فصل: تفسير الآيات (14- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 13):

{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}
ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب. دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق. فقال مستأنفاً: {قل} أي جواباً لهم عن شبهتهم: {يتوفاكم} أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة {ملك الموت} ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال: {الذي وكل بكم} أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين؟.
فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض. علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره فعطف عليه قوله: {ثم إلى ربكم} أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم {ترجعون} بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلاًّ بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور: {ولو ترى} أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين {إذ المجرمون} أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم {ناكسوا رؤوسهم} أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة {عند ربهم} المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم، قائلين بغاية الذل والرقة: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {أبصرنا} ما كنا نكذب به {وسمعنا} أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك {فارجعنا} بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان، إلى دار الأعمال {نعمل صالحاً} ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه: {إنا موقنون} أي ثابت الآن لنا الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك مما كشف عنه العيان أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل، ولا يحيط به وصف.
ولما لم يذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره: إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها: {ولو شئنا} أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد {لأتينا كل نفس} أي مكلفة لأن الكلام فيها {هداها} أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.
ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال: {ولكن} أي لم أشأ ذلك لأنه {حق القول مني} وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً: {لأملان جهنم} التي هي محل إهانتي وتجهم أعدائي بما تجهموا أوليائي {من الجنة} أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم {والناس أجمعين} حيث قلت لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص: 85] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.

.تفسير الآيات (14- 17):

{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم، قال مجيباً لترققهم إذ ذاك نافياً لما قد يفهمه كلامهم من أنه محتاج إلى العبادة: {فذوقوا} أي ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق معي من القول {بما} أي بسبب ما {نسيتم لقاء يومكم} وأكده وبين لهم بقوله: {هذا} أي عملتم- في الإعراض عن الاستعداد لهذا الموقف الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل- عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه، ثم لا يحاسبهم على ذلك وينصف مظلومهم، فكان الإعراض عنه مستحقاً لأن يسمى نسياناً من هذا الوجه أيضاً ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر، وروي ثمّ نسي. ثم علل ذوقهم لذلك أو استانف لبيان المجازاة به مؤكداً في مظهر العظمة قطعاً لأطماعهم في الخلاص، ولذا عاد إلى مظهر العظمة فقال: {إنا نسيناكم} أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي.
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً، بينه بقوله مؤكداً له: {وذوقوا عذاب الخلد} أي المختص بأنه لا آخر له. ولما كان قد خص السبب فيما مضى، عم هنا فقال: {بما كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعملون} من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك.
ولما كان قوله تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون} قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران، فقال معرفاً أن المجرمين لا سبيل إلى إيمانهم {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28]: {إنما يؤمن بآياتنا} الدالة على عظمتنا {الذين إذا ذكروا بها} من أيّ مذكر كان، في أيّ وقت كان، قبل كشف الغطاء وبعده {خروا سجداً} أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً {وسبحوا} أي أوقعوا التنزيه عن كل شائبة نقص من ترك البعث المؤدي إلى تضييع الحكمة ومن غيره متلبسين {بحمد} ولفت الكلام إلى الصفة المقتضية لتنزيههم وحمدهم تنبيهاً لهم فقال: {ربهم} أي بإثباتهم له الإحاطة بصفات الكمال، ولما تضمن هذا تواضعهم، صرح به في قوله: {وهم لا يستكبرون} أي لا يجددون طلب الكبر عن شيء مما دعاهم إليه الهادي ولا يوجدونه خلقاً لهم راسخاً في ضمائرهم.
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: {تتجافى} أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء- بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال: {جنوبهم} بعد النوم {عن المضاجع} أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والأربعين من عوارفه عن المحبين: قيل: نومهم نوم الفرقى، وأكلهم أكل المرضى، وكلامهم ضرورة، فمن نام عن غلبة بهمّ مجتمع متعلق بقيام الليل وفق لقيام الليل، وإنما النفس إذا طعمت ووطنت على النوم استرسلت فيه، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله، لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنس والمضجع سواء وتجافياً.
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة، بين أنه لها، فقال مبيناً لحالهم: {يدعون} أي على سبيل الاستمرار، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال: {ربهم} أي الذي عودهم بإحسانه: ثم علل دعاءهم بقوله: {خوفاً} أي من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائضهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا، فهم لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء {وطمعاً} أي في رضاه الموجب لثوابه، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أرجى، فهم لا ييأسون من روحه.
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} [طه: 132]، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده: {ومما رزقناهم} أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة {ينفقون} من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم.
ولما ذكر جزاء المستكبرين، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين، أشار إلى جزائهم بفاء السبب، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته، وجعلها سبباً إلى دخول جنته، ولو شاء لكان غير ذلك فقال: {فلا تعلم نفس} أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها {ما أخفي لهم} أي لهؤلاء المتذكرين من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم بالصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها، ولعله بني للمفعول في قراءة الجماعة تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب أو للعلم بأنه الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله، وسكن حمزة الياء على أنه للمتكلم سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة، والسر مناسبته لحال الأعمال.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال: {من قرة أعين} أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما أقلعوها عن قرارها بالنوم؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال: {جزاء} أي أخفاها لهم لجزائهم {بما كانوا} أي بما هو لهم كالجبلة {يعملون} روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {افلا تعلم نفس} الآية.

.تفسير الآيات (18- 21):

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}
ولما كانوا أهل بلاغة ولسن، وبراعة: وجدل، فكان ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان ما تزعمون من أنه لا يبالي بشيء ولا ينقص من خزائنه شيء وهو العزيز الرحيم، لا يسوي بين الكل في إدخال الجنة، والمن بالنعيم فيعمهم بالرحمة الظاهرة كما عمهم بها في الدينا كما هو دأب المحسنين؟ تسبب عن ذلك أن قال منكراً لذلك مشيراً إلى أن المانع منه خروجه عن الحكمة، فإن تلك دار الجزاء، وهذه دار العمل، فبينهما بون: {أفمن كان} أي كوناً كأنه من رسوخه جبلي {مؤمناً} أي راسخاً في التصديق العظيم بجميع ما أخبرت به الرسل {كمن كان} ولما كان السياق منسوقاً على دليل {مالكم من دونه من ولي ولا شفيع} الآية، فكان الكافر خارجاً عن محيط ذلك الدليل الذي لا يخفي بوجه على أحد له سمع وبصر وفؤاد، اقتضى الحال التعبير بالفسق الذي هو الخروج عن محيط فقال: {فاسقاً} أي راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان.
ولما توجه الاستفهام إلى كل من اتصف بهذا الصف، وكان الاستفهام إنكارياً، عبر عن معناه مصرحاً بقوله: {لا يستوون} إشارة- بالحمل على لفظ من مرة ومعناها أخرى- إلى أنه لا يستوي جمع من هؤلاء يجمع من أولئك ولا فرد بفرد.
ولما نفى استواءهم، أتبعه حال كل على سبيل التفصيل معبراً بالجمع لأن الحكم بإرضائه وإسخاطه بفهم الحكم على الواحد منه من باب الأولى فقال: {أما الذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات فلهم جنات المأوى} أي الجنات المختصة دون الدنيا التي هي دار ممر، دون النار التي هي دار مفر لا مقر، بتأهلها للمأوى الكامل في هذا الوصف بما أشار إليه ب (ال) ثابتون فيها لا يبغون عنها حولاً، كما تبؤوا الإيمان الذي هو أهل للإقامة فلم يبغوا به بدلاً {نزلاً} أي عداداً لهم أول قدومهم في قول الحسن وعطاء، وهو أوفق للمقام كما يعد للضيف على ما لاح {بما كانوا} جبلة وطبعاً {يعملون} دائماً على وجه التجديد، فإن أعمالهم من رحمة ربهم، فإذا كانت هذه الجنات نزلاً فما ظنك بما بعد ذلك! وهو لعمري ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله لا نهاية لها، فإياك أن يخدعك خادع أو يغرك ملحد {وأما الذين فسقوا} أي خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة {فمأواهم النار} أي التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه أصلاً.
ولما كان السامع جديراً بالعلم بأنهم مجتهدون في الخلاص منها، قال مستأنفاً لشرح حالهم: {كلما أرادوا} أي وهم مجتهدون فكيف إذا أراد بعضهم {أن يخرجوا منها} وهذا يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها {أعيدوا} بأيسر أمر وأسهله من أيّ من أمر بذلك {فيها} إلى المكان الذي كانوا فيه أولاً، ولا يزال هذا دأبهم أبداً {وقيل} أي من أيّ قائل وكل بهم {لهم} أي عند الإعادة إهانة له: {ذوقوا عذاب النار}.
ولما وصف عذابهم في النار كان أحق بالوصف عند بيان سبب الإهانة بالأمر بالذوق مع أنه أحق من حيث كونه مضافاً محدثاً عنه فقال: {الذي كنتم} أي كوناً هو لكم كالجبلات، وأشار إلى أن تكذيبهم به يتلاشى عنده كل تكذيب، فكأنه مختص فقال: {به تكذبون} فإن الإعادة بعد معالجة الخروج أمكن في التصديق باعتبار التجدد في كل آن.
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان في هذه الدار، لأن نفوس البشر مطبوعة على العجلة، بشرهم بذلك على وجه يشمل عذاب القبر، فقال مؤكداً له لما عندهم من الإنكار لعذاب ما بعد الموت وللإصابة في الدنيا بما هم من الكثرة والقوة: {ولنذيقنهم} أي أجمعين بالمباشرة والتسبيب، بما لنا من العظمة التي تتلاشى عندها كثرتهم وقوتهم {من العذاب الأدنى} أي قبل يوم القيامة، بأيديكم وغيرها، وقد صدق الله قوله، وقد كانوا عند نزول هذه السورة بمكة المشرفة في غاية الكثرة والنعمة، فأذاقهم الجدب سنين متوالية، وفرق شملهم وقتلهم وأسرهم بأيدي المؤمنين إلى غير ذلك بما أراد سبحانه؛ ثم أكد الإرادة لما قبل الآخرة وحققها بقوله، معبراً بما يصلح للغيرية والسفول: {دون العذاب الأكبر} أي الذي مر ذكره في الآخرة {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن فسقه عند من ينظره، وقد كان ذلك، رجع كثير منهم خوفاً من السيف، فلما رأوا محاسن الإسلام كانوا من أشد الناس فيه رغبة وله حباً.