فصل: تفسير الآيات (22- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (22- 24):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)}
ولما كان التقدير: يرجعون عن ظلمهم فإنهم ظالمون، عطف عليه قوله: {ومن أظلم} منهم هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي صاروا أظلم فقال: {ممن ذكر} أي من أيّ مذكر كان وصرف القول إلى صفة الإحسان استعطافاً وتنبيهاً على وجوب الشكر فقال: {بآيات ربه} أي الذي لا نعمة عنده إلا منه.
ولما بلغت هذه الآيات من الوضوح أقصى الغايات، فكان الإعراض عنها مستبعداً بعده، عبر عنه بأداة البعد لذلك فقال: {ثم أعرض عنها} ضد ما عمله الذين لم يتمالكوا أن خروا سجداً، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون {ثم} على بابها للتراخي، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعدم النسيان، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف، ويكون عدل إلى الفاء هناك شرحاً لما يكون من حالهم، عند بيان سؤالهم، الذي جعلوا بأنه آية الصدق، والعجز عن آية الكذب.
ولما كان الحال مقتضياً للسؤال عن جزائهم، وكان قد فرد الضمير باعتبار لفظ من تنبيهاً على قباحة الظلم من كل فرد، قال جامعاً لأن إهانة الجمع دالة على إهانة الواحد من باب الأولى، مؤكداً لإن إقدامهم على التكذيب كالإنكار لأن تجاوزوا عليه، صارفاً وجه الكلام عن صفة الإحسان إيذاناً بالغضب: {إنا} منهم، هكذا كان الأصلي، ولكنه أظهر الوصف نصفاً في التعميم وتعليقاً للحكم به معيناً لنوع ظلمهم تبشيعاً له فقال: {من المجرمين} أي القاطعين لما يستحق الوصل خاصة {منتقمون} وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على جرد العداد في الظالمين، فكيف وقد كانوا أظلم الظالمين؟ والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وإما ظاهراً بإحلال النقم، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد.
ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله، وكان أول من أنزل عليه كتاب من بني إسرائيل بعد فترة كبيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام وآمن به جميعهم وألفهم الله به وأنقذهم من أسر القبط على يده، ذكر بحالة تسلية وتأسية لمن أقبل وتهديداً لمن أعرض، وبشارة بإيمان العرب كلهم وتأليفهم به وخلاص أهل اليمن منهم من أسر الفرس بسببه، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أن العظيم لا يرد شيء من أمره: {ولقد آتينا} على ما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي الجامع للأحكام وهو التوارة.
ولما كان ذلك مما لا ريب فيه أيضاً، وكان قومه قد تركوا اتباع كثير منه لاسيما فيما قصَّ من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم وفيما أمر فيه باتباعه، وكان هذا إعراضاً منهم مثل إعراض الشاك في الشيء، وكانوا في زمن موسى عليه السلام أيضاً يخالفون أوامره وقتاً بعد وقت وحيناً إثر حين، تسبب عن الإيتاء المذكور قوله تعريضاً بهم وإعلاماً بأن العظيم قد يرد رد بعض أوامره لحكمة دبرها: {فلا تكن} أي كوناً راسخاً- بما أشار إليه فعل الكون وإثبات نونه، فيفهم العفو عن حديث النفس الواقع من الأمة على ما بينه صلى الله عليه وسلم {في مرية} أي شك {من لقائه} أي لا تفعل في ذلك فعل الشاك في لقاء موسى عليه السلام للكتاب منا وتلقيه له بالرضا والقبول والتسليم، كما فعل المدعون لاتباعه والعمل بكتابه في الإعراض عما دعاهم إليه من دين الإسلام، أو لا تفعل فعل الشاك في لقائك الكتاب منا وإن نسبوك إلى الإفتراء وإن تأخر بعض ما يخبر به فسيكون هدى لمن بقي منهم، وعذاباً للماضين، ولا يبقى خبر ما أخبر به أنه كائن إلا كان طبق ما أخبر به، فإنك لتلقاه من لدن حكيم عليم، وقد صبر موسى عليه السلام في تلقي كتابه ودعائه حتى مات على أحسن الأحوال، أو يكون المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف عليه فيه فما شك أحد من الثابتين في إيتائنا إياه الكتاب لأجل إعراض من أعرض، ولا زلزلة أدبار من أدبر، وانتقمنا ممن أعرض عنه فلا يكن أحد ممن آمن بك في شك من إيتائنا الكتاب لك لإعراض من أعرض، فسنهلك من حكمنا بشقائه انتقاماً منه، ونسعد الباقين به.
ولما أشار إلى إعراضهم عنه وإعراض العرب عن كتابهم، ذكر أن الكل فعلوا بذلك الضلال ضد ما أنزل له الكتاب، فقال ممتناً على بني إسرائيل ومبشراً للعرب: {وجعلناه} أي كتاب موسى عليه السلام جعلاً يليق بعظمتنا {هدى} أي بياناً عظيماً {لبني إسرائيل} وأشار إلى اختلافهم فيه بقوله: {وجعلنا منهم} أي من أنبيائهم وأحبارهم بعظمتنا، مع ما في طبع الإنسان من اتباع الهوى {أئمة يهدون} أي يوقعون البيان ويعملون على حسبه {بأمرنا} أي بما أنزلنا فيه من الأوامر؛ ثم ذكر علة جعله ذلك لهم بقوله: {لما صبروا} أي بسبب صبرهم ولأجله- على قراءة حمزة والكسائي بالكسر والتخفيف- أو حين صبرهم على قبول أوامرنا على قراءة الباقين بالفتح والتشديد، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله لهم {وكانوا بآياتنا} لما لها من العظمة {يوقنون} لا يرتابون في شيء منها ولا يفعلون فعل الشاك فيه الإعراض، وكان ذلك لهم جبلة جبلناهم عليها.

.تفسير الآيات (25- 27):

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}
ولما أفهم قوله: {منهم} أنه كان منهم من يضل عن أمر الله ويصد عنه، جاء قوله تسلية للمؤمنين وتوعداً للكافرين، استئنافاً مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أنه لا بعث، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى ما يظهر من شرفه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم من المقام المحمود وغيره: {إن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك ويعلي ما بك {هو} أي وحده {يفصل بينهم} أي من الهادين والمضلين والضالين {يوم القيامة} بالقضاء الحق، فيعلى أمر المظلوم ويردي كيد الظالم {فيما كانوا} جبلة، طبعاً {فيه} أي خاصة {يختلفون} أي يجددون الاختلاف فيه على سبيل الاستمرار حسب ما طبعوا عيله، لا يخفى عليه شيء منه، وأما غير ما اختلفوا فيه فالحكم فيه لهم أو عليهم لا بينهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو.
ولما كان قد تقدم عن الكفار في هذه السورة قولان: أحدهما في التكذيب بالقرآن، والثاني في إنكار البعث، ودل سبحانه على فسادهما إلى أن ختم بذكر الآيات والبعث والفصل بين المحق والمبطل، أتبعه استفهامين إنكاريين منشورين على القولين وختمت آية كل منهما بآخر، فتصير الاستفهامات أربعة، وفي مدخول الأول الفصل بين الفريقين في الدنيا، فقال مهدداً: {أو لم} أي أيقولون عناداً لرسولنا: أفتراه ولم {يهد} أي يبين- كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {لهم كم أهلكنا} أي كثرة من أهلكناه.
ولما كان قرب شيء في الزمان أو المكان أدل، بين قربهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي لأجل معاندة الرسل {من القرون} الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها، وربما كان قرب المكان منزلاً قرب الزمان لكثرة التذكير بالآثار، والتردد خلال الديار.
ولما كان انهماكهم في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فيما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال، بقوله: {يمشون} أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي {في مساكنهم} لشدة ارتباطهم مع المحسوسات، وذلك كمساكن عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات} أي دلالات ظاهرات جداً، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار، ومسموعات في الأخبار.
ولما كان السماع هو الركن الأعظم، وكان إهلاك القرون إنما وصل إليهم بالسماع، قال منكراً: {أفلا يسمعون} أي إن أحوالهم لا يحتاج من ذكرت له في الرجوع عن الغيّ إلى غير سماعها، فإن لم يرجع فهو ممن لا سمع له {أو لم} أي أيقولون في إنكار البعث: إذا ضللنا في الأرض، ولم {يروا أنا} بما لنا من العظمة {نسوق الماء} من السماء أو الأرض {إلى الأرض الجرز} أي التي جرز نباتها أي قطع باليبس والتهشم، أي بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبت فيها، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً، قالوا: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جزر، ويدل عليه قوله: {فنخرج به} من أعماق الأرض {زرعاً} أي نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب الذي كان زرعاً قبل هذا، وأشار إلى أنه حقيقة، لا مرية فيه، وليس هو بتخييل كما تفعل السحرة، بقوله مذكراً بنعمة الإبقاء بعد الإيجاد: {تأكل منه} أي من حبه وورقه وتبنه وحشيشه {أنعامهم} وقدمها لموقع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم، ولأن السياق لمطلق إخراج الرزع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام بخلاف ما في سورة عبس، فإن السياق لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال:
{فلينظر الإنسان إلى طعامه} [عبس: 24] ثم قال {فأنبتنا فيها حباً} [عبس: 27] وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام {وأنفسهم} أي من حبه، وأصله إذا كان بقلاً.
ولما كانت هذه الآية مبصرة، وكانت في وضوحها في الدلالة على البعث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل: {أفلا يبصرون} إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة.

.تفسير الآيات (28- 30):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
ولما كانت هذه الآية أدل دليل- كما مضى- على البعث، وكان يوماً يظهر فيه عز الأولياء وذل الأعداء، أتبعها قوله تعجيباً منهم عطفاً على {يقولون أفتراه} ونحوها: {ويقولون} أي مع هذا البيان الذي لا لبس معه استهزاء: {متى هذا الفتح} أي النصر والقضاء والفصل الذي يفتح المنغلق يوم الحشر {إن كنتم} أي كوناً راسخاً {صادقين} أي عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لابد من كونه لنؤمن إذا رأيناه.
ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله: {قل} أي لهؤلاء اللد الجهلة: {يوم الفتح} أي الذي يستهزئون به، وهو يوم القيامة- تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر، فلا ينفعكم بعد العيان وهو معنى {لا} ينفعكم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {ينفع الذين كفروا} أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف {إيمانهم} لأنه ليس إيماناً بالغيب، ولكنه ساقه هكذا سوق ما هو معلوم {ولا هم ينظرون} أي يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منظر ما.
ولما كانت نتيجة سماعهم لهذه الأدلة استهزاءهم حتى بسؤالهم عن يوم الفتح، وأجابهم سبحانه عن تعيينه بذكر حاله، وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً، فقال مسلياً له مهدداً لهم: {فأعرض عنهم} أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم {وانتظر} أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله: {إنهم منتظرون} أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا الكتاب، وأعلم بجلالته وجزالته وشدته وشجاعته أنه ليس فيه نوع ارتياب، وأيضاً فأولها في التذكيب بتنزيله، وآخرها في الاستهزاء بتأويله، {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل} [الأعراف: 53]- الآية، وأيضاً فالأول في التكذيب بإنزال الروح المعنوي، والآخر في التكذيب بإعادة الروح العيني الحسي الذي ابتدأه أول مرة والله الهادي إلى الصواب.

.سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)}
فقال: {يا أيها النبي} عبر بأداة التوسط إيماء إلى أن وقت نزول السورة- وهو آخر سنة خمس، غب وقعة الأحزاب- أوسط مدة ما بعد الهجرة إلاحة إلى أنه لم يبق من أمد كمال النصرة التي اقتضاها وصف النبوة الدال على الرفعة إلا القليل وعبر به لاقتضاء مقصود السورة مقام النبوة الذي هو بين الرب وعبده في تقريبه وإعلائه إلى جنابه إذا قرئ بغير همز، وإن قرئ به كان اللحظ إلى إنبائه بالخفي وتفصيله للجلي، وقال الحرالي في كتاب له في أصول الدين: حقيقة النبوة ورود غيب ظاهر أي من الحق بالوحي لخاص من الخلق، خفي عن العامة منهم، ثم قد يختص مقصد ذلك الوارد المقيم لذلك الواحد بذاته، فيكون نبياً غير رسول، وقد يرد عليه عند تمام أمره في ذاته موارد إقامة غيره فيصير رسولاً. والرتبة الأولى كثيرة الوقوع في الخلق، وهي النبوة، والثانية قليلة الوقوع، فالرسل معشار معشار الأنبياء، وللنبوة اشتقاقان: أحدهما من النبأ وهو الخبر، وذلك لمن اصطفي من البشر لرتبة السماع والإنباء فنبئ ونبأ غيره من غير أن يكون عنده حقيقة ما نبيء به ولا ما نبأ فيكون حامل علم، والاشتقاق الثاني من النبوة وهي الارتفاع والعلو، وذلك لمن أعلى عن رتبة النبأ إلى رتبة العلم. فكان مطلعاً على علم ما ورد عليه من الغيب على حقيقته وكماله، فمن علا عن الحظ المتنزل العقلي إلى رتبة سماع، كان نبيئاً بالهمز، ومن علا عن ذلك إلى رتبة علم بحقيقة ذلك كان نبياً غير مهموز، فآدم عليه السلام مثلاً في علم الأسماء نبي بغير همز، وفي ما وراءه نبيء بهمز، وكذلك إبراهيم عليه السلام فيما أرى من الملكوت نبي غير مهموز وفيما وراءه نبئ بهمز- انتهى- ولم يناده سبحانه باسمه تشريفاً لقدره، وإعلاء لمحله، وحيث سماه باسمه في الأخبار فللتشريف من جهة أخرى، وهي تعيينه وتخصيصه إزالة للبس عنه، وقطعاً لشبه التعنت.
ولما ناداه سبحانه بهذا الاسم الشريف المقتضي للانبساط، أمره بالخوف فقال: {اتق الله} أي زد من التقوى يا أعلى الخلائق بمقدار ما تقدر عليه لذي الجلال كله والإكرام، لئلا تلتفت إلى شيء سواه، فإنه أهل لأن يرهب لما له من خلال الجلال، والعظمة والكمال.
ولما وجه إليه الأمر بخشية الولي الودود، أتبعه النهي عن الالتفات نحو العدو والحسود. فقال: {ولا تطع الكافرين} أي الممانعين {والمنافقين} أي المصانعين في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك الخالق فيه بأمر وإن لاح لائح خوف أو برق بارق رجاء، ولاسيما سؤالنا في شيء مما يقترحونه رجاء إيمانهم مثل أن تعين لهم وقت الساعة التي يكون فيها الفتح، فإنهم إنما يطلبون ذلك استهزاء، قال أبو حيان: وسبب نزولها أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود، فتابعه ناس منهم على النفاق، وكان يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح من طرق المخادعة، فنزلت تحذيراً له منهم، وتنبيهاً على عداوتهم- انتهى ثم علل الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم، فقال ملوحاً إلى أن لهم أغواراً في مكرهم ربما خفيت عليه صلى الله عليه وسلم، وأكد ترغيباً في الإقبال على معلوله بغاية الاهتمام: {إن الله} أي بعظيم كماله وعز جلاله {كان} أزلاً وأبداً {عليماً} شامل العلم {حكيماً} بالغ الحكمة فهو لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه، وأحكم إصلاح الحال فيه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: افتتحها سبحانه بأمر نبيه باتقائه، ونهيه عن الصغو إلى الكافرين والمنافقين، واتباعه ما يوحي إليه، تنزيهاً لقدره عن محنة من سبق له الامتحان ممن قدم ذكره في سورة السجدة، وأمراً له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} ولما تحصل من السورتين من الإشارة إلى السوابق {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] كان ذلك مظنة لتأنيس نبي الله صلى الله عليه وسلم وصالحي أتباعه، ولهذا أعقب سورة السجدة بهذه السورة المضمنة من التأنيس والبشارة ما يجري على المعهود من لطفه تعالى وسعة رحمته، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالتقوى، وإعلامه بما قد أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله، وإيضاح دليله، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر عقب تخويف وإنذار وإن كان عليه السلام قد نزه الله قدره على أن يكون منه خلاف التقوى، وعصمه من كل ما ينافر نزاهة حاله وعلي منصبه، ولكن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي فهو موضع ذكرهم بالأخص الأمدح عن محمود صفاتهم، ومنه {محمد رسول الله والذين معه} [الفتح: 29]- الآيات، فذكر صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، ومهما كان الأمر والنهي، عدل في الغالب إلى الأعم، ومنه {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} [الأنفال: 65] {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: 73] {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات} [الممتحنة: 12] وقد تبين في غير هذا، وأن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن المطرد كقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] فوجه هذا أن قوله سبحانه: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} موقعه شديد، فعودل بذكره صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة لضرب من التلطف، فهو من باب {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] وفيه بعض غموض، وأيضاً فإنه لما قيل له بلغ طابق هذا ذكره بالرسالة، فإن المبلغ رسول، والرسول مبلغ، ولا يلزم النبي أن يبلغ إلا أن يرسل، وأما قوله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41] فأمره وإن كان نهياً أوضح من الأول، لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه، فبابه راجع إلى ما يرد مدحاً مجرداً عن الطلب، وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا. ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه من إعلامه عليه السلام من هذا الأمر بعلي حاله ومزية قدره، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فنزهن عن أن يكون حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصاً وإجلالاً لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} الآية، فنزههم عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} والآية بعد ذلك، وهي قوله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا} الآية، ومنها {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فنزههن سبحانه وبين شرفهن على من عداهن، ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} الآية، ومنها الأمر بالحجاب {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب، وصانهن عن التبذل والامتهان، ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى} فوصاهم جل وتعالى ونزههم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم، إلى ما تضمنت السورة من هذا القبيل، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} ثم قال تعالى: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} إلى قوله تعالى: {أجراً كريماً} وقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} وقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} إلى قوله: {وأجراً عظيماً} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} إلى قوله: {عظيماً} وقوله تعالى: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} إلى قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} وقوله تعالى مثنياً على المؤمنين بوفائهم وصدقهم {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} إلى قوله: {وما بدلوا تبديلاً} وقوله: {وإثماً مبيناً} وفي هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر سورة الخوف الحاصل من سورتي لقمان والسجدة ويسكن روعهم تأنيساً لا رفعاً ومن هذا القبيل أيضاً ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين خلاصهم كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم} إلى قوله: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} وقوله تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال} إلى قوله: {وكان الله على كل شيء قديراً} وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد من دليل قصدها وبيانها على ما وضح الحمد لله ولما كان حاصلها رحمة ولطفاً ونعمة، لا يقدر عظيم قدرها، وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها، أعقب بما ينبغي من الحمد يعني أول سبأ- انتهى.
ولما كان ذلك مفهماً لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر. وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق، قيده بقوله: {واتبع} أي بغاية جهدك.
ولما اشتدت العناية هنا بالوحي، وكان الموحي معلوماً من آيات كثيرة، بني للمفعول قوله: {ما يوحى} أي يلقى إلقاء خفياً كما يفعل المحب مع حبيبه {إليك} وأتى موضع الضمير بظاهر يدل على الإحسان في التربية لينوي على امتثال ما أمرت به الآية السالفة فقال: {من ربك} أي المحسن إليك بصلاح جميع أمرك، فمهما أمرك به فافعله لربك لا لهم، ومهما نهاك عنه فكذلك، سواء كان إقبالاً عليهم أو إعراضاً عنهم أو غير ذلك.
ولما أمره باتباع الوحي، رغبة فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي، فقال مذكراً بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوية على الامتثال، مؤكداً للترغيب كما تقدم، وإشارة إلى أنه مما يستبعده بعض المخاطبين في قراءة الخطاب لغير أبي عمرو: {إن الله} أي بعظمته وكماله {كان} دائماً {بما تعملون} أي الفريقان من المكايد وإن دق {خبيراً} فلا تهتم بشأنهم، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم، وعلى قراءة أبي عمرو بالغيب يكون هذا التعليل حثاً على الإخلاص، وتحقيقاً لأنه قادر على الإصلاح وإن أعيى الخلاص، ونفياً لما قد يعتري النفوس من الزلزال، في أوقات الاختلال.