلاله بحكمه وهو خير الحاكمين ونحن ندعوكم إلى هذه الخصال الثلاث ليس غيرها اما أن تقولوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أو الجزية في كل عام على كل محتلم من الرجال وليس على من لم يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته قال ماهان فهل بعد قول لا إله إلا إله غير هذا فقال خالد: نعم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا البيت الحرام وتجاهدوا من كفر بالله تعالى وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتوالوا في الله تعالى وتعادوا في الله فإن أبيتم ذلك فالحرب بيننا وبينكم حتى يورث الله أرضه من يشاء والعاقبة للمتقين قال ماهان فافعل ما تشاء فاننا لا نرجع عن ديننا ولا نؤدي الجزية وأما ما ذكرت من أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فلقد صدقت فإنها لم تكن لنا ولا لكم بل كانت لقوم غيرنا وغيركم فقاتلناهم عليها حتى ملكناها منهم والحرب بيننا وبينكم فابرزوا على اسم الله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ما أنتم بأشهى منا إلى الحرب وكأني بحيوشكم وقد انهزمت والنصر يقدمنا وتساق أنت والحبل في عنقك ذليلا حقيرا وتقدم بين يدي عمر بن الخطاب فيضرب عنقك قال فلما سمع ماهان كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا قال فلما نظرت البطارقة والحجاب والهرقلية والقياصرة إلى غضب ماهان هموا بقتل خالد إلا.
أنهم صبروا ينظرون امره فقال ماهان لخالد: وقد اسشاظ غضبا وحق المسيح لاحضرن أصحابك الخمسة الأسارى وأضربن أعناقهم وأنت تنظر إليهم فقال له خالد: اسمع ما اقول لك يا ماهان أنت أقل وأذل وأحقر من ذلك واعلم أن هؤلاء الذين في يدك هم منا ونحن منهم فوحق الدعوة المستجابة وحق بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخلافة عمر بن الخطاب لئن قتلتهم لاقتلنك بسيفي هذا ويقتل كل رجل منا من قومك بعددهم وزيادة ثم وثب خالد رضي الله عنه من موضعه وانتضى سيفه من غمده وفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وجردوا سيوفهم وهاجوا كالجمال أو كالسباع الضواري واستقتلوا وأيقنوا بالشهادة في ذلك المكان.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد الواقدي مؤلف هذا الكتاب والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في أخبار هذه الفتوح إلا الصدق وما نقلت: أحاديثها إلا عن ثقات وعن قاعدة الحق لاثبت فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين عن السنة والفرض إذ لولاهم بمشيئة الله لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده ونصروا دينه وثبتوا للقاء الأعداء وبذلوا جهدهم ونصروا الدين حتى زحزحوا الكفر عن سريره وتقهقر لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23].
قال الواقدي: حدثني مسلم بن عبد الحميد عن جده رافع بن مازن قال كنت مع خالد يوم سرنا إلى ماهان وكنا في سرادقة فلما جذبنا السيوف وهممنا بالقوم وما في اعيننا من جيوش الروم شيء وقد ايقنا بالحشر من ذلك الموضع.
قال الواقدي: فلما رأى ماهان الحقيقة منا ومن خالد وتبين الموت في شفار سيوفنا نادى ماهان مهلا يا خالد لا تكن بهذه العجلة تهلك وأنا أعلم إنك ما قلت ذلك القول إلا إنك رسول والرسول يحمل ولا يقتل وأنا انما تكلمت بما تكلمت لاختبركم وانظر ما عندكم والآن فما أواخذك فارجع إلى عسكرك واعزم على القتال حتى يعطي الله تعالى النصر لمن يشاء فلما سمع ذلك أغمد سيفه وقال: يا ماهان ما تصنع في هؤلاء الأسرى فقال ماهان أطلقهم كرامة لك وأخلي سبيلهم فيكونون عونا لك ولن تعجزونا في الحرب غدا ففرح خالد بذلك وأمر ماهان بتخلية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاطلقوا من وثاقهم وهم خالد بالمسير فقال ماهان يا خالد إني كنت أحب أن يصلح الأمر بيني وبينكم وإني أسألك حاجة فقال خالد: سل ما تريده فقال أن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتني وإني أريد أن تهبها لي وانظر في عسكري ما أعجبك من شيء فأهبه لك فقال خالد: والله لقد فرحتني إذ طلبت ما أملكه وهي موهوبة لك وأما ما عرضت.
علي من عسكرك فلا حاجة لي فيه فقال ماهان: لله درك أنت تكرمت وأجملت فقال خالد رضي الله عنه: وأنت أيضا قد تكرمت علينا بما صنعت من اطلاق أصحابي من الأسر ثم انثنى خارجا من عند ماهان وأصحابه من حوله وقدم له جواده فركبه وركب أصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ماهان أصحابه وحجابه أن يسيروا معهم حتى يبلغوهم قال ففعل القوم ذلك ووصل خالد وأصحابه إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين وسلموا عليه وفرح المسلمون بخلاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث خالد أبا عبيدة بكل ما جرى لهم ثم قال خالد: وحق المنبر والروضة ما كان ماهان ليطلق لنا أصحابنا إلا فزعا من سيوفنا.
فقال أبو عبيدة: حين سمع ما مر لخالد ولماهان من الخطاب والجدال هذا رجل حكيم إلا أن الشيطان غلب على عقله فعلام افترقتم قال على أننا نلتقي معهم ويعطي الله النصر لمن يشاء فلما سمع أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك جمع عظماء المسلمين وقام فيهم خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن العدو يصبحهم بالقتال في غداة غد وأمرهم بالأهبة وأقبل فرسان المسلمين يحرض بعضهم بعضا وأقبل خالد على أصحابه وهم عسكر الزحف وقال لهم: علموا أن هؤلاء الكفرة الذين نصركم الله عليهم في المواطن الكثيرة قد حشدوا لكم جموع بلادهم وإني دخلت إلى عسكرهم ونظرت إليهم فكانهم النمل ولكنهم أصحاب عدة بلا قلوب ولا لهم من ينصرهم عليكم وهذه الوقعة بيننا وبينهم وقد أيقنا أن القتال في غداة غد وانتم أهل البأس والشدة فما عندكم رحمكم الله تعالى قال فتكلم أصحاب خالد وقالوا: أيها الأمير القتال بغيتنا والقتل في سبيل الله تعالى مسرتنا ولا نزال نصبر لهم على الحرب والطعن والضرب حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ففرح خالد بقولهم وقال لهم: وفقكم الله تعالى وأرشدكم.
قال الواقدي: فلم يبق أحد منهم تلك الليلة إلا وقد أخذ عدته واهبته واستعد بآلة الحرب والقتال وباتوا فرحين بالجهاد والثواب وخائفين من العقاب فلما أصبح القوم ولاج الفجر أذن المؤذنون في عسكر المسلمين حتى ارتفعت لهم جلبة عظيمة بالتوحيد واسبفوا الوضوء لصلاتهم خلف أبي عبيدة فلما صلوا ركبوا خيولهم إلى قتال عدوهم وعبوا صفوفهم للقتال وكانوا ثلاثة صفوف متلاصقة أول الصف لا يرى آخره وأقبل خالد بن الوليد على أبي عبيدة رضي الله عنه وقال: أيها الأمير من تجعل في الميسرة قال كنانة بن مبارك الكناني أو قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي والله أعلم أيهما كان فولاه الميسرة وأمره أن يكون مكانه في الميسرة ففعل وضم إلى كنانة قيسا قال فسار لما أمره أبو عبيدة رضي الله عنه.
قال الواقدي: حدثني فضالة بن عامر قال حدثني موسى بن عوف عن جده يوسف بن معن قال كان هذا الغلام كنانة عارفا بالحرب صاحب شجاعة وغارة وقد ذكر إنه كان من شجاعته وشدة فراسته إنه كان يخرج من حي قومه بني كنانة وحده ويسير حتى يأتي أحياء العرب المعادين له فإذا أشرف عليهم صرخ بهم وانتمى باسمه فتثور الرجال على أعناق الخيل فلا يزال يقاتلهم ويقاتلونه فإن ظفر بهم كان مراده وأن رأى منهم غلبة وعظم عليه أمرهم نزل عن جواده وسعى بين أيديهم فلا يلحقون منه إلا الغبار.
قال الراوي لما ولاه أبو عبيدة رضي الله عنه وقف حيث أمره والتفت أبو عبيدة إلى خالد وقال: يا أبا سليمان قد وليتك على الخيل والرجل فول أمر الرجالة من شئت فقال خالد ابن الوليد رضي الله عنه: سأولي أمرهم رجالا لا يؤتي المسلمون من قبلهم ثم نادى بهاشم بن عتبة ابن أبي وقاص وقال له: ولاك الأمير على الرجالة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه انزل يا هاشم وكن معهم رحمك الله وأنا أوافقك.
قال الواقدي: ورتب أبو عبيدة صفوف المسلمين وعبأهم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ابعث الآن إلى أصحاب الرايات وقل لهم يسمعوا مني فدعا أبو عبيدة رضي الله عنه بالضحاك بن قيس وقال له: يا بن قيس اسرع إلى أصحاب الرايات وقل لهم أن الأمير أبا عبيدة يأمركم أن تسمعوا لخالد وتطيعوا أمره ففعل الضحاك ذلك وجعل يدور على أصحاب الرايات حتى انتهى إلى معاذ بن جبل وقال له: مثل ذلك قال معاذ بن جبل سمعا وطاعة ثم اقبل معاذ على الناس وقال: أما إنكم قد امرتم بطاعة رجل ميمون الغرة مبارك الطلعة فإن أمركم بأمر فلا تخالفوه فيما يأمركم به فما يريد غير صلاح المسلمين والأجر من رب العالمين قال فقلت لمعاذ بن جبل: إنك لتقول في خالد قولا عظيما فقال: ما أقول إلا ما قد عرفته فالله رده وقال الضحاك فرجعت إلى خالد واخبرته بما تكلم به معاذ بن جبل وبما أثنى به عليه فأثنى وقال هو أخي في الله تعالى ولقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا يفعلها خالد بن الوليد فمن يناله قال الضحاك فرجعت إلى معاذ بن جبل وأخبرته بما قال خالد: وبما أثنى به عليه وما ذكره من أمره وبما أورده من علي شأنه فقال معاذ والله إني أحبه في الله تعالى وأرجو من الله أن يكون قد اثابه بحسن نيته ونصيحته للمسلمين.
قال الواقدي: فلما وصى الضحاك بن قيس أصحاب الرايات بقول أبي عبيدة بالطاعة لخالد بن الوليد رضي الله عنه جعل خالد يسير بين الصفوف ويقف على كل راية ويقول: يا أهل الإسلام أن الصبر قد عزم أن شاء الله تعالى على صحبتكم.
والفشل والجبن سببان من أسباب الخذلان فمن صبر كان حقا على الله نصره على عدوه لأن الله معه ومن صبر على حد السيوف فإنه إذا قدم على الله تعالى أكرم منزلته وشكر له فعله وسعيه الله يحب الشاكرين قال وما زال خالد رضي الله عنه يقول: هذا الكلام لأهل كل راية حتى مر بجماعة الناس ثم أن خالدا جمع إليه خيل المسلمين من أهل الشدة والصبر ومن شهد معه الزحف فقسمهم أربعة ارباع فجعل على أحدهم قيس بن هبيرة المرادي وقال له: أنت فارس العرب فكن على هذه الخيل واصنع كما أصنع وجعل على الربع الآخر ميسرة بن مسروق العبسي وأوصاه بمثل ذلك ودعا عامر بن الطفيل على الربع الثالث وأوصاه بمثل ذلك ووقف خالد مع عسكر الزحف.
قال الواقدي: فلم تطلع الشمس إلا وقد فرغوا من تعبية صفوفهم للحرب وأما ماهان الأرمني فإنه أمر الروم بالزينة والأهبة للحرب ففعلوا ذلك إلا أن المسلمين كانوا اسرع في التعبية قال وزحف الروم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر الروم إلى تعبيتهم فكان عسكر المسلمين صفوفا كالبنيان المرصوص وكان الطير تظلهم والصفوف متلاصقة والرماح مشرعة مشتبكة قال فلما رأى الروم ذلك داخلهم الفزع والجزع وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم أن ماهان عبى عسكره فجعل العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام في مقدمة الصفوف وجعل عليهم جبلة وقدم أمامهم صليبا من الفضة وزنه خمسة أرطال وهو مطلي بالذهب وفي أربعة أركانه أربع جواهر تضيء كأنها الكواكب.
قال الواقدي: حدثني سنان بن أوس الربعي قال حدثني عدى بن الحرث الهمداني وكان ممن حضر الفتوح من أولها إلى آخرها قال وكانت الصفوف التي صفها ماهان ثلاثين صفا كل صف منها مثل عسكر المسلمين كله وقد أظهر ماهان بين الصفوف القسوس والرهبان وهم يتلون الإنجيل ويترنمون وأكثر من الرايات والأعلام والصلبان فلما تكاملت صفوفهم وإذا ببطريق عظيم الخلقة قد برز وعليه درع مذهب ولامة حرب مليحة وفي عنقه صليب من الذهب مرصع بالجوهر وتحته فرس أشهب وكان البطريق من عظماء الروم ممن يقف عند سرير الملك فلما برز جعل يرطن بكلام الروم بصوت كالرعد فعلم المسلمون إنه يطلب البراز فتوقف المسلمون عن الخروج إليه فصاح خالد وقال: يا أصحاب رسول الله هذا العلج الأغلف يدعوكم لقتاله وأنتم تتأخرون فإن لم تخرجوا إليه وإلا خرج خالد وهم بالخروج وإذا بفارس قد خرج من المسلمين على برذون أشهب عظيم الخلقة يشبه برذون المشرك وعلى المسلم لامة حسنة وعدة سابغة وقصد نحو البطريق فلم يكن في رجال خالد من يعرف الفارس الذي خرج فقال خالد لهمام مولاه: أخرج إلى هذا الفارس وانظر من هو من المسلمين ومن أي.
العرب هو ومن قومه فمضى همام يهتف به وقد هم أن يقرب من البطريق فصاح به من أنت يا ذا الرجل من السلمين رحمك الله فقال أنا روماس صاحب بصرى فلما أخبر خالد به قال: اللهم بارك فيه وزد في نيته فلما صار بازاء العلج كلمه بلسانه فقال الرومي وقد عرفه يا روماس كيف تركت دينك وصبأت إلى هؤلاء القوم فقال روماس هذا الدين الذي دخلت فيه دين جليل شريف فمن تبعه كان سعيدا ومن خالفه فقد ضل.
ثم حمل روماس على العلج وحمل العلج على روماس وتقاتلا ساعة حتى عجب الجمعان منهما فوجد العلج من روماس غفلة فضربه ضربة أسال دمه قال فأحس روماس بالضربة وقد وصلت إليه فانثنى راجعا نحو المسلمين فأتبعه العلج طالبا له لا يقصر عن طلبه وكاد أن يدركه فصاح به فرسان المسلمين من الميسرة والميمنة فقوي قلب روماس وداخل العلج الجزع والخوف من صياحهم والهلع وقصر عن طلبه ودخل روماس عسكر المسلمين والدم على وجهه فائر فأخذه جماعة من المسلمين فشدوا جراحه وشكروه على فعله ووعدوه بالغفران من الله تعالى وهنئوه بالسلامة قال: ولما رجع روماس منهزما أعجب العلج بنفسه وأظهر عناده وأغلظ في كلامه وطلب البراز فهم أن يخرج إليه ميسرة بن مسروق العبسي فقال له خالد: يا ميسرة أن وقوفك في مكانك أحب الي من خروجك إلى هذا العلج وانت شيخ كبير وهذا علج عظيم الخلق والشاب شجاع ولا أحب أن تخرج إليه فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقاوم الشاب الحدث ولا سيما أن شعرة من مسلم أحب إلى الله تعالى من جميع أهل الشرك فرجع ميسرة إلى مكانه وهم أن يخرج إليه عامر بن الطفيل وقال: أيها الأمير إنك قد عظمت قدر هذا الرومي الذميم وادخلت في قلوب المسلمين منه الرعب فقال خالد: أن الفرسان تعرف أكفاءها في الحرب وما يخفى علي ما هو فيه من الشجاعة والشدة وأنت لا تقاومه لانه ما برز بين أصحابه وبين شجاعته إلا وهو فارس في قومه فقف في مكانك فوقف عامر بن الطفيل في مكانه ولم يخالف قال والعلج يدعو إلى البراز والحرب فأقبل إلى خالد الحرث بن عبد الله الأزدي فلما وقف بين يديه قال: أيها الأمير اخرج إليه قال خالد لعمري: أن لك جسارة وقوة وشدة وما علمتك إلا شهما فإن شئت أن تخرج فاخرج على اسم الله واعزم فاخذ الأزدي أهبته وهم أن يخرج فقال خالد رضي الله عنه: على رسلك يا عبد الله حتى أسألك فقال أسأل قال خالد: هل بارزت أحدا قبله قال: لا قال فارجع يا ابن أخي ولا تخرج فانك غير مجرب الحروب وهذا فارس قد جرب الحرب وجربته وعرف مصادرها وما أحب أن يخرج إليه إلا رجل مثله بصير بالحروب وجعل خالد يقول: ذلك وينظر إلى قيس بن هبيرة فقال: يا أبا سليمان إني أظنك تعرض بي واياي تعني أنا ابرز إليه.
قال خالد: ابرز على اسم الله تعالى فانك كفء والله تعالى يعينك عليه وخرج قيس بن هبيرة واجرى جواده حتى لين عريكته وكسر حدته ثم سرحه نحو البطريق وهو يقول: بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرب من البطريق فلما نظر العلج إلى فعاله علم إنه فارس شديد من فرسان المسلمين فعدل نحوه وقصد إليه وتحاملا قال فبادره قيس بن هبيرة وضربه على هامته فتلقاها العلج في حجفته فقد سيف ابن هبيرة الحجفة ووصل إلى البيضة فاشتبك فيها وهم أن يخرج سيفه فامتنع عليه وضرب العلج قيس بن هبيرة على حبل عاتقه فثبت للضربة والتقيا بعد الضربتين فطرح العلج نفسه عليه يريد أسره وهو جبار من الجبابرة وكان قيس بعد رجوعه من قتال أهل الردة قد عود نفسه الصيام والقيام وهو نحيف الجسم فلما نظر قيس إلى العلج وقد ظهر عليه انجذب من يده وبعد عنه وجعل ينظر إليه شزرا ويضمه له مكرا إلى أن سيفه قد خرج من يده فثنى عنان فرسه يريد عسكر الملسمين ليأخذ سيفا ويعود إلى القتال وقد ايس من نفسه فلما عطف راجعا صاح العلج في أثره وسعى في طلبه فقصر قيس بن هبيرة في سيره وقال في نفسه أنت مرادك الشهادة وتهرب من هذا العلج فرجع إلى العلج فصاح به خالد يا قيس سألتك بالله ورسوله إلا رجعت وتركت حدتها علي فقال: قيس يا خالد لقد اقسمت علي بعظيمين ولكن أن رجعت إليك أتزيد في أجلي قال: لا قال فلم اختار الفرار وأكون من أصحاب النار بل أصبر وافوز بالغفران من الله تعالى ثم عطف على قرنه وليس في يده سيف بل استل خنجرا كان معه على وسطه قال ونظر خالد إلى قيس بن هبيرة وليس في يده سيف فقال من يأخذ هذا السيف ويدفعه إلى قيس أبتغاء ثواب الله تعالى قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنا يا أبا سليمان.
فقال خالد: أنت والله لها يا ابن الصديق ثم أخذ عبد الرحمن سيفه ولحق قيس بن هبيرة يريد أن يناوله السيف فلما نظرت الروم إلى عبد الرحمن وقد لحق بقيس ظنوا إنه يريد أن يعاون قيسا لى صاحبهم فخرج عليه بطريق آخر وأقبل إلى صاحبه ووقف بإزائه قال فدفع عبد الرحمن السيف إلى ابن هبيرة ووقف معه وجعل البطريق الاخر يتكلم بكلام لا يفهمه عبد الرحمن فقال عبد الرحمن يا ويلك ما الذي تقول فما نعرف كلامك فخرج إليه ترجمان وقال له: يا معشر العرب ألستم ذكرتم إنكم أصحاب نصفة وحق قال عبد الرحمن بلى وقال الترجمان فما رأينا من نصفتكم شيئا يخرج فارسان إلى فارس قال عبد الرحمن إنما خرجت لاعطي صاحبي هذا السيف وارجع ولو خرج إلينا منكم مائة لواحد ما كبر علينا ولا عظم لدينا وها أنتم ثلاثة وأنا واحد وأنا لكم كفء قال فأخبر الترجمان صاحبه بذلك فجعل ينظر إليه شزرا فقال عبد الرحمن يا قيس قد تعبت فقف وتفرج علي وانظر ما يكون مني ومنهم ثم حمل عبد الرحمن بن أبي بكرالصديق رضي الله عنه على الذي كان يخاطبه فطعنه في نحره.
فأخرج السنان يلمع من ظهره فوقع منجدلا ونظر العلجان إلى صاحبهما مجندلا فحملا على عبد الرحمن وقصداه فأراد قيس بن هبيرة أن يعاونه عليهما فقال له عبد الرحمن: سألتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبحق أبي بكر إلا تركت عبد الرحمن يصطلي بهما فإن قتلت فأنت شريكي في الثواب وأقرىء عائشة مني السلام وقل لها أخوك قد لحق ببعلك وأبيك فتأخر قيس عنه وقد عجب من فعاله فحمل عبد الرحمن على أحد العلجين وهو الأول فطعنه برمحه فاشتبك السنان في درعه فرمى عبد الرحمن الرمح من يده وانتضى سيفه وقام في الركاب وضرب العلج بسيفه ضربة طرحه بها نصفين ونظر العلج الثالث الىعبد الرحمن وجراءته فبقى حائرا متعجبا من حاله ونظر إلى البطريق وهو متحير باهت فبانت له فيه غفلة فقال: ما يوقفك يا قيس وحمل على البطريق وضربه ضربة هشم بها هامته فسقط إلى الأرض صريعا فلما نظرت الروم إلى أصحابهم قال بعضهم لبعض ما هؤلاء العرب إلا شياطين.
قال الواقدي: وأخبر ماهان بفعالهم فقال لقومه أن الملك كان أخبر بهؤلاء القوم وحق المسيح لقد أعلم أن لكم أمرا فإن لم تحملوا عليهم بكثرتكم وإلا فما تقوم لكم قائمة قال فأتاه بطريق من البطارقة وسارر ماهان في اذنه طويلا ثم انزاح عنه وقد اصفر وجه ماهان وسكت كأنه اخرس فاستخبروا ماهان عما حدثه البطريق فلم يخبرهم قال فحدث من رأى ذلك إنه سأل جبلة بن الأيهم فقال لما أخبر ماهان بخبر الثلاثة وفيهم البطريق الأول قال ماهان إنهم منصورون عليكم فقال له البطريق في اذنه: أيها الملك الحق ما قلت: أعلم إني رأيت البارحة في منامي كأن رجالا نزلوا من السماء إلى الأرض وهم على دواب بلق وشهب وعليهم كامل السلاح واحدقوا بهؤلاء العرب ونحن قيام بازائهم لا يخرج أحد من عسكرنا إلا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وأظن إنهم هؤلاء الذين نراهم في اليقظة لأن واحدا منهم قتل ثلاثة منا وما هم إلا منصورون علينا من السماء قال فكسر بهاذا قلب ماهان فلم يرد جوابا فاجتمع القوم يسألونه عما قاله البطريق فلم يخبرهم فلما أكثروا عليه السؤال تكلم فيهم كالخطيب وقال: يا أهل هذا الدين إنكم أن لم تقاتلوا كنتم من الخاسرين وغضب عليكم المسيح وأن الله عز وجل لم يزل لدينكم ناصرا ومظهرا وأن لله الحجة عليكم إذ بعث فيكم رسولا وانزل عليه كتابا ولم يتبع رسولكم الدنيا وأمركم أن لا تتبعوها وفي كتابه لا تظلموا فإنه لا يحب الظلم ولا الظالمين فلما اتبعتم الدنيا وظلمتم وخالفتم نصر اعداؤكم عليكم فما عذركم عند خالقكم وقد تركتم أمر نبيكم وما انزل عليكم في كتاب ربكم وهؤلاء العرب بازائكم يريدون قتل فرسانكم وسبي ذراريكم ونسائكم وأنتم على المعاصي والذنوب ولا تخافون من علام الغيوب فإن نزع الله سلطانكم من ايديكم واظهر عدوكم عليكم فذلك بحق منه وعدل لانكم لا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر.
قال الواقدي: وكان ماهان لما سمع كلام البطريق الذي رآه في المنام أمره أن يكتمه واما قيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فأخذا سلاحهم واسلابهم ورجعا إلى المسلمين فدفعا السلب إلى أبي عبيدة فقال هو لكما ومن قتل فارسا فله سلبه فكذا عهد إلينا عمر بن الخطاب فأخذا السلب ووقف قيس في موضعه الذي اقامه خالد فيه ورجع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى ميدان الحرب فجال بين الصفين وكان قد ركب اشهب البطريق الذي قتله فرآه لا ينبعث تحته كما عهد من خيل العرب فرجع وغيره من تحته بفرس غيره وحمل على ميمنة الروم فشوش صفوفهم وقتل منهم فارسين ورجع فحمل على القلب ثم انثنى على الميسرة فرشق بالسهام فرجع حتى وقف في صدر الجيش وجعل يفزع الروم باسمه ويدعوا إلى البراز فخرج إليه علج من علوج الروم فما جال غير ساعة حتى قتله فخرج إليه آخر فقتله فقال خالد: اللهم ارعه بعينك واحفظه فإن عبد الرحمن قد اصطفى اليوم الحرب بنفسه ثم أن خالدا صاح به يا عبد الرحمن بحق شيبة ابيك وبيعته إلا رجعت إلى مكانك فرجع حين أقسم عليه قال حزام بن غنم قلت لرجل ممن شهد اليرموك: أكانت النساء معكم مشاهدات القتال قال: نعم أحداهن أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام وخولة بنت الأزور ونسيبة بنت كعب وأم أبان زوجة عكرمة بن أبي جهل وعزة بنت عامر بن عاصم الضمري مع زوجها مسلمة بن عوف الضمري ورملة بنت طليحة الزبيري ورعلة وأمامه وزينب وهند ويعمر ولبنى وأمثالهن رضي الله عنهن فلقد كن يقاتلن قتالا يرضين به الله ورسوله.